
توتر متصاعد على الحدود السورية اللبنانية.. هل يعكس تهريب السلاح عودة النفوذ الإيراني؟
في مشهد يعيد إلى الأذهان سنوات الحرب السورية وأدوار القوى الإقليمية المتشابكة فيها، عادت الحدود السورية اللبنانية إلى واجهة الأحداث الأمنية، بعد إعلان السلطات السورية، ضبط شحنة ضخمة من الأسلحة، تضم صواريخ غراد كانت معدّة للتهريب إلى "حزب الله" اللبناني، وذلك في مدينة القصير السورية الحدودية.
هذه العملية هي الثانية التي تُكشف خلال شهر مايو الجاري، ما يثير تساؤلات واسعة حول الجهة التي تقف خلف هذه الأنشطة، وما إذا كانت تعكس بوادر استعادة إيران لنفوذها العسكري والأمني في سوريا، أم أنها مجرد تحركات فردية لعصابات محلية تتغذى على الفوضى.
ليست القصير بلدة عابرة في الحسابات الجيوسياسية. فقد شكلت خلال العقد الماضي مركزًا حيويًا لحزب الله وموقعًا استراتيجيًا لتحركاته العابرة للحدود.
ومع تصاعد القتال في سوريا منذ عام 2011، تحوّلت القصير إلى قاعدة عمليات متقدمة، حيث أنشأ الحزب فيها ثكنات عسكرية ومراكز تدريب لميليشيات موالية لإيران، من أبرزها "لواء الرضا" المنتشر في ريف حمص.
ورغم ما شهدته الساحة السورية من تغييرات ميدانية وتراجع نفوذ طهران نسبيًا في أعقاب تآكل سلطة نظام الأسد وتقدم بعض الأطراف الدولية في ملفات إعادة الإعمار، فإن الوقائع الميدانية تشير إلى محاولات إيرانية متكررة لإعادة تشكيل شبكة نفوذها، لا سيما في المناطق الحدودية التي تسهّل لها التواصل مع حزب الله، ذراعها الأبرز في المنطقة.
مصادر سورية مطلعة أكدت في تصريحات خاصة أن وتيرة عمليات التهريب التي تم ضبطها، خصوصًا خلال الأشهر الماضية، تشير إلى عودة تدريجية لحركة شبكات تهريب مرتبطة بطهران.
وأضافت المصادر أن العديد من الشحنات المضبوطة، والتي توزعت بين حمص، والقصير، وسهل البقاع، كانت تحتوي على أسلحة متوسطة وثقيلة من طراز إيراني، ما يعزز فرضية تورط مباشر من الحرس الثوري أو وكلاء تابعين له.
وكان شهر يناير الماضي قد شهد عدة محاولات تهريب مشابهة، مما دفع الجهات الأمنية في سوريا إلى تعزيز وجودها في بعض النقاط الساخنة، خصوصًا في مناطق التماس القريبة من الحدود اللبنانية.
مع ذلك، لا يمكن تجاهل الاحتمال الآخر الذي تشير إليه بعض التقديرات، وهو أن تكون عصابات محلية مسلحة هي من يقف وراء هذه العمليات.
ففي أعقاب سقوط النظام المركزي في العديد من المناطق السورية، ظهرت شبكات تهريب معقدة تستغل الفوضى والفراغ الأمني، وتتعامل بمرونة مع الجهات القادرة على الدفع، سواء كانت ميليشيات، أو تجار مخدرات، أو فصائل مسلحة.
وتنشط هذه الشبكات بشكل خاص في مدن مثل القصير وحمص، حيث تمتد الروابط العائلية والقبلية إلى داخل لبنان، لا سيما في منطقة البقاع.
وتركز هذه العصابات، بحسب المصادر، على تهريب الكبتاغون والأسلحة الخفيفة، التي أصبحت مصدر دخل رئيسي في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية.
ولم تقتصر مظاهر التوتر على محاولات التهريب فقط، بل شهدت الحدود في فبراير الماضي اشتباكات عنيفة بين عناصر من "هيئة تحرير الشام" وفصائل محسوبة على "حزب الله" في مناطق متفرقة من البقاع، خصوصًا في بلدات سهلات الماي، الزكبا، والقصير.
