
مبادلة العملات بين تركيا والصين منافع آنية وتحولات مشروطة
وفي خطوة موازية لتوسيع هذا التوجه، وقع الجانبان مذكرة تفاهم لإطلاق آلية مقاصة باليوان داخل تركيا، تتيح للبنوك التجارية تسوية المدفوعات التجارية مباشرة بالعملة الصينية، مما يمهّد لتسهيل حركة التجارة والاستثمار الثنائي باستخدام اليوان والليرة، على حساب العملات الصعبة التقليدية.
وبموجب هذه الآلية، سيتمكن المستوردون الأتراك من تسديد وارداتهم من الصين باليوان محليا دون الحاجة للمرور بالدولار، في حين يستطيع المصدرون الصينيون تحصيل مستحقاتهم بالعملة الصينية داخل السوق التركي. وتُعد هذه الخطوة مؤشرا على تحولات أوسع من مجرد التسهيلات التجارية.
شراكة نقدية
يأتي تجديد الاتفاقية في إطار سياسة تركية مستمرة تهدف إلى تقليص الاعتماد على الدولار في التجارة الخارجية، وتعزيز مكانة الليرة في التسويات النقدية مع الشركاء الدوليين. وقد حدد البنك المركزي التركي أهداف الاتفاق بتوسيع استخدام الليرة واليوان في المعاملات التجارية مع الصين، وتوفير أدوات إضافية لدعم الاستقرار المالي في ظل تقلبات الأسواق الدولية والضغوط على العملات المحلية.
في المقابل، تندرج هذه الخطوة ضمن إستراتيجية الصين الرامية إلى تدويل عملتها وتوسيع استخدامها في التسويات التجارية عبر الحدود، خاصة مع الاقتصادات النامية، ومن بينها تركيا التي تحتل موقعا محوريا في مبادرة " الحزام والطريق".
وتسير هذه السياسة على خط بدأت تركيا اتباعه منذ سنوات، إذ دعا الرئيس رجب طيب أردوغان في عام 2016 إلى اعتماد العملات المحلية في المبادلات التجارية مع الصين وروسيا وإيران، بهدف تخفيف الضغط على الليرة وتعزيز حضورها في النظام النقدي العالمي.
وتعود أول اتفاقية مبادلة عملات بين المركزي التركي وبنك الشعب الصيني إلى فبراير/شباط 2012، عندما اتفق الطرفان على فتح خط ائتماني بقيمة 10 مليارات يوان (1.6 مليار دولار حينها) مقابل ما يعادل 3 مليارات ليرة تركية، بغرض تسهيل التجارة الثنائية وتعزيز سيولة النقد الأجنبي في السوق التركي.
وفي عام 2015، تم تمديد الاتفاق لـ3 سنوات مع رفع سقف التبادل إلى 12 مليار يوان، ثم جُدد مرة أخرى في مايو/أيار 2019 مع زيادة ملحوظة في الحجم إلى 35 مليار يوان، بالتزامن مع تصاعد حاجة تركيا للسيولة الأجنبية وسط اضطرابات سعر الصرف آنذاك.
دخل الاتفاق حيّز التنفيذ العملي في يونيو/حزيران 2020، حين أتاح البنك المركزي التركي لأول مرة سداد واردات من الصين مباشرة باليوان عبر النظام المصرفي المحلي. وفي يونيو/حزيران 2021، أعلن المركزي التركي تسجيل كامل قيمة الخط (35 مليار يوان، أي نحو 46 مليار ليرة في حينه) ضمن احتياطياته، بعد تفاهم سياسي واقتصادي رفيع المستوى مع بكين.
شبكة مبادلات
على امتداد السنوات الماضية، فعّلت أنقرة سياسة تنويع خطوط المقايضة النقدية مع عدد من الشركاء الإقليميين والدوليين، بهدف تعزيز احتياطاتها من العملات الأجنبية وتوسيع هامش حماية الليرة التركية.
ففي أغسطس/آب 2018، وقّعت تركيا اتفاق مبادلة عملات مع قطر بقيمة 5 مليارات دولار، تم رفعه في مايو/أيار 2020 إلى 15 مليار دولار (نحو 54.6 مليار ريال قطري أو 100 مليار ليرة تركية آنذاك)، في خطوة اعتُبرت حاسمة لدعم احتياطات البنك المركزي خلال ذروة أزمة الجائحة.
وفي أغسطس/آب 2021، أبرمت أنقرة اتفاقا مع كوريا الجنوبية بقيمة تريليوني وون كوري (حوالي 17.5 مليار ليرة حينها)، جُدد في أغسطس/آب 2024 لمدة 3 سنوات بحجم 2.3 تريليون وون، أي ما يعادل 1.7 مليار دولار وفق سعر الصرف السائد.
