
إضاءة نقدية على القصيدة العمودية المعاصرة
القصيدة هي القصيدة، سواء جاءت عمودية أم من شعر التفعيلة الحر. ويجانب الحقيقة من يظن أن القصيدة العمودية البيتية، ذات الشطرين، تقف بلغتها المعيارية ونحوها وصرفها في وجه الحداثة الشعرية والتجديد في حقل الشعر العربي المعاصر.
فالتحديث عند الشعراء العرب ظهر قبل قرون من الزمن على يد الشعراء المولدين في العصر العباسي، مثل بشار بن برد والشاعر أبي نواس الذي قال ذات مرة: "أستطيع أن أكتب شعرا بلا قافية". وأكثر من ذلك، دعا في إحدى قصائده إلى تجاوز النهج التقليدي لمطلع القصيدة الكلاسيكية الذي يبدأ بالغزل أو بالبكاء على أطلال الحبيبة التي رحلت، حين قال:
قل لمن يبكي على رسم درس
واقفا ما ضر لو كان جلس
ثم جاء شعراء النهضة في النصف الأول من القرن العشرين ليعيدوا للقصيدة العمودية اعتبارها ومكانتها الشعرية في الأدب العربي؛ فانتشلوها من حالة الانحطاط التي خيمت عليها إلى حالة النهوض الشعري المنسجم مع تطلعات عصر النهضة وطموحاته.
فظهرت بقوة، في المبنى والمعنى، قصائد كل من محمود سامي البارودي، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وجميل صدقي الزهاوي، ومحمد مهدي الجواهري، وخليل مطران، وإبراهيم طوقان، وغيرهم. فقد تخلصت القصيدة البيتية عندهم من النظم التقليدي المباشر، ولبست ثوبها اللغوي الجديد، بعيدا عن الألفاظ القديمة والمفردات التي أصبحت صعبة ومهجورة تحتاج إلى شرح وتفسير.
وبهذا، أصبحت القصيدة العمودية على يد هؤلاء الشعراء الأفذاذ مهيأة لأي توليد وتجديد. فعادت القصيدة العمودية إلى الظهور بأشكال وأساليب مشابهة للموشحات الأندلسية، إذ برزت كتابة القصيدة البيتية ذات المقاطع الشعرية المختلفة القوافي على يد شعراء المهجر وبعض الشعراء المجددين في بلاد الشام. وأكثر ما ظهر هذا الأسلوب في كتابة الأناشيد والقصائد الغنائية الفصيحة.
هذا التوجه الجاد نحو الانفتاح الشعري على العصر الحديث في القصيدة العمودية مهد لشكل جديد من الكتابة الشعرية، وشجع نخبة من شعراء القصيدة الكلاسيكية على البحث عن نمط جديد للشعر العربي المعاصر. فأوجدوا شعر التفعيلة الحر الذي لا يلتزم بوحدة القافية والروي، أو بنظام الشطرين في الشعر العمودي (الصدر والعجز). وفي مقدمة هؤلاء الشعراء المحدثين المبدعين: بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وصلاح عبد الصبور، وعبد الوهاب البياتي، وأحمد معطي حجازي، وأمل دنقل، ومحمود درويش، وسميح القاسم، وغيرهم.
ولكن هؤلاء الشعراء المحدثين كانت بداياتهم الشعرية بكتابة القصيدة العمودية حتى إن بعضهم ظل، رغم حماسته لقصيدة التفعيلة، يحن للقصيدة العمودية ذات النفس الحديث. وكانت أكثرهم حماسة الشاعرة نازك الملائكة التي أدارت ظهرها في المرحلة الأخيرة من تجربتها الشعرية لنظام التفعيلة، وعادت لكتابة القصيدة العمودية. وأكثر من ذلك، راحت تدعو الشعراء المحدثين على صعيد الشعر الحر إلى العودة إلى أصل الشعر العربي ومنبعه، وهو الشعر العمودي الذي كان ديوان العرب على مر العصور.
لم تلق دعوة الشاعرة نازك الملائكة استحسان كثير من الشعراء المجددين الذين لا يتحفظون على حضور القصيدة العمودية، ولكنهم مندفعون أكثر نحو قصيدة التفعيلة التي يرون فيها انعتاقا وتحررا من قيود الوزن الصارم الرتيب والقافية المكررة التي بالغ في وصفها الشاعر نزار قباني، فشبهها بالحجر الذي يلقمه الشاعر لنهاية كل بيت في القصيدة. وعلى الرغم من هذا الوصف المبالغ فيه، ظل الشاعر الراحل نزار قباني يكتب القصيدة العمودية من حين لآخر، شأنه في ذلك شأن غيره من الشعراء المنادين بالتجديد. غير أن هذا التجديد الشعري ظل مركزا على شكل القصيدة الخارجي أكثر من التركيز على مضمونها المعاصر والحديث الذي يجب أن يتماشى مع روح العصر المتطور على كل صعيد.