وبحسب ما أفادت به مصادر ميدانية، فقد اندلعت المواجهات بعد محاولة عناصر من الحزب تمرير شحنة أسلحة ومخدرات عبر معابر غير شرعية، بتنسيق مع مجموعات سورية موالية لإيران.
وامتدت الاشتباكات لتشمل بلدات أخرى، في مؤشر واضح على هشاشة الوضع الأمني وغياب السيطرة الكاملة لأي جهة على الأرض.
مع تكرار هذه الحوادث، يبدو المشهد الحدودي السوري اللبناني مفتوحًا على عدة سيناريوهات، أولها أن تعمد إيران إلى إعادة رسم وجودها الأمني في سوريا من خلال وكلائها، وعلى رأسهم حزب الله، مستفيدة من ضعف السيطرة الحكومية السورية في المناطق الحدودية.
أما السيناريو الآخر، فيتمثل في توسّع نفوذ العصابات المحلية التي تعمل بمنطق السوق، والتي قد تكون متورطة في تمرير الأسلحة مقابل المال، دون ارتباط مباشر بأي أجندة سياسية.
وهذا السيناريو يطرح تحديات كبيرة أمام الأمنين السوري واللبناني، كونه يعكس تحوّل بعض المناطق إلى "مناطق رمادية" خارجة عن السيطرة.
ويري مراقبون أن الوقائع على الأرض تشير إلى أن خطوط التهريب لم تُغلق قط، وإنما خضعت لإعادة تنظيم وتكتيك جديد يتماشى مع التوازنات الإقليمية.
وبين طهران التي تسعى لإعادة تموضعها في سوريا، وحزب الله الذي يحتاج إلى تدفق مستمر للأسلحة لتعزيز وضعه الداخلي والخارجي، والعصابات المحلية التي وجدت في الفوضى مورد رزق دائم، تبقى الحدود السورية اللبنانية منطقة قابلة للاشتعال في أي لحظة.
ما يحدث على الحدود اللبنانية-السورية "لا يرتبط بخلفية سياسية مباشرة، بل هو صراع على النفوذ والسيطرة يحمل أبعاداً طائفية"، بحسب خبراء.
وأشار المراقبون إلي أنه في ظل غياب حلول سياسية شاملة في سوريا، واستمرار تفكك السلطة الأمنية، ستظل هذه المناطق ساحة مفتوحة أمام شبكات التهريب والمصالح المتضاربة، في انتظار انفجار أكبر، قد لا يكون بعيدًا.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الحركات الإسلامية
منذ 15 ساعات
- الحركات الإسلامية
صفقة الكوكايين والسلاح.. كيف تحوّلت ترسانة الأسد إلى خزينة لدعم الإرهاب العالمي؟
كشفت لائحة اتهام فدرالية غير معلنة، أُزيح الستار عنها مؤخرًا في ولاية فرجينيا الأمريكية، عن واحدة من أخطر العمليات الإجرامية العابرة للحدود، حيث امتدت خيوطها من كولومبيا إلى ميناء اللاذقية السوري، مرورًا بلبنان وغانا والمغرب وكينيا، لتُرسم على إثرها ملامح تحالف غير مسبوق بين عصابات مخدرات دولية، جماعات إرهابية، وشبكات فساد داخل أنظمة مارقة. العملية التي وُصفت بأنها 'تبادل قاتل' بين الكوكايين والسلاح، تُعدّ من أكبر محاولات التعاون بين مافيا المخدرات في أمريكا اللاتينية وتنظيمات إرهابية مسلحة في الشرق الأوسط. وبحسب تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" فقد كان من المقرر وصول مئات الكيلوجرامات من الكوكايين إلى ميناء سوري، مخبأة في حاوية شحن يُفترض أنها مليئة بالفاكهة. وبحسب وثيقة الاتهام التي نشرتها نشرة "كورت ووتش" القانونية، فإن