
هيلين وإغواء فاوست
هيلين تلك المرأة الأسطورية، التي وردت في ملحمة الإلياذة لهوميروس، الشاعر الإغريقي. وهي من أجمل النساء عند الإغريق، عشقها ملوكهم، لكنها اختارت منيلاوس ملك سبارتا زوجا لها، وجعلتها فينوس آلهة الجمال تغرم بباريس ابن ملك طروادة عندما نزل ضيفًا عند زوجها، وهربت معه إلى طروادة، فكانت الحرب التي سميت حرب طروادة، التي سير فيها اليونانيون ألف سفينة للفوز بعشيقتهم هيلين من عشيقها باريس. وتمكنوا بعد عشر سنوات من القتال والحصار من دخول مدينة طروادة باستخدام الحيلة، بإهداء مليكها حصانًا خشبيًا وفي داخله الجنود، وانتهت الحرب بحرق طروادة، وتدميرها، وقتل ملكها بريام وأميرها هكتور شقيق باريس، وأخذ نسائها محظيات عند اليونانيين، وعادت هيلين مع انتهاء سحر فينوس إلى زوجها منيلاوس .
كانت هيلين من أهم الشخصيات الأسطورية، التي وظفت في الأدب والفن على مستوى العالم، وكان أول توظيف لها في مسرحية «الدكتور فاوستس» التي كتبها كريستوفر مارلو (1564 -1593م)، معاصر شكسبير، الذي قيل إنه المؤلف الأصلي لمسرحيات شكسبير وقصائده.
وجاء الممثل والمخرج الإنجليزي ريتشارد ببيرتون (1925-1984م) واختار مسرحية مارلو دون غيرها من المسرحيات التي كتبت عن هيلين باستخدام أسطورة فاوست ومن أشهرها تلك التي كتبها غوته الأديب الألماني؛ لأن مارلو إنجليزي مثله، وسبق أن قدم المسرحية نفسها على المسرح، وحظيت بالنجاح من ناحية أخرى.
ويقال إن فاوست شخصية حقيقية، ظهرت في العصور الوسطى لأستاذ ألماني بلغ من العلم مكانة عالية، ثم مارس السحر وباع روحه للشيطان، في مقابل أن ينال ما يشتهي من المتع والملذات الحسية والمادية لعدة سنوات. وتجلت شخصية فاوست في صورة أسطورية أول مرة في كتاب نُشِر عام 1587م في فرانكفورت لمؤلف مجهول، عنوانه «تاريخ الدكتور يوهان فاوست، الساحر الذائع الصيت، ذي الأعمال الجهنمية»
إن فاوست، كما أظهره مارلو أسطورة لعالم لم يكتف بما وصل إليه من علم، فطمح إلى الوصول إلى العلم المطلق، وامتلاك القوة والسلطة، ولتحقيق ذلك لجأ إلى السحر واستحضار والأرواح؛ مما أوقعه في حبائل الشيطان مفستوفوليس، مندوب لوسيفر كبير الشياطين، الذي استخدم شبح هيلين؛ ليثير فيه قوة الشهوة الحسية، ويدفعه للتحالف معه، وعقد اتفاق بينهما على أن يكون الشيطان عبدًا له، يقدم له ما يشاء من الملذات الجسدية والمادية. في المقابل يسلمه روحه بعد أربع وعشرين سنة. ووقع فاوست الاتفاقية بدمه.
من أشهر المشاهد، التي ظهرت فيها هيلين في مسرحية مارلو ذلك المشهد الذي ظهر فيه ثلاثة من تلاميذ فاوست، ويرجو أحدهم منه أن يجسد أمامهم هيلين، بوصفها أجمل نساء الأرض، فيستجيب لهم فاوست، وتظهر هيلين فائقة الجمال وبجانبها الشيطان. وبعد ذهابهم يخلو فاوست بهيلين، ويتوجه إليها بقول أبيات مشهورة:
أهذا الوجه الجميل الذي أطلق ألف سفينة لحصار طروادة وحرق أبراجها الشاهقة؟ .. أي هيلين الحبيبة، امنحيني الخلود بقُبلة من شفتيكِ العذبتين! … عودي يا هيلين! ورُدِّي إلي روحي.. سأُقيم هُنا .. شفتاكِ هما الفردوس، وكلُّ شيءٍ ما خلا هيلين لا قيمة له وقبض الريح.