وظلت القصيدة الكلاسيكية العمودية محافظة على شكلها الجذاب الجميل والأصيل، كما ظلت محافظة على موسيقاها بالقدرة ذاتها التي تحتفظ بها في حفاظها المستمر على بحورها ونظام تفعيلاتها، لا وفاء لأوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي وبحوره، بل إيمانا بطبيعتها التي لم تكن ولن تكون حائلا أمام حركات التجديد التي لا تستهدفها من قريب أو بعيد.
في النصف الثاني من القرن العشرين، قامت حركة تجديد جريئة وواسعة النطاق، إذ لاحظ النقاد مدى الاندفاع إلى قصيدة التفعيلة الحرة، إلى جانب العزوف عن القصيدة العمودية. حتى إن بعض الشعراء الكلاسيكيين المتمرسين في كتابة القصيدة العمودية والمجيدين لها تماشوا مع ظاهرة شعر التفعيلة الحر وميل القراء المثقفين إلى قراءتها، فأخذوا يبعثرون أبيات القصيدة العمودية ذات الشطرين إلى أنصاف جمل وإلى أرباع جمل، ظنا منهم بأن القارئ العربي قد بدأ يملّ من قراءة القصيدة العمودية الرتيبة الأبيات والقوافي. وقد أشار إلى هذه الظاهرة المكشوفة الناقد الدكتور عز الدين إسماعيل في كتابه "الشعر العربي المعاصر".
ولكن القصيدة العمودية بقيت محافظة على وجودها، وأثبتت، على أيدي شعراء مبدعين، أن لديها القدرة على أن تستوعب القضايا المعاصرة، وأن تتسع لإرهاصات وتطورات العصر الحديث بكل زخمه وتقدمه ومعطياته ومخرجاته الجديدة. فبات لزاما على نقاد الشعر المعاصر أن يقفوا وقفة طويلة ومنصفة تعطي القصيدة العمودية ما لها وما عليها بموضوعية ومن دون تحيز للون من الشعر دون آخر.
ولكل من يدير وجهه للشعر الحر وظهره للشعر العمودي الأصيل والمتجدد، نقول إن القصيدة العمودية موجودة بقوة وفاعلية، ولن تموت مهما ادعى البعض بأنها على وشك الزوال؛ حيث استبدلت أنفاسها التقليدية القديمة بأنفاس جديدة منفتحة على روح العصر، وبالمقدار الذي يمكّن روادها وشعراءها المجيدين من استيعاب قضايا العصر الحديث وهمومه وتعقيداته والتعبير عنها خير تعبير.
ولا يفوتنا، في معرض الحديث عن القصيدة العمودية، أن نستثني الشعراء النظامين للشعر العمودي بتسطح وسذاجة مباشرة تخلو من روح الشعر، رغم اعتنائهم بالزخرفة اللغوية والمحسنات البديعية البراقة والزعيق المباشر الذي ليس له من الشعر إلا الوزن والقافية.
وهذا يذكرني بأبيات شعرية كنت، في وقت سابق بعيد، قد وجهتها لهذا النوع من النظامين المتشاعرين، أذكر منها:
قد خاب من حسب القريض تكلفا
ومفاعلات تنتهي بقوافي
قد ضل من جعل القصائد حرفة
فيسمر الكلمات كالإسكافي
ونظل في انتظار نهج نقدي موضوعي وشامل يحدد عناصر القصيدة الجيدة والمعافاة، سواء كانت عمودية أم قصيدة من شعر التفعيلة الحر.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
جعفر بناهي.. حين تنتصر المقاومة بالفن
جاء فوز المخرج الإيراني جعفر بناهي بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي في دورته الـ78 عن فيلمه 'مجرد حادث'، تتويجا لمسيرته الاستثنائية التي مزجت بين الإبداع والمقاومة. لم يكن هذا الفوز فقط مكافأة لفيلم سياسي جريء استلهمه من تجربته في السجن، بل كان بمثابة اعتراف دولي برمز سينمائي ظل لعقود يدافع عن حرية التعبير في وجه القمع. لا يقاس حضور بناهي الفني فقط بجودة عناصره السينمائية، بل بما يمثله من التزام إنساني راسخ تجاه القضايا العادلة، وتحوّله إلى أيقونة لمقاومة الرقابة من داخل واحدة من أكثر البيئات السياسية تقييدا في العالم. حضور بناهي في 'كان' بعد 15 عاما من حظر السفر، بدا وكأنه لحظة انتصار مضاعف، لا لفيلم وحسب، بل لمسيرة تحدّ طويلة ضد النفي والمنع والاعتقال. رغم الجدل المتوقع الذي قد يرافق هذا الفوز –سواء لأسباب فنية أو سياسية– يظل اسم جعفر بناهي