من ماضينا ما يختزل حاضرنا
قصة واقعية حدثت في سنة (1832م) في الكرك، كتبها الأديب روكس بن زايد العزيزي ونشرت في عدد من الصحف عام (1935م).
يقول، إن الزعيم إبراهيم الضمور، كان في خيمته بعد العشاء بين ضيوفه، والكل صامت لا تسمع سوى نقرات إبريق القهوة على الفنجان، وإذا بقادم غريب يصرخ: "دولة، يا جماعة الخير! عساكر تريد بلادنا! والله ما لها إلا القوة! وقطيعتنا من المال، والحلال، والعيال!".
حركة ذعر غريبة، وجوه مكفهرة، كلمات هامسة، عيون شاخص.. والصوت يرتفع: دولة ! دولة! الله يقطع الدولة، وساعة الدولة.
كان في الواقع، إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا حاكم مصر، تكاد الأنفاس تقف في صدور القوم إلّا الزعيم إبراهيم الضمور، أخذ يومئ إليهم أن اسكتوا، وإبراهيم هذا رجل مربوع القامة، واسع العينين، في وجهه هيبة الزعامة وجلال المطل.
قال بصوت كالهدير : علوم الرجال؟ دولة؟ تخافون الدولة؟ لهم الله! خلوا الرجل يجر الربابة، فيعترض عم إبراهيم، ويظهر قدرة الدولة وأنه لا قبل لهم بها، يقول إبراهيم بغضب:
"يا عم الق الخير، هداك الله، والله ما غير قضاء ربك المحتوم، وش ينفع السلاح مع غيبة السعد؟ وش نفع الرجال؟ القوي من غير الله ضعيف، هداك الله يا عم!.
وهنا يرتفع صوت صاح بالربابة يا من درى وش مرمى الشيخ عندنا... ما نرتضي بالغلب ونحن حماية تتنكر علينا الأرض، وهي ديره لنا والزرب يصلح للرجال الهلايمة! فيردد الرجال مع الشاعر، الزرب يصلح للرجال الهلايمة، ثم ينصرف القوم إلى مضاربهم واجمين وينام الضيوف إلا إبراهيم الضمور، فينادي ولديه: يا سيد، يا علي، خذوا زوادة الرعيان وأرسلوه لهم، ولا تبطئوا!".
يتابع العزيزي: كان ينتظر ولداه ولكن قلبه يحدثه بشر واقع فيحدث نفسه: "إبراهيم! والله ما أنت زين ولا يومك زين!" وإذا بامرأة شرارية تمر من أمامه، يناديها لتكشف له مخبئات الغيب تلقي الحصا فترتجف أناملها ثم تلقيها ثانية فتجمعها بسرعة، وتفر هاربة هي تقول: "يا ويحي، يا ويحي! الدم، الدم، غارة يا ويحي!".
تشاءم إبراهيم فصرخ: الرحيل... الرحيل يا عرب إلى الكرك!. وبأسرع من ارتداد الطرف، رفعت الخيام، وسارت الظعون والمدائن إلى الكرك ما عدا إبراهيم، فإنه ظل صامتًا متكئًا على سيفه، في تفكير عميق، ينتظر ولديه وإذا بغراب يمر من فوق رأسه وينعق، فتولى إبراهيم رعب شديد وذكر حالًا ما يقوله البدو:
يا سعد من شاف الغرابين بالخلا يا تعس من جاه الغراب وحيد
فانسحقت نفسه، وإذا برجل ينهب الأرض مقبلًا على موضع المضارب، فلوح له إبراهيم فما أقبل الرجل حتى عرفه شاهد أحد رعيانه فصرخ إبراهيم: علومك يا ولد؟ هدانا الله شرك! علومك؟
فأجاب الراعي: "علوم الشر! الغنم خذتها الدولة، والسيد علي عند الباشا! وهذا مكتوب الباشا. يقول إن الدولة تريد تدخل الكرك! والغنم ذبايح، والسيد وعلي رهاين قوم لا تشبع ولا تروى، نحرق الحشيش، خلي العرب تتحاشى، لو انقضت صاعقة على رأس إبراهيم لكان وقعها أخف من هذا الخبر. السيد وعلي رهاين عند الباشا، والغنم ذبائح! ولكن البطولة جعلته ينطق بهذه الكلمات: "إيه. الله أعطى والله أخذ، أقدار الله وأحكامه على الرأس والعين، يا هاربًا من قضاي مالك رب سواي".
نطق بهذه الكلمات وسار إلى الكرك وهو لا يدري أهو يدوس على الأرض أم على حبات فؤاده، فما وصل حتى رأى الجماعة بانتظاره: "وين السيد؟ وين علي؟ وين الغنم؟ كفى الله شرك يا إبراهيم".