المواطن اللبناني أنطوان قسيس، واثنين من شركائه، لعبوا أدوارًا محورية في مخطط يُعتقد أنه تم بتنسيق مع شخصيات رفيعة من داخل النظام السوري، وتحديدًا بقايا الشبكة العسكرية التي ظلت فاعلة حتى بعد الإطاحة ببشار الأسد في ديسمبر الماضي. وتكشف الوثائق أن قسيس، الموصوف بأنه "تاجر مخدرات عالي المستوى"، قام بتنسيق صفقة تقضي بتوريد مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى سوريا، مخفية داخل حاوية شحن زُعِم أنها تحتوي على فاكهة من كولومبيا. وفي المقابل، كانت ترسانة من الأسلحة المتبقية من عهد الأسد على وشك الانتقال إلى أيدي جيش التحرير الوطني الكولومبي (ELN)، وهو تنظيم مصنف كجماعة إرهابية من قبل الولايات المتحدة، وله تاريخ حافل بالعمليات المسلحة والاتجار بالمخدرات. هذه الصفقة لم تكن مجرد عملية تهريب تقليدية، بل جزء من منظومة إرهابية متكاملة تربط تجارة المخدرات بالتمويل غير المشروع للإرهاب. فالأسلحة التي كان من المقرر شحنها، بحسب الادعاء الأمريكي، شملت معدات قدمتها روسيا وإيران سابقًا للنظام السوري، ما يطرح تساؤلات خطيرة حول مصير الترسانة السورية وما إذا كانت قد أصبحت الآن في متناول جماعات مسلحة تتلقى دعماً من عصابات الجريمة المنظمة. ويؤكد الادعاء الأمريكي أن العملية، التي بدأت ملامحها في ربيع العام الماضي، شهدت مشاركة مباشرة من شخصيات أخرى، منها عليريو رافائيل كوينتيرو من أمريكا اللاتينية ووسام نجيب خرفان، اللبناني أيضًا. كوينتيرو وخرفان تولّيا عمليات دفع وغسل أموال بملايين الدولارات، في حين تولى قسيس توزيع المخدرات في الشرق الأوسط وتأمين صفقات السلاح من داخل سوريا. وبالرغم من التغييرات السياسية التي طالت دمشق، ظل قسيس يتمتع بنفوذ يسمح له بالوصول إلى مخازن أسلحة من المفترض أنها كانت تحت رقابة دولية. وفي عملية أمنية سرية قادتها مديرية التحقيقات الجنائية في كينيا، تم توقيف قسيس في أحد فنادق نيروبي بداية هذا العام، بعد رصد تحركاته بناءً على مذكرة توقيف أمريكية مدعومة بإشعار من الإنتربول. الصفقة التي أحبطتها السلطات الدولية لم تكن لتشكل فقط خرقًا أمنيًا خطيرًا، بل تهديدًا جيوسياسيًا حقيقيًا، حيث كانت تؤسس لنموذج جديد من الإرهاب المموّل عبر شبكات المخدرات والسلاح العابرة للحدود. ويري مراقبون أن هذه القضية تثير تساؤلات متزايدة حول دور بقايا النظام السوري في تغذية الإرهاب العالمي عبر التعاون مع جماعات إجرامية من أمريكا اللاتينية، الأمر الذي يعيد تسليط الضوء على سوريا ما بعد الأسد كساحة خلفية للصفقات السوداء والتحالفات المشبوهة بين الإرهاب والجريمة المنظمة. وبينما لا تزال التحقيقات جارية، يبدو أن هذه القضية ليست سوى رأس جبل الجليد، وسط تقديرات استخباراتية تشير إلى وجود شبكات أوسع وأعمق تستغل الفراغات الأمنية لتأسيس نماذج جديدة من 'اقتصاد الإرهاب'، ترتكز على المخدرات، السلاح، وغسل الأموال، لتغذية صراعات لا تعرف الحدود.


