
العودة الخفية لكن القوية للحمائية... نحو عهد تجاري جديد؟
لعدة عقود، كانت الاتفاقات الدولية بمثابة ضمان لانفتاح الاقتصادات وتحرير التجارة. فمن اتفاقية الجات (GATT) إلى منظمة التجارة العالمية، بدا الهدف واضحًا: جعل التجارة العالمية رافعة للسلام والازدهار والتنمية المشتركة. وقد تراجعت فعليًا الرسوم الجمركية بشكل كبير، من 7.6% في عام 2001 إلى أقلّ من 4% في عام 2019.
ولكن للتاريخ مساراته الملتوية. فمنذ بضع سنوات، عادت الحمائية إلى الواجهة، لا من الباب الرئيسيّ، بل عبر نوافذ متعدّدة.
أولًا: الحمائية... رد فعل اقتصادي قديم
لنتذكّر الأساسيات. الحمائية، بشكلها الكلاسيكي، تهدف إلى حماية الشركات الوطنية من خلال فرض رسوم جمركية على الواردات. وهذه الضرائب تجعل المنتجات الأجنبية أكثر كلفة، مما يمنح المنتجات المحلية ميزة تنافسية.
نظريًا، يمكن أن تدعم هذه الاستراتيجية الصناعات الناشئة أو المتعثرة. لكن وفق المنطق الاقتصادي النيوكلاسيكي، فإنها تخلق تشوّهات تؤثر سلبًا على كفاءة الأسواق، وتضرّ بالنمو، والقدرة الشرائية، والرفاه العام.
ومع ذلك، لا تنقص الأسباب السياسية والاقتصادية التي قد تبرّر اللجوء الموقت – أو الاستراتيجي – إلى هذا النوع من السياسات. من حماية الوظائف المحلية، إلى البحث عن مصادر دخل للدول النامية، مرورًا بالرهانات الانتخابية... كلها دوافع مشروعة.
وقد أظهرت دراسة أميتّي، ريدينغ، وواينستين، بشأن الرسوم التي فرضتها إدارة ترامب على الصين، أن التكاليف تحمّلها بشكل أساسي المستهلكون والشركات الأميركية نفسها، أي أن الحمائية ليست دون عواقب على مَن يمارسها.
ثانيًا: عالم أكثر تعقيدًا... وحمائية أكثر دهاءً
لم نعد اليوم في عصر الرسوم الجمركية البسيطة والمباشرة. لقد غيّرت العولمة سلاسل الإنتاج: فأصبح المنتج الواحد نتيجة لعملية تصنيع موزعة على قارات عدّة. وبالتالي، فإن فرض رسوم على واردات معينة قد يعني، أحيانًا، الإضرار بالصناعة الوطنية نفسها.
في هذا العالم المتشابك، تتكاثر أشكال جديدة من الحمائية، مثل بنود الحماية، والتدابير المضادة للإغراق، والرسوم التعويضية، والمعايير التقنية والصحية... كلها سياسات لا تُعلن صراحة أنها حمائية، لكن آثارها كذلك من دون شك.
اليوم، يخضع نحو 70% من التجارة العالمية لهذه الحواجز غير الجمركية. ويُعتبر القطاع الزراعي، الذي لطالما حظي بحماية الدول، المستفيد الأول منها.
ثالثًا: الجغرافيا السياسية تدخل ساحة التجارة
الحمائية الحديثة لم تعد اقتصادية فحسب، بل تحوّلت إلى أداة من أدوات النفوذ السياسي.
فأزمة تلو الأخرى – من الأزمة المالية في 2008، إلى جائحة كورونا، مرورًا بالحرب في أوكرانيا – جعلت الدول تعيد اكتشاف فوائد (ومحدودية) الانكفاء الاستراتيجي.
وباتت العقوبات الاقتصادية، وقيود التصدير، وحتى إعادة توجيه التجارة لأهداف سياسية، سِمات لمرحلة جديدة.
وقد حدّدت الولايات المتحدة النغمة. ففي عهد ترامب، ترجم شعار "اجعلوا أميركا عظيمة مجددًا" حرباً تجارية مفتوحة مع الصين.
