logo
إسرائيل واغتيال الشهود: حين تُستهدف الكلمة قبل الروح

إسرائيل واغتيال الشهود: حين تُستهدف الكلمة قبل الروح

الجزيرةمنذ 14 ساعات
في الحروب، تبقى الحقيقة أول ضحية، لكن في فلسطين، الاحتلال لا ينتظر أن تسقط الحقيقة صدفة، بل يتعمد اغتيالها مع أصحابها!
إسرائيل، التي راكمت تاريخاً طويلاً من القمع والبطش، تدرك أن المعركة لم تعد تُحسم بالسلاح وحده، بل بالسيطرة على الرواية، ولهذا جعلت من الصحفيين هدفاً عسكرياً مشروعاً في نظرها، في محاولة لإسكات الشهود قبل أن ينطقوا، وكتم الكاميرا قبل أن تلتقط المشهد.
اغتيال الصحفيين ليس حدثاً طارئاً في سجل الاحتلال، بل سياسة ممنهجة وممتدة، تهدف إلى شطب العين التي ترى والأذن التي تسمع والقلم الذي يوثق.. ومن بين أحدث الشواهد على هذه السياسة الجبانة، جريمة اغتيال أنس الشريف ومحمد قريقع، مراسلي شبكة الجزيرة في غزة، اللذين شكّلا خلال السنوات الماضية أيقونتين في ميدان الصحافة الميدانية، ونبراسين ينيران الطريق أمام العالم لفهم حجم المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال والحصار.
أنس الشريف، الذي عُرف بثباته تحت القصف، لم يكن مجرد مراسل ينقل الخبر من مسافة آمنة، بل كان جزءاً من الحدث، يقف وسط الركام، يرافق المسعفين، ويوثق اللحظة كما هي، دون تزييف أو تلطيف.. كان صوته هادئاً لكنه يحمل في نبراته قوة الحقيقة، وصورته دائماً مشبعة بالغبار والدموع وملامح الأطفال الذين فقدوا بيوتهم وأحبتهم. أما محمد قريقع، فكان شريكاً في حمل هذا العبء، بعدسته الحادة التي اخترقت جدران الأكاذيب، وقدرته على تجميد اللحظة حتى تبقى شاهداً على الزمن، فلا تضيع في ضجيج الأخبار.
حين أقدمت إسرائيل على اغتيالهما، لم تكن تستهدف شخصيهما فقط، بل كانت تسعى إلى اغتيال الدور الذي قاما به؛ دور الصحفي الذي يتحدى الموت لينقل الحقيقة، ودور الشاهد الذي يقف في وجه الرواية الرسمية للاحتلال. هذه الجريمة ليست منفصلة عن سجل طويل من الاعتداءات على الصحفيين الفلسطينيين والأجانب، من اغتيال شيرين أبو عاقلة برصاص قناص إسرائيلي في جنين، إلى استهداف مقار إعلامية كاملة في غزة، مثل برج الجلاء الذي ضم مكاتب وكالة أسوشيتد برس والجزيرة، في محاولة لطمس أي تغطية مستقلة للجرائم.
سياسة اغتيال الصحفيين ليست مجرد قرارات ميدانية اتخذها جنود على الأرض، بل هي انعكاس لعقلية احتلال يدرك أن الكلمة الصادقة أخطر عليه من الرصاص، وأن الصورة التي تخرج من تحت الركام قد تهدم أسوار دعايته التي بناها على مدى عقود. إسرائيل، التي تمتلك ماكينة إعلامية ضخمة مدعومة من حلفائها، تسعى بكل قوتها لتكون روايتها هي الوحيدة المسموعة عالميًّا، ولهذا تعمل على محو أي صوت أو صورة تناقض تلك الرواية.