الزمان
منذ 16 ساعات
- الزمان
المبعوث الأمريكي يصل سوريا والشيباني يشارك في رفع العلم داخل منزله
دمشق (أ ف ب) – دعا المبعوث الأميركي توماس باراك الخميس بعيد وصوله الى دمشق الى حوار بين سوريا واسرائيل، البلدين اللذين يعدان في حالة حرب، على أن يبدأ ذلك بـ'اتفاق عدم اعتداء' بين الطرفين. ووصل الدبلوماسي الأميركي، الذي يتولى منصب سفير واشنطن لدى أنقرة، الى دمشق في أول زيارة بعيد تعيينه مبعوثا الى سوريا، في خطوة أعقبت فتح البلدين صفحة جديدة من العلاقات بعيد رفع العقوبات الاقتصادية بعد قطيعة استمرت منذ عام 2012. وفي تصريح بثته قناة العربية السعودية، أعرب باراك من دمشق عن اعتقاده بان 'مشكلة اسرائيل وسوريا قابلة للحل وتبدأ بالحوار'، مقترحا البدء بـ'اتفاق عدم اعتداء' بين الطرفين. ومنذ إطاحة الرئيس بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر، شنّت إسرائيل مئات الضربات على مواقع عسكرية في سوريا، مبررة ذلك بالحؤول دون وقوع الترسانة العسكرية في ايدي السلطات الجديدة. وطالت إحدى ضرباتها الشهر الحالي محيط القصر الرئاسي على خلفية أعمال عنف ذات طابع طائفي. كما توغلت قواتها داخل المنطقة العازلة المنزوعة السلاح في الجولان، والواقعة على أطراف الجزء الذي تحتله الدولة العبرية من الهضبة السورية. وتتقدم قواتها بين الحين والآخر الى مناطق في عمق الجنوب السوري. وكان الرئيس الانتقالي أحمد الشرع أكد مرارا ان سوريا لا ترغب بتصعيد مع جيرانها، ودعا المجتمع الدولي للضغط على اسرائيل من أجل وقف اعتداءاتها. وأشار الشهر الحالي في باريس إلى أن دمشق تجري عبر وسطاء 'مفاوضات غير مباشرة' مع اسرائيل بهدف تهدئة الأوضاع. وجاءت تصريحات باراك بعد رفعه الخميس بحضور وزير الخارجية السوري اسعد الشيباني العلم الأميركي في دار سكن السفير الأميركي في دمشق، القريب من مقر السفارة. وكان روبرت فورد آخر دبلوماسي شغل منصب السفير الأميركي في دمشق، حين اندلع النزاع السوري منتصف آذار/مارس 2011. وبعد فرض بلاده أولى العقوبات على مسؤولين سوريين، أعلنته دمشق من بين الاشخاص 'غير المرحب بهم'، ليغادر سوريا في تشرين الأول/أكتوبر من العام ذاته. وبعيد اعلان تعيينه رسميا مبعوثا الى دمشق، قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وفق منشور لوزارة الخارجية، على منصة أكس 'يدرك توم أن ثمة إمكانات كبيرة للعمل مع سوريا على وقف التطرف، وتحسين العلاقات، وتحقيق السلام في الشرق الأوسط'. وجاء تعيين الموفد الأميركي بعيد لقاء ترامب الشرع في 14 أيار/مايو في الرياض، حيث أعلن رفع العقوبات التي كانت مفروضو على دمشق. وسبق للشرع والشيباني أن التقيا باراك في نهاية الاسبوع في مدينة اسطنبول على هامش زيارتهما تركيا، في اجتماع جاء وفق الرئاسة السورية في إطار جهود دمشق 'لإعادة بناء العلاقات الاستراتيجية' مع واشنطن. وإثر اندلاع النزاع عام 2011، تدهورت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، خصوصا بعد فرض واشنطن عقوبات على مسؤولين سوريين بينهم الأسد. ومطلع تموز/يوليو 2011، تحدى فورد، السفير الأميركي حينها، السلطات بزيارته مدينة حماة (وسط) التي كان الجيش قد حاصرها إثر تظاهرة ضخمة. وأمطره المتظاهرون بالورود الحمراء، ما أثار غضب دمشق التي اتهمت واشنطن بالتدخل في التحرك ضد السلطات ومحاولة تصعيد التوتر. وسرعان ما عدّت الخارجية السورية فورد من بين عدد من السفراء الأجانب 'غير المرحب' بهم، قبل أن يغادر سوريا 'لأسباب أمنية' مطلع تشرين الأول/أكتوبر 2011. ومنذ إطاحة الأسد في الثامن من كانون الاول/ديسمبر، تحسّنت العلاقات تدريجا بين البلدين. وكان وفد دبلوماسي أميركي برئاسة مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط باربرا ليف زار دمشق، حيث التقى الشرع بعد أقل من اسبوعين على وصول قواته الى العاصمة السورية.