أما مع الإمارات، فقد جرى التوقيع في يناير/كانون الثاني 2022 على اتفاق مبادلة بقيمة 18 مليار درهم و64 مليار ليرة تركية (4.9 مليارات دولار آنذاك)، في توقيت تزامن مع تعافي العلاقات الثنائية وتراجع قيمة الليرة بنسبة تجاوزت 40% خلال ذلك العام. كما أجرت أنقرة محادثات مماثلة مع دول أخرى مثل اليابان وبريطانيا، لكن دون التوصل إلى اتفاقات نهائية حتى الآن.
مكاسب آنية وتأثيرات مشروطة
يرى المحلل الاقتصادي محمد أبو عليان أن تجديد اتفاق المبادلة مع الصين يمنح أنقرة مكاسب مالية فورية، إلا أن أثره يبقى محدودا على المستوى البنيوي ما لم يترافق مع إصلاحات أعمق في بنية الاقتصاد التركي.
ويوضح أبو عليان، في حديثه للجزيرة نت، أن أول هذه المكاسب يتمثل في تعزيز احتياطيات النقد الأجنبي، إذ توفر السيولة المتاحة باليوان هامشا إضافيا للبنك المركزي التركي لمواجهة ضغوط الأسواق وتقلبات العملة المحلية. كما يشير إلى أن الاتفاق يسهم في تيسير سداد واردات السلع الصينية مباشرة باليوان، مما يخفف من الحاجة إلى التحويل عبر الدولار ويقلل من خسائر فروقات أسعار الصرف.
لكن في المقابل، يؤكد أن تسهيل الدفع باليوان لا يعالج الخلل الكبير في ميزان التجارة بين الجانبين، إذ تبلغ صادرات تركيا إلى الصين نحو 4.3 مليارات دولار سنويا، مقابل واردات صينية تتجاوز 39 مليار دولار. وهو ما يجعل تركيا المستفيد الأكبر من استخدام اليوان لتغطية وارداتها، بينما يبقى استخدام الصين لليرة التركية محدودا بفعل هذا الخلل المزمن.
وفيما يخص السيولة، يوضح أبو عليان أن هذه الترتيبات توفّر سيولة إضافية للبنك المركزي مقابل الليرة التركية، لكنها في جوهرها ديون قصيرة الأجل يجب سدادها مع فوائدها المستحقة. ويؤكد أن هذه النقطة شديدة الأهمية في تقييم طبيعة هذه الاتفاقيات.
كما يحذّر من الكلفة التراكمية لاستخدام هذه التسهيلات على المدى الطويل، مشيرا إلى أن السحب من هذه الخطوط يخضع لفوائد مرتبطة بسعر الفائدة بين البنوك في شنغهاي، مضافا إليها هامش إضافي، مما يشكل عبئا ماليا متزايدا كلما طالت مدة استخدام هذه السيولة.
تموضع جديد
من جانبها، ترى الباحثة الاقتصادية نيل كهرمان أن تجديد الآلية يمثل خطوة رمزية نحو تنويع الموقع النقدي لتركيا، لكنها تبقى في بدايتها ولا تعني تحولا سريعا في بنية النظام المالي التركي، الذي لا يزال يعتمد بشكل شبه كامل على الدولار واليورو.
وتوضح كهرمان، في حديثها للجزيرة نت، أن قبول تركيا استضافة مركز مقاصة باليوان يفتح أمامها هامشا أوسع لتوسيع خيارات التسوية التجارية، ليس فقط مع الصين، بل أيضا مع شركاء آخرين قد يفضلون التعامل بالعملة الصينية، مما يعزز ارتباط أنقرة بالنظام المالي الذي تسعى بكين إلى ترسيخه عالميا.
لكنها تؤكد أن نجاح هذه الخطوة فعليا مرهون بعدة عوامل، منها مدى إقبال القطاع الخاص التركي على استخدامها، واستقرار سعر الصرف بين الليرة واليوان، ومدى الدعم الصيني المستمر لتوسيع هذا النظام.
