logo
في واشنطن: كيف تصطدم خطابات اللوبي بثقافة مجتمعية متغيرة؟

في واشنطن: كيف تصطدم خطابات اللوبي بثقافة مجتمعية متغيرة؟

الجزيرةمنذ 2 أيام
في قلب العاصمة الأميركية، تدور مفارقة لافتة: كلما زاد الإنفاق المالي لجماعات الضغط الداعمة للسياسات الإسرائيلية، بدا أن تأثيرها في ضمير الشعب يتراجع! ففي عام 2023، أعلنت "أوبن سيكرتس" عن إنفاق قياسي تجاوز 30 مليون دولار، بينما أظهر استطلاع "غالوب" (2024) أن 55% من الأميركيين يرون تجاوزًا إسرائيليًّا في غزة، والنسبة ترتفع إلى 75% بين الشباب.. هذا التناقض يطرح سؤالًا جوهريًّا: هل لا تزال القوة تقاس بالمال والنفوذ فقط؟
لتفكيك هذه الإشكالية، يجب فهم أن قوة اللوبيات نبعت تاريخيًّا من قدرتها على تحقيق "الهيمنة الثقافية"، كما وصفها غرامشي، وقد نجحت لعقود في جعل خطابها جزءًا من "الحس المشترك" الأميركي عبر "فن التأطير"، مقدمةً القضية ضمن إطار "الأمن" و"الديمقراطية" و"مكافحة الإرهاب". وكما قال والتر ليبمان، أسهمت في رسم "الصور في رؤوسنا" عن الصراع.
العصر الذهبي والتوازن المفقود
في "العصر الذهبي" (الثمانينيات- بداية الألفية)، ساد توازن شبه مطلق بين خطاب اللوبي والثقافة السائدة؛ إذ تناغمت رسائلها مع منطق الحرب الباردة والاستثنائية الأميركية، مدعومةً ببيئة إعلامية منضبطة وإجماع نخبوي… كانت السياسة والثقافة تسيران في اتجاه واحد.
لكن "الطوفان الثقافي" للعقدين الأخيرين قلب المعادلة مع أحداث مفصلية -حرب العراق (2003)، الأزمة المالية (2008)، حركة "حياة السود مهمة" (2020)، وحرب غزة (2023-2024)- أحدثت شروخًا عميقةً. الثورة الرقمية كسرت احتكار المعلومات، وأتاحت للفلسطينيين نقل روايتهم مباشرةً. ووفقًا لـ"بيو" (2024): 70% من جيل Z يحصلون على أخبارهم من وسائل التواصل، و58% يرون القضية الفلسطينية كقضية عدالة.
يتجلى الصدام في ثلاث جبهات:
صدام الأطر: إطار "الأمن" القديم يصطدم بإطار "العدالة وحقوق الإنسان" الجديد. ما كان يؤطر كـ"مكافحة إرهاب" أصبح يُرى كـ "احتلال"، وما كان "دفاعًا عن الديمقراطية" بات "فصلًا عنصريًّا".
صدام الرسل: الساسة التقليديون يفقدون مصداقيتهم أمام نشطاء تيك توك والأكاديميين النقديين والفنانين الذين يربطون القضية بحركات العدالة العالمية.
صدام الساحات: انتقلت المعركة من أروقة الكونغرس إلى ساحات الجامعات والفضاءات الرقمية، حيث لا تعمل أدوات النفوذ التقليدية بنفس الكفاءة. أرقام تكشف الأزمة 62% من الديمقراطيين الشباب يؤيدون وقف المساعدات العسكرية لإسرائيل أكثر من 100 جامعة شهدت احتجاجات مؤيدةً لفلسطين هاشتاغ #FreePalestine حصد 50 مليار مشاهدة على تيك توك
إعلان
تحاول اللوبيات المواجهة بالتصعيد المالي والضغط المؤسسي وحرب السرديات، لكن هذه الإستراتيجيات تبدو وكأنها تعمق الأزمة، مؤكدةً للشباب شكوكهم حول "قوة المال" و"قمع الأصوات".
الاستمرار في ترديد خطاب فقد أساسه الثقافي هو تشبث بحاضر يتآكل؛ أما إدراك التغير فيعني تطوير خطاب يتواءم مع القيم الناشئة. كما قال ابن خلدون: "إذا تغيرت الأحوال جملةً، فكأنما تبدل الخلق من أصله"
قانون التطور الحتمي
إن التحدي ليس مجرد معارضة سياسية، بل أزمة وجودية تتعلق بالقدرة على التكيف مع تغير ثقافي عاتٍ. يفرض القانون الأزلي نفسه: "من يرد الحاضر فسوف يتلاشى، ومن يدرك التغير فسيكون هو الغد".
الاستمرار في ترديد خطاب فقد أساسه الثقافي هو تشبث بحاضر يتآكل؛ أما إدراك التغير فيعني تطوير خطاب يتواءم مع القيم الناشئة. كما قال ابن خلدون: "إذا تغيرت الأحوال جملةً، فكأنما تبدل الخلق من أصله".
إنها ليست قصة جماعة ضغط بعينها، بل درس في حتمية التطور لكل مؤسسة تريد البقاء في عالم قانونه الوحيد الثابت هو التغير.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

