
سفينة تيتانيك والهوس بالحطام
كل حين وآخر، تعود سفينة تيتانيك إلى نشرات الأخبار، وتنتشر الحكايات عنها على الرغم من مرور أكثر من 100 عام على غرقها. آخر هذه الأخبار كانت صادمة، فعام 2023، غرقت الغواصة الاستكشافية/السياحية المصممة لزيارة حطام السفينة في قاع المحيط الأطلسي. واليوم، تعود إلى الواجهة مع أخبار عن مسح رقمي لكل أنحاء السفينة، يُمكّننا من مشاهدتها بصورة ثلاثية الأبعاد. المسح أُنجز كجزء من فيلم وثائقي بعنوان "تيتانيك: البعث الرقميّ" (Titanic: The Digital Resurrection). الاسم اللافت يعكس حالة العلوم الآن؛ إذ سبق أن أُعيدت كلاب عملاقة من الانقراض، وطُرحت فرضيات عن وجود مدينة تحت
أهرامات الجيزة
لا بد من "كشفها". كل هذا البحث في
الحطام والآثار
وإعادة "بعثها" يبدو نوعاً من الهوس، لا يقتصر على العلم، بل يرتبط بالثقافة الشعبية عبر وثائقيات ومقالات وبودكاستات، ليُحوَّل الحطام وآثاره إلى مادة للتسلية.
الغريب، أنه في حالة تيتانيك كنا أمام تحدٍّ بشريّ لصناعة وسيلة نقل عملاقة لا تُهاب. لكنها غرقت وتحولت إلى أسطورة. الأمر نفسه حدث مع مكوك تشالنجر الذي انفجر عام 1986 بعد الإقلاع بدقيقة تقريباً. لكن اليوم، بعدما تبنّت الشركات الخاصة المعولمة الاكتشافات العلمية "العملاقة"، تحوّل الحطام إلى شكل من أشكال التسلية المبتذلة، أشبه بفيديوهات "القفشات"، التي تتجاهل الملايين المهدورة لبناء الصواريخ في سبيل الضحك وجمع المشاهدات على "يوتيوب". وكأن التجربة العلمية لم تعد على القدر المألوف من الحذر والجديّة، والسبب: توفر المال.
المادة الأدسم لفيديوهات الانفجارات "القفشية" هي صواريخ إيلون ماسك، التي تطلقها شركة سبايس إكس. ففي هذا العام، انفجر صاروخان يشكلان أساس خطة استعمار المريخ، وقبلها عشرات الصواريخ التي دفع ثمنها ماسك، وانفجرت وتحولت إلى فيديوهات مجمعة. لكن، ما مصير هذا الحطام؟ على الأقل، حطام الصاروخين الأخيرين؟ الإجابة: سقط فوق بعض الجزر الكاريبية، لكن من دون إصابات أو أضرار. سلطة رأس المال حين تتّحد مع العلم، تتحول نتائجها إلى نكات أو مفارقات. الفياغرا مثلًا، "اكتُشف" خطأً، وتركَنا أمام مفارقة مضحكة: تجربة دواء لعلاج الذبحة الصدرية انتهت باكتشاف منشط جنسي. وفي حالة الصواريخ، النتيجة هي فيديوهات مضحكة، سخر منها ماسك نفسه مرة.
الاختلاف أن حطام تشالنجر جُمِع من البحر خلال ثلاثة أشهر، وبعضه وُجد عام 2022. فالمركبة كانت من صناعة ناسا، وليس شركة خاصة، على عكس تيتانيك. لكن هذه المشاريع الضخمة كانت تُقدَّم بوصفها خدمة للإنسانية، تعود بالنفع على الجميع، سواء في اكتشاف الفضاء أو نقل أعداد كبيرة من
الركاب
. أما اليوم، فالمشاريع الكبرى وحطامها تخدم شركة واحدة، أو حلم شخص واحد فقط: استعمار المريخ، أو اكتشاف الفضاء. الحطام لم يعد مهمّاً، لأن الجهود لا تقوم على الحرص وحفظ الموارد، بل على إنفاقها بكثافة وإغراق الفضاء بالصواريخ، و
البحار
باليخوت الخاصة. كل هذا المال من أجل متعة شخص واحد، وحلم لا يعود علينا نحن -المتفرجين- بأي نفع، مثل حالة جيف بيزوس، الذي أرسل خطيبته إلى "الفضاء" على حسابه الشخصي، في خطوة أثارت كثيراً من الانتقادات والسخرية.