إن استهداف أنس ومحمد هو رسالة رعب موجهة لكل صحفي ما زال يحمل الكاميرا أو الميكروفون في غزة والضفة، تقول له: "حياتك هي الثمن إذا واصلت كشف الحقيقة". لكنها أيضاً -وللمفارقة- شهادة مجانية على فشل الاحتلال في معركته ضد الحقيقة، لأن دماء هؤلاء الشهداء تحولت إلى وقود يزيد من قوة الرواية الفلسطينية، ويكشف أمام العالم حجم الإجرام الممنهج.
في السياق الإنساني، خسارة أنس ومحمد هي فقدان لعينين كانتا ترصدان الألم لحظة بلحظة، ولقلبين كانا ينبضان على إيقاع المأساة اليومية في غزة. لم يكونا يكتفيان بنقل الخبر، بل كانا يعيشان تفاصيله، يواسيان الضحايا، ويقدمان الدعم للناجين، حتى وهم تحت القصف. كانت الكاميرا بالنسبة لهما ليست أداة مهنية فحسب، بل أمانة ومسؤولية ورسالة.
اغتيالهما في هذه اللحظة بالذات يشي بنوايا الاحتلال لإخفاء ما هو قادم؛ فعادة ما يسبق قتل الصحفيين تنفيذ مجازر أكبر في الخفاء، حيث يُراد للدماء أن تُسفك بعيداً عن عدسات العالم، وأن تُمحى آثار الجريمة قبل أن توثق.. إنها سياسة "التعتيم المسبق" التي تجيدها إسرائيل، وتنفذها بلا أي خشية من المساءلة الدولية، مستندة إلى صمت دولي مريب، وتواطؤ من أنظمة ترى الحقيقة عبئاً ثقيلاً.
ستبقى الكلمة عصية على الاغتيال، وستظل العدسة أصدق من الرصاصة. ورغم الألم، فإن إرث أنس الشريف ومحمد قريقع سيبقى حاضراً، يلهم الصحفيين في غزة وخارجها
لكن ما لا تدركه إسرائيل أن الحقيقة لا تُقتل باغتيال حامليها، بل تتجذر أكثر، وتجد ألف طريق لتخرج للنور. فاليوم، صار أنس ومحمد رمزين لجيل كامل من الصحفيين الفلسطينيين الذين يواجهون الموت يومياً، من أجل أن تبقى فلسطين حاضرة في ضمير العالم. دماؤهما ستظل توقظ الذاكرة كلما حاولت الأكاذيب أن تهيمن، والعدسة التي صمتت ستواصل الكلام من خلال كل زميل ورفيق يواصل الطريق.
إن معركة الصحفيين في فلسطين هي معركة وجود، ليست مهنية فحسب، بل أخلاقية وإنسانية؛ فهم لا يدافعون فقط عن حرية الصحافة، بل عن حق شعب بأكمله في أن يروي قصته، وعن حق العالم في أن يعرف الحقيقة كما هي، لا كما يريد المحتل أن يرويها.. اغتيال أنس ومحمد هو تذكير مؤلم أن الاحتلال لا يخشى السلاح بقدر ما يخشى الحقيقة، وأن الصورة قد تكون أقوى من أي طلقة.
في النهاية، ستبقى الكلمة عصية على الاغتيال، وستظل العدسة أصدق من الرصاصة. ورغم الألم، فإن إرث أنس الشريف ومحمد قريقع سيبقى حاضراً، يلهم الصحفيين في غزة وخارجها، ويؤكد أن الحقيقة، مهما حوصرت بالرصاص والجدران، لا بد أن تجد طريقها إلى ضمير العالم.
دماؤهما ليست خاتمة القصة، بل بداية فصل جديد في معركة الرواية، فصل يكتب بالدم، لكن يقرؤه كل من ما زال يؤمن أن الحقيقة تستحق أن يدافَع عنها حتى آخر نفس.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