تحوّل جذري في سياسة أوروبا تجاه سوريا
تحوّل جذري في سياسة أوروبا تجاه سوريا

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

تحوّل جذري في سياسة أوروبا تجاه سوريا

يمثّل نظام العقوبات الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على سوريا أحد أكثر أنظمة العقوبات متعددة الأطراف شمولًا واستدامة في القرن الواحد والعشرين، حيث امتد لأربعة عشر عامًا من القيود المتصاعدة. وفي أعقاب السقوط المفاجئ لنظام الأسد في ديسمبر/ كانون الأول 2024، اتخذ الاتحاد الأوروبي خطوة تاريخية بالتحول عن سياسة العقوبات؛ فرفع معظم القيود الاقتصادية، مع الإبقاء على إجراءات محددة تستهدف الأفراد والكيانات المرتبطة بالنظام السابق. يشكل هذا التحول محطة مهمة في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، ويوفر رؤى إستراتيجية حول فاعلية استخدام العقوبات الاقتصادية كأدوات في الدبلوماسية الدولية وحماية حقوق الإنسان. التطور التاريخي للعقوبات الأوروبية على سوريا (2011–2024) جاءت العقوبات الأوروبية على سوريا ردًا على القمع الوحشي الذي انتهجه نظام الأسد ضد المتظاهرين السلميين الذين خرجوا إلى الشوارع في مارس/ آذار 2011. وفرضت أولى العقوبات الرسمية بموجب قرار المجلس الأوروبي رقم 2011/273/CFSP بتاريخ 9 مايو/ أيار 2011، والذي مثّل أول إدانة أوروبية رسمية لـ"القمع العنيف واستخدام الذخيرة الحية ضد الاحتجاجات السلمية في مناطق متفرقة من سوريا، ما أسفر عن مقتل وجرح واعتقال عدد كبير من المتظاهرين". وقد شكّل هذا القرار الأساس القانوني لنظام عقوبات شامل يستهدف الأفراد والقطاعات الاقتصادية الحيوية على حدٍ سواء. تركّزت الحزمة الأولية من العقوبات على تجميد الأصول وحظر السفر بحق الأفراد المسؤولين مباشرةً عن انتهاكات حقوق الإنسان. غير أن الاتحاد الأوروبي سرعان ما أدرك أن هذه الإجراءات وحدها لا تكفي لمواجهة تصاعد الأزمة. لذا، وسّع نطاق القيود بشكل ملحوظ في ديسمبر/ كانون الأول 2011 من خلال القرار 2011/782/CFSP، والذي استند إلى بيان المجلس الأوروبي الصادر في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، والذي أعلن فيه أن الاتحاد الأوروبي "سيواصل فرض مزيد من الإجراءات على النظام السوري ما دام أنه استمر في قمع المدنيين". التوسع في العقوبات القطاعية شهدت العقوبات الأوروبية على سوريا تصعيدًا تدريجيًا تماشى مع تدهور الأوضاع الإنسانية وتصاعد حدة النزاع. وفي عام 2013، تم توحيد الإطار العام للعقوبات بموجب قرار المجلس الأوروبي رقم 2013/255/CFSP، والذي فرض قيودًا قطاعية واسعة شملت تجارة الأسلحة، والسلع ذات الاستخدام المزدوج، ومعدات القمع الداخلي، وتقنيات المراقبة. شكّل هذا التحوّل نقلة إستراتيجية من العقوبات الفردية المحدودة إلى فرض قيود اقتصادية أوسع نطاقًا بهدف تقويض قدرات النظام على الاستمرار، مع محاولة تخفيف الأثر على المدنيين قدر الإمكان. غطّت هذه العقوبات مجالات حيوية من الاقتصاد السوري، منها صادرات الطاقة، والخدمات المالية، وتجارة السلع الكمالية. وصُممت بشكل خاص للحد من قدرة النظام على تمويل عملياته العسكرية، واستهدفت أيضًا المصالح الاقتصادية لداعمي النظام الإقليميين والدوليين. وتضمنت كذلك إجراءات استثنائية للإعفاءات الإنسانية، إدراكًا من الاتحاد الأوروبي للصعوبات الإنسانية التي قد تنشأ عن العقوبات الشاملة، وذلك لضمان استمرار وصول المساعدات والخدمات الأساسية للسكان. الإطار القانوني وآلية اتخاذ القرار استندت العقوبات الأوروبية إلى المادة 29 من معاهدة الاتحاد الأوروبي، التي تشكّل الإطار الدستوري للسياسة الخارجية والأمنية المشتركة. وتم تنفيذ هذه العقوبات من خلال هيكل قانوني مزدوج، يتألف من قرارات المجلس المتعلقة بالسياسة الخارجية، ولوائح المجلس التي تُطبَّق مباشرةً في الأنظمة القانونية الوطنية للدول الأعضاء. وقد أتاح هذا الإطار المزدوج تحقيق الاتساق السياسي على مستوى الاتحاد الأوروبي، وضمان تنفيذٍ فعّالٍ على الصعيد المحلي. تتطلب عملية اتخاذ القرار توافقًا بين الدول الأعضاء داخل المجلس، وهو ما يعكس الطبيعة الحكومية للسياسة الخارجية الأوروبية. وقد خضع الإطار القانوني للعقوبات لمراجعات دورية، وكان آخر تمديد قبل انهيار نظام الأسد مقررًا حتى 1 يونيو/ حزيران 2025، ما أتاح تحديث السياسات حسب المستجدات الميدانية وتقييمات الأداء. نطاق التدابير التقييدية وأنواعها شملت العقوبات الأوروبية على سوريا مجموعة واسعة من الإجراءات التي استهدفت مختلف عناصر الاقتصاد والبنية السياسية السورية. وتضمنت هذه العقوبات حظرًا شاملًا للأسلحة، بما في ذلك منع بيع أو توريد أو نقل المعدات العسكرية والسلع ذات الاستخدام المزدوج التي قد تُستغل في القمع الداخلي. كما فُرض تجميد موسع للأصول، استهدف 318 فردًا و58 كيانًا مرتبطين بالنظام، مع حظر سفر منعَ دخولهم إلى أراضي الاتحاد الأوروبي أو المرور عبرها. وامتدت هذه الإجراءات إلى