وفي عهد بايدن، جاءت خطة خفض التضخم لتعزّز مصالح الشركات الأميركية في مجال الانتقال الطاقوي، مما أثار قلق شركائها. وردّت أوروبا عبر تطوير أدواتها الخاصة لمواجهة الإكراهات الاقتصادية.
رابعًا: "صداقة التجارة" وإعادة التوطين: تجارة مشروطة
روّجت جانيت يلين لمفهوم "التجارة بين الأصدقاء" (friend-shoring): أي حصر التبادل التجاري بين الحلفاء. وهي فكرة تماشت مع رغبة الدول في تأمين سلاسل التوريد الاستراتيجية، لا سيما في مجالات الطاقة، والأدوية، والتكنولوجيا الحساسة.
بالتالي، فإن الصين وروسيا، اللتان يُنظر إليهما في الغرب كدول "غير صديقة"، تواجهان قيودًا متزايدة على دخول أسواق الغرب، بدافع اعتبارات سياسية وأمنية.
لكن هذه الاستراتيجية تصطدم بواقع مختلف: فالدول لا تصنع المنتجات، بل تفعل ذلك الشركات – غالبًا متعددة الجنسيات – التي لا تميل بسهولة إلى التضحية بالربحية والكفاءة لأجل أهداف جيوسياسية.
أمام هذه التحولات، تجد منظمة التجارة العالمية الضامنة للتعددية التجارية صعوبةً في فرض احترام قواعدها.
فهيئة تسوية المنازعات فيها شبه مشلولة، والدول الكبرى تفضّل تصفية خلافاتها عبر مفاوضات ثنائية.
تتغير خريطة التجارة العالمية تدريجيًا، في عالم تعيد فيه التحالفات السياسية رسم الطرق التجارية.
الحمائية عادت إلى الواجهة. قد لا يُعلن عنها دائمًا، ونادرًا ما تكون صدامية، لكنها باتت الآن إحدى الركائز البنيوية في النظام التجاري العالمي.
وسيتعين علينا التعايش معها، في عالم تتشابك فيه الاقتصادات بشكل متزايد مع الجغرافيا السياسية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صوت بيروت
منذ 4 ساعات
- صوت بيروت
صعود معظم بورصات الخليج مع ارتفاع أسعار النفط
أغلقت معظم أسواق الأسهم في الخليج، اليوم الأربعاء، على ارتفاع إذ صعد المؤشر السعودي 1.24 بالمئة مع ارتفاع أسعار النفط وتحسن المعنويات بالسوق بعد موافقة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على تأجيل الرسوم الجمركية على منتجات الاتحاد الأوروبي. وارتفعت أسعار النفط، وهي محفز لأسواق الأسهم في الخليج، بما يزيد على واحد بالمئة مع ارتفاع العقود الآجلة لخام برنت 1.5 بالمئة لتصل إلى 65.02 دولار للبرميل بحلول الساعة 1300 بتوقيت جرينتش. وساعد في دعم الأسعار أنباء بأن إدارة ترامب ستسمح لشركة شيفرون بالاحتفاظ بأصولها في فنزويلا ولكن ليس تصدير النفط أو توسيع أنشطتها. وقال ترامب أمس الثلاثاء إن تحرك الاتحاد الأوروبي لبدء محادثات تجارية 'إيجابي'، مما ساعد على رفع المعنويات في أعقاب تهديده بفرض رسوم جمركية 50 بالمئة على السلع الواردة من الاتحاد الأوروبي. غير أن المكاسب ظلت محدودة مع ترقب الأسواق قرار أوبك+ مطلع الأسبوع المقبل بشأن الزيادة المتوقعة في إنتاج النفط. وكان سهم الحكير لتجارة منتجات الأزياء بالتجزئة أكبر الرابحين على المؤشر السعودي إذ أغلق مرتفعا 5.38 بالمئة. وقال جوزف ضاهرية المحلل والمدير الإداري في تيك ميل 'ربما تجد السوق دعما في ظل استمرار الاهتمام القوي بالطروح العامة الأولية في السعودية، بما في ذلك شركة طيران ناس. وربما تساعد الطروح الناجحة على جذب رؤوس الأموال المحلية والعالمية إلى سوق الأسهم'. وأغلق مؤشر دبي