logo
نهاية العولمة أم الظلّ الطويل

نهاية العولمة أم الظلّ الطويل

السوسنة١٠-٠٤-٢٠٢٥

في البدء كانت العولمة، ثم جاء ترامبتلك هي الحكاية التي سيطرت على شاشات تلفزيونات العالم وعناوين صحفه خلال الأسبوعين الماضيين.تعرفات جمركيّة زلزاليّة، لم يُشهد لها مثيلٌ منذ أكثر من قرن، تفرضها إدارة الرئيس ترامب على الجميع: الحلفاء والشركاء والخصوم، فلا توفّر أحداً. ويضطر البعض لفرض تعرفات مضادة، لترد الولايات المتحدة بتعرفات أعلى، فيما تهوي أسواق الأسهم، ويفر المستثمرون من السندات الأمريكيّة – التي طالما كانت ملاذاً آمناً في الملمات – وتتخبط الصناعات والتجارة الدّولية وشركات الشحن البحري في التنبؤ بالتالي، ويقرّ السير كير ستارمر، رئيس الوزراء البريطاني، في مقالة له في صحيفة «التليغراف» أن «العالم كما عرفناه قد انتهى»، وأن على بريطانيا «أن تنهض لمواجهة اللحظة»، فيما ستتولى حكومته «تبني سياسات للمساعدة في حماية الشركات البريطانية من العاصفة».العولمة: سياق مديدمن طريق الحرير، الممتد عبر الصين وآسيا وصولاً إلى إيطاليا إلى بدايات الرأسماليّة الحديثة وتطوير الباخرة والقطار والتلغراف، كانت العولمة هي الأقرب إلى النظام الطبيعيّ للأشياء، وبلغت ذروتها عشية الحرب العالميّة الأولى، حيث سافر الناس، وشحنت البضائع، ونقلت الأخبار حول العالم بسرعة غير مسبوقة، وازدهرت التجارة، وسَهُلت الهجرة، وغلب الظنّ على المراقبين بأن الترابط الاقتصادي بين الأمم، ورغم النزعات العسكرية والإمبريالية، وتنافس البرجوازيات الوطنية، والاحتكارات، والقيود التجارية، سيفرض في المحصلة سلاماً وبحبوحة للكوكب برمته.وحتى فترة الاضطرابات الكبيرة في أوروبا بين الحربين العالميين ومرحلة الكساد الكبير بينهما التي أفقدت التجارة العالميّة ثلثي حجمها، فقد بدت وكأنها مجرد نبضة عابرة في سياق تاريخ العولمة المديد. إذ ما لبث العالم وشهد في الربع الأخير من القرن العشرين تسارعاً كبيراً للعولمة، فانفتحت أبواب التجارة بين الصين والغرب، وانهارت الكتلة الشيوعية واندرجت مكوناتها في المنظومة الرأسماليّة، وتوسع الاتحاد الأوروبي، وتسابقت المصالح الرأسمالية إلى تصدير صناعاتها إلى مواقع أقرب للعمالة الرخيصة التكاليف والموارد الأساسيّة، وبنيت شبكات توريد كثيف فاعلة عبر البحر والبر والجو، بحيث يتسنى لأمريكيّ في قلب نيويورك أن يقود سيارة ألمانية مزودة بوقود فنزويلي ومرتدياً «تي شيرتاً» صنع في بنغلادش أن يذهب لتسوق ألعاب لأطفاله صممت في ميلانو في إيطاليا، وصنعت في الصين، لشركة مقرها هونغ كونغ، نصف رأسمالها بريطاني، ونقلت على متن سفينة شحن دنماركيّة، بحارتها فلبينيون، عبر قناة السويس.كيف وصلنا إلى اللحظة الترامبيّة إذن؟لعل التغطيات التلفزيونية والصحافيّة العاجلة الباحثة أبداً عن الإثارة مسؤولة عن إظهار تعرفات ترامب الجمركيّة وكأنّها خبط عشواء لإدارة يقودها شعبويون مهووسون بالقوة. لكن تأملاً متأنياً سيخلص حتماً إلى أننا لم نصل إلى هذه اللحظة «الترامبيّة» – إن جاز التعبير- بمحض الصدفة، ولا عفو الخاطر، وإنما هي تتويج لسياق يكاد يكون طبيعياً لفشل النخب الرأسماليّة في توزيع ثمار العولمة المزدهرة على الأكثريّة. لقد تولى الليبراليون – بمدارسهم وتلاوينهم – والذين حكموا اقتصاد العالم طوال الربع الأخير من القرن العشرين تعميق اللامساواة بين البشر، لا بين المراكز الغربيّة الثرية والأطراف الفقيرة، بل وأيضاً داخل المجتمعات الغربيّة ذاتها، فاستأثرت أقليّة مستهترة بالأرباح، وعبثت بالأموال المتراكمة، ولم تترك للأكثرية سوى فتات الفتات. لقد كانت أولى إرهاصات الآتي إحدى أولى علامات