
توم باراك.. "مندوب سام" أميركي لسوريا ولبنان
لم يكن صاحب هذه اللقطة التاريخية مجرد سفير مستجد. فهو رسميا سفير الولايات المتحدة الأميركية الجديد لدى تركيا، وإلى جانب هذه المهمة غير الهينة، أسند له الرئيس دونالد ترامب في 23 مايو/أيار (أي قبل واقعة رفع العلم بأسبوع) مهمة إضافية هي "مبعوثه الخاص إلى سوريا". وإلى هذه وتلك، أنيطت بباراك مهمة ثالثة قوامها الحلول مؤقتا محل نائبة المبعوث الخاص للشرق الأوسط (ستيف ويتكوف) مورغان أورتاغوس المتخصصة بلبنان، والتي استبعدت من منصبها قبل ذلك بأقل من شهر. مما يبرر الاستنتاج بأن المهمات الثلاث التي أنيطت بباراك، والظروف الاستثنائية المحلية للبلدين العربيين اللذين كلف بالعمل فيهما، وأصداء ما يقوله لدى نخبهما الحاكمة ووسائل إعلامهما، جعلت من هذا الدبلوماسي، أقرب إلى "مندوب سام" منه إلى سفير فوق العادة.
سايكس بيكو
ففي متابعة لتصريحات الدبلوماسي ذي الجذور اللبنانية، خلال الشهرين اللاحقين على تعيينه في منصبه الجديد تطرق باراك لملفات تتصل بخرائط سوريا ولبنان ومستقبل شعبيهما. فهجا في 27 مايو/أيار في منشور على صفحته على منصة إكس اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة التي قسمت المشرق العربي إلى دول قائلا: إنّ "الخطأ الذي ارتُكب قبل قرن، حين فرض الغرب خرائط وانتدابات وحدودا بالقلم، وأخضع الشرق الأوسط لحكم أجنبي، لن يتكرر". وقال أيضا إن "عصر التدخل الغربي قد انتهى"، وإن المستقبل في سوريا سيكون "للحلول الإقليمية، والشراكات، ولدبلوماسية تقوم على الاحترام".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
لماذا تفشل إيران في تفكيك شبكات الموساد؟
في شهر يونيو/حزيران 2025، استفاقت طهران على صدمة اغتيال صفوة قادتها العسكريين، بمَن فيهم رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة اللواء محمد باقري، وقائد الحرس الثوري اللواء حسين سلامي ، فضلا عن مقتل قائد القوات الجو فضائية بالحرس الثوري اللواء أمير حاجي زاده رفقة هيئة أركانه، وذلك في الساعات الأولى للهجوم الإسرائيلي. وأعقب تلك الهجمات ببضعة أيام تصفية قائد استخبارات الحرس الثوري العميد محمد كاظمي وعدد من مساعديه. بمرور الوقت تتكشف تفاصيل إضافية لما حدث خلال الحرب، حيث كشفت وكالة أنباء "فارس" الرسمية، في 13 يوليو/تموز الجاري، عن أن إسرائيل استهدفت في اليوم الرابع للحرب اجتماعا رفيع المستوى للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، حضره رؤساء السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، حيث هوجمت مداخل ومخارج قاعة الاجتماع في الطابق السفلي لمبنى محصن غرب طهران بقنابل ثقيلة بهدف شل حركة الخروج وقطع تدفق الهواء، على غرار ما رشح من معلومات في عملية اغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله. تمكّن المجتمعون من النجاة عبر فتحة طوارئ، لكنّ عددا منهم، وبينهم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، أُصيبوا