وترى أن هذه التجربة قد تساهم تدريجيا في إدخال اليوان وغيره من العملات غير التقليدية إلى جزء من الدورة الاقتصادية التركية مستقبلا، لكنها تظل حتى اللحظة خطوة تكتيكية ضمن سياسة تنويع الشركاء الماليين لا أكثر.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 8 ساعات
- الجزيرة
المكسيك تصبح الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة
أزاحت المكسيك الصين عن صدارة قائمة أكبر الموردين للسوق الأميركية، إذ استحوذت على حصة 14.1% من واردات الولايات المتحدة، في حين تراجعت حصة بكين إلى المركز الثالث خلف كندا. اقرأ المزيد


الجزيرة
منذ 8 ساعات
- الجزيرة
موديز ترفع التصنيف الائتماني لتركيا
رفعت وكالة موديز الدولية ، مساء الجمعة، التصنيف الائتماني لتركيا من "بي 1" (B1) إلى "بي إيه 3" (Ba3) مع نظرة مستقبلية مستقرة. وذكرت الوكالة في بيانها أن رفع التصنيف لتركيا يعكس الأداء القوي في صنع السياسات الفعالة، وخاصة التزام البنك المركزي التركي ب سياسة نقدية تُخفف بشكل دائم من ضغوط التضخم ، وتُقلل من الاختلالات الاقتصادية، وتُعيد تدريجيا ثقة المودعين المحليين والمستثمرين الأجانب بالليرة التركية. ولا يزال تصنيف "بي إيه 3" أقل من درجة الاستثمار، ولكنه يشير إلى تحسن الجدارة الائتمانية. وقالت الوكالة إن رفع التصنيف "يعكس أيضا وجهة النظر القائلة إن خطر تغيّر السياسات قد انخفض، إلا أن هذا الخطر سيستمر في السنوات القادمة أيضا". وذكرت الوكالة أنها عدلت من نظرتها المستقبلية من "إيجابية" إلى "مستقرة"، في إشارة إلى التوازن بين المكاسب المستمرة على صعيد السياسات وبين المخاطر السياسية والخارجية القائمة. ولفتت موديز إلى أن الإصلاحات الهيكلية المستمرة والمخطط لها ستقلل من الاعتماد على واردات الطاقة بشكل أكبر، وتعزز القدرة التنافسية للصادرات، مما قد يزيد من قدرة البلاد على الصمود في وجه الصدمات الخارجية. ويأتي رفع التصنيف الائتماني بعد يوم من خفض البنك المركزي التركي سعر الفائدة الأساسي بمقدار 300 نقطة أساس، وهو ما فاق التوقعات، ليصل إلى 43%، مستأنفا بذلك دورة التيسير النقدي التي تعطلت في وقت سابق من هذا العام بسبب الاضطرابات السياسية على خلفية اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو أبرز منافسي الرئيس رجب طيب أردوغان. وتباطأ معدل التضخم إلى 35% في يونيو/حزيران 2025 منخفضا من 72% في الفترة نفسها من العام السابق، وفقا للبيانات الرسمية.


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
الليرة التركية تحت الضغط إثر تراجع سعر الصرف والتوسع النقدي
تتجه الأنظار مجددا إلى الليرة التركية إثر تحذير صادر عن "مورغان ستانلي" يدعو المستثمرين إلى الحذر، وسط تصاعد المخاوف من الاكتظاظ في رهانات "تجارة العوائد"، وتسجيل العملة مستويات قياسية منخفضة جديدة مقابل الدولار. ونقل تقرير نشرته وكالة بلومبيرغ توصية "مورغان ستانلي" باتباع نهج أكثر تحفظا تجاه الليرة، مشيرا إلى "وتيرة تراجع سريعة" في سعر صرفها و"تضخم المراكز الاستثمارية" التي تعتمد على الفارق بين أسعار الفائدة المرتفعة في تركيا وتلك المنخفضة في أسواق التمويل الدولية. ورغم أن العملة التركية لا تزال تحقق مكاسب في العوائد الحقيقية -بعد احتساب التضخم – فإن هذا الزخم بات محفوفا بتحديات سياسية ونقدية قد تعيد رسم معالم المخاطرة في السوق. سياسة نقدية ميسرة وسعر صرف تحت الضغط وفي خطوة مفاجئة خفض البنك المركزي التركي أمس الخميس سعر الفائدة بمقدار 300 نقطة أساس، لينتقل من 46% إلى 43%، وهو ما وصفته "بلومبيرغ" بأنه "عودة صريحة إلى سياسة التيسير النقدي" بعد فترة قصيرة من التشديد خلال النصف الأول