محفورا في الذاكرة السينمائية العالمية كمخرج أعاد تعريف حدود السينما الإيرانية المعاصرة، وقدّم من خلالها مرآة لآلام المجتمع وهمومه. فمنذ أن قدّم رائعته الأولى 'البالون الأبيض' عام 1995، أصبح 'كان' بمثابة بيته الثاني، وفضاء يكرّس صوتا سينمائيا اختار أن يواجه السلطة بالصورة لا بالشعارات، وبالعدسة لا بالمنصة. مجرد حادث فاز بناهي بالجائزة عن فيلم 'مجرد حادث'، وهو فيلم سياسي بالدرجة الأولى، وهو مستوحى من تجارب بناهي الشخصية خلال فترة سجنه، وتدور أحداثه حول مجموعة من السجناء السابقين الذين يقابلون الرجل الذي يعتقدون أنه عذّبهم في السجن، ويفكرون في الانتقام، ويقومون بخطفه بالفعل، ويختلفون حول ذلك الانتقام، ويستعرض بناهي أثر عنف السجان على كل منهم ورد فعله حين أصبحت قدرته على الانتقام متاحة. واجه بناهي حظرا على صناعة الأفلام وسجنا، لكن مهرجان 'كان' أصبح صوتا بارزا للتضامن معه. ففي عام 2011، عُرض فيلم 'هذا ليس فيلما'، الذي أُنتج أثناء إقامته الجبرية وتم تهريبه، في مهرجان 'كان'، مسلطا الضوء العالمي على محنته. وقد رفعت رئيسة لجنة التحكيم، 'جولييت بينوش'، اسم بناهي تكريما له خلال مهرجان 2010 عندما كان قيد الإقامة الجبرية. وعندما لم يتمكن من الحضور تلقى دعما مستمرا فقد فاز فيلم 'ثلاثة وجوه' 2018 بجائزة أفضل سيناريو، ووفّر التزام المهرجان المستمر منصة دولية قيّمة لأعماله، حافظت على صوته الفني حيا رغم محاولات إسكاته. ويأتي فوز بناهي بعد وقت قصير من حضور زميله المخرج الإيراني محمد رسولوف مهرجان كان العام الماضي من ألمانيا التي لجأ إليها من إيران، واحتفى به مهرجان 'كان' أيضا'، وبينما أعلن بناهي عن نيته العودة إلى طهران، إلا أن خطاب قبوله، الذي حث فيه على الوحدة والحرية في إيران، أكد على الأهمية مواصلة النضال. ويحمل الفيلم الفائز ملامح دراما جعفر بناهي التي تغوص في عمق المجتمع وتستكشف تأثيرات القسوة والسلطة عبر الأفراد، وردود أفعالهم، لكن الاختلاف يبدو في تلك الذروة 'الدرامية' التي يقدمها بناهي في 'مجرد حادث' إذ يصعد بالدراما إلى حد مواجهة رمز للنظام سقط مصادفة في أيدي ضحاياه، وهو ما لم يكن يصل إليه في دراما أعماله السابقة، التي انطلقت من خبرات طفولة فقيرة في إحدى القرى القريبة من طهران. من قرية 'ميانة' إلى 'كان' يلتقط جعفر بناهي شخصياته المهمشة من ذاكرته التي تحتفظ بعالم كامل، عاش فيه لسنوات طويلة، إذ وُلِد عام 1960 في 'ميانة'، وهي بلدة صغيرة شمال غرب إيران، لعائلة من الطبقة العاملة، وعمل مع والده 'الدهان' الفقير، وواجه مع ذلك الأب حياة صعبة. ورغم ذلك، أبدى بناهي اهتماما بسرد القصص والسينما، فكان غالبا ما يرسم مشاهد أو يتخيل سرديات رغم محدودية فرصه في مشاهدة الأفلام، وطوّر بناهي نظرة ناقدة وحساسية عميقة تجاه الظلم، كما شكّل تعرّضه المبكر للفقر والتفاوت الاجتماعي موضوعاته الإنسانية التي أصبحت لاحقا محورية في صناعة أفلامه. اقتحم بناهي عالم السينما من خلال عمله مساعدا للمخرج الإيراني الكبير عباس كياروستامي، ومن ثم قدم فيلمه الروائي الطويل الأول 'البالون الأبيض' 1995، ليفوز بجائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان 'كان' السينمائي، مُسجلا بذلك أول جائزة كبرى لفيلم إيراني في كان. تبع ذلك أعمالٌ نالت استحسانا عالميا مثل 'الدائرة' 2000، الذي فاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي، و'الذهب القرمزي' 2003. وأبرزت هذه الأفلام منظوره الإنساني ونقده الدقيق للظلم الاجتماعي. كان عام 2010 بداية الصدام بين المخرج الذي ذاع صيته عالميا وبين السلطة في بلاده فقد حُكم عليه بالسجن ست سنوات، ومنعه من الإخراج، أو كتابة