بجروح طفيفة. وتُجري السلطات تحقيقا في احتمال وجود اختراق بشري مباشر مَكّن تل أبيب من معرفة توقيت الاجتماع وموقعه. عكَسَ هذا التطور لحظة انكشاف إضافية لأعلى مستوى في منظومة القرار السيادي الإيراني. فلم تكن الضربات مجرد تصعيد عسكري في الحرب التي اندلعت فجأة، بل كانت إعلانا فجًّا عن نصر استخباراتي إسرائيلي بُنِي على مدى عقدين من التغلغل والاختراق، وأصبح السؤال الرئيسي عن حجم الشبكات الاستخبارية التي مَكّنت إسرائيل من تنفيذ تلك العمليات النوعية في قلب طهران. الملمح الأساسي في تلك الضربات هو طبيعة أهدافها ودقة تنفيذها وتنوّع أدواتها، فبعضها تم بطائرات مسيّرة، والبعض الآخر بعبوات ناسفة داخل مركبات، وبعضها بفرق اغتيال فضلا عن القصف الجوي. هذا التنوع في أساليب التنفيذ كشف وجود طبقات متعددة من العملاء داخل المؤسسات الإيرانية ذاتها، وجعل من الصعب التنبؤ بنمط الضربات أو منع تكرارها. وتشير المعطيات الميدانية إلى أن الموساد لم يعتمد فقط على التكنولوجيا، بل على شبكات بشرية مزروعة في محيط القيادات، وفي دوائر لوجستية سهّلت مراقبة التحركات وتوفير معلومات حساسة عن الاجتماعات والمواكب والسيارات المستخدمة وحتى المنازل ومقرات القيادة الآمنة والبديلة. التراكم الاستخباراتي الإسرائيلي ما جرى في يونيو/حزيران 2025 لم يكن سوى تتويج لمسار طويل من حرب الظل. فمنذ أكثر من عقد، كثّف جهاز الموساد من أنشطته داخل إيران، مستهدِفا العلماء النوويين، ومنشآت التخصيب، وكوادر في الحرس الثوري. ونفّذ عمليات اغتيال لعلماء نوويين مثل مسعود محمدي وداريوش رضائي ومصطفى روشن مطلع العقد الماضي، ثم سرق نصف طن من وثائق الأرشيف النووي عام 2018، واغتال العالِم البارز محسن فخري زاده في 2020، ثم اغتال العقيد في فيلق القدس حسن صياد خدائي برصاص مسلحين قرب منزله في طهران عام 2022 بذريعة إشرافه على محاولات تنفيذ عمليات اختطاف واغتيالات لإسرائيليين في قبرص ودول أخرى، وأخيرا اغتيال قائد حركة حماس إسماعيل هنية في غرفته بمجمع تابع للحرس الثوري في طهران عام 2024. أشارت تلك الهجمات إلى مراكمة ممنهجة لقدرة إسرائيل على ضرب إيران من الداخل، وأن الموساد نقل الصراع من ميدان المواجهة العسكرية إلى شوارع طهران، وهو ما كان من المفترض أن يدفع إلى عملية مراجعة عميقة وإعادة هيكلة لأجهزة الأمن الإيرانية لتحديد الخروقات وعلاجها. وفي هذا السياق، يُذكّرنا جيمس أولسون، الرئيس السابق لقسم مكافحة التجسس في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ، بطبيعة هذا النوع من الصراعات الاستخبارية، حيث شدّد في كتابه "كيف تقبض على جاسوس؟" على أن أفضل أساليب مكافحة التجسس هي اختراق أجهزة الاستخبارات المُعادية، وتجنيد الضباط المسؤولين عن شبكات الاختراق، وهي مقاربة تؤكد أن الردع الاستخباري لا يُبنى على الدفاع وحده، بل على المبادرة الهجومية. تعدد الأجهزة وتشظي القرار الأمني تُعاني إيران من مأزق يتجلى