من العام. وتزامن القرار مع تراجع الليرة إلى مستوى قياسي بلغ 41.91 مقابل الدولار في التداولات المسائية، مما يرفع خسائرها منذ بداية العام إلى نحو 13%. ورغم ذلك فإن العائدات الشهرية المقومة بالدولار لا تزال تبلغ نحو 1%، وهو ما اعتبرته مؤسسة "باركليز" في مذكرة أوردتها "بلومبيرغ" كافيا للإبقاء على اهتمام المستثمرين المحليين والدوليين بالعملة التركية. لكن هذا الاتجاه لا يخلو من المخاطر، فوفقا لتحليل "بلومبيرغ" فإن الخفض المفاجئ لسعر الفائدة أثار تساؤلات بشأن مرونة السياسة النقدية واستقلاليتها، ولا سيما بعد التوترات السياسية التي أعقبت توقيف رئيس بلدية إسطنبول المعارض أكرم إمام أوغلو أحد أبرز وجوه المعارضة المحتملة في الانتخابات الرئاسية المقبلة. من جهته، وصف "دويتشه بنك" القرار بأنه "تعديل استباقي مكثف"، مشيرا إلى أن البنك المركزي لا يزال يوازن بعناية بين أهداف النمو والاستقرار المالي. تحذيرات من اكتظاظ تداولات الليرة ما يثير القلق في رأي "مورغان ستانلي" -بحسب ما أوردته "بلومبيرغ"- هو أن الليرة باتت هدفا مركزيا لما تعرف بتجارة العوائد، حيث يقترض المستثمرون بعملات منخفضة الفائدة مثل الين أو اليورو، ويضخون أموالهم في أصول ذات عوائد مرتفعة مثل أدوات الدين التركية. وتشير الوكالة إلى أن هذه الإستراتيجية باتت "مزدحمة للغاية"، وهو ما يضاعف المخاطر، إذ يمكن لأي صدمة سياسية أو نقدية أن تتسبب في انسحاب جماعي يضغط أكثر على سعر الصرف ويزيد تقلباته. وفي وقت سابق من هذا العام، وصفت "غولدمان ساكس" الليرة بأنها "واحدة من أكثر عملات الأسواق الناشئة ربحية" من حيث العوائد الاسمية، لكنها حذرت من هشاشة هذه المكاسب إذا ما اتجهت السلطات إلى السماح بمزيد من التراجع في سعر العملة. وأوضحت "بلومبيرغ" أيضا أن المكاسب في العائد الحقيقي لا تزال موجودة، لكن "استدامتها لم تعد مضمونة"، خصوصا في ظل استمرار تآكل الثقة على خلفية التقلبات السياسية وغياب رؤية واضحة للسياسة النقدية طويلة الأجل. اختبار حقيقي للاستقرار المالي وفي الوقت الراهن، تتجه أنظار المستثمرين إلى مراجعات التصنيف السيادي المرتقبة من مؤسستي موديز وفيتش، والمتوقعة في وقت لاحق من اليوم الجمعة، وفق ما أفادت به "بلومبيرغ". موديز التي تصنف تركيا بـ4 درجات دون درجة الاستثمار تمنحها نظرة مستقبلية إيجابية، في حين تحتفظ "فيتش" بتصنيف أقل بدرجة واحدة فقط، مع نظرة مستقرة. وسيكون الرهان الأكبر عما إذا كانت مؤشرات الاستقرار الكلي وتباطؤ التضخم كافية لدفع وكالات التصنيف إلى رفع تقييمها، أم أن الاضطرابات السياسية الأخيرة وإن كانت قصيرة ستدفعها إلى الإحجام. ورأت الوكالة أن السوق ينظر إلى هذه التقارير بوصفها علامة فارقة ستؤثر على تدفقات المحافظ، وتكلفة الاقتراض الخارجي، والموقف العام تجاه أصول الأسواق الناشئة. مؤشرات مالية رئيسية سعر الدولار مقابل الليرة: 40.55 ليرة (بانخفاض 0.4%). عائد السندات التركية لأجل 10 سنوات (ليرة): 31.4% (دون تغيير). عائد السندات التركية لأجل 10 سنوات (دولار): 7.23% (انخفاض 5 نقاط أساس). مؤشر الائتمان الافتراضي لأجل 5 سنوات (سي دي إس): 279 نقطة أساس. مؤشر بورصة إسطنبول 100: تراجع 0.2% إلى 10 آلاف و672 نقطة. وبين عوائد مرتفعة ومخاطر غير مرئية تجد الليرة التركية نفسها في قلب صراع بين سياسة نقدية مرنة ورغبة في الحفاظ على استقرار السوق، وسط ظروف سياسية داخلية مضطربة ومناخ عالمي متقلب. وكما خلص تقرير "بلومبيرغ" فإن استمرارية رهانات العوائد على الليرة باتت مرتبطة أكثر من أي وقت مضى بإشارات التصنيف السيادي، وسقف التحمل الذي تبديه المؤسسات الدولية تجاه الانخفاض المتواصل للعملة التركية.