السيناريوهات أو إجراء المقابلات أو مغادرة إيران لمدة 20 عاما. لم تُسكته هذه الفترة، بل حفزت مرحلة مذهلة من التحدي الإبداعي. فقد أنتج سرا بعض الأفلام التي تناولت بشكل مباشر حبسه والمناخ السياسي. وكان فيلم 'هذا ليس فيلما' 2011، الذي يضم مذكرات فيديو عن إقامته الجبرية هو الأبرز، وتبدو قصة تنفيذ الفيلم وتهريبه، إلى مهرجان كان، على ذاكرة 'يو إس بي' أقرب إلى سيناريو فيلم مشوق، خاصة أنه آل إلى نهاية سعيدة بعد الإشادة به من قبل لجنة التحكيم في المهرجان. ومن عالمه الضيق والمحدود والمعزول، قدم بناهي فيلم 'الستار المغلق' 2013، ليكشف أبعادا جديدا في العزلة والرقابة الذاتية، ويفوز بجائزة الدب الفضي لأفضل سيناريو في مهرجان برلين، ويفوز في 2015 فيلمه 'تاكسي'، الذي صُوّر بالكامل داخل سيارة أجرة قادها بنفسه، بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين. وتميزت أعماله في تلك الفترة بمحاولات استنطاق الصورة، والعمق السينمائي وطمس الخطوط الفاصلة بين الواقع والخيال. ورغم المنع من السفر والتصوير استمرت شهرته العالمية، حيث فاز فيلمه 'ثلاثة وجوه' 2018 بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان، رغم عدم تمكنه من الحضور. وفي عام 2023، فتح إطلاق سراح بناهي من السجن، بعد إضراب عن الطعام، فصلا جديدا في حياته، أتاح له حضور المهرجانات الدولية شخصيا، وتوج ذلك بفوزه بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان، محققا عودة مظفرة إلى الساحة العالمية بعد سنوات من الغياب. الإبداع والحاجة يحسب للمخرج جعفر بناهي أساليبه المبتكرة في السرد القصصي، والتي نشأت نتيجة لضرورة الرقابة، فقد استخدم الاستعارة والرمزية لإيصال رسائله، محولا الصراعات الشخصية والسياسية إلى روايات آسرة. وقد رسّخت براعته، التي تجلّت في أفلام مثل 'هذا ليس فيلما'، سمعته كخبير في المقاومة الإبداعية. ويحتفى الغرب بالمخرج الإيراني الكبير كرمز للتحدي الفني، وتقدم أفلامه جسرا بين سينما إيران وبقية العالم، وقد أثّر على صانعي الأفلام من خلال مناهجه المبتكرة في سرد القصص في ظلّ الضغوط، مُثبتا قدرة السينما على الازدهار حتى في أكثر البيئات تقييدا. وتتشبع أفلام بناهي بقيمه الجوهرية، التي تدور حول الإنسانية والعدالة الاجتماعية وحرية التعبير، وتُسلّط الضوء باستمرار على معاناة الأفراد المهمّشين وتنتقد الأنظمة القمعية، سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، وتُركّز أفلامه على الحياة اليومية للناس العاديين، مُشدّدة على كرامتهم وصمودهم وقدرتهم على التمسك بالأمل رغم الشدائد. وتعد العدالة الاجتماعية محورا أساسيا في أفلام بناهي، فهو يكشف عبر أفلامه عن أوجه عدم المساواة والظلم في المجتمع الإيراني، والنموذج الأبرز لذلك أفلام مثل 'الدائرة' الذي يرصد الواقع القاسي الذي تواجهه المرأة، بينما يتناول 'الذهب القرمزي' الطبقية الاجتماعية، ويتميز نقده بالدقة والوضوح، ويعتمد على الملاحظة الذكية أكثر من التصريحات السياسية الصريحة. مسيرة وجوائز قدم المخرج الإيراني حتى الآن أحد عشر فيلما أولها 'البالون الأبيض' (The White Balloon) 1995، ففاز بجائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 1995، والتي تعد أول جائزة كبرى لفيلم إيراني في كان، كما فاز بجائزة لجنة التحكيم الدولية في مهرجان 'ساو باولو' السينمائي الدولي. وتدور أحداث الفيلم عشية رأس السنة الإيرانية الجديدة، حين ترغب فتاة صغيرة في سمكة ذهبية جديدة لطاولة 'هفت سين' (السفرات السبع وهي المائدة التقليدية في عيد النوروز الفارسي) الخاصة بعائلتها. تقنع والدتها بإعطائها المال لشرائها، لكن رحلتها إلى متجر الأسماك