في تعدد مؤسساتها الأمنية وتضارب صلاحياتها. فبدلا من وجود جهاز استخبارات مركزي موحد، تتوزع المهام بين وزارة الاستخبارات (إطلاعات) واستخبارات الحرس الثوري، إضافة إلى أجهزة استخبارات تابعة للشرطة، والقضاء، والباسيج، والجيش. ورغم أن وزارة الاستخبارات أُنشئت عام 1984 بهدف دمج الأجهزة الأمنية المتناحرة بعد الثورة، فضلا عن تخويلها "بالحصول على معلومات الاستخبارات الأجنبية ومعالجتها، وإجراء عمليات مكافحة التجسس لمنع المؤامرات الداخلية والخارجية ضد الثورة الإسلامية والجمهورية الإسلامية الإيرانية"، حسب ما ورد في قانون تأسيس الوزارة، فإنها فشلت في احتواء هذا التشظي. ومع صعود الحرس الثوري في العقدين الأخيرين، تحولت وزارة الاستخبارات التي يشترط قانون تأسيسها أن يكون الوزير شخصا حاصلا على درجة الاجتهاد الديني وفق المذهب الشيعي، إلى جهة بيروقراطية تخضع لإشراف السلطة التنفيذية، وتتقاسم النفوذ مع جهاز استخبارات الحرس الذي تأسس بعد احتجاجات 2009. وبينما يُفترض أن تتكامل المؤسستان، فإن العلاقة بينهما ظلت على الدوام مشوبة بالتنافس. لقد علَّق قائد الحرس الثوري السابق وأمين مجلس تشخيص مصلحة النظام محسن رضائي على حادث التخريب في مفاعل نطنز واغتيال العالم النووي فخري زاده بالدعوة إلى تطهير مجتمع الاستخبارات، فيما ألقى وزير الاستخبارات السابق محمود علوي (2013-2021) باللوم على الحرس الثوري في اغتيال زاده لمسؤوليته عن أمن كبار المسؤولين والشخصيات البارزة، كما اتهم استخبارات الحرس الثوري بتعرضها للاختراق من طرف الموساد. فيما ألقى علي يونسي، وزير الاستخبارات الأسبق (1999-2005) في عهد خاتمي، باللوم في إخفاقات مكافحة التجسس على إنشاء منظمات موازية، والتنافس بين الأجهزة الأمنية، وتسييس الأمن عبر التركيز المفرط على المعارضين بدلا من حماية البلاد من التهديدات الخارجية. هذا التشظي الهيكلي حال دون بناء منظومة استخبارات مضادة متماسكة، وجعل الأمن الإيراني مشلولا، حيث تسعى كل جهة إلى توسيع نفوذها، حتى لو أدى ذلك إلى فوضى في توزيع المسؤوليات، وإلى ثغرات يستغلها الموساد بنجاح، مما سمح له بالتحرك في الفراغات الناتجة عن صراع النفوذ بين المؤسستين بحسب تحليلات عدد من المختصين الإيرانيين ولذا لم يكن غريبا أن تتكرّر عمليات تسلل العملاء أو أن يتنقل عناصر يُشتبه بتخابرهم بين المؤسسات دون كشفهم. أبرز مثال على ذلك هو علي رضا أكبري، نائب وزير الدفاع الذي أُعدم لاحقا عام 2023 بتهمة التجسس، بعدما شغل مناصب رفيعة رغم وجود إشارات أمنية تحذيرية، مما كشف أن مَن يجاهرون بولائهم الكامل للنظام أصبحوا هم الحلقة الأضعف أمنيا، كونهم أقل خضوعا للرقابة، وأقرب إلى مواقع النفوذ. إشكالية الاستمرارية الطويلة في القيادة الاستخباراتية: حالة حسين طائب يُظهر بقاء حسين طائب على رأس جهاز استخبارات الحرس الثوري منذ تأسيسه في عام 2009 حتى عام 2022 نموذجا لمشكلة أعمق في بنية القيادة الأمنية الإيرانية، وهي غياب