المتاعب مؤتمر منظمة التجارة العالمية عام 1999 في سياتل، حيث واجه المندوبون عشرات الآلاف من المتظاهرين المناهضين للعولمة التي أفقرت شعوب الأطراف والأغلبيات في الغرب، وأفقدت الناس أي إحساس بالعدالة في ظل الرأسمالية. لكن الأقليّة لم ترتدع إلى أن انهارت لعبة القمار التي أدمنتها في العام 2008، وتغّولت حينها السلطات على الأموال العامّة لتنقذ الأثرياء وبنوكهم، وفرضت لتعويض الفجوة المالية الهائلة سياسة تقشف قاس غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، فتقلصت المدفوعات الاجتماعية للفقراء والعاطلين عن العمل، وتوقف الاستثمار في المشاريع العامّة والبنية التحتيّة، وانعدمت فرص العمل الجديدة مع انكماش القدرة الشرائية، ليجد جيل كامل ممن وصل إلى سوق العمل بداية من 2008 بأن لا مستقبل له سوى الجوع، أو اللجوء لبيت العائلة بانتظار تبدل في الأحوال لم يأت أبداً، لا بل وازداد سوءاً مع جائحة كوفيد وتوقف التجارة، وحرب أوكرانيا وما أتت به من كساد، وقبلها ما سمي بالربيع العربي وما نشأت عنه من موجات الهجرة نحو الغرب.لقد أدى غضب الناس العاديين إلى تصعيد نوع جديد من السياسيين الشعبويين الذين اكتسحوا كل انتخابات أجريت في جميع أنحاء العالم، وحصل هؤلاء على النجومية عبر توجيه الحنق المتراكم نحو الجهات التي ارتبطت بالعولمة – واقعاً أو خيالاً – مهاجرين، وبضائع أجنبيّة، وصفقات سريّة، وصوتت أمريكا لدونالد ترامب مرة أولى، وأخذت الحدود والجدران، المالية والمادية، بالارتفاع، لتتوج بعودة مظفرّة بأصوات أكثرية للرئيس ترامب، الذي كان جليّاً حتى من أوقات ولايته الأولى – بأنّه يحمل أجندة انعزاليّة، وبرنامجاً لا يتورع عن توظيف القوة لفرض إرادة أمريكا على العالم، مسلحاً بتأييد الأكثرية الغاضبة على التردي الذي قادت إليه الليبرالية والعمولة، ومسنوداً بجبروت الإمبراطورية الغاشم.سيناريوهات اليوم التاليلن تذهب العولمة إلى أي مكان. لقد فشلت كل محاولات الأنظمة الشمولية، سواء في ألمانيا النازية أو إيطاليا الفاشيّة أو روسيا الشيوعيّة في تحقيق الاكتفاء الذاتي لشعوبها، ولم يتمكن الفلاحون والعمال الألمان والإيطاليون من إنتاج ما يكفي من المحاصيل والسلع لتأمين مستوى معيشي مرتفع للجميع. وغالباً ما أدى ذلك إلى حروب تمدد توسعيّة كان ثمنها باهظاً.فإذا كان التاريخ دليل كاف، فإن الولايات المتحدة، رغم كل غناها وتنوع مواردها، لن تكون بدورها في موقع الاستغناء عن التجارة مع العالم، لكن ترامب لن يستسلم بسرعة، وهو إن أكمل ولايته الثانية بعد أربع سنوات قد ينقل السلطة إلى وريث ترامبي النزعة يمكن أن يستمر بدوره في السلطة لثماني سنوات بعدها، ومن غير المستبعد أن تمد الولايات المتحدة يدها في هذه الأثناء لموارد العالم الأثمن في الكونغو وأوكرانيا وغرينلاند وكندا، وتخوض حروباً تجارية قاسية مع شركاء كبار، وسيعامل المهاجرون والأقليّات في أمريكا ككبش فداء بوصفهم من نتاج العولمة الشريرة، وسيتسبب التضخم المفرط والكساد في إفقار ملايين البشر ودفعهم إلى حافة هاوية الجوع.لم يكن صعود الفاشيات في أوروبا نتيجة للحرب العالمية، أو معاهدة فرساي، أو النزعة العسكرية الألمانية، أو المزاج الإيطالي المغامر، بقدر ما كان رداً على الإهانات التي فرضتها النخب الليبرالية الاقتصادية وعولمتها غير العادلة. وها هي الفاشيّة بلون أحمر هذه المرّة قد أطلت برأسها من جديد، وستكون رحلة التعافي منها صعبة دون شك، لكن العالم لن يستعيد استقراره ويفتح نوافذه للعولمة من جديد قبل ظهور تدابير مغايرة لحماية كرامة الإنسان من توحش الرأسماليّة وتغوّل الأقلية إيّاها. إعلامية وكاتبة لبنانية