تتحول إلى سلسلة من المغامرات والمواقف غير المتوقعة بينما تلتقي بشخصيات وعقبات مختلفة في طهران. يركز الفيلم على الرغبات البسيطة لطفل في خلفية الحياة اليومية. كان الفيلم مفاجئا للجمهور والنقاد معا، إذ بدا وكأنه اكتشف أبعادا جمالية جديدة في مواجهة الطفل للسينما، رغم أنها لم تكن تجربة فريدة في التمثيل، لكن بناهي قدم جمالا يكمن في البساطة والنقاء والعمق من ذلك المنظور الطفولي للعالم، إذ تُظهر رحلة الفتاة الصغيرة سحر اللحظات العادية والعقبات اليومية من خلال عينيها البريئتين. استخدم بناهي ممثلين غير محترفين، فأضفى لمسة واقعية أضفت -بدورها- مزيدا من الصدق والتعاطف، وجعلت المشاهد ينجذب إلى عالم الطفلة الصغير المليء بالآمال والخيبات. وفاز فيلمه التالي 'المرآة' (The Mirror) 1997 بجائزة الفهد الذهبي في مهرجان 'لوكارنو' السينمائي الدولي، وجائزة الشاشة الفضية لأفضل مخرج – فيلم آسيوي في مهرجان سنغافورة السينمائي الدولي. وبدا أن اكتشاف روعة عالم الطفولة أسر جعفر بناهي ليدور فيلمه الثاني حول فتاة صغيرة تؤدي دور تلميذة في فيلم سينمائي، لكنها تقرر فجأة أنها لا تريد التمثيل بعد الآن وتغادر موقع التصوير. ثم تتلاشى الخطوط الفاصلة بين الخيال والواقع، بينما تحاول الفتاة، التي لا تزال ترتدي زيها، العثور على طريقها إلى المنزل عبر شوارع طهران الصاخبة، وغالبا ما تصادف أشخاصا يتعرفون عليها من موقع تصوير الفيلم. وبدا بناهي وكأنه اكتسب من الجرأة ما جعله يكسر الحائط الرابع سائرا على خطى الألماني 'بريخت'، وينطلق لتجريب (السينما داخل السينما) سيرا على خطى الأميركي 'وودي آلن'، ليفتح الفيلم نقاشا حول طبيعة الحقيقة والتمثيل في الفن، حين يصبح المشاهد جزءا من اللعبة بين الخيال والواقع، ويظهر جمال العمل في ذكاء السرد الذي يدعو المشاهد للتساؤل عن حدود الفيلم ذاته، وفي التصوير الذي يلتقط عفوية وبراءة الفتاة وهي تتجول في المدينة، مما يمنح الفيلم إحساسا وثائقيا حميما. دائرة نسائية وفاز فيلمه الثالث 'الدائرة' (The Circle) عام 2000 بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي، وجائزة 'فيبريسي' للفيلم العام في مهرجان 'سان سيباستيان' السينمائي الدولي، كما فاز بجائزتي أفضل فيلم وجائزة الجمهور في مهرجان 'أوروغواي' السينمائي الدولي. ويحكي الفيلم عن حياة عدة نساء، تم إطلاق سراحهن مؤخرا من السجن، ويسلط الضوء على القيود والتحديات المجتمعية التي يواجهنها في إيران. قدم جعفر بناهي في هذا العمل جماليات قاسية ومؤثرة، تعكس واقعا اجتماعيا مريرا، وأضاف قيمة من خلال الهيكل السردي الدائري الذي يعكس دورة اليأس التي تعيشها النساء، ويخلق إحساسا بالحبس والقيود، وتمكن الرجل من تصوير الظلم الاجتماعي الواقع على المرأة ببراعة فنية، باستخدام التصوير البطيء والتركيز على الوجوه المعذبة، مما يثير التعاطف العميق ويدعو للتفكير في الظروف الإنسانية الصعبة دون الحاجة إلى الحوار المباشر أو الخطابة. وفاز فيلمه الرابع 'ذهب قرمزي' (Crimson Gold) عام 2003 بجائزة أفضل فيلم روائي طويل في مهرجان شيكاغو السينمائي الدولي، وجائزة الشوكة الذهبية لأفضل فيلم في مهرجان 'بلد الوليد' السينمائي الدولي بإسبانيا. ويبدأ الفيلم حين يشعر عامل توصيل البيتزا، وهو من قدامى المحاربين في الحرب الإيرانية العراقية، بخيبة أمل تجاه عدم المساواة الاجتماعية والفساد الذي يشهده في طهران، ويؤدي إحباطه وإحساسه بالظلم إلى الانفجار. يقدم الفيلم نقدا دقيقا للفوارق الطبقية والضغوط المجتمعية. استطاع بناهي أن يعكس الضغوط الاجتماعية واليأس الذي يدفع البطل نحو حافة الهاوية من خلال التصوير البصري واستخدم لقطات قريبة والتصوير