التداول المؤسسي في المواقع الحساسة كما فعلى مدار أكثر من عقد، ارتبطت السياسات الاستخباراتية لطائب بمرحلة حساسة من التحديات الخارجية، لا سيما مع تصاعد أنشطة الموساد داخل إيران. ورغم أن الاستمرارية قد توفّر أحيانا نوعا من الثبات والاستقرار، فإن بقاء القادة في مواقعهم لفترات مطوّلة دون تجديد في المناهج يفتح الباب أمام تكرار الأنماط، ويُقلل من قدرة الجهاز الأمني على التكيف مع طبيعة التهديدات المتغيرة. كما أن طول بقاء المسؤول في منصبه يُنتج بالضرورة شبكات نفوذ داخل الجهاز نفسه، ما قد يُضعف الرقابة الداخلية والتقييم المهني لمجريات الأمور. هذا النمط من الجمود القيادي لا يُسهّل الاختراقات الخارجية فقط، بل يعوق أيضا التطوير التكنولوجي وتحديث العقيدة الأمنية، خاصة في مواجهة خصم يُراكم أدواته ويُجدد آلياته باستمرار كما هو حال الموساد. الرد الأمني الإيراني ردًّا على التصعيد الإسرائيلي داخل العمق الإيراني، أطلقت الأجهزة الأمنية حملة موسعة لتأمين الجبهة الداخلية بطريقة أقرب إلى إعلان الطوارئ الأمنية الشاملة. فنُشرت آلاف العناصر الأمنية في شوارع طهران والمدن الكبرى، وأُقيمت نقاط تفتيش دائمة في مداخل الأحياء والطرقات الرئيسية، وصودرت الأجهزة المحمولة من المواطنين بحثا عن إشارات اتصال مشبوهة أو محتوى سياسي، وأُعلن عن تفكيك شبكات متعاونة مع الموساد، وملاحقة الأنشطة الرقمية التي قد تُستغل لاختراق المنظومات الدفاعية، كما أُعدم 5 أشخاص على الأقل سبق إدانتهم بالتعاون مع الموساد. وضمن هذا السياق، أعلنت وزارة الاستخبارات واستخبارات الحرس الثوري ضبط نحو 10 آلاف طائرة مسيرة صغيرة في طهران وحدها، وضبط ورشة في أصفهان لتصنيع الطائرات بدون طيار والمتفجرات، واعتقال 18 شخصا إثر ضبط مصنع للطائرات المسيرة الهجومية والتجسسية في مدينة مشهد، وضبط ورشة سرية كبيرة في مدينة "ري" لتصنيع طائرات مسيرة صغيرة وقنابل موقوتة، واعتقال عملاء أطلقوا مسيرات صغيرة من الجبال الشمالية الغربية المُطلة على طهران، واعتقال 50 شخصا في سيستان وبلوشستان بتهم التجسس والإرهاب. وقد وثّق تقرير لموقع "هرانا" الحقوقي اعتقال أكثر من 1500 شخص خلال أسبوعين، بينهم مئات اتُّهموا بالإخلال بالأمن القومي أو دعم إسرائيل عبر منصات التواصل، وتنوّعت التهم بين "نشر محتوى مضلل"، و"إعادة نشر صور للهجمات"، و"التجسس"، و"توجيه طائرات مسيرة". كما شملت الحملة اعتقالات في أوساط المواطنين الإيرانيين اليهود والبهائيين، بدعوى التواصل مع جهات أجنبية، إضافة إلى مداهمات ومصادرة هواتف مهاجرين أفغان بزعم احتمال استغلالهم في جمع المعلومات. وقد أفادت وزارة الداخلية الإيرانية بعودة 772 ألف أفغاني إلى بلادهم خلال العام الجاري، وهو ما تصاعد إثر حملات ترحيل قسرية بحجة ضلوع بعض اللاجئين الأفغان في عمليات التجسس. تُقدَّم هذه الإجراءات باعتبارها جزءا من تحصين الأمن الداخلي في لحظة اشتباك استخباراتي عنيف، لكن هذه الحملات، على اتساعها، لم