قطاعات اقتصادية حيوية مثل الطاقة، والنقل، والخدمات المالية، وتجارة السلع الفاخرة، وحماية التراث الثقافي السوري. واستهدفت أيضًا تقنيات متقدمة للمراقبة واعتراض الاتصالات، منعًا لاستخدامها في انتهاكات حقوق الإنسان. ويعد هذا الإطار من أكثر أنظمة العقوبات استقلالية واتساعًا التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على دولة خارج حدوده. آليات التنفيذ والامتثال تطلب تنفيذ العقوبات على سوريا تنسيقًا وثيقًا بين مؤسسات الاتحاد الأوروبي والسلطات الوطنية للدول الأعضاء. وأُنيطت بهذه السلطات مهام مراقبة الامتثال، والتحقيق في المخالفات، وفرض العقوبات على المنتهكين. وبسبب التعقيد الخاص للعقوبات القطاعية والإعفاءات الإنسانية، صدرت توجيهات وتحديثات دورية لضمان توحيد التطبيق في جميع الدول الأعضاء. تفاوتت فاعلية آليات التنفيذ حسب نوع القيود المفروضة، ففي حين كان تطبيق عقوبات الأفراد مثل تجميد الأصول وحظر السفر أكثر وضوحًا وسهولة في التنفيذ، واجهت العقوبات القطاعية، خاصة في قطاعي الطاقة والخدمات المالية، تحديات أكبر في التطبيق. وأشارت تقارير عديدة إلى أن المنظمات الإنسانية عانت من صعوبات متكررة في التعامل مع شروط الإعفاءات الإنسانية، ما أثّر على إيصال المساعدات بشكل فعّال في بعض الحالات. سقوط نظام الأسد وإعادة تقييم السياسة الأوروبية تجاه سوريا أدى الانهيار المفاجئ لنظام الأسد في ديسمبر/ كانون الأول 2024 إلى فتح نافذة لإعادة تقييم شاملة لسياسة الاتحاد الأوروبي تجاه سوريا. وأكّدت استنتاجات المجلس الأوروبي في 19 ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه على "الفرصة التاريخية المتاحة لجميع السوريين لإعادة توحيد وبناء وطنهم"، مشددةً على أهمية إطلاق عملية سياسية شاملة تستجيب لتطلعات الشعب السوري المشروعة. وشكّل هذا التحوّل نقطة انطلاق لمراجعة عميقة لنظام العقوبات الذي استمر لما يزيد على ثلاثة عشر عامًا. وجاء رد الفعل الأوروبي مصحوبًا بمزيج من الحذر والتفاؤل إزاء مستقبل المرحلة الانتقالية، مؤكدًا على ضرورة أن تكون العملية السياسية "سورية خالصة"، مع احترام استقلال سوريا وسيادتها وسلامة أراضيها وفق القانون الدولي. النهج التدريجي لتخفيف العقوبات بدلًا من رفع العقوبات دفعة واحدة عقب التغيير السياسي، اختار الاتحاد الأوروبي اتباع نهج تدريجي وقابل للتراجع، يهدف إلى دعم عملية التحول في سوريا، مع الحفاظ على أدوات الضغط لضمان استمرار التقدم نحو الحوكمة الديمقراطية. بدأ تنفيذ هذا النهج في 24 فبراير/ شباط 2025، حين قرر المجلس تعليق عدد من التدابير التقييدية نتيجة التحولات الميدانية والسياسية في سوريا، لتسهيل التواصل مع الشعب السوري والشركات العاملة في قطاعات رئيسية مثل الطاقة والنقل. شمل التعليق الأولي قطاعات محددة تُعدّ حيويةً للتعافي الاقتصادي وتلبية الاحتياجات الإنسانية الملحّة. تضمنت هذه الإجراءات تعليق القيود القطاعية المفروضة على الطاقة والنقل، وشطب خمس مؤسسات مصرفية من قائمة العقوبات، إلى جانب استحداث إعفاءات مصرفية إضافية لتيسير الأنشطة الإنسانية ومشروعات إعادة الإعمار، وتمديد الإعفاءات الإنسانية السابقة دون تحديد سقف زمني. في 20 مايو/ أيار 2025، أعلن الاتحاد الأوروبي رسميًا قراره السياسي برفع العقوبات الاقتصادية، وذلك بعد أشهر من تقييم الوضع في ظل الحكومة الانتقالية. وجاء في بيان المجلس أن "الوقت قد حان لكي يعيد الشعب السوري توحيد صفوفه ويبني سوريا الجديدة، القائمة على أسس الشمولية والتعددية والسلام، والخالية من التدخلات الأجنبية الضارة". مثّل هذا القرار تحولًا جوهريًا في توجه الاتحاد الأوروبي من سياسة الضغط والاحتواء إلى تقديم الدعم الفعلي لعملية التحول الديمقراطي في سوريا. ومع ذلك، احتفظ القرار بضمانات مهمة، أبرزها استمرار فرض العقوبات على الأفراد والكيانات المرتبطة بالنظام السابق، والإبقاء على القيود الأمنية بشأن تصدير الأسلحة والتقنيات الحساسة، إلى جانب وجود آليات لإعادة فرض العقوبات إذا تدهورت أوضاع حقوق الإنسان. إطار العقوبات الحالي وآليات التنفيذ تم تفعيل قرار رفع العقوبات عبر حزمة إجراءات قانونية اعتمدها المجلس الأوروبي في 28 مايو/ أيار 2025، شملت قرار المجلس (CFSP) 2025/1096 ولائحة المجلس (EU) 2025/1098، التي أدخلت تعديلات على الإطار القانوني الأساسي الساري منذ عام 2013. وجاء اعتماد هذه التدابير نتيجة عملية سياسية متأنية داخل الاتحاد الأوروبي، مما وفر الأساس القانوني لاستئناف الشركات والمنظمات الأوروبية أنشطتها في سوريا. تناول الإطار القانوني الجديد مختلف فئات القيود الاقتصادية المفروضة سابقًا، وتم رفعها رسميًا عن قطاعات الطاقة والنقل والخدمات المالية، بالإضافة إلى أغلب القيود التجارية الأخرى. وفي سياق عملية رفع العقوبات، أزال الاتحاد الأوروبي أربعة وعشرين كيانًا من قوائم العقوبات، شملت مؤسسات مصرفية وشركات تعمل في قطاعات إستراتيجية مثل إنتاج