بالعودة إلى الحطام، يمكن القول إننا لسنا أمام تجارب علمية وصناعية عملاقة الآن، بل أمام مشاريع خاصة، فانتازمات للأثرياء، ورحلات سياحية ترويجية استهلاكية، أكثر منها ذات قيمة علمية أو إنسانية. أما الحطام، فإما يهبط مطراً على الغافلين، أو يتحول إلى فيديوهات ترفيهية. وكأن المشاريع العملاقة فقدت قدرتها على إثارة
الرهبة
فينا، وكأن السحر نُزع عنها، فلم يعد انفجار صاروخ حدثاً عالمياً مثيراً، بل مجرد حادث يومي لا قيمة له، بضع ساعات، ويختفي من دورة الأخبار، أما حطام المشاريع التي أسرت مخيلتنا، كتيتانيك، فتحول إلى نوع من الفيتيش، لاكتشافه وفهمه، مع أن سبب الحادث واضح، ويلخّص بجملة واحدة: "سفينة اصطدمت بجبل جليدي، فغرقت، ومات كثيرون ممن كانوا على متنها".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
٠٩-٠٥-٢٠٢٥
- العربي الجديد
سفينة تيتانيك والهوس بالحطام
كل حين وآخر، تعود سفينة تيتانيك إلى نشرات الأخبار، وتنتشر الحكايات عنها على الرغم من مرور أكثر من 100 عام على غرقها. آخر هذه الأخبار كانت صادمة، فعام 2023، غرقت الغواصة الاستكشافية/السياحية المصممة لزيارة حطام السفينة في قاع المحيط الأطلسي. واليوم، تعود إلى الواجهة مع أخبار عن مسح رقمي لكل أنحاء السفينة، يُمكّننا من مشاهدتها بصورة ثلاثية الأبعاد. المسح أُنجز كجزء من فيلم وثائقي بعنوان "تيتانيك: البعث الرقميّ" (Titanic: The Digital Resurrection). الاسم اللافت يعكس حالة العلوم الآن؛ إذ سبق أن أُعيدت كلاب عملاقة من الانقراض، وطُرحت فرضيات عن وجود مدينة تحت أهرامات الجيزة لا بد من "كشفها". كل هذا البحث في الحطام والآثار وإعادة "بعثها" يبدو نوعاً من الهوس، لا يقتصر على العلم، بل يرتبط بالثقافة الشعبية عبر وثائقيات ومقالات وبودكاستات، ليُحوَّل الحطام وآثاره إلى مادة للتسلية. الغريب، أنه في حالة تيتانيك كنا أمام تحدٍّ بشريّ لصناعة وسيلة نقل عملاقة لا تُهاب. لكنها غرقت وتحولت إلى أسطورة. الأمر نفسه حدث مع مكوك تشالنجر الذي انفجر عام 1986 بعد الإقلاع بدقيقة تقريباً. لكن اليوم، بعدما تبنّت الشركات الخاصة المعولمة الاكتشافات العلمية "العملاقة"، تحوّل الحطام إلى شكل من أشكال التسلية المبتذلة، أشبه بفيديوهات "القفشات"، التي تتجاهل الملايين المهدورة لبناء الصواريخ في سبيل الضحك وجمع المشاهدات على "يوتيوب". وكأن التجربة العلمية لم تعد على القدر المألوف من الحذر والجديّة، والسبب: توفر المال. المادة الأدسم لفيديوهات الانفجارات "القفشية" هي صواريخ إيلون ماسك، التي تطلقها شركة سبايس إكس. ففي هذا العام، انفجر صاروخان يشكلان أساس خطة استعمار المريخ، وقبلها عشرات الصواريخ التي دفع ثمنها ماسك، وانفجرت وتحولت إلى فيديوهات مجمعة. لكن، ما مصير هذا الحطام؟ على الأقل، حطام الصاروخين الأخيرين؟ الإجابة: سقط فوق بعض الجزر الكاريبية، لكن من دون إصابات أو أضرار. سلطة رأس المال حين تتّحد مع العلم، تتحول نتائجها إلى نكات أو مفارقات. الفياغرا مثلًا، "اكتُشف" خطأً، وتركَنا أمام مفارقة مضحكة: تجربة دواء لعلاج الذبحة الصدرية انتهت باكتشاف منشط جنسي. وفي حالة الصواريخ، النتيجة هي فيديوهات مضحكة، سخر منها ماسك نفسه مرة. الاختلاف أن حطام تشالنجر جُمِع من البحر خلال ثلاثة أشهر، وبعضه وُجد عام 2022. فالمركبة كانت من صناعة ناسا، وليس شركة خاصة، على عكس تيتانيك. لكن هذه المشاريع الضخمة كانت تُقدَّم بوصفها خدمة للإنسانية، تعود بالنفع على الجميع، سواء في اكتشاف الفضاء أو نقل أعداد كبيرة من الركاب . أما اليوم، فالمشاريع الكبرى وحطامها تخدم شركة واحدة، أو حلم شخص واحد فقط: استعمار المريخ، أو اكتشاف الفضاء. الحطام لم يعد مهمّاً، لأن الجهود لا تقوم على الحرص وحفظ الموارد، بل على إنفاقها بكثافة وإغراق الفضاء بالصواريخ، و البحار باليخوت الخاصة. كل هذا المال من أجل متعة شخص واحد، وحلم لا يعود علينا نحن -المتفرجين- بأي نفع، مثل حالة جيف بيزوس، الذي أرسل خطيبته إلى "الفضاء" على حسابه الشخصي، في خطوة أثارت كثيراً من الانتقادات والسخرية. بالعودة إلى الحطام، يمكن القول إننا لسنا أمام تجارب علمية وصناعية عملاقة الآن، بل أمام مشاريع خاصة، فانتازمات للأثرياء، ورحلات سياحية ترويجية استهلاكية، أكثر منها ذات قيمة علمية أو إنسانية. أما الحطام، فإما يهبط مطراً على الغافلين، أو يتحول إلى فيديوهات ترفيهية. وكأن المشاريع العملاقة فقدت قدرتها على إثارة الرهبة فينا، وكأن السحر نُزع عنها، فلم يعد انفجار صاروخ حدثاً عالمياً مثيراً، بل مجرد حادث يومي لا قيمة له، بضع ساعات، ويختفي من دورة الأخبار، أما حطام المشاريع التي أسرت مخيلتنا، كتيتانيك، فتحول إلى نوع من الفيتيش، لاكتشافه وفهمه، مع أن سبب الحادث واضح، ويلخّص بجملة واحدة: "سفينة اصطدمت بجبل جليدي، فغرقت، ومات كثيرون ممن كانوا على متنها".


BBC عربية
١٧-٠٤-٢٠٢٥
- BBC عربية
كتاب بلا كاتب: أول كتابٍ فلسفي بتوقيع الذكاء الاصطناعي
نظرية فلسفية جديدة، كتاب آسر، ومؤلّف مجهول. هكذا، بدأت رحلة الصحافيين حول العالم في البحث عن كاتب من هونغ كونغ، اسمع جيانوي شون، لم يسمع عنه أحد من قبل. ولكن، في الأول من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أصبح شون حديث الناس، بعد صدور كتاب بعنوان "الهيبنوقراطية: ترامب، ماسك وهندسة الواقع"، في إيطاليا. والمقصود بمصطلح "هيبنوقراطية" هو "حكم التنويم المغناطيسي". على الغلاف الخلفي للكتاب نجد تعريفاً مقتضباً بشون: "جيانوي شون هو فيلسوف ومنظّر في وسائل الإعلام، يعمل عند تقاطع النظرية النقدية والدراسات الرقمية وفلسفة العقل. يركّز عمله على تأثير التقنيات الرقمية على الوعي الجمعي وتشكّل الذات المعاصرة. الهيبنوقراطية هو أول كتاب له يُترجم إلى اللغة الإيطالية". وطيلة الأشهر الماضية، اهتمت الصحافة الفكرية في أوروبا بهذا الكتاب لراهنية الموضوع الذي يعالجه. "هلاوس" الذكاء الاصطناعي، ما أسبابها؟ وهل يمكن التغلب عليها؟ عندما تتحول الروبوتات إلى أسلحة فتاكة ويدّعي الكتاب نقد النظام العالمي الحالي الذي تتصدّره شخصيتان بارزتان هما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورجل الأعمال الملياردير إيلون ماسك. ويرد في التعريفات المنتشرة بالكتاب: "يبرز اليوم نظام لا يُمارَس فيه التحكم من خلال قمع الحقيقة، بل من خلال تكاثر السرديات إلى درجة يصبح فيها وجود أي نقطة ثابتة أمراً مستحيلاً". ولكن بعد محاولة عدد من الصحافيين البحث عن طريقة للتواصل مع شون من أجل إجراء مقابلة معه حول إصداره الجديد، اتضح، بشكلٍ صادم للجميع، أن شون في الحقيقة غير موجود. التلاعب بالوعي الجماعي" على مواقع قليلة، ترد سيرة ذاتية مقتضبة لشون: "محلّل وفيلسوف ولد في هونغ كونغ". ليس هناك أي معلومات إضافية، كما أن صوره القليلة تبيّن، بعد التدقيق، أنها مصنوعة بالذكاء الاصطناعي. وقد اكتشفت الصحافية الإيطالية سابينا ميناردي، بعد محاولات متكررة لإجراء مقابلة مع المؤلف المزعوم، أن الاسم لم يكن سوى اسماً مستعاراً لعمل خلقه وحرّره المفكّر الإيطالي أندريا كولاميديشي بالتعاون مع أداتين للذكاء الاصطناعي هما "تلون" التابعة لمشروع ثقافي أوسع خاص بأندريا وشريكته مورا، و"كلود" التابع لشركة "أنتروبيك" الأمريكية، في إطار مشروع فلسفي "يهدف إلى كشف تأثير الذكاء الاصطناعي في إنتاج خطاب متلائم ومقنع". والمفارقة التي ارتكز عليها العمل هي أن الكتاب الذي يتأمل في "أشكال جديدة من التلاعب"، لجأ إلى "خداع" الجمهور بشكلٍ ما. حيث أن أطروحة الكتاب تنطلق من أن الخطاب الذي ألقاه دونالد ترامب خلال حفل تنصيبه في الكابيتول لا يُمثل مجرد حدث سياسي أو انتصاراً لأيديولوجيا معيّنة، "بل يُجسّد بشكل حاسم بروز نظام جديد للواقع، حيث تمارس فيه السلطة تأثيرها من خلال التلاعب المباشر بحالات الوعي الجماعي. وتنكشف المنصّات الرقمية على حقيقتها: فهي ليست مجرد أدوات للتواصل، بل تقنيات تنويم مغناطيسي تعيد تشكيل الطريقة التي ندرك بها الواقع ونُفسّره". ويرد في الكتاب أيضاً أن "كل حدث، كل صورة، كل كلمة هي جزء من آلية لا تكتفي بتمثيل الواقع، بل تقوم باستبداله. فالمحاكاة لم تعد تُقلّد الواقع، بل تسبقه. إنها من تُشكّله [...] وهي لا تُقدّم نفسها كنظام سردي واحد، بل ككون من الاحتمالات". انتهاكٌ للقانون؟ ويُعدّ قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي الذي اعتمدته مؤسسات الاتحاد الأوروبي في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2023 وأقرّه البرلمان الأوروبي في 13 مارس/ آذار 2024، أن عدم وسم النصوص أو الفيديوهات أو المقاطع الصوتية المُنتجة بواسطة الذكاء الاصطناعي يُشكّل انتهاكاً جسيماً ــ وهو ما لم يقم به عمل كولاميديشي المنشور في أي موضع. وليس واضحاً بعد إذا كان كولاميديشي سوف يخضع لأي محاسبة بموجب هذا القانون. وبعد الكشف عن الهوية الحقيقية لـ"مؤلف" الكتاب، أضيفت على الموقع الالكتروني الخاص بالعمل الفقرة الآتية: "بعدما عرف الناس أن شون ليس شخصاً حقيقياً بل نتيجة تعاون بين إنسان وذكاء اصطناعي، لم ينتهِ المشروع، بل دخل في مرحلة جديدة. هذه المرحلة تُظهر أن شون هو مثال على طريقة تفكير جديدة، لا تأتي فقط من عقل بشري واحد، بل من تعاون بين البشر والآلات. شون أصبح اليوم وسيلة لاختبار