تُفضِ بعد إلى تفكيك الشبكات التي نفّذت الاغتيالات أو وفّرت معلومات دقيقة عن مواقع الاجتماعات القيادية، ما يثير شكوكا حول قدرتها الفعلية على معالجة منابع الاختراق لا أعراضه. وفي المجال التشريعي، حاول البرلمان الإيراني تمرير قانون يغلظ عقوبة "التعاون مع الدول المعادية"، ويصنفه ضمن تهم "الإفساد في الأرض" التي تصل عقوبتها إلى الإعدام. غير أن مجلس صيانة الدستور تحفّظ على المشروع، مشيرا إلى غموض مفاهيمه، وعدم تحديد الجهة التي تُعرّف "العدو". كما لجأت الحكومة إلى فرض قيود رقمية واسعة، فحجبت بعض التطبيقات الأجنبية، وقنَّنت سرعة الإنترنت، وراقبت شركات الاتصالات حركة الرسائل والمكالمات، بما في ذلك الرسائل النصية التقليدية. الخاتمة.. حلول محتملة كشفت المواجهات الأخيرة بين إيران وإسرائيل أن التحدي الذي تواجهه الأجهزة الإيرانية لا يقتصر على صدّ اختراق أمني هنا أو هناك، بل يتمثل في إعادة تعريف العقيدة الأمنية ذاتها، وتطوير أدواتها لتتلاءم مع طبيعة التهديد المتغير الذي يستخدم التكنولوجيا والشبكات البشرية والنفوذ الرقمي بوصفها وسائل رئيسية للتأثير والاختراق. فما حدث من عمليات اغتيال دقيقة، واستهداف لاجتماعات سيادية، يعكس وجود فجوة عميقة في آليات الكشف والردع، فجوة لا يُمكن معالجتها بإجراءات ظرفية أو بحملات أمنية داخلية موسعة فقط. فبينما نجحت الأجهزة في توقيف عدد من الأفراد المشتبه بتورطهم أو تعاونهم مع جهات أجنبية، بقيت الأسئلة قائمة حول هوية الفاعلين الحقيقيين ومسارات الاختراق النوعية. وفي المقابل، لا يُمكن إنكار أن طبيعة المواجهة غير متكافئة في كثير من أوجهها، فإسرائيل تحظى بدعم أجهزة الاستخبارات الغربية بشكل كبير، ولديها أحدث التقنيات، بينما طهران لا تحظى بدعم مثيل من دول أخرى، ورغم ذلك فالواقع يفرض عليها تطوير منظومتها الأمنية بعقلانية بعيدا عن منطق المعالجات الانفعالية. إن المرحلة المقبلة تضع إيران أمام استحقاق مزدوج: الحفاظ على الأمن والسيادة من جهة، وتعزيز ثقة المجتمع بمؤسساته من جهة أخرى. ولن يتحقق هذا التوازن إلا إذا استندت السياسات الأمنية إلى رؤية إستراتيجية طويلة المدى تُبنى على دراسة الأخطاء السابقة، والاعتماد على أصحاب الكفاءة، وتخصيص الموارد اللازمة لبناء منظومة مكافحة تجسس فعالة. في النهاية، لا تُقاس السيادة فقط بمدى السيطرة على الأرض، بل أيضا بقدرة الدولة على حماية نُخَبها ومواطنيها من الاختراق، وعلى التكيّف مع أنماط التهديد الجديدة، دون أن تُفرط في أمنها أو تُقوّض نسيجها الداخلي.


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
الحرب على غزة مباشر.. 70 شهيدا خلال 24 ساعة والاحتلال يواصل قصف خيام النازحين
في اليوم الـ649 من حرب الإبادة على غزة ، واصلت إسرائيل غاراتها على القطاع، واستشهد 70 فلسطينيا خلال الـ24 ساعة الماضية، بينهم 49 في مدينة غزة، إثر الغارات المتواصلة على منازل وخيام النازحين وتجمعات لمنتظري "المساعدات".