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

إدارة ترامب ترفع العقوبات عن الشرع ووزير داخليته
إدارة ترامب ترفع العقوبات عن الشرع ووزير داخليته

timeمنذ 5 ساعات

إدارة ترامب ترفع العقوبات عن الشرع ووزير داخليته

أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، السبت، رفع اسم الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب من قوائم العقوبات لديها. وأصدر وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، إعفاء لمدة 180 يومًا من العقوبات المفروضة على سوريا بموجب قانون قيصر، وفق ما نقلته وكالة 'رويترز عن مسؤول في الوزارة الأمريكية. وقال روبيو، إن إعفاء سوريا من العقوبات لمدة 180 يوما خطوة أولى نحو تحقيق رؤية الرئيس دونالد ترامب للعلاقة الجديدة بين واشنطن ودمشق. وأضاف: 'ندعم جهود الشعب السوري لبناء مستقبل أكثر إشراقًا'.

هارفارد والطلاب الأجانب.. قاضية أميركية تتدخل بعد قرار ترامب
هارفارد والطلاب الأجانب.. قاضية أميركية تتدخل بعد قرار ترامب

timeمنذ 7 ساعات

هارفارد والطلاب الأجانب.. قاضية أميركية تتدخل بعد قرار ترامب

أوقفت قاضية اتحادية أميركية، الجمعة، تنفيذ قرار إدارة ترامب بمنع تسجيل الطلاب الأجانب في جامعة هارفارد. ويمنع أمر الإيقاف المؤقت الحكومة من سحب شهادة جامعة هارفارد في برنامج الطلاب وتبادل الزوار الأكاديمي، الذي يسمح للجامعة باستضافة الطلاب الأجانب الذين يحملون تأشيرات للدراسة في الولايات المتحدة. وفي الدعوى القضائية التي رفعتها في وقت سابق الجمعة، في محكمة اتحادية في بوسطن بولاية ماساتشوستس، قالت جامعة هارفارد إن الإجراء الذي اتخذته الحكومة ينتهك التعديل الأول للدستور، وسيكون له 'تأثير فوري ومدمر على جامعة هارفارد وأكثر من 7000 من حاملي التأشيرات'. وقالت جامعة هارفارد في دعواها: 'بجرة قلم، سعت الحكومة إلى القضاء على ربع طلاب جامعة هارفارد، الطلاب الأجانب الذين يساهمون بشكل كبير في الجامعة ورسالتها'. وأضافت: 'بدون طلابها الأجانب، لن تكون جامعة هارفارد هي جامعة هارفارد'. وقامت قاضية المقاطعة الأميركية أليسون بوروز، بإصدار أمر الإيقاف. وقالت جامعة هارفارد في الدعوى إن الخطوة التي أقدمت عليها إدارة ترامب تسببت في إحداث حالة من الفوضى في أرجاء الحرم الجامعي وذلك قبل أيام قليلة من تخرج طلاب الجامعة. وذكر ملف الدعوى أن الطلاب الأجانب الذين يديرون المختبرات ويدرسون الدورات ويساعدون الأساتذة ويشاركون في الرياضة بجامعة هارفارد أصبحوا الآن أمام قرار إما أن ينتقلوا من الجامعة أو يخاطرون بفقدان وضعهم القانوني للبقاء في البلاد. ويبدو التأثير بشكل أكبر في كليات الدراسات العليا مثل كلية هارفارد كينيدي، حيث يأتي ما يقرب من نصف الطلاب من خارج البلاد، وكلية هارفارد للأعمال، التي يبلغ عددها نحو ثلث دارسيها من الأجانب.