هكذا كانت هيلين الطروادية في مسرحية مارلو، التي ترجمها كثيرون من بينهم صديقنا عودة القضاة العامل المهم في وقوع فاوست في قبضة الشيطان، وارتكابه الخطايا السبع: الفخر، الجشع، الحسد، الغضب، الشهوة، الشراهة، والكسل. وترديه الجحيم في النهاية؛ لأنه لم يستمع إلى صوت الحق في أعماقه الذي حذِّره من اتباع وساوس الشيطان، والانخداع بحيله السحرية وألاعيبه.
في هذه النهاية البائسة لفاوست نتعلم بأن عدم سمو الإنسان الروحي يجعله تحت سيطرة الرغبات الدنيوية وفسادها، ويفقده المعرفة بحدوده في القوة والسلطة والمعرفة. وهذا هو حال الإنسان في عصرنا الحالي؛ عندما استند إلى القوة التي منحتها له التكنولوجيا الرقمية، وسلم روحه لها، وتحدى إرادة الله، كما فعل فاوست حين أغواه الشيطان بهيلين، مما سيجلب له المتاعب في الدنيا، ويكون مصيره الجحيم في الآخرة. كما وعد الله تعالى» وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ» (الأعراف:175)

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الرأي
منذ 2 أيام
- الرأي
بصمة خالدة.. اكتشاف أثر يد حرفي مصري عمره 4000 عام
عثر فريق من الباحثين في متحف فيتزويليام بجامعة كامبريدج على بصمة يد بشرية كاملة محفوظة بشكل مدهش على نموذج طيني مصري قديم يعود تاريخه إلى ما بين 2055-1650 قبل الميلاد. وظل هذا الأثر الإنساني الفريد مختبئا تحت ما يعرف بـ"بيت الروح"، وهو هيكل طيني جنائزي مصغر كان يدفن مع الموتى، لمدة تزيد عن أربعة آلاف عام. ويمثل الهيكل الطيني اللافت مبنى صغيرا من طابقين، شيد بدقة متناهية باستخدام تقنيات حرفية متقنة. ويظهر في تصميمه أعمدة داعمة وسلالم صغيرة نحتت بعناية، إلى جانب مساحة أمامية مفتوحة خصصت لتقديم القرابين، والتي شملت في هذه الحالة خبزا وخسا ورأس ثور. لكن المفاجأة الحقيقية كانت تكمن تحت القاعدة، حيث ظهرت بصمة يد واضحة المعالم، يعتقد الخبراء أنها تعود للحرفي الذي صنع هذا النموذج الطيني، عندما مسكه بيده قبل أن يجف الطين تماما. وعبرت الدكتورة هيلين سترادويك، كبيرة علماء المصريات في المتحف، عن حماسها لهذا الاكتشاف قائلة: "لطالما شاهدنا آثارا جزئية لأصابع على التوابيت أو في طبقات الورنيش، لكن العثور على بصمة يد كاملة بهذا الوضوح أمر استثنائي حقا". وأضافت: "هذه البصمة تنقلنا مباشرة إلى تلك اللحظة التاريخية قبل أربعين قرنا، عندما وقف ذلك الحرفي المصري القديم يصنع هذا النموذج بيديه". وكشف تحليل النموذج عن التقنية الدقيقة التي استخدمها الحرفي المصري القديم، حيث بدأ ببناء هيكل أساسي من العصي الخشبية، ثم غطاه بطبقة من الطين الناعم. وتشكلت السلالم الصغيرة من خلال الضغط بأصابع اليد على الطين الرطب. وعندما تم حرق النموذج في الفرن ليكتسب صلابته، احترق الهيكل الخشبي الداخلي تاركا فراغات في أماكنه. إ وهذه البصمة الزمنية الفريدة ستكون محور الاهتمام في المعرض القادم "صنع في مصر القديمة" الذي سيفتح أبوابه للجمهور في الثالث من أكتوبر. وهو معرض يسعى لإبراز الجانب الإنساني وراء القطع الأثرية. وسيعرض هذا النموذج الجنائزي كشاهد حي على المهارة الحرفية والإبداع الفني الذي تميز به المصريون القدماء. يذكر أن "بيوت الروح" هذه كانت تلعب دورا مهما في المعتقدات الجنائزية المصرية القديمة، حيث كانت تعمل إما كأوان لوضع القرابين، أو كمساكن رمزية لأرواح الموتى في العالم الآخر. لكن ما يجعل هذا النموذج خاصا هو تلك اللمسة البشرية الخالدة التي تحولت مع مرور الزمن من مجرد أثر عابر لليد إلى وثيقة تاريخية نادرة، تختزل الزمن وتجسد الاتصال الحميم بين الماضي والحاضر.