اغتيال صحفيي الجزيرة.. هل تنجح إسرائيل في إسكات الحقيقة؟
اغتيال صحفيي الجزيرة.. هل تنجح إسرائيل في إسكات الحقيقة؟

الجزيرة

timeمنذ 2 دقائق

  • الجزيرة

اغتيال صحفيي الجزيرة.. هل تنجح إسرائيل في إسكات الحقيقة؟

لم يكن استهداف مراسلي الجزيرة أنس الشريف و محمد قريقع وزملائهما مجرد امتداد لسلسلة طويلة من الانتهاكات بحق الصحفيين، بل خطوة محسوبة في إطار إستراتيجية أوسع -حسب محللين- تهدف إلى إسكات الكاميرات التي وثّقت المأساة في قطاع غزة ، وتهيئة المشهد لمجازر بلا شهود. ويأتي الاغتيال الذي استهدف خيمة إعلامية أمام مستشفى الشفاء الطبي في سياق أرقام صادمة كشفها مدير مكتب الجزيرة في غزة وائل الدحدوح، إذ بلغ عدد الصحفيين الذين قُتلوا منذ بدء الحرب 238، وهو رقم غير مسبوق حتى في الحروب العالمية التي امتدت لسنوات. ولم يكن هذا الرقم، حسب حديث الدحدوح لبرنامج "مسار الأحداث"، حصيلة قصف عشوائي، بل يعكس سياسة ممنهجة لإبادة الصوت الصحفي الفلسطيني، بما يحمله من قدرة على فضح جرائم الاحتلال وكسر الحصار الإعلامي المفروض على القطاع. غير أن صدى هذه الجرائم في الساحة الدولية، كما يصفه الدحدوح، ما زال أدنى بكثير من مستوى الحدث. فبينما شهد العالم تضامنا واسعا في قضايا أقل حجما من " شارلي إيبدو" في باريس إلى استهداف صحفيين في أوكرانيا ، اكتفى جزء كبير من المؤسسات الإعلامية والاتحادات الدولية ببيانات وتصريحات خجولة، في حين التزم كثيرون الصمت أو مالوا إلى تبني رواية الاحتلال. هذا الصمت، كما يضيف الدحدوح، كان أشد وطأة على الصحفيين في قطاع غزة من وقع القصف نفسه، لأنه يبدد إحساسهم بأنهم جزء من جسد مهني واحد عابر للحدود. أما على الساحة الأوروبية، فيرى الأمين العام لاتحاد الصحفيين الأوروبيين ريكاردو غوتيريش أن ما جرى ليس مجرد استهداف لمراسلين، بل "عملية اغتيال" اتخذ قرارها على أعلى المستويات السياسية والعسكرية في إسرائيل. ويؤكد أن غالبية الصحفيين الأوروبيين لا يصدقون مزاعم الاحتلال حول صلة الضحايا بحركة حماس ، لكن بعض وسائل الإعلام الغربية لا تزال تكرر هذه الدعاية عن وعي أو جهل، مما يستدعي مواجهة قانونية وسياسية. غوتيريش أشار إلى أن هناك تحولا ملموسا في المزاج الشعبي الأوروبي، حيث باتت الأعلام الفلسطينية مشهدا مألوفا في المظاهرات والمهرجانات، وازدادت الضغوط على الحكومات لاتخاذ إجراءات ملموسة مثل وقف صادرات السلاح وتعليق الاتفاقيات التجارية مع تل أبيب. لكنه شدد على أن الإدانة اللفظية لم تعد كافية، وأن اللحظة تستدعي خطوات عملية توقف الإفلات من العقاب وتضع حدودا لسياسة القتل الممنهج ضد الصحفيين والمدنيين في غزة و الضفة الغربية. هذا القلق من التحول الدولي ينعكس مباشرة في الحسابات الإسرائيلية، كما يوضح الخبير في الشؤون الإسرائيلية الدكتور مهند مصطفى، الذي يرى أن الإعلام العالمي بدأ يتبنى "الحقائق على الأرض" بدلا من الرواية الرسمية لتل أبيب. أزمة غير مسبوقة ويضيف أن إسرائيل تواجه اليوم أزمة غير مسبوقة في صورتها الخارجية، إذ بدت أدوات دعايتها باهتة وعاجزة أمام الشاشات الدولية، في وقت يتحدث فيه أنصار القضية الفلسطينية، من فلسطينيين وأجانب، بلسان قوي يوظف خطاب العدالة والإنسانية ويكسب تعاطف النخب والطلاب والمجتمع المدني في الغرب. ويربط مصطفى هذا التراجع في النفوذ الدعائي بمحاولة الاحتلال إسكات الصحفيين الميدانيين الذين يشكلون مصدرا مباشرا للمعلومات والصور التي تتحدى السردية الإسرائيلية. ومن هذا المنظور، فإن اغتيال كوادر مهنية ومرموقة مثل أنس الشريف هو استثمار في "الفراغ الإعلامي" الذي تحتاجه إسرائيل لتنفيذ سياساتها على الأرض دون رصد فوري من كاميرات مستقلة. ويتجاوز المشهد حدود القتل الفردي إلى إستراتيجية متكاملة تقوم على إفراغ الميدان من الشهود، وفتح الطريق أمام عمليات عسكرية قد تشمل اجتياحات أو توسعا في سياسات التهجير و التجويع ، بعيدا عن أعين العالم. لكن، ورغم فداحة الثمن، يؤكد الدحدوح أن روح الفداء لدى الجيل الجديد من الصحفيين الفلسطينيين ما زالت متقدة، وأن الإرادة التي دفعتهم إلى العمل تحت القصف والحصار لن تُطفأ بسهولة حتى لو دفعوا حياتهم ثمنا لنقل الحقيقة. هذا النمط من التصعيد الإعلامي الميداني يتقاطع -وفق محللين- مع ما ترسمه إسرائيل لمرحلة "اليوم التالي" للحرب، فإسكات الشهود المستقلين يتيح لها إعادة صياغة المشهد وفق روايتها، وتبرير أي ترتيبات سياسية أو أمنية جديدة في غزة، سواء تمثلت في مناطق عازلة أو فرض وقائع ديمغرافية جديدة.