مرتفعا 0.40 بالمئة بعد قفزة لسهم الشركة الوطنية للتأمينات العامة بلغت 9.95 بالمئة. وسجل المؤشر مكاسب للجلسة الثالثة على التوالي. وصعد مؤشر أبوظبي 0.72 بالمئة، وهو أعلى مستوى له منذ 18 مارس آذار 2024. وأغلق سهم بنك أبوظبي الأول، وهو أكبر بنك في الإمارات، مرتفعا 2.85 بالمئة. وقال ضاهرية إن سوق الأسهم صعدت بعد فترة من الركود مدفوعة بمكاسب قطاعي المال والطاقة. وانخفض المؤشر القطري 1.02 بالمئة مع تراجع سهم مصرف قطر الإسلامي 2.36 بالمئة. وخارج منطقة الخليج، أغلق مؤشر الأسهم القيادية المصري مرتفعا 0.30 بالمئة. وكان سهم مدينة مصر أكبر الرابحين على المؤشر إذ صعد 3.33 بالمئة. وقال البنك المركزي المصري الأسبوع الماضي 'تجاوز معدل النمو النسبة البالغة 4.3 بالمئة المسجلة في الربع الرابع من 2024″، وتوقع أن يصل إلى خمسة بالمئة في الربع الأول من العام الحالي.

المدن
منذ 4 ساعات
- المدن
حربٌ جديدة... هل تكون فرصة لنهضة أوروبا؟
هدأت الجبهة الأميركية الصينية نسبيًا لتشتعل من جهة أخرى التوترات التجارية بين واشنطن والاتحاد الأوروبي. فقد هدّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب حلفاءه التاريخيين من الدول الأوروبية بفرض رسوم تصل إلى خمسين في المئة على البضائع التي تدخل الأسواق الأميركية. يأتي ذلك في وقت تتواصل فيه المفاوضات بين الإدارة الأميركية وبكين لتحديد سقف للرسوم الجمركية عند نسبة 30 في المئة. صراع الشركاء التاريخيين تبدو الأزمة أكثر تعقيدًا على الجبهة الأوروبية الأميركية، فالدول الأوروبية هي الشريك التجاريّ الأول لواشنطن، ولا تقع الأزمة في هذا الإطار بين دولتين، إنما تقع بين أكبر قوّة اقتصادياً في العالم وبين سبع وعشرين دولة تنطوي تحت مظلة الاتحاد الأوروبي. وبطبيعة الحال، تظهر الاختلافات والمسارات السياسية والاقتصادية المتعددة. هذا وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين خلال العام الماضي أكثر من تريليون دولار. الشراكة التجارية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تتخطى التجارة بين واشنطن وكلّ من المكسيك وكندا والصين، حيث بلغت قيمة واردات الولايات المتحدة من دول الاتحاد خلال عام 2024 نحو 606 مليارات دولار، مقابل صادرات قُدّرت بـ370 مليار دولار، الأمر الذي دفع العجز التجاري نحو قمّة جديدة بلغت 236 مليار دولار في مجال السلع فقط. وتجدر الإشارة إلى أنّ العجز التجاري بين أميركا والاتحاد الأوروبي يتقلّص في حال احتساب قطاعات الخدمات. بلغ عجز الولايات المتحدة الإجمالي، بما في ذلك الخدمات، نحو 161 مليار دولار، وتصل قيمة الصادرات الخدمية من الولايات المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي إلى نحو 277 مليار دولار، بينما تبلغ قيمة وارداتها 201 مليار دولار. إلى ذلك، يتزايد القلق في قطاع الأدوية الذي هدده ترامب برسوم جمركية ضخمة، وقد بلغت واردات الولايات المتحدة من المنتجات الدوائية الأوروبية نحو 127 مليار دولار خلال العام الماضي. من جهة ثانية، تشكّل خدمات التكنولوجيا، التي تقدمها الشركات الأميركية الكبرى، إحدى نقاط التوتر الأساسية في حال اندلعت الحرب التجارية الأميركية الأوروبية. مهلة المحادثات وشروط ترامب