ساحة التحرير
منذ 18 ساعات
- ساحة التحرير
مشروع الإكراه الإقليمي: التحالف الترامبي–الإبراهيمي وهندسة الشرق الأوسط الجديد!غانية ملحيس
مشروع الإكراه الإقليمي: التحالف الترامبي–الإبراهيمي وهندسة الشرق الأوسط الجديد! غانية ملحيس استكمالًا للحوار الفكري، والتفاعل مع التحولات التكوينية التي أطلقها طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر/ 2023، وحرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في قطاع غزّة ومخيّمات الضفّة الغربية وعموم فلسطين الانتدابية وجوارها العربي، والمتواصلة منذ 600 يوم، وما تزال؛ والتي شكّلت لحظة انكشافٍ تاريخيّ غير مسبوق، منذ نحو أربعة قرون، لنظام الهيمنة الاستعمارية الغربية، بكشفٍ معرفيٍّ لجوهره البنيويّ العنصريّ والماديّ، وقطعه الصلة مع الحضارات الإنسانية كافة، وإعادةِ هندسةِ العالم بالقوّة العسكرية، والتحكّم بالسردية العالمية، واستعمار الوعي بأدوات القوّة الناعمة: الفكرية، والعلمية، واللغوية، والكنولوجية، والإعلامية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والقانونية، والثقافية؛ وكأنّ التاريخ الإنساني قد بدأ بالكشوف الجغرافية الأوروبية والحداثة المادية الغربية، التي جعلت الجنس الأبيض مؤسس الكون ومركزه؛ فيما الحضارات التي سبقته تُعَدُّ تراثًا متخلّفًا، وإرثًا همجيًّا للشعوب غير الغربية، واعتبارها فائضًا بشريًّا أقل مرتبة، وعبئًا ثقيلًا ينبغي تقليصه بالإبادة والمحو والحروب الكونية والجزئية المتسلسلة، وإخضاع مَن يتبقّى منها طوعًا أو جبرًا. يركّز هذا المقال على الصراع في الإقليم، الذي أُعيدت تسميتُه مع بداية الغزو الاستعماري الغربي بـ'الشرق الأوسط' منذ نحو قرنين ونصف، بعد أن أحكم الجنس الأبيض سيطرته على شمال الكرة الأرضية ومعظم جنوبها في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وبات استكمال السيطرة عليه، لأهميته الجيوستراتيجية في مركز العالم، المرحلة الأخيرة في استكمال السيطرة الاستعمارية الغربية الكونية. ولا نُغالي القول إنّ ما نشهده اليوم من تحولاتٍ تكوينيةٍ هي الأكثرُ جذريةً في تاريخ الإقليم منذ فجر التاريخ، وتتجاوز صيغُها منطقَ الاحتلال الكولونيالي التقليدي الذي عرفه العالم، والذي طالما تستّر بقيم 'التمدين' و'التحديث' و'نشر الديمقراطية'، وتدخل عصرًا جديدًا يقوم على العودة إلى نمط الإكراه الصريح الذي عرفته أمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا قبل قرون، والدمج بين نهج الإبادة وإعادة هندسة الوقائع الجغرافية والديموغرافية والحضارية بالوسائل العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والثقافية، لفرضها بالقوّة. لم تكن زيارة ترامب الأخيرة للمنطقة، وما رافقها من تصعيد في حرب المحو والإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتدمير في قطاع غزة والضفة الغربية وعموم فلسطين الانتدابية، مجرّد صدفة، بل استمرارًا لاستعصاء الشعب الفلسطيني واليمني، بعد انكفاء محور المقاومة، باحتواء حزب الله، وانهيار سوريا، وانكفاء إيران على الذات، وانتهاج ترامب سياسة تحييدها المؤقت عبر التفاوض