الواقعي للشوارع المزدحمة والأماكن الضيقة، مما دعم الإحساس بالضيق والاختناق الذي تشعر به الطبقات الفقيرة، واستطاع أن ينقل حالة الاغتراب والغضب الاجتماعي من خلال تفاصيل صغيرة وإيماءات صامتة. فاز فيلم الخامس 'تسلل' (Offside) عام 2006 بجائزة الدب الفضي، الجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان برلين السينمائي الدولي. واختار المخرج الإيراني أن تكون بطلاته هذه المرة مجموعة من الفتيات يتنكرن في زي الأولاد لحضور مباراة تصفيات كأس العالم، حيث يحظر على النساء دخول ملاعب كرة القدم في إيران. يتم القبض عليهن واحتجازهن من قبل الجنود، مما يؤدي إلى مفارقات كوميدية ساخرة. قدم الفيلم نموذجا نضاليا كوميديا في سبيل الحرية، وصنع المفارقة الدرامية بين رغبة الفتيات في مشاهدة كرة القدم والقيود السخيفة التي يفرضها المجتمع. ليس فيلما ولم يكن فيلمه السادس' هذا ليس فيلما' (This Is Not a Film) عام 2011 فيلما حقيقيا، وإنما وصفٌ المخرج لعزلته وحياته في الإقامة الجبرية، ورغم ذلك فقد حصل على جائزة 'الكوتش' الذهبي في مهرجان 'كان' السينمائي (على الرغم من عدم تمكن بناهي من الحضور، إلا أن الجائزة اعترفت بمجمل أعماله وظروفه). فقد صنع الفيلم بينما كان بناهي رهن الإقامة الجبرية وممنوعا من صناعة الأفلام، وهو عبارة عن يوميات فيديو لحياته اليومية، يظهره الفيلم محبوسا في شقته، يناقش مشاريع أفلامه التي لم تُنجز، ويتأمل في وضعه، وتم تهريبه بشكل مشهور من إيران على محرك أقراص فلاش مخبأ داخل كعكة لعرضه في 'كان'. وفاز فيلمه السابع 'الستار المغلق' (Closed Curtain) عام 2013 بجائزة الدب الفضي لأفضل سيناريو في مهرجان برلين السينمائي الدولي، ويدور الفيلم، الذي أخرجه بالمشاركة مع المخرج والكاتب الإيراني 'كامبوزيا بارتوفي'، حول رجل اعتزل في فيلا منعزلة على شاطئ البحر لتجنب السلطات، برفقة كلبه. واستخدم بناهي تقنية إزالة الحدود بين الخيال والواقع بشكل متزايد مع دخول الشخصيات وخروجها من السرد. أما فيلمه الثامن 'تاكسي' (Taxi)عام 2015 فقد فاز بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي الدولي عام 2015، وجائزة 'فيبريسي' في برلين. وقاد بناهي نفسه سيارة أجرة في شوارع طهران، وشارك في محادثات مع ركاب مختلفين من جميع مناحي الحياة. ليقدم عملا شبه وثائقي، ويرسم لوحة متنوعة للمجتمع الإيراني، ويتناول بمهارة مواضيع الرقابة والحرية والتحديات التي يواجهها المواطنون العاديون. وفاز فيلم 'ثلاثة وجوه' (Three Faces) عام 2018 بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان السينمائي. ويؤكد بناهي في هذا العمل أنه يتعامل مع حياته باعتبارها فيلما سينمائيا طويلا، ويدور العمل حول ممثلة مشهورة ومعها جعفر بناهي، الذي جسد دوره هو بنفسه، يسافران إلى قرية نائية في أذربيجان، للتحقيق في مصير فتاة شابة أرسلت رسالة فيديو يائسة تشير على ما يبدو إلى انتحارها بعد أن منعتها عائلتها من متابعة التمثيل. وفاز فيلم 'لا يوجد دببة' (No Bears) عام 2022 بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان البندقية السينمائي، وتدور أحداثه بين قصتي حب متوازيتين، كلتاهما مهددة بقوى خارجية. في إحداهما، يُخرج بناهي نفسه في قرية حدودية، فيلما عن بعد، بينما يراقب العادات المحلية والتوترات السياسية. وفي الأخرى، يحاول زوجان الفرار من إيران. استطاع الولد الفقير أن يحصل على سعفة 'كان'،هذا العام وتحول في الغرب إلى رمز للحرية الفنية والتمسك بالقيم التي يؤمن بها في مواجهة الجميع، لكن السياسة الدولية سوف تلقي، على الأرجح، بظلالها القاتمة على الجائزة وعلى الفائز بها، رغم تاريخه السينمائي.