حزب الله يواجه ثلاثة خيارات صعبة
حزب الله يواجه ثلاثة خيارات صعبة

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

حزب الله يواجه ثلاثة خيارات صعبة

في المقالة السابقة "تفاصيل لعبة واشنطن وإسرائيل مع حزب الله" ، كان المتوقع أن تذهب الحكومة اللبنانية في اجتماعاتها المخصصة لمناقشة الورقة الأميركية المتعلقة بنزع سلاح حزب الله لأحد خيارين؛ إما نزع سلاح الحزب بالقوة، أو اللجوء إلى الحوار لخلق توافق داخلي بشأن سلاح الحزب تحت عنوان: (الإستراتيجية الدفاعية)، بعيدا عن سيف الوقت الذي وضعه المبعوث الأميركي توماس باراك، وتجنبا لسيناريو الحرب الأهلية، أو الاقتتال الداخلي. طريق باتجاه واحد أما إن الحكومة قد أخذت قرارها في جلستيها المتتابعتين في الخامس والسابع من هذا الشهر، بنزع سلاح حزب الله، وتكليف الجيش اللبناني لإعداد خطة تنفيذية لاعتمادها في موعد أقصاه نهاية الشهر الجاري، ولتنفيذها في موعد أقصاه نهاية العام، فهذا يعني أن لبنان بات يسير في طريق باتجاه واحد، وبخطى حثيثة تحت الضغط ومتابعة المبعوث الأميركي توماس باراك شخصيا. النقاش بين الفرقاء في لبنان، بشأن هذا الموضوع، قد يأخذ طريقه في مسارات؛ منها ما هو دستوري وميثاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية، ومنها ما هو سياسي متعلق بمضمون البيان الوزاري الأول أمام البرلمان والذي يُشكل عادة إطارا مرجعيا لعمل الحكومة في لبنان. ومنها ما هو متعلق بميثاقية القرارات لناحية حصول التوافق بين الوزراء ممثلي الطوائف داخل الحكومة، لا سيما في ظل انسحاب الوزراء الشيعة من جلسة اتخاذ قرار نزع سلاح حزب الله. القضية في لبنان ليست بالضرورة تُبنى فقط على قانونية أو دستورية هذا القرار أو ذاك، في ظل تركيبة البلد القائمة على توافق المرجعيات الدينية والسياسية والمحاصصة الطائفية كمدخل ومخرج لحل الإشكالات الكبرى والحساسة. فالاستقواء بالقانون أو الرجوع إليه وحده لا يكفي في مواجهة العَصبية الطائفية والاصطفاف السياسي الذي يُنذر بانفلات الوضع الداخلي من عباءة القانون، فيصبح القانون ضحية الخلاف العميق في جسد لبنان أفقيا وعموديا. من السهل أن يختلف أهل السياسة والقانون في تفسير النصوص الدستورية ومقاصدها التشريعية، فهذا باع طويل برع فيه أهل لبنان المشبعون بالسياسة والعارفون بمتاهاتها طوال عقود من التدافع الداخلي في إقليم مضطرب. العبرة هي كيف يمكن أن يُحل الإشكال بعيدا عن الضغط الأميركي والتهديد الإسرائيلي، وبتغليب مصلحة لبنان عبر التوافق والسلم الأهلي، لأن البديل هو نار الصدام الداخلي الذي ربما تنتظره واشنطن وتعمل عليه تل أبيب المتربصة بلبنان. التجربة الماثلة في العراق، وسوريا، ولبنان، وفلسطين تشير إلى أن الولايات المتحدة الأميركية تريد تركيب المنطقة وفق معايير تخدم مصالحها ومصالح إسرائيل، مهما تجملت الكلمات وتنمقت الوثائق بالديباجات أو بمرجعيات القانون الدولي الذي أصبح شماعة، يستخدم حيثما مالت المصلحة لإسرائيل، ويترك مهملا إذا تعارض معها. فوهة البندقية بعد سويعات من اتخاذ الحكومة اللبنانية قرارها بنزع سلاح حزب الله، بدأ الشارع اللبناني يسخن عبر مسيرات لأنصار حزب الله وحركة أمل وأنصار المقاومة في بيروت، وصيدا، وصور، والبقاع، مقابل أصوات أخرى بدأت تهدد الشارع بالشارع والمظاهرة بالمظاهرة. أكبر إشكال يواجه الفرقاء في لبنان أنهم باتوا يتحركون تحت سيف الوقت الذي وضعه المبعوث الأميركي لنزع سلاح حزب الله في موعد أقصاه نهاية العام. هذا يعني أن مساحة الحوار والنقاش السياسي بدأت تتراجع لصالح الخشونة السياسية، وسخونة الشارع الذي قد يتطور إلى اضطرابات أمنية. ما يزيد المشهد تعقيدا أن إسرائيل تواصل قصفها لبنان تصاعديا لتسريع آلية نزع سلاح حزب الله، والضغط على الحزب ليخضع لشروط الورقة الأميركية. في هذا الجو المشحون، يقف حزب الله أمام عدة خيارات للتعامل مع قرار الحكومة اللبنانية، ومنها: الخيار الأول: تنفيذ القرار بنزع السلاح، وانتهاء الحزب كحركة مقاومة، وتركه استحقاق انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية المحتلة، وإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين، وترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، للحكومة اللبنانية لتعالجها وفق المسارات الدبلوماسية. الخيار الثاني: رفض الحزب تسليم سلاحه، ما قد يؤدي إلى اقتتال داخلي إذا أصرت الحكومة على تنفيذ قرارها بالقوة، وربما يؤدي ذلك إلى انشقاقات واسعة في صفوف الجيش والأجهزة الأمنية، بحكم تركيبتها الطائفية. الخيار الثالث: لجوء حزب الله إلى تفعيل المقاومة