وتكرير النفط، وصناعة القطن، والاتصالات، والإعلام. وكان من أبرز هذه الكيانات مصرف سوريا المركزي، ما أتاح استئناف العلاقات المصرفية الدولية وتسهيل المعاملات الاقتصادية على نطاق واسع. وجاء اختيار هذه الكيانات بعد دراسة دقيقة لدورها في عملية التعافي الاقتصادي مقارنةً بمدى ارتباطها بالنظام السابق. القيود المتبقية والمخاوف الأمنية رغم الرفع الواسع للعقوبات الاقتصادية، احتفظ الاتحاد الأوروبي بمجموعة من القيود استجابةً لمخاوف أمنية ومسائل تتعلق بالمساءلة. تشمل هذه القيود استمرار حظر الأسلحة وقيود تصدير السلع والمعدات ذات الاستخدام المزدوج، إضافةً إلى قيود على تقنيات المراقبة والاعتراض وحظر تجارة التراث الثقافي السوري. تعكس هذه الإجراءات المخاوف المستمرة من إمكانية استخدام هذه الأدوات في القمع الداخلي أو تهديد الاستقرار الإقليمي. كما أبقى الاتحاد الأوروبي العقوبات المفروضة على 318 فردًا و58 كيانًا مرتبطًا بنظام الأسد، مع تمديدها حتى 1 يونيو/ حزيران 2026. تشمل هذه العقوبات تجميد الأصول وحظر السفر المفروض على المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان، تأكيدًا لالتزام الاتحاد الأوروبي بتحقيق العدالة، مع الحرص على تجنّب تحميل الشعب السوري مسؤولية جماعية عن جرائم النظام السابق. تقدم تجربة الاتحاد الأوروبي في فرض العقوبات على سوريا دروسًا مهمة حول الفرص والتحديات المصاحبة لاستخدام أنظمة العقوبات طويلة الأمد. وتُظهر هذه التجربة حدود وإمكانات العقوبات الاقتصادية كأداة لتعزيز التغيير السياسي وحماية حقوق الإنسان. ورغم أن العقوبات لم تُسفر وحدها عن إسقاط نظام الأسد، فإنها ساهمت في إضعافه وتقويض شرعيته دوليًا، إلى جانب إبراز التزام الاتحاد الأوروبي المستمر بحقوق الإنسان ضمن سياسته الخارجية. ويؤكد التحول من سياسة العقوبات إلى الدعم أهمية المرونة والقدرة على التكيف مع المتغيرات السياسية السريعة. كما يبرز ذلك قدرة الاتحاد الأوروبي المؤسسية على الاستجابة الإستراتيجية في ظل التحولات المفاجئة. وفي الوقت ذاته، تكشف النتائج الإنسانية الجانبية للعقوبات الشاملة ضرورة اتباع مقاربات أكثر دقة وتوازنًا بين الضغط على الأنظمة الاستبدادية، وضمان حماية السكان المدنيين. الاستقرار الإقليمي والتنسيق الدولي تمتد انعكاسات المرحلة الانتقالية في سوريا لتشمل الاستقرار الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، وتُمثل سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه العقوبات عنصرًا مركزيًا ضمن جهود التنسيق الدولي الأوسع. ويسهم التناغم بين تخفيف العقوبات الأوروبية والإجراءات المماثلة التي تتخذها الولايات المتحدة ودول أخرى في تعزيز فاعلية الاستجابة الدولية، وتقليل فرص التحايل على العقوبات أو تباين الرسائل السياسية. ويعزز هذا التنسيق قدرة المجتمع الدولي على دعم عملية الانتقال السياسي في سوريا دون التخلي عن أهداف المساءلة وضمان احترام حقوق الإنسان. كما يعكس تأكيد الاتحاد الأوروبي على ضرورة منع "التدخل الأجنبي الضار" مخاوفه من التأثير السلبي المحتمل لبعض القوى الإقليمية على العملية السياسية الداخلية في سوريا. ويُعد إطار العقوبات الحالي، بشقيه المرفوع والمُبقى، وسيلة لتعزيز السيادة السورية وردع محاولات تقويض المرحلة الانتقالية. رغم الخطوات الإيجابية لتخفيف العقوبات، تواجه سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه سوريا تحديات حقيقية في التنفيذ والمتابعة. فعملية الانتقال من نظام عقوبات شامل إلى إجراءات محددة تستلزم مراقبة دقيقة وتطبيقًا صارمًا لتجنب استغلال التسهيلات الجديدة من جانب جهات مرتبطة بالنظام السابق، أو متورطة بانتهاكات حقوق الإنسان. كذلك، فإن التزام الاتحاد الأوروبي بجعل سياسة تخفيف العقوبات "قابلة للعكس" يوفر مرونةً إستراتيجيةً، لكنه يخلق في الوقت ذاته قدرًا من عدم اليقين لدى الشركات والمنظمات الراغبة في استئناف أنشطتها في سوريا. ويشكل تحقيق التوازن بين دعم التعافي الاقتصادي وضمان المساءلة تحديًا سياسيًا مستمرًا، يتطلب تقييمًا دقيقًا ومتواصلًا لأدوات السياسة المعتمدة. ويبقى نجاح هذا النهج مرهونًا بمدى التزام الحكومة الانتقالية بمعايير الحوكمة الشاملة واحترام حقوق الإنسان. خاتمة تُجسّد سياسة العقوبات الأوروبية تجاه سوريا استجابة معقدة ومُتعددة الأبعاد لإحدى أكثر الأزمات السياسية والإنسانية إلحاحًا في القرن الحادي والعشرين. وفي ظل سعي سوريا لاستعادة استقرارها السياسي وتحقيق تعافٍ اقتصادي حقيقي، يُبرز تحول سياسة الاتحاد الأوروبي من العقوبات إلى الدعم عمقَ تعقيدات العلاقات الدولية، والدور المستمر للدبلوماسية متعددة الأطراف في مواجهة التحديات العالمية. ومن المرجح أن تُسهم الحالة السورية في صياغة توجهات الاتحاد الأوروبي المستقبلية بشأن العقوبات، والدعم الإنساني، والمساندة في مراحل ما بعد النزاعات، بما يعزز تطوير أدوات السياسة الخارجية الأوروبية.