أفكار وأساليب جديدة في الفلسفة، ويساعدنا على فهم كيف يمكن أن نُنتج أفكاراً مختلفة عندما نعمل معاً ــ بشراً وآلات ــ بدلاً من الاعتماد فقط على كاتب واحد أو عقل فردي". تجربة "أدائية" للنظرية في مقابلة مع مجلّة "لو غران كونتينان" الفرنسية نُشرت في 4 أبريل/ نيسان الماضي بعنوان "من هو جيانوي شون حقاً؟". نقرأ عن المؤلف قوله: "نحن نعيش اليوم في زمن لم يعد فيه من يمسك بالسلطة بحاجة إلى العنف أو إلى الإقناع بالعقل والمنطق؛ كل ما عليه فعله هو التأثير على وعي الناس ومشاعرهم الجماعية. يتم توجيه انتباهنا مثل موجة، وتُزرع فينا مشاعر معينة وتُحرَّك كما يريد من يتحكم بالمشهد. هكذا، تتكرر الرسائل والإيحاءات باستمرار، حتى تختفي الحقيقة وسط أحلام كثيرة موجَّهة". ويرى شون في الحوار الذي جرى على الأرجح عن بعد وتعاون فيه المفكّر الإيطالي أندريا كولاميديشي مع الذكاء الاصطناعي: "لم يعد هناك قصة واحدة نفهم من خلالها العالم. نحن ــ وأنتم ــ في عالم متشظٍّ، تتنافس فيه آلاف القصص لتكون كل واحدة منها الحقيقة الوحيدة، ولو لفترة قصيرة. لكن هذه القصص لا تتحاور أو تتكامل، بل تتصارع. تتداخل وتنعكس على بعضها البعض، حتى نجد أنفسنا في متاهة من المرايا، لا نعود نعرف فيها الفرق بين الحقيقة والوهم". ويرى شون أن انكشاف طبيعته المصطنعة "لا يُضعف صلاحية مفهوم الهيبنوقراطية، بل على العكس، يعزّزها. فهو يُضفي على المفهوم بُعداً أدائيّاً يتجاوز الجدل النظري البحت". ويوضح أنه "من أجل فهم الآليات التي تحكم الهيبنوقراطية فهماً حقيقياً، كان لا بد من اختبارها من الداخل، وليس فقط الاكتفاء بوصفها من الخارج. لم يكن الهدف مجرد التنظير حول كيفية بناء السرديات أو كتابة كتيّب آخر عن التلاعب بالإدراك ــ فثمة كتب أفضل قامت بذلك ــ بل كان الهدف أن نُفعّل هذه الآليات، أن نبتكر أداة تُمكّننا من مراقبة كيفية تشكّل السرديات وانتشارها واكتسابها للشرعية، لحظةً بلحظة". مشروع شون، كما يقول، هو تجسيد لفكرة "النظرية المتجسّدة" إنه لا يتحدّث عن الهيبنوقراطية فحسب، بل يُجسّدها، يجعلها مرئيّة من خلال ظهوره نفسه. إن الفرضية لا تُبرهن فقط بالكلمات، بل من خلال تمثيلها الذاتي وانكشافها كجزء من التجربة. ويؤكد أن "مشروع شون، في جوهره، ليس غير مبالٍ بالحقيقة. بل على العكس، فهو مهتم بعمق بالآليات التي تُبنى بها الحقيقة، وتُمنح الشرعية، وتُحرَّف داخل النظام المعرفي المعاصر. لا يتعلق الأمر بتمويه أو خداع بحد ذاته، بل بأداة منهجية تُتيح لنا مراقبة وفهم عمليات كانت لتظل غير مرئية لولا ذلك". ويرى أن "الأطروحات المتعلقة بالهيبنوقراطية تحتفظ بوجاهتها التحليلية وقوتها التفسيرية، بغضّ النظر عن طبيعتي". "ما بعد الحقيقة" يمكن إدراج هذا الكتاب إلى حقل دراسات نظرية "ما بعد الحقيقة" التي تنامى الحديث عنها في السنوات العشر الأخيرة، لا سيما مع صعود الحركات اليمينية في أوروبا وأمريكا. ونظرية "ما بعد الحقيقة" ترصد باختصار الميل المتزايد في عالم اليوم إلى تجاوز الوقائع لمصلحة الحدس والإيمان والأفكار المسبقة، وذلك بعد "خيبة