السوسنة
منذ 3 أيام
- السوسنة
سوبرمان يُحرج إسرائيل
«شايلوك» اسم ظهر في مسرحية «تاجر البندقية» لشكسبير، وهو لشخصية مُرابٍ يهودي قاسٍ، ربما اختارها شكسبير انطلاقا من اشتهار هذه الطائفة بالقروض ذات الفوائد. لم يكن هناك في هذا الوقت ما يعرف بمعاداة السامية، حتى تثور ضجة حول المسرحية، لكنها قطعا في عصرنا هذا ذات حساسية شديدة، لكونها تظهر الطائفة بهذه الصورة النمطية السيئة.خلال تجمع حاشد يحتفل فيه ترامب بإقرار مشروعه لقانون الميزانية في الكونغرس قبل حوالي شهر، برز اسم شايلوك في حديث الرئيس الأمريكي، ضرب به المثل في القرض السيئ، باعتباره مقرضا سيئا لا باعتباره يهوديا سيئا، فاتُهم على الفور بمعاداة السامية، على الرغم من الدعم المفتوح الذي يقدمه للاحتلال، وعلى الرغم من اعترافه بأنه لم يكن يعلم أن ذكر الاسم فيه معاداة للسامية، لكنها الحساسية الصهيونية الشديدة المترقبة المترصدة لكل كلمة أو سلوك يمكن أن يشير بأصابع الاتهام للصهيونية المتقنّعة باليهودية.برزت هذه الحساسية الشديدة مؤخرا خلال ضجة كبيرة، أحدثها عرض النسخة الأخيرة من فيلم «سوبرمان» للمخرج الأمريكي جيمس غان في السينما الأمريكية قبل أيام.الفيلم خرج عن السياق المألوف لهذه النوعية من الأفلام، التي تقدم أمريكا في قالب شرطي العالم ومظلته الحامية عن طريق أبطاله الخارقين، الذين ينقذون دائما كوكب الأرض من الأخطار الخارجية، فأظهر الفيلم مناصرة سوبرمان لبلدة خيالية فقيرة وضعيفة خلف السياج الحدودي يُراد لها التهجير، مِن قِبل بلدة أخرى معتدية مدعومة من قبل الولايات المتحدة.ثارت ضجة كبيرة إثر الإسقاط على واقع مأساة غزة والاعتداءات الإسرائيلية المدعومة من أمريكا، ما حرك منصات الهجوم في الأوساط الإعلامية والثقافية والسياسية المؤيدة للاحتلال، واعتبر الفيلم معاداة للسامية كالعادة، على الرغم من تصريحات صناع العمل السينمائي بأن الفيلم الذي بدأ العمل فيه قبل طوفان الأقصى لا يمت للواقع المذكور بصلة لكنه يتناول بشكل عام قضايا الحرب والتهجير.وفيما يرى البعض أنه توجه جديد للسينما الأمريكية حيال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، أرى فيه من زاوية أخرى تجميلا للوجه الأمريكي، فالبطل الخارق القادم من كريبتون، هو في النهاية متجنس بالجنسية الأمريكية، ويعبر عن طموحات وأحلام وقضايا الشعب الأمريكي، فالذي نصر المظلومين في النهاية هو البطل الأمريكي حتى مع وجود أوجه قصور في الدولة راعية الديمقراطية والحرية في العالم.تتفق أو تختلف معي، فلست معنية في هذا المقام بتفسير رسالة هذا الفيلم ـ إن كانت هناك رسالة- لكن ما يعنيني هو تسليط الضوء على دلالات الضجة الكبيرة، التي أثيرت حول الفيلم، وهذا الإسقاط الذي لم تخطئه عين المشاهد والربط بين الفيلم والأحداث في الواقع. يقال إن كل من شاهد الفيلم كان يضع شخصياته وأحداثه جنبا إلى جنب مع ما يحدث في غزة، والتواطؤ الإسرائيلي الأمريكي، ما يعد دلالة على وضوح القضية الفلسطينية وأبعادها وتفاصيلها عالميا. شعوب أمريكا والغرب كانت تستقي معلوماتها عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من الآلة الإعلامية الرسمية المضللة، التي صورت الإسرائيليين على أنهم أصحاب الأرض المضطهدين من قبل بيئة عربية وحشية لا تريد السلام، وأن أمريكا الرحيمة تمد يد العون لهؤلاء المظلومين، الذين كانوا في السابق ضحايا الهولوكست، والآن ضحايا الوحشية العربية. العالم الآن استرد وعيه للإحاطة بما يحدث في فلسطين مشاهدةً وتحليلا وتفسيرا، وأدرك أن أمريكا وإسرائيل كيان واحد لا ينفصل.