المسلحة ضد الجيش الإسرائيلي في المناطق الخمس التي يحتلها في جنوب لبنان، ما سيؤدي إلى توسع دائرة الاشتباك وربما الحرب. التصعيد ضد الاحتلال خيار مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب، في الظروف التي يمر بها الحزب ولبنان بعد معركة إسناد غزة، ليس بالأمر السهل، ويحمل مزايا وتبعات متعددة على النحو التالي: أولا: تبعات سلبية لبنان يعاني من ضائقة اقتصادية كبيرة، وتراجع في مستوى الخدمات العامة، ونزوح داخلي لسكان جنوب الليطاني، والضاحية الجنوبية لبيروت، وأي تجدد للحرب سيزيد العبء على الشعب والدولة اللبنانية. يواجه لبنان تهديدا مباشرا من المبعوث الأميركي توماس باراك؛ بالحصار، ومنع إعادة الإعمار، وإطلاق يد إسرائيل الثقيلة لتفعل ما يناسب أمنها في لبنان، إن لم يتم نزع سلاح حزب الله في موعد أقصاه نهاية العام. تفعيل المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي قد يُفضي إلى حرب واسعة وتدخلات خارجية تجعل من الواقع اللبناني والمشهد الإقليمي أكثر تعقيدا. ثانيا: زاوية نظر أخرى من ناحية حزب الله وجمهور المقاومة، قد يبدو خيار التصعيد ضد الاحتلال، مع خطورته له مزايا إيجابية مهمة، في ظل إنهاك جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، ومعاناته بشريا ومعنويا؛ بسبب طول مدة القتال وأزمة تجنيد الاحتياط، ومن هذه المزايا المتوقعة: استعادة معادلة الردع مع إسرائيل التي لا تحترم اتفاقاتها ولا تفهم إلا لغة القوة، والشاهد على ذلك عدم التزامها باتفاق وقف إطلاق النار الموقع مع لبنان في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، واستمرارها بالقصف بشكل شبه يومي الأراضي اللبنانية، رغم التزام الحزب من طرف واحد بموجبات الاتفاق. تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة؛ فحزب الله يتوقع أن إسرائيل لن تنسحب من الجنوب إن سلم سلاحه، والبناء على الوعود الأميركية مجرد وهم وسراب، في ظل تماهي واشنطن مع حكومة إسرائيلية متطرفة لاهوتية تنظر لتوسيع حدود كيانها جغرافيا وفق منطق الأرض الموعودة. منع سيناريو التطبيع مع إسرائيل في ظل الضغط الأميركي، فالقبول بالشروط الأميركية الخاصة بنزع سلاح حزب الله في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية، لا يُستبعد أن يُفضي لشرط الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها لاحقا. عين العاصفة نزع سلاح حزب الله يتصل بأهداف إسرائيل الساعية لإعادة رسم الشرق الأوسط من جديد، وإخضاعه لهيمنتها بدعم من الولايات المتحدة الأميركية، وهذا ما تحدث عنه تكرارا رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في أكثر من مناسبة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. إسرائيل ما زالت تتطلع للقضاء على حركة حماس، وحزب الله وتغيير سلوك إيران إن لم يكن تغيير النظام فيها، وتكييف الواقع السياسي والأمني في سوريا الجديدة، بما يتناسب مع أمنها المبني في إحدى زواياه على التوسع الجغرافي. حزب الله يدرك ذلك، ويعلم أن نزع سلاحه سيكون له تداعيات محلية وإقليمية وخاصة على إيران الداعم التاريخي له، والتي تترقب بدورها أو تتوقع هجوما إسرائيليا ثانيا لإضعافها، كأحد مقتضيات إعادة رسم الشرق الأوسط من منظور أميركي إسرائيلي. في هذا السياق جاء تصريح وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، الذي أكد فيه على دعم إيران لقرار حزب الله بشأن سلاحه، إدراكا منه أن خسارة إيران للبنان بعد سوريا، ستؤدي إلى هشاشة الموقف الإيراني، وتعريض أمن إيران ومجالها الحيوي للخطر أمام جنوح إسرائيل في المنطقة. يلتقي العديد من الدول والقوى على الشعور بالقلق والخشية من تداعيات السياسة الإسرائيلية، بغض النظر عن نقاط الخلاف بين هذه المكونات، أو بينها وبين الحزب وإيران، وهذا ما ظهر من مواقف إقليمية ودولية رافضة العدوان الإسرائيلي على إيران. ما يعيب قرار الحكومة اللبنانية أنه جاء استنادا لورقة أميركية تحت التهديد، وليس نتاجا لحوار لبناني داخلي، في وقت تنتهك فيه إسرائيل السيادة اللبنانية ولا تلتزم بموجبات اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان الموقع في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024. السير قدما في تنفيذ قرار نزع سلاح حزب الله، دون تكييفه بصيغة توافقية بين فرقاء الوطن الواحد يقرب لبنان من خط اللاعودة، ويزجّه في عين عاصفة اللاعبين الدوليين والإقليميين الذين يزيد عددهم عن عدد الطوائف اللبنانية، ما يعقد المشهد أكثر، ويفتحه على احتمالات شتى ربما لا تكون في صالح لبنان كل لبنان.