الجماهير من النخب الليبرالية التقليدية". وعادةً ما يعتبر ترامب ومؤيديه مثالاً مكثفاً لهذه الثقافة، ويبدو أن انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي وتطور مهاراتها بشكل سريع وفي وقت قياسي، يعطي نظرية "ما بعد الحقيقة" أبعاداً أخرى. وفي هذا السياق، يقول شون إن "الكتاب هو ناتج مباشر للنظام المعقّد من التفاعلات بين البشري وغير البشري، وهو بالضبط ما نسعى إلى تحليله". ويضيف "لقد بدأت الخريطة تتداخل مع الأرض، بل تكاد تندمج بها: يصعب اليوم أن نميّز أين تنتهي الخريطة وأين تبدأ الحقيقة. وهذا التداخل نفسه جزء أساسي من القيمة المعرفية لهذه الأفكار". ويحيل هذا الكلام على نظرية الفيلسوف الفرنسي جان بودريار عن "الواقع الفائق" التي ترصد "اللحظة التي تصبح فيها المحاكاة غير قابلة للتمييز عن الواقع ــ بل، أحياناً، أكثر واقعية منه". في كتابه "التمثلات والمحاكاة" (1981)، رأى بودريار "أننا نعيش اليوم في فضاء تسبق فيه المحاكاة الواقع، وتُحيل فيه العلامات إلى علامات أخرى، وينفصل فيه المعنى عن أي مرجعية ثابتة". وبهذا المعنى، يمكن اعتبار "الهيبنوقراطية" التي يصفها شون وتطبّقها تجربة الكتاب، تجسيداً معاصراً لفكرة بودريار: نظام إدراكي تصبح فيه السرديات والمنصات والخوارزميات ليست مجرد انعكاساً للعالم، بل استبدالاً له. ماذا يعني التفكير والكتابة بعد اليوم؟ تثير هذه التجربة العديد من التساؤلات الفكرية والأخلاقية ولا تخلو من مخاوف حول مستقبل الإنتاج الفكري والمعرفي بصورةٍ عامة وحول معنى الملكية الفكرية بعد اليوم. وفي تعليقٍ له على الجدل الذي أثاره صدور الكتاب، كتب مدير مجلة "ليسبريسو" الإيطالية، إيميليو كاريلي: "في هذه المرحلة، يطرح سؤال إلزامي نفسه: إذا كانت أطروحات هذا الكتاب صحيحة، أو على الأقل قد أثارت نقاشاً ثقافياً حاداً، شارك فيه مثقفون وفلاسفة، من بينهم أكاديميون من مدرسة للدراسات العليا للدراسات التجارية باريس المرموق في باريس الذين استشهدوا به في مقالاتهم العلمية، فهل يهم حقاً إن كان قد كُتب بواسطة الذكاء الاصطناعي؟ أو، كما هو الحال هنا، بالتعاون مع الذكاء الاصطناعي؟ هل يمكن أن يمهّد هذا النموذج الطريق لطريقة جديدة في ممارسة الفلسفة؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن تجربة الهيبنوقراطية الناجحة تعلّمنا شيئاً مهماً: يمكننا أن نقيم علاقة فاعلة مع الذكاء الاصطناعي، وقبل كل شيء، يمكننا استخدامه لنتعلم كيف نفكّر". من جهتها، أشارت الباحثة في معهد الدراسات الأوروبية وحقوق الإنسان سيسيليا دانيسي، إلى الكتاب بوصفه "ديكتاتورية رقمية". في جميع الأحوال، من المؤكد أننا أصبحنا في مرحلة نواجه فيها جميعاً بالفعل صعوبة كبيرة في التمييز بين المحتوى الذي يصنعه البشر وذلك الذي تنتجه الآلات. ويقول شون في المقابلة المذكورة سابقاً إنه "يُجبرنا على إعادة التفكير ليس فقط في معنى الكاتب، ولكن أيضاً في كيفية تطور مفهوم الكاتب ذاته في عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي والأنظمة الاجتماعية - التكنولوجية المعقّدة". ويضيف "نحن معتادون على تصور الكاتب كفرد يقوم، من خلال أصالته ونيّته، بإنتاج أعمال تحمل بصمة شخصيته. هذه الرؤية ــ التي كان رولان بارت قد اعترض عليها في الستينيات ــ هي اليوم موضع تساؤل جذري نتيجة لظهور أشكال من الذكاء والإبداع الموزع، حيث يتداخل البشري وغير البشري بطريقة لا يمكن فصلها". ويشير شون هنا إلى نظرية المفكر وعالم السيميائيات الفرنسي رولان بارت عن "موت المؤلف" التي دعت إلى تحرير المعنى من سلطة المؤلف وسيرته الذاتية، ومنح القارئ دوراً مركزياً في إنتاج دلالة النصّ، ما مهّد لتحوّل جذري في مفهوم التأليف. فهل نشهد اليوم نهاية المؤلف مثلما نعرفه؟ هل تحوّل المؤلف من إنسان يستعين بأدوات تقنية، إلى مستوى آخر أكثر جذرية من التفاعل بين الإنسان والآلة؟ يقول شون إن هذه التجربة تشير إلى أننا "ننتقل أيضاً إلى أشكال من التأليف المُوزَّع، حيث لم يعد النص نتيجة عقل واحد، بل ثمرة نظام إدراكي معقّد. نحن لا نتحدث فقط عن التعاون بين أفراد ــ وهو نموذج معروف منذ زمن ــ بل عن تطوّر مشترك بين أشكال مختلفة من الذكاء تنتج الفكر من خلال تفاعلها".


BBC عربية
٠٥-٠٤-٢٠٢٥
- BBC عربية
فرصة اصطدام كويكب كبير بالقمر ترتفع، فهل تتأثر الأرض؟
صرحت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) أن احتمال اصطدام كويكب كبير بالأرض، والذي كان يُعتبر في السابق غير مرجح تماماً، أصبح الآن أعلى قليلاً مما كان يُعتقد في السابق. عند اكتشافه لأول مرة، كان احتمال اصطدام الكويكب 2024 YR4 بالأرض عام 2032 ضئيلاً جداً، لكن وكالة الفضاء الأمريكية خفضت هذه النسبة إلى 0.004 بالمئة. وأفادت ناسا الآن بأن احتمالية اصطدامه بالقمر في 22 ديسمبر/كانون الأول 2032 قد تضاعفت من 1.7 بالمئة إلى 3.8 بالمئة. واستندت في إعادة الحساب إلى معلومات من التلسكوبات، بما في ذلك تلسكوب جيمس ويب الفضائي. وقالت ناسا في بيان: "لا يزال هناك احتمال بنسبة 96.2 بالمئة ألا يصطدم الكويكب بالقمر"، مشيرةً إلى أنه حتى لو اصطدم، فلن يُغير ذلك مدار القمر. ساعدت أرصاد ويب بالأشعة تحت الحمراء أيضاً في تضييق تقدير حجم الكويكب ليتراوح بين 53 و67 متراً، أي ما يعادل تقريباً حجم مبنى مكوّن من عشرة طوابق. ومنذ رصد الكويكب YR4 لأول مرة عبر تلسكوب في صحراء تشيلي في ديسمبر/كانون الأول، مرت عشرات الأجسام الأخرى على بُعد أقرب من الأرض من القمر. من المرجح أن أجساماً أخرى، وإن كانت أصغر بكثير، قد اصطدمت بنا أو احترقت في الغلاف الجوي، لكنها لم تُلاحظ. سطح القمر مليء بالفوهات التي اصطدمت بها الكويكبات والمذنبات في الماضي. قد يوفر اصطدام قمري جديد، وإن كان مستبعداً للغاية، فرصة نادرة لرصد اصطدام حقيقي ودراسة كيفية استجابة القمر. صرح البروفيسور مارك بورشيل، أستاذ علوم الفضاء بجامعة كينت، لمجلة (نيو ساينتست) المتخصصة بالعلوم والتكنولوجيا، بأن اصطداماً بالقمر سيكون "تجربة رائعة وفرصة مثالية". وأضاف: "ستتمكن التلسكوبات بالتأكيد من رصده، وربما تتمكن المناظير من رصده". سيرصد ويب الكويكب مرة أخرى الشهر المقبل لمزيد من التحليل.