فأجاب إبراهيم بهدوء: "لقوا خير، نادوا واحد يقرأ مكتوب الباشا" فلم يجدوا إلّا صانعًا مصريًا قرأ لهم ما يأتي:
إلى شيخ الكرك إبراهيم الضمور! تسلم الكرك وتخضع أنت ورجالك وإلّا أحرقت ولديك.
هنا قام عراك هائل بين إبراهيم وبين نفسه، إذن الكرك وعرض الكركيات، وحرية جماعتي وعزة نفسي، ونفوسهم في كفة، وحياة السيد وعلي في كفة ثانية.
صمم إبراهيم على أن يقاوم حتى النهاية، ولكن لماذا لا يدعو عليا زوجته وأم ولديه، جاءت عليا فقال لها:
والله ما أخذتك لبياض خدك، ولكن لأني أعرف أنك أشرف نساء الكرك، وعرفت عمي والدك، رحمه الله، فعرفت فيه البطل الكريم، ولإعجابي هذا تزوجتك، وما تزوجت غيرك على أمل أن يكون لي منك أولاد يصونون عرضي، ويجمعون شرفي، واليوم قدّر الله أن يختبرنا، وهذا الباشا يقول إمّا أن تسلم الكرك، وأنت عرافة معنى تسليم الكرك، فهو تسليم عرضك وعرض الكركيات لجيوش إبراهيم باشا، هذا معنى التسليم يا عليا، يقول تسليم الكرك أو يحرق السيد وعلي.
فالناس يطلبون الحياة للشرف وحماية العرض، والباشا يريد أن يسلبنا ما هو أعز من الحياة، والله ما أدري رأيك في هذه القضية.
أجابت عليا: "اسمع يا إبراهيم، الرأي رأيك، والله ما على الحياة أسف بعد العرض وألف إهانة للمال ولا إهانة للعيال. وألف إهانة للعيال ولا إهانة للعرض. وألف إهانة للعرض ولا إهانة للدين، فلا والله. شرفك وشرف الكركيات أولى من حياة السيد وعلي، ووالله لو قلت للسيد وعلي أريد خلاصكم بتسليم الكرك والله يرفضون، قل للباشا أن يقتل إن كان لا يقبل الجزية!".
وهنا يتقدم شيوخ الكرك إلى خيمة إبراهيم وقد قرروا تسليم الكرك تخليصًا للسيد وعلي وهم ينشدون:
يا شيخ حنا عزوتك جلايبك يوم المبيع
يدخلون بأسلحتهم فيطلبون إليه تسليم الكرك لإعادة ولديه، فيجب بأنفة: "لا والله، لا والله. زعيم الكرك يتجرّع حلوها ومرّها، زعيم الكرك يحمل ثقيلات حمولها، والله ما أسلم الكرك. العيال! الحياة! ما أعرف لها قيمة، الشرف خير منها، استعدوا للموت. كلنا نموت، السيد وعلي فداء للعرض والشرف، نار الباشا ولا نار الفضيحة والعار!".
فارتفعت الزغاريد وأطلقت العيارات النارية. وإذا بالجيوش تتدفق على الكرك فيصرخ إبراهيم: "اقتل! احرق! والله ما تدخل الكرك وإبراهيم الضمور حي. احرق أنا أقدم لك الحطب والقطران!" فتندحر جيوش إبراهيم باشا أمام حماسة أهل الكرك وبطولة زعيمها. وإذا بالمنادي يصرخ: "إبراهيم الضمور! انظر النار تأكل ولديك" وإذا بأكوام الحطب تلتهب فتحرق جثتي السيد وعلي وإبراهيم الضمور مطل من قلعة الكرك، يرى في أمواج النار قلبه الممزق يحترق ويسمع زغاريد زوجته عليا وألوف النساء، وإذا بدمعة حائرة تتدحرج من عينيه فيزجرها ويهيب بالنساء والرجال غنوا، هذا عيدنا! زغردوا!