الضجة المثارة حول الفيلم، وقراءة الجماهير في السينما ومواقع التواصل الاجتماعي لمضامينه، على أنها عاكسة لأحداث غزة، تُظهر فشل رهان الاحتلال الإسرائيلي على ورقة معاداة السامية، تلك الورقة التي ابتز بها العالم عقودا من الزمان، وأصبحت أداة ضاغطة لتغيير القرارات السياسية واتجاهات الرأي العام، لكن الحرب على غزة، عرّت هذا الخلط المتعمد بين الصهيونية واليهودية، وأدرك العالم أن الأطماع الصهيونية التي تقنّعت باليهودية، قد سقط عنها هذا القناع، وأن انتقاد أو معاداة الاحتلال الإسرائيلي ليس معناه معاداة اليهودية. ردود الأفعال حول الفيلم، والانسيابية في تلقي الجماهير له على أنه إسقاط على الأوضاع في غزة، وترديدها لهذا الترابط بين الفيلم والأحداث بشكل يتضمن الإقرار بالظلم الإسرائيلي، كل ذلك أزعج الاحتلال أكثر من الفيلم نفسه، فلم تعد رؤية الشعوب للقمع الإسرائيلي في غزة، واستهجانه سلوكيات يتوارى بها أصحابها، بل صار كل أحرار العالم والمنصفون فيه يتحدثون عن الطغيان الصهيوني دون الاكتراث لتهمة معاداة السامية. «الأشخاص الذين يحاولون مساواة معاداة الصهيونية بمعاداة السامية ليسوا صادقين، فهذا الاتهام سخيف»، القائل هنا هو الممثل الأمريكي اليهودي جاكوب بيرغر، أحد ركاب سفينة حنظلة المتجهة إلى غزة لكسر الحصار، والتي تمت قرصنتها من قبل الاحتلال. تصريح الممثل الأمريكي اليهودي الذي خلع نجمة داود من عنقه لأنها برأيه تحولت إلى رمز للكراهية، يعكس الوعي العالمي بتهاوي الخلط بين الصهيونية واليهودية، حتى لدى فئات من اليهود أنفسهم، علما بأن جماعات من المتدينين اليهود يرفضون من الأساس فكرة أن يكون لهم وطن جامع، لأنهم عوقبوا بالشتات، وفي إقامة هذا الوطن معارضة لإرادة الرب وفقا لعقيدتهم.كشفت كذلك الضجة المثارة حول الفيلم، وردود الأفعال المصاحبة له، المتعاطفة مع قطاع غزة والمُدينة للعدوان الإسرائيلي، أن الاحتلال أصبح رمزية للشر، وأن الحديث أو الإشارة عن أية ممارسات غير إنسانية من قتل وتدمير وسلب وتهجير، ارتبط في أذهان الجماهير بالاحتلال الإسرائيلي، ما يعكس بشاعة الصورة الذهنية لكثير من الشعوب عن الكيان الغاصب. وفي المقابل، كشفت أن الإشارة أو الحديث عن قيم التمسك بالأرض وعدالة القضية والدفاع المشروع عن الحقوق، قد ارتبط في الأذهان كذلك بغزة وفلسطين.أكاد أجزم أن مثل هذا الفيلم بمضامينه لن يكون تجربة قابلة للتكرار، لكن يكفي أن أتاهم هذا الخزي من حيث لم يحتسبوا، وكلها إشارات بأن زوال هذا الكيان اللقيط قد اقترب أجله.كاتبة أردنية

الدستور
١٦-٠٧-٢٠٢٥
- الدستور
«أوديسة لغزة-الأبجدية الحمراء».. مجموعة شعرية جديدة للمتوكل طه