الأمين العام للناتو: روسيا تعيد بناء نفسها عسكريا بسرعة غير مسبوقة
الأمين العام للناتو: روسيا تعيد بناء نفسها عسكريا بسرعة غير مسبوقة

الجزيرة

timeمنذ 3 ساعات

  • الجزيرة

الأمين العام للناتو: روسيا تعيد بناء نفسها عسكريا بسرعة غير مسبوقة

قال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) مارك روته إن الحلف يواجه تحديات جيوسياسية هائلة، وإن روسيا تعيد بناء نفسها بشكل سريع وغير مسبوق في التاريخ. وأوضح روته، في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز، أن ما تنتجه روسيا من ذخيرة في 3 أشهر يعادل 3 أضعاف ما تنتجه دول الحلف في عام كامل. وأكد أن روسيا تعمل مع كوريا الشمالية والصين وإيران فيما سماه "الحرب العدوانية" على أوكرانيا. وقد تعهد أعضاء الناتو الشهر الماضي بزيادة إنفاقهم الدفاعي السنوي إلى ما مجموعه 5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035. وقال روته لنيويورك تايمز، تعليقا على ذلك، إن "5% من ناتج دول الحلف للدفاع مبلغ ضخم، لكننا إن لم نفعل ذلك فسنضطر إلى تعلم الروسية"، على حد تعبيره. وأكد المسؤول الأوروبي التزام الولايات المتحدة بالحلف وبالمادة الخامسة من ميثاقه. وتنص المادة الخامسة من اتفاقية تأسيس حلف الناتو على مبدأ الدفاع المشترك التي تشير إلى أن أي اعتداء مسلح على أي دولة عضو في الحلف هو بمثابة اعتداء على كل الدول الأعضاء فيه. وبموجب هذا المبدأ، يتعيّن على كل الدول التحرك بشكل عسكري لحماية الدولة التي تعرضت للاعتداء، سواء من خلال تحريك القوات، أو تزويد هذه الدولة بالأسلحة والعتاد. ويسعى الأوروبيون من خلال زيادة سقف الإنفاق الدفاعي الذي حدده الرئيس الأميركي دونالد ترامب ، لإقناعه بالحفاظ على التوازنات داخل الحلف، وتجنب أي تخلٍّ أميركي مفاجئ وغير محسوب عن الدفاع عن أمن القارة الأوروبية.