الأردني في هذه القصة، وما تحمله من تعابير تختزل حضورنا، خلق حرا، وصاغ وطنه وحضوره على هذه الأرض، بعبقرية آمن بها، وعلى هذا وضمن مبادئه الوفية، بقي ثابتا، يمرون عليه، ويبقى ثابتا، مؤمنا بما أضاف له التاريخ من شرعية الحضور، وقوة الجذور.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


أخبارنا
منذ 15 دقائق
- أخبارنا
الصحفي علي عزبي فريحات يكتب : معالي عزمي محافظة..مسيره تربويه وتعليميه برؤيه ملكيه
أخبارنا : كتب:الصحفي علي عزبي فريحات نتقدم بأسمى آيات التهاني والتبريك إلى معالي الدكتور عزمي محافظة بمناسبة تجديد الثقة الملكية السامية بتوليه حقيبة وزارة التربية والتعليم متمنين له مزيدًا من التوفيق والسداد في خدمة الوطن تحت ظل القيادة الهاشمية الحكيمة. أن تجديد الثقة بمعاليه يعكس ما يتمتع به من كفاءة وخبرة وإخلاص في النهوض بالعملية التعليمية وتطوير قطاع التربية، بما يسهم في إعداد أجيال واعية ومؤهلة قادرة على خدمة الأردن ومواكبة متطلبات المستقبل. الوزير محافظة موسوعة في المجال الإداري التربوي ويمتلك الكفاءة والخبرة للتعامل مع كافة الملفات التي تحتاج الى مراجعة والقرارات الصائبة التي تخدم الجميع بشفافية لضمان إعطاء الحقوق لأصحابها وإنصافهم . يمتاز بالحكمة والعقلانية والتواضع والهدوء لانه تربى على الإيمان والمعرفة والأخلاق الحميدة حيث استطاع تحقيق العمل والانجاز في العديد من الملفات وتلبية الممكن منها ضمن الامكانات المتاحة لتوفير بيئة تعليمية ملائمة للطلبة . يمتاز بالحنكة والذكاء ويتحمل امانة العمل والمسوؤليه حيث يتابع كل صغيره وكبيره لذلك اصبح رقما صعبا في وزارة التربيه بفضل خبرته وكفاءته . ينتهج سياسة الباب المفتوح مكتبه وتنفيذ العمل والمتابعه حيث يتواجد في الوزاره لاوقات متاخره وايضا خلال ايام العطل لمتابعة الملفات بكل كفاءه واقتدار . ويتعامل مع الجميع على مسافه واحده وبكل شفافيه ولا يوجد له اجندات غايته خدمة الوطن وتحقيق المصلحه العامه . يمتاز بانفتاحه على وسائل الإعلام وحرصه على التواصل المباشر مع المجتمع، ليجسد نموذج القائد التربوي القريب من الناس، المستمع لآرائهم، والساعي لتطوير التعليم بما يواكب طموحات الوطن. ندعو الله العلي القدير أن يوفقه لمواصلة مسيرة العطاء والبناء، لما فيه خير ومصلحة وطننا العزيز في ظل حضرة صاحب الجلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم وولي عهده الامين سمو الامير الحسين بن عبدالله الثاني .


جفرا نيوز
منذ ساعة واحدة
- جفرا نيوز
الصفدي هاتف النائب أبو هنية .. والأخير سامح الراحل أبو بيدر
في خطوة هي أقرب إلى تقوية أواصر المودة حتى بعد الرحيل ولفعل الخير ، قام رئيس مجلس النواب أحمد الصفدي وكعادته في متابعة الشؤون العامة ومن منطلق مسؤوليته المجتمعية، بالتواصل مع النائب الدكتور أيمن أبو هنية، بعد وفاة الزميل الصحفي جهاد أبو بيدر، إثر أمور كانت عالقة بينهما . وبعد المكالمة ، أكد النائب أبو هنية أنه سامح الراحل أبو بيدر ، ولا يحمل له في قلبه سوى المحبة، ويسأل الله لذويه الصبر والسلوان على رحيله. وتنم هذه المبادرة المقدرة عن عمق العلاقة بين النواب والوسط الصحفي؛ إذ تقوم على التشاركية والتعاون في العديد من الأمور والقضايا.

السوسنة
منذ 2 ساعات
- السوسنة
الأسرة الصحفية تفجع برحيل الزميل جهاد أبو بيدر
عمان – السوسنة – انتقل إلى رحمة الله تعالى، الأربعاء، الزميل الصحفي جهاد أبو بيدر "أبو عمر". وينعى مجلس نقابة الصحفيين الأردنيين والهيئة العامة، بمزيد من الحزن والأسى، فقيد الأسرة الصحفية والإعلامية الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى اليوم الأربعاء 13 آب 2025.وتستذكر الأسرة الصحفية مسيرة الفقيد المهنية الحافلة بالعطاء، ودوره البارز في خدمة الصحافة والإعلام، وإسهاماته في الدفاع عن قضايا المهنة، ومعروفًا بأخلاقه الرفيعة وتعاونه الدائم مع زملائه.سائلين المولى عز وجل أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته، وأن يلهم أهله وذويه وزملاءه الصبر والسلوان . سيشيع جثمان الراحل بعد صلاة المغرب من يوم الأربعاء الموافق 13/8/2025 من مسجد عمر بن عبد العزيز في مخيم عزمي المفتي بمحافظة إربد.تقبل التعازي في ديوان آل تيسير في مقر المخيم، وسيكون اليوم الثالث في ديوان بيت إكسا – ضاحية الأمير راشد خلف شركة زين، من الساعة الرابعة ولغاية العاشرة مساءً.وتتقدم أسرة صحيفة السوسنة بأحر التعازي والمواساة إلى عائلة الفقيد، سائلين المولى عز وجل أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته، وأن يلهم ذويه الصبر والسلوان.إنا لله وإنا إليه راجعون.