عمّانصدر عن «الآن ناشرون وموزّعون» في الأردن (2025)، مجموعة شِعرية جديدة للشاعر الفلسطيني المتوكل طه، ضمّت إحدى عشرة قصيدة عن غزّة، وجاءت في مائة وخمسين صفحة من القطع المتوسط. وهي الإصدار رقم ستّون للكاتب.وفي تناوله لهذه المجموعة كتب أ.د. الشاعر راشد عيسى قائلاً: «نحن أمام ملحمة شعرية أو فيلم سينمائي طويل أو مسرحية كونية في صورة مرايا تاريخية وواقعية وأسطورية ودينية مرعبة الرؤى كيوم القيامة. قصيدة من نوع الكثافة المشهدية في الأوديسة الهوميروسية. فإذا كان أوديسيوس البطل الاستثنائي يعرض مغامراته بعظمة العجائب والمستحيلات بعد حرب طروادة، فإن المتوكل هنا يقوم بدور البطولة الشعرية الخارقة بعد حرب غزة. فالقصيدة شجاعة في استدعاء الشواهد الإغريقية والرموز الخاصة بالمعتدي السارق مثل يوشع كنوع من تحدي الضحية للجلاد والسنبلة للمنجل وحبّة الرمل للجبل وصرخة الطفل في القاتل وفي الجدار المهدوم عليه. هذا نصٌّ يتفوّق على التاريخ الأسود للحقد الاستعماري والديني واستلاب تاريخ الشعوب بالمزاعم الكاذبة المخادعة وبجرائم الإبادة الجماعية لكل معنى من معاني الحياة. هنا غزة بطلة كونية جديدة تثبت تفوّقها على إرادة السارق القاتل المجنون الواهم بقدرته على محو التاريخ الكنعاني الخالد. في القصيدة دسم هائل من لقطات العبثية المجنونة التي تقابلها قوى غزية أعظم صبرا ومقاومة وعزيمة لا يمكن أن تنال منها نوايا المراحل السوداء عند العابرين الطغاة. الشاعر هنا يحترم طبيعة الشعر فينأى عن المباشرة والخطابية ويتلاحم ببلاغة الإيماء والتلميح وذكاء الكناية والتورية وعبقرية الإيحاء الاستعاري الساخن في مراميه الدلالية شديدة الإيلام حتى لكأن القصيدة تتحدى وقائع الحرب ومقاصدها بانتصار الحلم المقدس عند الضحايا. فالانتصار المكاني مؤقت في حين أن انتصار الفكرة والحلم ديمومة كونية لا تقبل الهزيمة. في القصيدة مسرات كثيرة أولها أن مثل هذا الشعر هو وثيقة إنسانية جمالية تؤكد تفوق الحضارة الثقافية الغزية تحديدا على مزاعم المحتل الخائف أمام جبروت الحق العادل. وثاني المسرات هو غنى الملحمة بفن استدعاء التاريخ لإدانة الواقع المعيش. في مثل هذه القصائد ينحني فؤاد العالم احتراما لجماليات الألم الفلسطيني الذي يوثق مسار وجوده بأهم الفنون الإنسانية جميعا وهو الشِعر».أما د. الشاعرة دعاء وصفي بياتنة، فقد أشارت إلى أنّ «قصيدة أدويسة لغزة للشاعر المتوكل طه قصيدة ملحميّة دراميّة سينمائيّة خارقة للجغرافيا والتّاريخ، قصيدة كاميرا متحرّكة في قلب الإنسان وغزة صوتًا وصورة.إن فلسفة الشّكل التّعبيري في القصيدة جعلت تجسيد الواقع المضطرب الذي شهدته غزّة يتجلّى في جماليات التفكك باللوحات والمشاهد والتضاد والمفارقة، إذ يسير المتوكل طه في قلب الحدث الشعري ساردًا ومؤرخا ومثقفا وموظفا التقنيات السردية التي تصور دواخل الشخصيات، الأمر الذي منح القصيدة بُعدًا جماليًّا ينسجم مع حركة الواقع. وتنفتح القصيدة على سياقات ثقافية وتاريخيّة تشكّل مقاربة معرفيّة في الرؤية الشعرية.أدويسة لغزة لا بطل فيها بالصورة النمطية إنّها بطولة الحياة رغم الموت، وارتفاع الرفض رغم الصمت، وانتصار التجذّر رغم أنف الآخر».يذكر أن المتوكل قد أصدر قبل شهور، كتابين آخرين عن غزة ما بعد السابع من أكتوبر؛ الأول «توقيعات على جدران غزة» وقد صدر عن اتحاد الكُتّاب الفلسطينيين، كما صدرت طبعة ثانية منه في القاهرة عن سلسلة الإبداع العربي. أما الكتاب الثاني فكان رواية «أخبار نصف جيدة» التي صدرت عن دار طباق في فلسطين، وهي بانوراما عن أحداث العدوان على القطاع الصابر الصامد.