أسابيع قليلة تفصلنا عن القرارات الكبرى في إطار التوترات الأميركية الأوروبية، فقد أعطى ترامب مهلة حتى التاسع من شهر تموز المقبل لإجراء محادثاتٍ ومحاولة التوصل إلى اتفاق يقلّص العجز الضخم في التجارة بين الطرفين والذي يعتبره ترامب مجحفًا بحق بلاده. وفي هذا الاطار، يستخدم ترامب أوراقًا عدة للضغط على الحكومات الأوروبية، أبرزها ورقة الطاقة، فهو يريد من الدول الأوروبية شراء المزيد من مصادر الطاقة من الولايات المتحدة. وتسانده في ذلك ظروف الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات التاريخية التي فرضت على موسكو واستمرار القطيعة الأوروبية الروسية، التي حرمت الدول الأوروبية من مصادر الطاقة الروسية. من جهة ثانية، يطالب ترامب الشركات بنقل المصانع إلى الولايات المتحدة، لتعزيز الاستثمارات وتحفيز أسواق العمل والصناعة داخل أميركا. لكنّ هذه الخطوات معقدة اقتصادية ولوجستيًا. إذًا، تبدو الحلول التي تريدها الإدارة الأميركية صعبة المنال في المدى المنظور، وإن لم يتمكّن الطرفان من التوصل إلى صيغة جديدة للعلاقات التجارية بينهما، فستشتعل أسعار السلع في الأسواق. وستخضع السلع الأوروبية لرسوم بنسبة خمسين في المئة، وستتعرض السلع الأميركية لرسوم أوروبية انتقامية. صعوبة المفاوضات ليست هذه المرة الأولى التي نشهد فيها نزاعات تجارية بين واشنطن وبروكسيل، فقد سبق أن اشتعلت التوترات بين الطرفين في محطات تاريخية عديدة، وآخرها كان في عام 2018 حين فرض ترامب، خلال ولايته الأولى في الرئاسة الأميركية، رسومًا جمركية بنسبة 25 في المئة على الفولاذ و10 في المئة على الألمنيوم. أما الاتحاد الأوروبي فقد ردّ برسوم جمركية على بضائع أميركية بقيمة تتخطى 3 مليارات دولار. واستمرت تلك الرسوم إلى أن توصلت إدارة الرئيس جو بايدن في العام 2021 إلى اتفاق مع بروكسل، حيث وافقت واشنطن على إعفاء كمية محدّدة من واردات الصلب والألمنيوم الأوروبي من الرسوم، مقابل تعليق الاتحاد الأوروبي رسومه الانتقامية. لقد باشر الاتحاد الأوروبي بخطوات لتسريع المفاوضات مع الإدارة الأميركية، وهو ما اعتبره ترامب خطوة إيجابية. لكنّ ذلك لا يعني سهولة المفاوضات، فبين دول الاتحاد الأوروبي خلافات واختلافات وأولويات متعددة، تجعل المهمّة أكثر تعقيدًا. لذا، المطلوب اليوم هو أن ينجح الطرفان بإرساء أسس للهدنة التجارية بينهما، وإلا سيبقى الاقتصاد العالمي في مرمى الرسوم الجمركية وتعود مخاطر الركود إلى الواجهة في أكبر اقتصادات العالم. تجدر الإشارة الى أن التبادل التجاري في السلع والخدمات بين أميركا والاتحاد الاوروبي بلغ نحو 4.9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي في عام 2024، متفوقًا على التجارة مع الصين التي شكّلت 2.2 في المئة من الناتج المحلي الأميركي. من هنا نقرأ ارتفاع مؤشرات الخوف في الأسواق والقلق من الرسوم التجارية التي تحدث ردودًا انتقامية بين الدول، في وقت يكافح فيه الناس أزمات التضخم وتآكل الأجور، كما يحاول المستثمرون قراءة التقلبات في الأسواق. هل يتفوّق اليورو على الدولار؟ الجميع يراقب بحذر تراجعات الدولار وخطوات الفدرالي الأميركي، وتُطرح التساؤلات حول موقع العملة الأميركية، وإن كانت ستتفوّق عليها عملات أخرى في سلّم الريادة عالميًا. تجدُ رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، في ضغوط ترامب التجارية فرصة للدول الأوروبية للملمة قواها وإعادة ترتيب بيتها الداخليّ لتعزيز قدراتها الاقتصادية وقوّة عملتها اليورو. وذهبت لاغارد أبعد من ذلك معتبرةً أنّ أمام اليورو فرصة لأخذ مكانة الدولار في التجارية الدولية. فهل هذا ممكن فعلاً؟ في الواقع، أثبتت الأحداث الاقتصادية على مدى السنوات الماضية أنّ الدولار الأميركي لن يكون قادرًا على الاستمرار في موقعه الدولي طويلًا. إلّا أنّ اليورو لا يتمتّع بالجهوزية الكافية لينتزع من الدولار موقعه الدوليّ، في ظل الظروف الاقتصادية والمعطيات السياسية والقدرات العسكرية والأمنية لدول الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أنّ حصة الدولار من احتياطيات البنوك المركزية العالمية انخفضت إلى 58 في المئة، وهي الأدنى منذ عقود، إلّا أنّ حصة اليورو لا تتخطى نسبة 20 في المئة، فيما تبلغ حصة العملات الأخرى من الاحتياطيات الدولية 20 في المئة أيضاً، ومنها اليوان الصينيّ. ويرى البيت الأبيض أن الكرة اليوم في ملعب الدول الأوروبية للتنسيق فيما بينها والتوصل إلى ورقة مفاوضات موحّدة وواضحة، ليتمكن بالتالي الطرفان من المضيّ قدمًا في المفاوضات، وإلّا فستُفرض الرسوم التي لا تُحمد عقباها.


النهار
منذ 10 ساعات
- النهار
القبة الذهبية... ترامب يُشعل "سباق التسلح العالمي"!
أكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفع الإنفاق الدفاعي لبلاده إلى تريليون دولار، بزيادة 13% عنه في الموازنة السابقة، واعتزامه تدشين نظام للدفاع الصاروخي عن الأراضي الأميركية (القبة الذهبية)، يكون قادراً على اعتراض الصواريخ من أي مكان في العالم أو من الفضاء، ما ينذر بسباق تسلح عالمي هائل، بكل تداعياته الخطيرة! من أبسط تعريفات الإنفاق العسكري، أنه الموارد المالية المخصّصة لتعزيز القوة المسلحة لدولة ما، لمواجهة التهديدات والأخطار، أو حجم الوسائل والقوى التي تنوي استخدامها لذلك. إن "التريليون دولار" الذي تحدث عنه ترامب رقم يصعب استيعابه، خصوصاً أن تقريراً لمعهد استوكهولم الدولى لأبحاث السلام كشف أن العالم يسلح نفسه بأسرع وتيرة منذ الحرب الباردة مع احتدام الصراعات فى أوكرانيا وغزة وتصاعد التوترات من أوروبا إلى آسيا؛ لافتاً إلى أن الإنفاق العالمي على التسلح بلغ 2.718 تريليون دولار عام 2024. احتلت الولايات المتحدة والصين موقع الصدارة وشكلتا معاً نصف إجمال الإنفاق العسكري العالمي، وتلتهما روسيا ثم ألمانيا والهند وبريطانيا. كذلك سجلت دول حلف "الناتو"، مثل بولندا والسويد وهولندا، طفرات في الإنفاق تعكس القلق من روسيا، والتخوف من انسحاب أميركا من التزاماتها حيال أوروبا. أجبرت واشنطن أوروبا على الاعتماد على نفسها بمواجهة روسيا في أوكرانيا، بزيادة المخصصات الدفاعية؛ لتتفرغ لمواجهة بكين. ينزلق التسلح باتجاه جنوب آسيا، مع الاستعدادات الأميركية لمنازلة الصين. أما في الشرق الأوسط، فقد احتلت السعودية المرتبة الأولى في المنطقة والسابعة عالمياً. الأرقام الفلكية للإنفاق العسكري؛ صرخة مدوية تعكس قلق البشرية، في عالم يحاول شراء الأمان بصوت المدافع؛ فلا نهاية في