والاحتواء، كما جرى مع محمد علي والي مصر عام 1840، عندما قايض بقاء نظامه بمشروعه الإقليمي، وأسفر في نهاية المطاف عن سقوط دولة الخلافة الإسلامية، والسيطرة الاستعمارية الغربية على إرثها. كما لم تكن زيارة الرئيس الأمريكي، الطامح للاستيلاء على الإرث الاستعماري الغربي والتفرّد بالقيادة العالمية، حدثًا منفصلًا، بل فصلًا جديدًا من مشروع أوسع، يسعى لإعادة تشكيل النظام الإقليمي بمقاييس وكيله الأمني الإسرائيلي أولًا، واستتباع باقي الكيانات لما يُسمى 'السلام غير المهذّب'، عبر المشروع الإبراهيمي الجديد، لإعادة هندسة النظام الإقليمي بالقوة. فمنذ أن هندس هنري كيسنجر نظام الأمن الإقليمي بعد اتفاقيات كامب ديفيد (1978)، بقيت الولايات المتحدة الأمريكية الضامن الأكبر لـ'الاستقرار' عبر مزيج من الردع، والمساعدات، واتفاقيات السلام. غير أنّ هذا النظام بدأ يتآكل بعد انهيار ثورات الربيع العربي، والانسحاب الأمريكي من ملفات عديدة (أفغانستان، العراق)، وتصاعد المحور الصيني–الروسي عالميًا، وبروز مقاومة فلسطينية تتحدّى الردع الإسرائيلي. يقوم النظام الإقليمي المُحدَّث البديل على معادلة: 'السلام مقابل الإكراه' بدلًا من 'السلام مقابل الأرض'، عبر التحالف الترامبي–الإسرائيلي–الإبراهيمي. وهو مشروع يتجاوز الحزبية الأمريكية، ويتغذّى على الصهيونية المسيحية، وعلى استثمارٍ ماليٍّ ضخمٍ خليجي–إسرائيلي، وتطبيعٍ قسريٍّ لا يستند إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، بل إلى تصفية نهائية لها، من خلال حرب مستدامة في قطاع غزة والضفة الغربية وعموم فلسطين وجوارها العربي، بهدف فرض واقع جغرافي وديموغرافي وحضاري وسياسي جديد، عبر أدوات الإكراه بوصفه منهجًا شاملًا؛ حيث الحرب ليست غاية في ذاتها، بل أداة مركزية لإخضاع الوعي الفلسطيني والعربي، وكسر إرادة المقاومة. وعبر الاقتصاد والصفقات، فكلّ الخطابات 'الذهبية' التي واكبت زيارة ترامب تمجّد الأرقام والمشاريع والعمارة… ليست لأنها تنمية فعلية، بل لأنها تبرير للعنف باسم الحداثة. وتقوم، عبر الإعلام، بصناعة الرواية المهيمنة لتسويق 'الصفقة' على أنها حل، وتصوير المقاومة كإرهاب، وشيطنة الأصوات النقدية، وتحالف الأقليات والأنظمة، باستثمار القلق الطائفي والديني، وتحويله إلى حليفٍ استراتيجي في حرب الإكراه. غير أنّ المشروع، رغم قوته العسكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية، يواجه مأزقًا بنيويًا، ويعاني من أزمة شرعية، لأنه لا يحوز أيّ اعتراف شعبي، لا في فلسطين، ولا في المحيط العربي والإسلامي. وتتفاقم خسائره الأخلاقية بسبب جرائم الإبادة الجسدية والمادية في قطاع غزة ومخيّمات الضفّة الغربية، وصور المجازر الوحشية، وقتل الأطفال، وتجويعهم، وتعطيشهم، والمنقولة بالبث الحيّ على مدار الساعة، ويشاهدها العالم أجمع؛ ما يهدّد بتقويض الرواية المهيمنة والقبول الدولي، ويخلق فجوة متنامية بين الشعوب والأنظمة، ليس في المنطقة العربية والإقليم فحسب، وإنما داخل الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، والغرب، وعموم العالم. كما أنّ الرهان على زعيمٍ أمريكيٍّ مهووسٍ بعقدة