الجزيرة
منذ 6 ساعات
- الجزيرة
في بلد أنهكته الحرب.. سورية تؤوي آلاف الحيوانات المشردة بدمشق
في بلد مزقته سنوات الحرب وأثقلته الأزمات الاقتصادية والمعيشية، بزغ نور إنساني نادر من بين ركام الإهمال، تقوده ناشطة سورية قررت أن تمنح الحياة لآلاف الأرواح المنسية في شوارع العاصمة دمشق.. ليس من البشر هذه المرة، بل من الكلاب والقطط التي وجدت في مبادرتها مأوى ورحمة. وبعيدا عن أضواء الإعلام، وفي منطقة "الصبورة" جنوب غرب دمشق، تحوّلت مبادرة فردية أطلقتها الناشطة هنادي المحتسب قبل نحو عقد من الزمن إلى عمل مؤسسي يحمل اسم جمعية ستار (الفريق السوري لإنقاذ الحيوانات)، ويعد اليوم واحدا من أكبر ملاجئ الحيوانات في سوريا. وداخل مأوى تصل مساحته إلى نحو دونمين (2000 متر مربع)، تؤوي الجمعية حوالي 1830 كلبا و816 قطة، معظمها كانت تعيش في الشوارع قبل أن تنقذها الجمعية من خطر الموت جوعا أو مرضا، أو من تداعيات الحرب التي لم تترك كائنا حيّا إلا أصابته بضرر. وتقول هنادي المحتسب إن "الفكرة بدأت عام 2014 كمبادرة صغيرة مع مجموعة من المتطوعين، تزامنا مع تصاعد الأزمة في سوريا، حيث لاحظنا أعدادا متزايدة من الحيوانات المشردة التي فقدت مصادر الغذاء والرعاية، وبعضها كان مهددا بالقتل". ورغم التحديات الكبيرة، من نقص التمويل وغياب الدعم الرسمي، وتهديدات بعض السكان الرافضين لوجود الملجأ قربهم، واصلت المحتسب وفريقها عملهم التطوعي، حتى تمكنوا من تأسيس كيان مجتمعي يعنى بحقوق الحيوان، ويوفر له الرعاية البيطرية والمأوى والطعام. وتضيف الناشطة السورية: "نحن لا ننقذ الحيوانات فقط، بل نعلّم الناس احترام الكائنات الحية، ونكافح ثقافة العنف ضد الحيوان التي تفاقمت بفعل الحرب والضغوط الاقتصادية". إعلان وتسعى "جمعية ستار" إلى توسيع نشاطها ليشمل حملات توعية في المدارس والجامعات حول أهمية الرفق بالحيوان، إلى جانب العمل على إنشاء قاعدة بيانات لتوثيق الحيوانات المفقودة والمحتاجة للرعاية. وفي ختام حديثها، تؤكد المحتسب أن رسالتها تتجاوز الجانب البيطري إلى الإنساني: "نحن نؤمن بأن الرأفة بالحيوان انعكاس للرقي المجتمعي.. وما دام فينا عطف على الضعفاء، فثمة أمل لسوريا أكثر رحمة".


الجزيرة
منذ 9 ساعات
- الجزيرة
إضاءة نقدية على القصيدة العمودية المعاصرة
القصيدة هي القصيدة، سواء جاءت عمودية أم من شعر التفعيلة الحر. ويجانب الحقيقة من يظن أن القصيدة العمودية البيتية، ذات الشطرين، تقف بلغتها المعيارية ونحوها وصرفها في وجه الحداثة الشعرية والتجديد في حقل الشعر العربي المعاصر. فالتحديث عند الشعراء العرب ظهر قبل قرون من الزمن على يد الشعراء المولدين في العصر العباسي، مثل بشار بن برد والشاعر أبي نواس الذي قال ذات مرة: "أستطيع أن أكتب شعرا بلا قافية". وأكثر من ذلك، دعا في إحدى قصائده إلى تجاوز النهج التقليدي لمطلع القصيدة الكلاسيكية الذي يبدأ بالغزل أو بالبكاء على أطلال الحبيبة التي رحلت، حين قال: قل لمن يبكي على رسم درس واقفا ما ضر لو كان جلس ثم جاء شعراء النهضة في النصف الأول من القرن العشرين ليعيدوا للقصيدة العمودية اعتبارها ومكانتها الشعرية في الأدب العربي؛ فانتشلوها من حالة الانحطاط التي خيمت عليها إلى حالة النهوض الشعري المنسجم مع تطلعات عصر النهضة وطموحاته. فظهرت بقوة، في المبنى والمعنى، قصائد كل من محمود سامي البارودي، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وجميل صدقي الزهاوي، ومحمد مهدي الجواهري، وخليل مطران، وإبراهيم طوقان، وغيرهم. فقد تخلصت القصيدة البيتية عندهم من النظم التقليدي المباشر، ولبست ثوبها اللغوي الجديد، بعيدا عن الألفاظ القديمة والمفردات التي أصبحت صعبة ومهجورة تحتاج إلى شرح وتفسير. وبهذا، أصبحت القصيدة العمودية على يد هؤلاء الشعراء الأفذاذ مهيأة لأي توليد وتجديد. فعادت القصيدة العمودية إلى الظهور بأشكال وأساليب مشابهة للموشحات الأندلسية، إذ برزت كتابة القصيدة البيتية ذات المقاطع الشعرية المختلفة القوافي على يد شعراء المهجر وبعض الشعراء المجددين في بلاد الشام. وأكثر ما ظهر هذا الأسلوب في كتابة الأناشيد والقصائد الغنائية الفصيحة. هذا التوجه الجاد نحو الانفتاح الشعري على العصر الحديث في القصيدة العمودية مهد لشكل جديد من الكتابة الشعرية، وشجع نخبة من شعراء القصيدة الكلاسيكية على البحث عن نمط جديد