تفاصيل مؤامرة النظام المخلوع لسرقة ثروات المواطنين في سوريا
تفاصيل مؤامرة النظام المخلوع لسرقة ثروات المواطنين في سوريا

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

تفاصيل مؤامرة النظام المخلوع لسرقة ثروات المواطنين في سوريا

يمثل صدور المرسوم التشريعي رقم 16 لعام 2025 عن الحكومة السورية الانتقالية خطوة في مسار سوريا الناشئة نحو تفكيك الإطار القانوني للمصادرة الممنهجة، التي كانت سمة بارزة لنظام حكم الأسد. وقد صدر المرسوم في 10 مايو/أيار 2025، استنادا إلى المادة 48 من الإعلان الدستوري الصادر في 13 مارس/آذار من العام نفسه، بهدف إلغاء جميع قرارات الحجز الاحتياطي الصادرة بين 2012 و2024. وبذلك يسعى إلى معالجة أحد أخطر أشكال انتهاكات حقوق الملكية التي مارستها الدولة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث. وتشير بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى توثيق ما لا يقل عن 40 ألفا و602 قرار حجز ومصادرة، طالت قرابة 320 ألف مواطن سوري خلال تلك الفترة، ما يجعل هذه القضية شرطا أساسيا لإعادة بناء العقد الاجتماعي في سوريا ما بعد الأسد. يقسم هذا المقال تحليله إلى محورين رئيسيين: يتناول الأول الخلفية التاريخية والإطار القانوني الذي أفضى إلى صدور هذا التدخل التشريعي، أما المحور الثاني فيقدم قراءة نقدية للمرسوم رقم 16 من حيث مضمونه وإطاره المؤسسي، محددا مكامن الإصلاح التي جاء بها، إلى جانب الثغرات التشريعية التي تعيق تحقيق عدالة شاملة. القسم الأول: الإطار القانوني والسياق التاريخي إرث المرسوم التشريعي رقم 63 لعام 2012: صدر هذا المرسوم في سبتمبر/أيلول 2012، في أوج حملة القمع العنيفة التي شنها نظام الأسد ضد الحراك الشعبي الذي بدأ في مارس/آذار 2011، مجسدا تحول القانون من أداة للحكم إلى وسيلة مركزية لتحويل مؤسسات الدولة إلى آلية منظمة للمصادرة التعسفية ذات الدوافع السياسية والأمنية، خارج أي إطار قضائي منصف. وقد منح المرسوم وزير المالية صلاحية غير مسبوقة لإصدار قرارات الحجز التحفظي بناء على "طلب مسبب" من الأجهزة الأمنية فقط. هذه الصيغة، التي صيغت عمدا بعبارات فضفاضة، مكنت من حجز الأموال المنقولة وغير المنقولة لأي شخص يُشتبه في ارتكابه "جرائم إرهابية" دون وضع معايير دقيقة للاشتباه، أو توفير ضمانات للمراجعة، أو الاعتراض، أو إحالة القضايا إلى القضاء. وبذلك، رسخ انتهاكا ممنهجا لمبدأ الحصرية القضائية في تقييد الملكية، إذ استحوذت السلطة التنفيذية على صلاحيات قضائية من دون أي تفويض دستوري أو ضمانات إجرائية. تكشف الأدلة التي وثقها تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان النطاق الواسع لهذا التوظيف السياسي للقانون؛ فبين 2012 و2024، سُجل ما لا يقل عن 40 ألفا و602 قرار صادر عن وزارة المالية تتعلق بأصول وممتلكات مواطنين سوريين، شملت تجميد الأصول المنقولة وغير المنقولة، وأوامر الحجز الاحتياطي، والمصادرة، والتجميد الدائم للحسابات المصرفية. ويظهر التحليل الديمغرافي للسكان المتضررين أن هذه الإجراءات استهدفت، بشكل مدروس، المعارضين السياسيين، والمعتقلين السابقين، والمختفين قسرا، واللاجئين، والنازحين، وبشكل خاص أفراد أسرهم، في انتهاك صارخ للمبدأ القانوني الأساسي للمسؤولية الفردية المكرس في كل من التقاليد الدستورية السورية والقانون الدولي. الأساس الدستوري للمرسوم رقم 16 لعام 2025 يستمد المرسوم التشريعي رقم 16 لعام 2025 تفويضه من المادة 48 من الإعلان الدستوري الصادر في 13 مارس/آذار 2025، التي تكرس صلاحية إلغاء القوانين وآثارها بالنظر إلى الطبيعة الممنهجة للانتهاكات القانونية في ظل النظام السابق، بما يقتضي ليس فقط إصلاحا مستقبليا، بل أيضا تصحيحا بأثر رجعي للمظالم المتراكمة. ويستند مبدأ التصحيح بأثر رجعي، الوارد في المرسوم، إلى قاعدة قانونية مفادها أن "القرارات الباطلة لا تترتب عليها آثار قانونية، ولا تستلزم الطعن القضائي لإبطالها، بل تُلغى بإجراء تنظيمي فور ثبوت سبب البطلان". ويجسد الأثر الرجعي، كما نصت عليه أحكام المرسوم التنفيذية، مبدأ التصحيح الإداري المباشر للقرارات الباطلة، عبر إبطال جميع الآثار القانونية الناشئة عن قرارات الحجز الملغاة، بما في ذلك شطب القيود العقارية، وإلغاء التجميد الإداري في السجلات الرسمية، وإعادة الوضع القانوني للأصول المحجوزة إلى حالتها