كيف تغيرت أوروبا تجاه سوريا جذرياً؟
كيف تغيرت أوروبا تجاه سوريا جذرياً؟

الجزيرة

timeمنذ 3 ساعات

  • الجزيرة

كيف تغيرت أوروبا تجاه سوريا جذرياً؟

يمثّل نظام العقوبات الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على سوريا أحد أكثر أنظمة العقوبات متعددة الأطراف شمولًا واستدامة في القرن الواحد والعشرين، حيث امتد لأربعة عشر عامًا من القيود المتصاعدة. وفي أعقاب السقوط المفاجئ لنظام الأسد في ديسمبر/ كانون الأول 2024، اتخذ الاتحاد الأوروبي خطوة تاريخية بالتحول عن سياسة العقوبات؛ فرفع معظم القيود الاقتصادية، مع الإبقاء على إجراءات محددة تستهدف الأفراد والكيانات المرتبطة بالنظام السابق. يشكل هذا التحول محطة مهمة في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، ويوفر رؤى إستراتيجية حول فاعلية استخدام العقوبات الاقتصادية كأدوات في الدبلوماسية الدولية وحماية حقوق الإنسان. التطور التاريخي للعقوبات الأوروبية على سوريا (2011–2024) جاءت العقوبات الأوروبية على سوريا ردًا على القمع الوحشي الذي انتهجه نظام الأسد ضد المتظاهرين السلميين الذين خرجوا إلى الشوارع في مارس/ آذار 2011. وفرضت أولى العقوبات الرسمية بموجب قرار المجلس الأوروبي رقم 2011/273/CFSP بتاريخ 9 مايو/ أيار 2011، والذي مثّل أول إدانة أوروبية رسمية لـ"القمع العنيف واستخدام الذخيرة الحية ضد الاحتجاجات السلمية في مناطق متفرقة من سوريا، ما أسفر عن مقتل وجرح واعتقال عدد كبير من المتظاهرين". وقد شكّل هذا القرار الأساس القانوني لنظام عقوبات شامل يستهدف الأفراد والقطاعات الاقتصادية الحيوية على حدٍ سواء. تركّزت الحزمة الأولية من العقوبات على تجميد الأصول وحظر السفر بحق الأفراد المسؤولين مباشرةً عن انتهاكات حقوق الإنسان. غير أن الاتحاد الأوروبي سرعان ما أدرك أن هذه الإجراءات وحدها لا تكفي لمواجهة تصاعد الأزمة. لذا، وسّع نطاق القيود بشكل ملحوظ في ديسمبر/ كانون الأول 2011 من خلال القرار 2011/782/CFSP، والذي استند إلى بيان المجلس الأوروبي الصادر في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، والذي أعلن فيه أن الاتحاد الأوروبي "سيواصل فرض مزيد من الإجراءات على النظام السوري ما دام أنه استمر في قمع المدنيين". التوسع في العقوبات القطاعية شهدت العقوبات الأوروبية على سوريا تصعيدًا تدريجيًا تماشى مع تدهور الأوضاع الإنسانية وتصاعد حدة النزاع. وفي عام 2013، تم توحيد الإطار العام للعقوبات بموجب قرار المجلس الأوروبي رقم 2013/255/CFSP، والذي فرض قيودًا قطاعية واسعة شملت تجارة الأسلحة، والسلع ذات الاستخدام المزدوج، ومعدات القمع الداخلي، وتقنيات المراقبة. شكّل هذا التحوّل نقلة إستراتيجية من العقوبات الفردية المحدودة إلى فرض قيود اقتصادية أوسع نطاقًا بهدف تقويض قدرات النظام على الاستمرار، مع محاولة تخفيف الأثر على المدنيين قدر الإمكان. غطّت هذه العقوبات مجالات حيوية من الاقتصاد السوري، منها صادرات الطاقة، والخدمات المالية، وتجارة السلع الكمالية. وصُممت بشكل خاص للحد من قدرة النظام على تمويل عملياته العسكرية، واستهدفت أيضًا المصالح الاقتصادية لداعمي النظام الإقليميين والدوليين. وتضمنت كذلك إجراءات استثنائية للإعفاءات الإنسانية، إدراكًا من الاتحاد الأوروبي للصعوبات الإنسانية التي قد تنشأ عن العقوبات الشاملة، وذلك لضمان استمرار وصول المساعدات والخدمات الأساسية للسكان. الإطار القانوني وآلية اتخاذ القرار استندت العقوبات الأوروبية إلى المادة 29 من معاهدة الاتحاد الأوروبي، التي تشكّل الإطار الدستوري للسياسة الخارجية والأمنية المشتركة. وتم تنفيذ هذه العقوبات من خلال هيكل قانوني مزدوج، يتألف من قرارات المجلس المتعلقة بالسياسة الخارجية، ولوائح المجلس التي تُطبَّق مباشرةً في الأنظمة القانونية الوطنية للدول الأعضاء. وقد أتاح هذا الإطار المزدوج تحقيق الاتساق السياسي على مستوى الاتحاد الأوروبي، وضمان تنفيذٍ فعّالٍ على الصعيد المحلي. تتطلب عملية اتخاذ القرار توافقًا بين الدول الأعضاء داخل المجلس، وهو ما يعكس الطبيعة الحكومية للسياسة الخارجية الأوروبية. وقد خضع الإطار القانوني للعقوبات لمراجعات دورية، وكان آخر تمديد قبل انهيار نظام الأسد مقررًا حتى 1 يونيو/ حزيران 2025، ما أتاح تحديث السياسات حسب المستجدات الميدانية وتقييمات الأداء. نطاق التدابير التقييدية وأنواعها شملت العقوبات الأوروبية على سوريا مجموعة واسعة من الإجراءات التي استهدفت مختلف عناصر الاقتصاد والبنية السياسية السورية. وتضمنت هذه العقوبات حظرًا شاملًا للأسلحة، بما في ذلك منع بيع أو توريد أو نقل المعدات العسكرية والسلع ذات الاستخدام المزدوج التي قد تُستغل في القمع الداخلي. كما فُرض تجميد موسع للأصول، استهدف 318 فردًا و58 كيانًا مرتبطين بالنظام، مع حظر سفر منعَ دخولهم إلى أراضي الاتحاد الأوروبي أو المرور عبرها. وامتدت هذه الإجراءات إلى قطاعات اقتصادية حيوية مثل