التفوّق العنصري، شديدِ الارتهان لمعادلات أمريكية داخلية (الانتخابات، القضاء، التحالف المسيحي الصهيوني المتطرف)، واصطدامه بالداخل الأمريكي الذي يتنامى إدراكه لخطر الاستبداد والإقصاء والفاشية، بالتزامن والتوازي مع اصطدامه بحلفائه الغربيين، بسبب رغبته المُعلَنة بضمّ كندا، والاستيلاء على جزيرة غرينلاند، وخليج المكسيك، وقناة بنما، ومعادن أوكرانيا، وقناة السويس، وسعيه لاستملاك قطاع غزّة، بعد استكمال تدميره وإبادة واقتلاع أهله، لإنشاء منتجع سياحي على أنقاضه يضم أبراجه، وشنّ حرب تجارية عالمية لا تستثني حلفاءه ووكلاءه، واصطدامه بالمقاومة والاستعصاء الدولي الواسع؛ ما يزال يُربك حساباته ويهدّد المشروع. وهو ما يجعل 'الزمن' عنصرًا ضاغطًا. وبذلك، يُوفّر فرصةً تاريخيةً ممكنةً لتقويض مشروعه الاستعماري الكوني، انطلاقًا من فلسطين والمنطقة العربية وعموم الإقليم، ويتيح الإمكانية لمواجهته بمشروعٍ تحرّري نقيض، تتبنّاه المكونات الإقليمية الأصيلة: العربية، والتركية، والفارسية، والكردية، وينطلق من فلسطين باعتبارها خطّ الدفاع الأول عن عموم الإقليم، كما دلّل تاريخها القديم والحديث. ويواجه مشروع 'الإكراه الإقليمي' لا بخطابٍ أخلاقيّ فقط، بل بأدواتٍ فعّالة وواقعية، تُركّز على التحرر من أوهام السلام المزيّف، وتُعيد بناء الوعي الفلسطيني والعربي والإسلامي والدولي، ليس فقط حول فلسطين، بل حول معنى الحرية، والاستقلال، والمقاومة، وتتجاوز الدول القطرية، وتُعيد الاعتبار إلى الارتباط النضالي بين الشعوب العربية والإسلامية والجنوب العالمي وأحرار العالم، ولا تبقى المواجهة حكرًا على فصائل أو جماعات، بل تتحوّل إلى مشروع تحرّري شامل وجامع، لبناء إقليمٍ عربيٍّ وازنٍ وفاعل، يتحالف مع المكونات الإقليمية الأصيلة، ومع شعوب الجنوب العالمي، وقوى التحرر والسلام العالمية. يبقى السؤال المركزي، الذي تحتاج الإجابة عليه إلى جهدٍ فكريٍّ جماعيّ، وتفاعلٍ نشطٍ بين المفكرين والمثقفين والمنظمات الشعبية والنقابات والفاعلين، فلسطينيين وعربًا وعالميين، من المؤمنين بالحرية والعدالة والمساواة الإنسانية: ماذا نفعل؟ وكيف نبدأ في فكّ رموز 'مشروع الإكراه الإقليمي'؟ بدءًا بتفكيك المفاهيم الإبراهيمية الهجينة، وتوضيح منطلقاتها الفكرية، ودلالاتها، ومرتكزاتها الدينية والعقائدية والعسكرية والسياسية والاقتصادية، وتشابكاتها المصلحية، لتأسيس وعيٍ معرفيٍّ مضاد، يُسهم في بلورة مشروع نهضوي فلسطيني–عربي–إقليمي–إنساني نقيض. كيف نصوغ استراتيجيةً لاستعادة السيطرة على سرديتنا ووجداننا، أمام مشروعٍ يُراد له أن يُفرغنا من فلسطين، من التاريخ، من إنسانيتنا، ومن المعنى؟ ختامًا، المقال لا يختتم النقاش، بل يفتحه لمساهماتٍ تحليليةٍ نقديةٍ تتوسّع في محاوره وتُعمّق دلالاته، في مسارٍ تراكميٍّ جماعيّ، يطمح إلى بلورة موقفٍ فكريٍّ وسياسيٍّ جامع، يُؤسّس لاستراتيجياتٍ وخططٍ وبرامج عمل، بمواجهة تحدّيات وجودية، في لحظةٍ فارقةٍ من تاريخ أمتنا، ومنطقتنا، والعالم. فإن توحّد العقل والناس للدفاع عن وجودهم وأوطانهم ومصالحهم وإنسانيتهم، سقطت كل المشاريع المصنوعة في غرف الصفقات. 2025-05-29