السابقة. ومع أن هذا المبدأ يتمتع بسلامة قانونية، إلا أن تطبيقه العملي يصطدم بتحديات معقدة في سياق مصادرات استمرت لأكثر من عقد. فقد أدى تحويل الحجز الاحتياطي إلى مصادرة دائمة، ونقل الملكية إلى أطراف ثالثة مرتبطة بالنظام السابق أو المليشيات التابعة له، وتسجيل الممتلكات باسم الدولة، إلى خلق أوضاع قانونية متشابكة تتجاوز مجرد التراجع الإداري. ولذلك، فإن تفعيل هذا المبدأ الدستوري يتطلب ابتكار آليات قانونية متقدمة لمعالجة الانتهاكات متعددة المستويات، وتسوية المطالبات المتعارضة، والتعامل مع حالات الاستحالة المادية لاستعادة الحقوق. يكشف المرسوم التشريعي رقم 16 لعام 2025 عن بنية متناقضة؛ فهو من جهة يقر بالانتهاكات القانونية الممنهجة، ومن جهة أخرى يحد من نطاق الانتصاف بطرق تحد من أثره الإصلاحي. فالمادة الأولى منه تحصر الإلغاء صراحة في قرارات الحجز الاحتياطي الصادرة "استنادا إلى المرسوم التشريعي رقم 63 لعام 2012" دون مرجع قضائي أو تعليمات أمنية مباشرة. ورغم أن هذه الصيغة تعالج الشريحة الكبرى من عدد الانتهاكات، فإنها ترسخ استثناءات تُضعف إلى حد كبير الأثر الإصلاحي للمرسوم. ومن أبرز هذه الاستثناءات استبعاد قرارات الحجز القضائي الصادرة عن النيابة العامة أو قضاة التحقيق أو المحاكم المختصة، رغم أن كثيرا منها استند إلى الإطار ذاته من التجريم المبهم والدوافع السياسية الذي وسم قرارات الحجز الإدارية. يمثل هذا الاستبعاد للضبط القضائي إشكالية عميقة في ضوء واقع القضاء السوري تحت حكم الأسد، إذ أصدرت السلطات القضائية، في كثير من الحالات، أوامر ضبط وفق المنطق القانوني نفسه القائم على التلاعب السياسي والغموض التشريعي. كما أن قانون مكافحة الإرهاب رقم 19 لعام 2012، الذي منح النائب العام أو من ينوب عنه صلاحية تجميد الأصول، عمل ضمن الإطار الأمني ذاته الذي أسس له المرسوم رقم 63. ورغم أن وزير العدل قد شكل لجنة قضائية خاصة لمراجعة أحكام محكمة مكافحة الإرهاب، فإن غياب نصوص صريحة في المرسوم رقم 16 لربط هذه القرارات القضائية بإلغاء الإطار الاستثنائي الأوسع يترك مساحة واسعة من أوامر الضبط وتجميد الأصول قائمة ونافذة. وتتضاعف الإشكالية باستثناء المرسوم للإجراءات التي تحولت إلى حجز تنفيذي أو إلى مصادرة نهائية، بما في ذلك العقارات التي حُول حجزها الاحتياطي إلى مصادرة دائمة، أو التي سُجلت باسم الدولة، أو نُقلت ملكيتها إلى أطراف ثالثة، غالبا ما تكون جهات مرتبطة بالنظام السابق أو المليشيات الموالية له. ويعد هذا النقل أحد أخطر الأساليب التي اعتمدها نظام بشار الأسد لشرعنة المصادرة السياسية، إذ جرى نقل ملكية آلاف العقارات من أصحابها الأصليين دون مراعاة الأصول القانونية. وعلى الرغم من الأهمية القانونية لمبدأ الأثر الرجعي الذي نص عليه المرسوم، فإن تصميم آلية تطبيقه يعاني من قيود هيكلية واضحة. فالمادة الثانية تنص على شطب تسجيلات العقارات الناتجة عن القرارات الملغاة، وإلغاء التجميد الإداري في السجلات الرسمية، وإعادة الوضع القانوني للأصول إلى حالتها السابقة، غير أن تحليل الشبكة السورية لحقوق الإنسان يؤكد أن هذا التصحيح الإداري لا يواجه التعقيدات القانونية المتراكمة عبر أكثر من عقد من نزع الملكية. وتشمل هذه التعقيدات العقارات التي خضعت لعمليات بيع أو نقل ملكية متعددة، أو التي أُدمجت في مشاريع تطوير، أو فُقدت أو أُتلفت وثائقها الأصلية، وهي حالات تتجاوز إمكانية المعالجة عبر مجرد التراجع الإداري. أما على صعيد التنفيذ، فقد أُنيطت المهمة بوزارة المالية بالتنسيق مع وزارتي العدل والداخلية، وهو ما يكشف عن قصور في الإحالة التنفيذية ومحدودية في البنية المؤسسية، فرغم أن المادة الثانية تفوض صلاحيات التنفيذ، فإنها لا تحدد جدولا زمنيا واضحا، ولا إجراءات مفصلة، ولا آليات للمساءلة، ما يجعل التطبيق عرضة للبطء أو التعطيل. ويؤدي هذا الغموض المؤسسي إلى خطر أن يبقى المرسوم بلا أثر عملي ملموس، خصوصا في غياب جهة إدارية مستقلة تُعنى بمراقبة التنفيذ ومعالجة المظالم الناشئة. القصور التشريعي: تقييم منهجي للقيود الهيكلية يبرز الخلل التشريعي الأهم في أن المرسوم رقم 16 لم يُلغِ صراحة المرسوم التشريعي رقم 63 لعام 2012. ورغم أن المرسوم الجديد علق فعليا تطبيق جزء أساسي من أحكام المرسوم رقم 63، فإن إبقاءه في المنظومة القانونية، ولو معطلا، يترك الباب مفتوحا