الطاقة، والنقل، والخدمات المالية، وتجارة السلع الفاخرة، وحماية التراث الثقافي السوري. واستهدفت أيضًا تقنيات متقدمة للمراقبة واعتراض الاتصالات، منعًا لاستخدامها في انتهاكات حقوق الإنسان. ويعد هذا الإطار من أكثر أنظمة العقوبات استقلالية واتساعًا التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على دولة خارج حدوده. آليات التنفيذ والامتثال تطلب تنفيذ العقوبات على سوريا تنسيقًا وثيقًا بين مؤسسات الاتحاد الأوروبي والسلطات الوطنية للدول الأعضاء. وأُنيطت بهذه السلطات مهام مراقبة الامتثال، والتحقيق في المخالفات، وفرض العقوبات على المنتهكين. وبسبب التعقيد الخاص للعقوبات القطاعية والإعفاءات الإنسانية، صدرت توجيهات وتحديثات دورية لضمان توحيد التطبيق في جميع الدول الأعضاء. تفاوتت فاعلية آليات التنفيذ حسب نوع القيود المفروضة، ففي حين كان تطبيق عقوبات الأفراد مثل تجميد الأصول وحظر السفر أكثر وضوحًا وسهولة في التنفيذ، واجهت العقوبات القطاعية، خاصة في قطاعي الطاقة والخدمات المالية، تحديات أكبر في التطبيق. وأشارت تقارير عديدة إلى أن المنظمات الإنسانية عانت من صعوبات متكررة في التعامل مع شروط الإعفاءات الإنسانية، ما أثّر على إيصال المساعدات بشكل فعّال في بعض الحالات. سقوط نظام الأسد وإعادة تقييم السياسة الأوروبية تجاه سوريا أدى الانهيار المفاجئ لنظام الأسد في ديسمبر/ كانون الأول 2024 إلى فتح نافذة لإعادة تقييم شاملة لسياسة الاتحاد الأوروبي تجاه سوريا. وأكّدت استنتاجات المجلس الأوروبي في 19 ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه على "الفرصة التاريخية المتاحة لجميع السوريين لإعادة توحيد وبناء وطنهم"، مشددةً على أهمية إطلاق عملية سياسية شاملة تستجيب لتطلعات الشعب السوري المشروعة. وشكّل هذا التحوّل نقطة انطلاق لمراجعة عميقة لنظام العقوبات الذي استمر لما يزيد على ثلاثة عشر عامًا. وجاء رد الفعل الأوروبي مصحوبًا بمزيج من الحذر والتفاؤل إزاء مستقبل المرحلة الانتقالية، مؤكدًا على ضرورة أن تكون العملية السياسية "سورية خالصة"، مع احترام استقلال سوريا وسيادتها وسلامة أراضيها وفق القانون الدولي. النهج التدريجي لتخفيف العقوبات بدلًا من رفع العقوبات دفعة واحدة عقب التغيير السياسي، اختار الاتحاد الأوروبي اتباع نهج تدريجي وقابل للتراجع، يهدف إلى دعم عملية التحول في سوريا، مع الحفاظ على أدوات الضغط لضمان استمرار التقدم نحو الحوكمة الديمقراطية. بدأ تنفيذ هذا النهج في 24 فبراير/ شباط 2025، حين قرر المجلس تعليق عدد من التدابير التقييدية نتيجة التحولات الميدانية والسياسية في سوريا، لتسهيل التواصل مع الشعب السوري والشركات العاملة في قطاعات رئيسية مثل الطاقة والنقل. شمل التعليق الأولي قطاعات محددة تُعدّ حيويةً للتعافي الاقتصادي وتلبية الاحتياجات الإنسانية الملحّة. تضمنت هذه الإجراءات تعليق القيود القطاعية المفروضة على الطاقة والنقل، وشطب خمس مؤسسات مصرفية من قائمة العقوبات، إلى جانب استحداث إعفاءات مصرفية إضافية لتيسير الأنشطة الإنسانية ومشروعات إعادة الإعمار، وتمديد الإعفاءات الإنسانية السابقة دون تحديد سقف زمني. في 20 مايو/ أيار 2025، أعلن الاتحاد الأوروبي رسميًا قراره السياسي برفع العقوبات الاقتصادية، وذلك بعد أشهر من تقييم الوضع في ظل الحكومة الانتقالية. وجاء في بيان المجلس أن "الوقت قد حان لكي يعيد الشعب السوري توحيد صفوفه ويبني سوريا الجديدة، القائمة على أسس الشمولية والتعددية والسلام، والخالية من التدخلات الأجنبية الضارة". مثّل هذا القرار تحولًا جوهريًا في توجه الاتحاد الأوروبي من سياسة الضغط والاحتواء إلى تقديم الدعم الفعلي لعملية التحول الديمقراطي في سوريا. ومع ذلك، احتفظ القرار بضمانات مهمة، أبرزها استمرار فرض العقوبات على الأفراد والكيانات المرتبطة بالنظام السابق، والإبقاء على القيود الأمنية بشأن تصدير الأسلحة والتقنيات الحساسة، إلى جانب وجود آليات لإعادة فرض العقوبات إذا تدهورت أوضاع حقوق الإنسان. إطار العقوبات الحالي وآليات التنفيذ تم تفعيل قرار رفع العقوبات عبر حزمة إجراءات قانونية اعتمدها المجلس الأوروبي في 28 مايو/ أيار 2025، شملت قرار المجلس (CFSP) 2025/1096 ولائحة المجلس (EU) 2025/1098، التي أدخلت تعديلات على الإطار القانوني الأساسي الساري منذ عام 2013. وجاء اعتماد هذه التدابير نتيجة عملية سياسية متأنية داخل الاتحاد الأوروبي، مما وفر الأساس القانوني لاستئناف الشركات والمنظمات الأوروبية أنشطتها في سوريا. تناول الإطار القانوني الجديد مختلف فئات القيود الاقتصادية المفروضة سابقًا، وتم رفعها رسميًا عن قطاعات الطاقة والنقل والخدمات المالية، بالإضافة إلى أغلب القيود التجارية الأخرى. وفي سياق عملية رفع العقوبات، أزال الاتحاد الأوروبي أربعة وعشرين كيانًا من قوائم العقوبات، شملت مؤسسات مصرفية وشركات تعمل في قطاعات إستراتيجية مثل إنتاج وتكرير النفط، وصناعة القطن، والاتصالات، والإعلام. وكان