الأفق لسباق التسلح العالمي، متوسط نصيب الفرد 4.5 دولارات سنوياً للتنمية والسلام، 255 دولاراً للتسلّح؛ مؤشرات تقول إن زيادة القوى الكبرى تسليحها بشكل فائق، بأمل منع الحرب من خلال الردع. تتسلح أوروبا مثلاً، على وقع الهجوم الروسي على أوكرانيا، للجم أطماع موسكو، في ظل تراجع المظلة الأميركية بقيادة ترامب. كذلك في آسيا، تأتي الصين في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في الإنفاق العسكري، وقفزت الهند رابعة، والسعودية سابعة، كما جاءت كوريا الجنوبية واليابان في المرتبتين التاسعة والعاشرة وأستراليا في المرتبة الثالثة عشرة. تسعى الدول الى تحقيق أمنها، وحماية حدودها ومواردها، في عالم تسوده شريعة الغاب (الحق للأقوى)، لذلك تنفق بسخاء على تجهيز قواتها المسلّحة، بوسائل الدفاع عن نفسها ضد أي خطر محتمل. بعض الأنظمة يستعد عسكرياً لمواجهة أي "خطر داخلي"، قد يأتي من داخل الدولة نفسها، أو أعمال إرهابية؛ فالأمن عنصر رئيس في بقاء الدول، والأمن لا يتحقّق إلا باستخدام القوة ووسائلها المادية من أسلحة وقوات؛ للدفاع أو للردع. تعيش القوى الكبرى - على مر التاريخ - هاجس منع الخصم من إحراز تفوّق نوعي أو كمّي؛ رفع الاتحاد السوفياتي السابق من إنفاقه العسكري ليواجه مبادرة "حرب النجوم" الأميركية؛ ما شكّل بداية النهاية لانهياره الاقتصادي نهاية ثمانينات القرن العشرين، ومن ثم انهياره السياسي والأمني والعسكري، ثم انهار كيان الاتحاد السوفياتي نفسه، إذ تفتت إلى 15 دولة مطلع التسعينات. وهذا في ذاته برهان عن الدور الذي تلعبه "المجمعات الصناعية العسكرية" في توجيه سياسات القوى الكبرى، ودور مراكز الأبحاث التابعة لها في اختراع بؤر للنزاع أو إشعالها في أرجاء العالم؛ لتأمين استمرار بيع السلاح لأطرافها، فصفقات السلاح مربحة. إن هذه "المجمّعات الصناعية العسكرية" تملك من القوة والنفوذ في بعض الدول الكبرى، بخاصة في الولايات المتحدة، ما يجعلها تؤثر بفعالية في قرارات الحرب والسلام عالمياً. ولعل هذا ما حذّر منه الرئيس الأميركي الأسبق الجنرال دوايت أيزنهاور ، في خطبة الوداع عام 1961، عندما حذّر شعبه من خطورة نفوذ "المجمع الصناعي العسكري" على سياسة أميركا، إذا كانت تريد أن تكون زعيمة العالم الحر وقائدة له نحو السلام؛ قال أيزنهاور: "إن كل مدفع صنع، وكل بارجة حربية أبحرت، وكل صاروخ أطلق، يعني بالمحصلة النهائية لصوصية وسرقة من أولئك الجائعين الذين لا يجدون غذاءهم، وأولئك الذين يبردون ولا يجدون الثياب التي تكسوهم؛ فالعالم مع السلاح لا ينفق المال فحسب، إنه ينفق عرق عماله، وعبقرية علمائه وآمال أطفاله. وهذه ليست طريقة للحياة بمعناها الحقيقي؛ فتحت ضباب التهديد بالحرب، تصلب الإنسانية فوق صليب من فولاذ"! لهذا يرى بعضهم أن تجارة السلاح سبب رئيس في انتهاك حقوق الإنسان؛ لأن دولاً تنفق على التسلح أكثر مما تنفق على التنمية الاجتماعية والبنى التحتية والرعاية الصحية لمجتمعاتها، وإذا كان من حق الدول اتخاذ الوسائل اللازمة لضمان أمنها في عالم متقلّب، فإن من حق الشعوب والمجتمعات أن يخضع اقتناء السلاح لمعايير تراعي حاجاتها إلى التنمية والرعاية. يكفي أن تنظر إلى أحوال الشرق الأوسط السعيد، بحروبه ودمائه وآلامه!