لإحيائه قانونيا مستقبلا، وهو ما يتناقض مع متطلبات العدالة الانتقالية التي تستدعي قطعا حاسما مع البنى القانونية الاستبدادية. كما يشكل عدم معالجة المرسوم للإجراءات الصادرة بموجب قانون مكافحة الإرهاب رقم 19 لعام 2012 ثغرة تشريعية أخرى، إذ تبقى قرارات تجميد الأصول الصادرة عن النائب العام أو من ينوب عنه، والتي غالبا ما استندت إلى السياق ذاته من التجريم السياسي والغموض القانوني، خارج نطاق الإلغاء. هذا النهج الانتقائي في تفكيك الإطار التشريعي الأمني يعكس ما يمكن تسميته بـ"التجزئة والتأويل" في مسار العدالة الانتقالية، تاركا مساحات واسعة من الانتهاكات ذات الدوافع السياسية دون معالجة قانونية. ولا يتضمن المرسوم أي نصوص تتعلق بالمحاسبة المؤسسية أو الفردية للمسؤولين عن إصدار أو تنفيذ قرارات الحجز الباطلة، سواء كانوا موظفين في وزارة المالية، أو ضباطا في الأجهزة الأمنية، أو قضاة متواطئين بالصمت أو الدعم. كما يغيب عن المرسوم أي تنظيم لمسألة التعويضات، سواء الرمزية أو المادية، وعدم إنشاء آليات لتقييم الخسائر أو صرف تعويضات مالية في حال تعذر استعادة الممتلكات. ويجب أن يظل رد الممتلكات الخيار الأول والأساسي لجبر الضرر، على أن يقتصر التعويض المالي على الحالات التي تثبت فيها استحالة الرد قضائيا. وإلى جانب ذلك، يفتقر المرسوم إلى أحكام واضحة بشأن الشفافية والوصول إلى المعلومات؛ فهو لا يُلزم وزارة المالية أو الجهات المختصة بنشر قوائم المتضررين، ولا ينص على آليات تمكنهم من الاطلاع على ملفاتهم، أو تقديم اعتراضات، أو استرجاع وثائقهم العقارية. الآثار المترتبة على السكان المتضررين: التحديات الجغرافية والقضائية تتجسد القيود العملية للمرسوم بوضوح عند النظر إلى واقع التشتت الجغرافي للسكان المتضررين وتجزؤ الولاية القضائية عليهم، حيث يقصي إطار التنفيذ فعليا الفئات الأكثر تضررا من نظام الاستيلاء السابق، مثل اللاجئين، والنازحين داخليا، وسكان المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة الانتقالية. وهنا تظهر ثغرة حرجة تتعلق بـ"الأشخاص المتضررين المقيمين خارج البلاد أو في مناطق خارج سيطرة الحكومة الانتقالية، مثل المناطق الخاضعة للإدارة الذاتية (قوات سوريا الديمقراطية)"، حيث يواجه هؤلاء صعوبات كبيرة في الوصول إلى السلطات المختصة. ويؤثر هذا الاستبعاد الجغرافي على ملايين السوريين الذين صُودرت ممتلكاتهم غيابيا كإجراء عقابي على معارضتهم المزعومة للنظام، فيما يحرمهم غياب أي ترتيبات استثنائية أو إجراءات بديلة من الاستفادة من المرسوم، رغم الإلغاء الرسمي لقرارات الحجز. وتتخطى العقبات الإجرائية حدود التحديات الجغرافية لتشمل صعوبات تتعلق بالوثائق والإثبات، إذ فقد كثير من المتضررين أوراق ملكياتهم أو اضطروا للتخلي عنها أثناء النزوح، بينما أُتلفت سجلات آخرين في العمليات العسكرية، أو أُزيلت عمدا من قبل الأجهزة الأمنية. ويؤدي غياب أي نصوص في المرسوم بشأن معايير الأدلة البديلة، أو القرائن القانونية لصالح المالكين المسلوبين، أو إجراءات مبسطة لمعالجة أنماط الانتهاكات الشائعة، إلى تحميل الضحايا أعباء إثبات ثقيلة. ويضاف إلى ذلك بعد زمني يزيد من تعقيد الوضع، إذ لا يحدد المرسوم مهلا زمنية للتنفيذ أو آجالا لتقديم الطلبات، كما لا ينص على قواعد للتقادم تحمي حقوق المتضررين. هذا الغموض، مقترنا بغياب إلزامية الإخطار العام، يجعل كثيرا من الضحايا يجهلون حقوقهم بموجب المرسوم، أو يفوتون مهلا غير معلنة لاتخاذ الإجراءات اللازمة. خاتمة يحتل المرسوم التشريعي رقم 16 لعام 2025 موقعا إشكاليا في مسار العدالة الانتقالية السورية؛ إذ يجمع بين كونه اعترافا رسميا بالانتهاكات المنهجية لحقوق الملكية التي ارتكبها نظام الأسد، وبين قصوره الواضح كإجراء جزئي غير كافٍ لمعالجة الاستبداد القانوني الراسخ. إن استعادة حقوق الملكية تمثل ركيزة أساسية لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وضمان عودة ملايين السوريين إلى ممتلكاتهم ومجتمعاتهم بسلام وكرامة. ويتطلب تحقيق ذلك الشروع في مراجعة شاملة لجميع القوانين والمراسيم التي أقرها النظام السابق والتي شرعنت المصادرة والنهب، مع تبني مسارات تشريعية واضحة وملزمة تضمن تحقيق العدالة والمساءلة، وتؤسس لقطيعة حقيقية مع الممارسات القانونية الاستبدادية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store