للشعر العربي المعاصر. فأوجدوا شعر التفعيلة الحر الذي لا يلتزم بوحدة القافية والروي، أو بنظام الشطرين في الشعر العمودي (الصدر والعجز). وفي مقدمة هؤلاء الشعراء المحدثين المبدعين: بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وصلاح عبد الصبور، وعبد الوهاب البياتي، وأحمد معطي حجازي، وأمل دنقل، ومحمود درويش، وسميح القاسم، وغيرهم. ولكن هؤلاء الشعراء المحدثين كانت بداياتهم الشعرية بكتابة القصيدة العمودية حتى إن بعضهم ظل، رغم حماسته لقصيدة التفعيلة، يحن للقصيدة العمودية ذات النفس الحديث. وكانت أكثرهم حماسة الشاعرة نازك الملائكة التي أدارت ظهرها في المرحلة الأخيرة من تجربتها الشعرية لنظام التفعيلة، وعادت لكتابة القصيدة العمودية. وأكثر من ذلك، راحت تدعو الشعراء المحدثين على صعيد الشعر الحر إلى العودة إلى أصل الشعر العربي ومنبعه، وهو الشعر العمودي الذي كان ديوان العرب على مر العصور. لم تلق دعوة الشاعرة نازك الملائكة استحسان كثير من الشعراء المجددين الذين لا يتحفظون على حضور القصيدة العمودية، ولكنهم مندفعون أكثر نحو قصيدة التفعيلة التي يرون فيها انعتاقا وتحررا من قيود الوزن الصارم الرتيب والقافية المكررة التي بالغ في وصفها الشاعر نزار قباني، فشبهها بالحجر الذي يلقمه الشاعر لنهاية كل بيت في القصيدة. وعلى الرغم من هذا الوصف المبالغ فيه، ظل الشاعر الراحل نزار قباني يكتب القصيدة العمودية من حين لآخر، شأنه في ذلك شأن غيره من الشعراء المنادين بالتجديد. غير أن هذا التجديد الشعري ظل مركزا على شكل القصيدة الخارجي أكثر من التركيز على مضمونها المعاصر والحديث الذي يجب أن يتماشى مع روح العصر المتطور على كل صعيد. وظلت القصيدة الكلاسيكية العمودية محافظة على شكلها الجذاب الجميل والأصيل، كما ظلت محافظة على موسيقاها بالقدرة ذاتها التي تحتفظ بها في حفاظها المستمر على بحورها ونظام تفعيلاتها، لا وفاء لأوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي وبحوره، بل إيمانا بطبيعتها التي لم تكن ولن تكون حائلا أمام حركات التجديد التي لا تستهدفها من قريب أو بعيد. في النصف الثاني من القرن العشرين، قامت حركة تجديد جريئة وواسعة النطاق، إذ لاحظ النقاد مدى الاندفاع إلى قصيدة التفعيلة الحرة، إلى جانب العزوف عن القصيدة العمودية. حتى إن بعض الشعراء الكلاسيكيين المتمرسين في كتابة القصيدة العمودية والمجيدين لها تماشوا مع ظاهرة شعر التفعيلة الحر وميل القراء المثقفين إلى قراءتها، فأخذوا يبعثرون أبيات القصيدة العمودية ذات الشطرين إلى أنصاف جمل وإلى أرباع جمل، ظنا منهم بأن القارئ العربي قد بدأ يملّ من قراءة القصيدة العمودية الرتيبة الأبيات والقوافي. وقد أشار إلى هذه الظاهرة المكشوفة الناقد الدكتور عز الدين إسماعيل في كتابه "الشعر العربي المعاصر". ولكن القصيدة العمودية بقيت محافظة على وجودها، وأثبتت، على أيدي شعراء مبدعين، أن لديها القدرة على أن تستوعب القضايا المعاصرة، وأن تتسع لإرهاصات وتطورات العصر الحديث بكل زخمه وتقدمه ومعطياته ومخرجاته الجديدة. فبات لزاما على نقاد الشعر المعاصر أن يقفوا وقفة طويلة ومنصفة تعطي القصيدة العمودية ما لها وما عليها بموضوعية ومن دون تحيز للون من الشعر دون آخر. ولكل من يدير وجهه للشعر الحر وظهره للشعر العمودي الأصيل والمتجدد، نقول إن القصيدة العمودية موجودة بقوة وفاعلية، ولن تموت مهما ادعى البعض بأنها على وشك الزوال؛ حيث استبدلت أنفاسها التقليدية القديمة بأنفاس جديدة منفتحة على روح العصر، وبالمقدار الذي يمكّن روادها وشعراءها المجيدين من استيعاب قضايا العصر الحديث وهمومه وتعقيداته والتعبير عنها خير تعبير. ولا يفوتنا، في معرض الحديث عن القصيدة العمودية، أن نستثني الشعراء النظامين للشعر العمودي بتسطح وسذاجة مباشرة تخلو من روح الشعر، رغم اعتنائهم بالزخرفة اللغوية والمحسنات البديعية البراقة والزعيق المباشر الذي ليس له من الشعر إلا الوزن والقافية. وهذا يذكرني بأبيات شعرية كنت، في وقت سابق بعيد، قد وجهتها لهذا النوع من النظامين المتشاعرين، أذكر منها: قد خاب من حسب القريض تكلفا ومفاعلات تنتهي بقوافي قد ضل من جعل القصائد حرفة فيسمر الكلمات كالإسكافي ونظل في انتظار نهج نقدي موضوعي وشامل يحدد عناصر القصيدة الجيدة والمعافاة، سواء كانت عمودية أم قصيدة من شعر التفعيلة الحر.