من أبرز هذه الكيانات مصرف سوريا المركزي، ما أتاح استئناف العلاقات المصرفية الدولية وتسهيل المعاملات الاقتصادية على نطاق واسع. وجاء اختيار هذه الكيانات بعد دراسة دقيقة لدورها في عملية التعافي الاقتصادي مقارنةً بمدى ارتباطها بالنظام السابق. القيود المتبقية والمخاوف الأمنية رغم الرفع الواسع للعقوبات الاقتصادية، احتفظ الاتحاد الأوروبي بمجموعة من القيود استجابةً لمخاوف أمنية ومسائل تتعلق بالمساءلة. تشمل هذه القيود استمرار حظر الأسلحة وقيود تصدير السلع والمعدات ذات الاستخدام المزدوج، إضافةً إلى قيود على تقنيات المراقبة والاعتراض وحظر تجارة التراث الثقافي السوري. تعكس هذه الإجراءات المخاوف المستمرة من إمكانية استخدام هذه الأدوات في القمع الداخلي أو تهديد الاستقرار الإقليمي. كما أبقى الاتحاد الأوروبي العقوبات المفروضة على 318 فردًا و58 كيانًا مرتبطًا بنظام الأسد، مع تمديدها حتى 1 يونيو/ حزيران 2026. تشمل هذه العقوبات تجميد الأصول وحظر السفر المفروض على المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان، تأكيدًا لالتزام الاتحاد الأوروبي بتحقيق العدالة، مع الحرص على تجنّب تحميل الشعب السوري مسؤولية جماعية عن جرائم النظام السابق. تقدم تجربة الاتحاد الأوروبي في فرض العقوبات على سوريا دروسًا مهمة حول الفرص والتحديات المصاحبة لاستخدام أنظمة العقوبات طويلة الأمد. وتُظهر هذه التجربة حدود وإمكانات العقوبات الاقتصادية كأداة لتعزيز التغيير السياسي وحماية حقوق الإنسان. ورغم أن العقوبات لم تُسفر وحدها عن إسقاط نظام الأسد، فإنها ساهمت في إضعافه وتقويض شرعيته دوليًا، إلى جانب إبراز التزام الاتحاد الأوروبي المستمر بحقوق الإنسان ضمن سياسته الخارجية. ويؤكد التحول من سياسة العقوبات إلى الدعم أهمية المرونة والقدرة على التكيف مع المتغيرات السياسية السريعة. كما يبرز ذلك قدرة الاتحاد الأوروبي المؤسسية على الاستجابة الإستراتيجية في ظل التحولات المفاجئة. وفي الوقت ذاته، تكشف النتائج الإنسانية الجانبية للعقوبات الشاملة ضرورة اتباع مقاربات أكثر دقة وتوازنًا بين الضغط على الأنظمة الاستبدادية، وضمان حماية السكان المدنيين. الاستقرار الإقليمي والتنسيق الدولي تمتد انعكاسات المرحلة الانتقالية في سوريا لتشمل الاستقرار الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، وتُمثل سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه العقوبات عنصرًا مركزيًا ضمن جهود التنسيق الدولي الأوسع. ويسهم التناغم بين تخفيف العقوبات الأوروبية والإجراءات المماثلة التي تتخذها الولايات المتحدة ودول أخرى في تعزيز فاعلية الاستجابة الدولية، وتقليل فرص التحايل على العقوبات أو تباين الرسائل السياسية. ويعزز هذا التنسيق قدرة المجتمع الدولي على دعم عملية الانتقال السياسي في سوريا دون التخلي عن أهداف المساءلة وضمان احترام حقوق الإنسان. كما يعكس تأكيد الاتحاد الأوروبي على ضرورة منع "التدخل الأجنبي الضار" مخاوفه من التأثير السلبي المحتمل لبعض القوى الإقليمية على العملية السياسية الداخلية في سوريا. ويُعد إطار العقوبات الحالي، بشقيه المرفوع والمُبقى، وسيلة لتعزيز السيادة السورية وردع محاولات تقويض المرحلة الانتقالية. رغم الخطوات الإيجابية لتخفيف العقوبات، تواجه سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه سوريا تحديات حقيقية في التنفيذ والمتابعة. فعملية الانتقال من نظام عقوبات شامل إلى إجراءات محددة تستلزم مراقبة دقيقة وتطبيقًا صارمًا لتجنب استغلال التسهيلات الجديدة من جانب جهات مرتبطة بالنظام السابق، أو متورطة بانتهاكات حقوق الإنسان. كذلك، فإن التزام الاتحاد الأوروبي بجعل سياسة تخفيف العقوبات "قابلة للعكس" يوفر مرونةً إستراتيجيةً، لكنه يخلق في الوقت ذاته قدرًا من عدم اليقين لدى الشركات والمنظمات الراغبة في استئناف أنشطتها في سوريا. ويشكل تحقيق التوازن بين دعم التعافي الاقتصادي وضمان المساءلة تحديًا سياسيًا مستمرًا، يتطلب تقييمًا دقيقًا ومتواصلًا لأدوات السياسة المعتمدة. ويبقى نجاح هذا النهج مرهونًا بمدى التزام الحكومة الانتقالية بمعايير الحوكمة الشاملة واحترام حقوق الإنسان. خاتمة تُجسّد سياسة العقوبات الأوروبية تجاه سوريا استجابة معقدة ومُتعددة الأبعاد لإحدى أكثر الأزمات السياسية والإنسانية إلحاحًا في القرن الحادي والعشرين. وفي ظل سعي سوريا لاستعادة استقرارها السياسي وتحقيق تعافٍ اقتصادي حقيقي، يُبرز تحول سياسة الاتحاد الأوروبي من العقوبات إلى الدعم عمقَ تعقيدات العلاقات الدولية، والدور المستمر للدبلوماسية متعددة الأطراف في مواجهة التحديات العالمية. ومن المرجح أن تُسهم الحالة السورية في صياغة توجهات الاتحاد الأوروبي المستقبلية بشأن العقوبات، والدعم الإنساني، والمساندة في مراحل ما بعد النزاعات، بما يعزز تطوير أدوات السياسة الخارجية الأوروبية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store