خطة أمريكية لرفع العقوبات عن سوريا 'قريبا'
خطة أمريكية لرفع العقوبات عن سوريا 'قريبا'

timeمنذ 7 ساعات

خطة أمريكية لرفع العقوبات عن سوريا 'قريبا'

كشفت وكالة 'أسوشيتد برس'، الجمعة، أن مستشاري الرئيس الأمريكي، اقترحوا منح سوريا إعفاء لمدة ستة أشهر لمجموعة من العقوبات المرهقة، إضافة إلى تخفيف القيود المفروضة على الشركات كخطوة أولى في تعهد دونالد ترامب بإنهاء نصف قرن من العقوبات. وبحسب الوكالة الأمريكية، ستكون هذه الخطوة الأولى لتنفيذ إعلان ترامب الأسبوع الماضي بتخفيف العقوبات المالية الأمريكية الثقيلة التي فرضت على نظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، في محاولة لمنح الحكومة المؤقتة الجديدة فرصة أفضل للبقاء بعد حرب أهلية استمرت 13 عاما. ومن المتوقع أن تبدأ الخطوة الأولى خلال الأسبوع المقبل، وفقا للمسؤولين الذين تحدثوا شريطة عدم الكشف عن هويتهم. بالإضافة إلى الإعفاء المؤقت من مجموعة عقوبات صارمة فرضها الكونغرس قبل ست سنوات، يدعم المسؤولون أيضًا توسيع نطاق قواعد وزارة الخزانة التي تحدد ما يمكن للشركات الأجنبية فعله في سوريا، وفقًا للمسؤولين. وأشاروا إلى أنه لا يزال من الممكن إدخال تغييرات على ما يُعلن عنه في الجولة الأولى من الإعفاء. وفي وقت سابق، قالت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية إن تنفيذ قرار رفع العقوبات عن سوريا جار، لكنه يتطلب تنسيقا متعدد الجهات، وفق وسائل إعلام سورية. وقالت تامي بروس إن تنفيذ قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا يخضع لإجراءات إدارية وتنسيقية بين عدد من الوزارات والوكالات الفيدرالية، الأمر الذي يستغرق وقتا، رغم بدء العمل عليه فور صدور القرار. وأكدت أن الرئيس ترامب يملك صلاحيات تنفيذية واسعة النطاق بشأن رفع العقوبات، لكن تطبيق ذلك عمليا يتطلب إصدار تراخيص وقرارات تنظيمية من جهات متعددة، منها وزارة الخزانة الأمريكية التي تشرف على الجوانب المالية والتجارية للعقوبات. من جهته، قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض ماكس بلوستاين إن 'العقوبات المفروضة على سوريا عبارة عن شبكة معقدة من القوانين والإجراءات التنفيذية وقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التي يتعين التعامل معها بعناية وحذر'. وأكد بلوستين في بيان نقلته وكالة 'أسوشيتد برس' أن الإدارة 'تحلل حالياً الطريقة المثلى للقيام بذلك' وستصدر إعلاناً قريباً.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store