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
مسرحية ترامب المذهلة
في التاسع من يوليو/ تموز، افتتح رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب قمة مصغّرة استمرت ثلاثة أيام في البيت الأبيض، بمشاركة قادة كل من الغابون، غينيا بيساو، ليبيريا، موريتانيا، والسنغال – وذلك من خلال إخضاع ضيوفه المميزين لمشهد إهانة علنية مدروسة بعناية. لم يكن هذا هو المخطط، أو على الأقل، لم يكن الجزء الذي يُفترض بالجمهور أن يراه. صرّح مسؤول في البيت الأبيض في الثالث من يوليو/ تموز بأن "الرئيس ترامب يؤمن بأن الدول الأفريقية توفّر فرصًا تجارية مذهلة تعود بالفائدة على كل من الشعب الأميركي وشركائنا الأفارقة". سواء أكان ذلك من قبيل المصادفة أم من تخطيط محسوب، فقد انعقد الاجتماع في اليوم نفسه الذي صعّدت فيه إدارة ترامب حربها التجارية، من خلال فرض رسوم جمركية جديدة على ثماني دول، من بينها ليبيا والجزائر في شمال أفريقيا. وقد شكّل هذا تناقضًا لافتًا: فبينما كان ترامب يزعم أنه يعمل على "تعزيز العلاقات مع أفريقيا"، كانت إدارته تعاقب دولًا أفريقية. وقد كشفت الصورة العامة عن التناقض – أو ربما الصراحة – في سياسة ترامب الأفريقية، حيث تُقدَّم الشراكة بوصفها مشروطة، وغالبًا لا يمكن تمييزها عن العقوبة. افتتح ترامب القمة بخطاب استمر أربع دقائق، ادعى فيه أن القادة الخمسة المدعوين يمثلون القارة الأفريقية بأسرها. ولم يكن مهمًا أن دولهم بالكاد تظهر في إحصاءات التجارة بين الولايات المتحدة وأفريقيا؛ ما كان يهم فعليًا هو الذهب والنفط والمعادن المدفونة في باطن أراضيهم. وقد شكر "هؤلاء القادة العظماء… القادمين جميعًا من أماكن نابضة بالحياة، ذات أراضٍ ثمينة، ومعادن رائعة، واحتياطيات نفطية عظيمة، وشعوب مميزة". ثم أعلن أن الولايات المتحدة "تتحول من تقديم المساعدات إلى التبادل التجاري"، مبرّرًا ذلك بالقول: "لأن هذا سيكون أكثر فاعلية واستدامة وفائدة من أي شيء آخر يمكننا القيام به معًا". في تلك اللحظة، انهارت وهمية الدبلوماسية، وكُشف عن الطبيعة الحقيقية للاجتماع. فقد انتقل ترامب من دور رجل الدولة إلى دور الاستعراض. وسرعان ما انحدرت القمة إلى عرض محرج، جُسّدت فيه أفريقيا لا بوصفها قارة دول ذات سيادة، بل كمساحة غنية بالموارد الطبيعية، يمثلها قادة منقادون يؤدّون أدوارهم أمام الكاميرات. لم يكن ذلك حوارًا، بل استعراضًا للهيمنة: هو إنتاج مسرحي مُعد مسبقًا. كان الحدث وكأنه عرض دمى، يوجّه فيه كل ضيف أفريقي لأداء دوره والردّ بطريقة إيجابية في عرض مصمَّم بعناية يُظهر الخضوع والتبجيل. وتقدَّم الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني المشهد، جسديًا ورمزيًا، بإشادته بـ"التزام" ترامب تجاه أفريقيا. وقد بدت هذه الإشادة مفارِقة للواقع وسريالية في ظل تقليص واشنطن للمساعدات مؤخرًا، وفرضها تعريفات جمركية عقابية، وتشديدها قيود التأشيرات على دول أفريقية. في لحظة محرجة بشكل خاص، وصف الغزواني ترامب بأنه "صانع السلام الأول في العالم"، منسوبًا إليه – من بين أمور أخرى – الفضل في "إيقاف الحرب بين إيران وإسرائيل". وقد جاءت هذه الإشادة دون أي إشارة إلى الدعم العسكري والدبلوماسي المتواصل الذي تقدمه الولايات المتحدة للحرب الإسرائيلية على غزة، وهي الحرب التي دانها الاتحاد الأفريقي بشكل قاطع. وكان هذا الصمت بمثابة محو محسوب لمعاناة الفلسطينيين في سبيل كسب رضا أميركي. ربما بفعل القلق من تداعيات الرسوم الجمركية التي تلوح في الأفق على بلاده، تبنّى الغزواني، الذي ترأس الاتحاد الأفريقي في عام 2024، خطابًا يتسم بمرونة ملحوظة تجاه إدارة ترامب. لقد دعا ترامب – بشكل غير مباشر – إلى استغلال المعادن النادرة في موريتانيا، وامتدحه، ونعته بصانع السلام، متجاهلًا المجازر التي أودت بحياة عشرات الآلاف من الأبرياء في غزة، والتي ارتُكبت بأسلحة وفّرتها إدارة ترامب نفسها. هذا النمط من التودد طبع كامل الجلسة. واحدًا تلو الآخر، قدّم القادة الأفارقة لترامب مديحًا مبالغًا فيه، وفتحوا له أبواب الوصول إلى الموارد الطبيعية في بلدانهم – في تذكير مقلق بمدى سهولة توجيه الطاعة حين تكون السلطة هي من تُملي النص. حتى رئيس السنغال، باسيرو ديوماي فاي، طلب من ترامب أن يبني ملعب غولف في بلاده. لكن ترامب رفض، مفضّلًا أن يعلّق على مظهر فاي الشاب. أما رئيس الغابون، بريس كلوتير أوليغي نغيما، فتحدّث عن شراكات "رابح-رابح" مع الولايات المتحدة، لكنه لم يتلقَّ سوى ردّ فاتر. ما لفت انتباه ترامب حقًا كان طلاقة رئيس ليبيريا، جوزيف بواكاي، في التحدث باللغة الإنجليزية. فبدلًا من أن يُعير اهتمامًا لمضمون حديث بواكاي، أبدى ترامب انبهاره بـ"إنجليزيته الجميلة"، وسأله: "من أين تعلمت أن تتحدث بهذا الجمال؟ أين تلقيت تعليمك؟ أين؟ في ليبيريا؟" أن يبدو ترامب غير مدرك أن اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية في ليبيريا منذ تأسيسها عام 1822 كملاذ للعبيد المحرّرين من الولايات المتحدة، لم يكن صادمًا بقدر ما كان النبرة الاستعمارية في سؤاله. فقد عكس اندهاشه من طلاقة رئيس أفريقي في اللغة الإنجليزية تصورات نمطية متجذرة تعود إلى موروث استعماري قديم. لم تكن تلك زلة معزولة. ففي مراسم سلام أقيمت في البيت الأبيض يوم 29 يونيو/ حزيران، وشملت جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا، علّق ترامب علنًا على مظهر الصحفية الأنغولية ومراسلة البيت الأبيض هاريانا فيراس، قائلًا لها: "أنتِ جميلة – وأنتِ جميلة من الداخل أيضًا." سواء كانت فيراس "جميلة" أم لا، فهذه ليست النقطة. تصرّف ترامب كان غير لائق وغير مهني، إذ اختزل صحفية محترمة إلى مظهرها الخارجي في خضم حدث دبلوماسي مهم. هذا التشييء الجنسي للنساء السود – والنظر إليهن كأدوات لرغبة الرجل الأبيض لا كشريكات فكريات – كان محوريًا في تجارة الرق عبر الأطلسي والاستعمار الأوروبي. وتعليق ترامب لم يكن سوى امتداد لذلك الإرث حتى يومنا هذا. وبالمثل، فإن دهشة ترامب من إجادة بواكاي اللغة الإنجليزية تنسجم مع نمط استعماري طويل الأمد. إذ غالبًا ما يُنظر إلى الأفارقة الذين "يتقنون" لغة المستعمر ليس بوصفهم مثقفين معقدين ومتعددي اللغات، بل كأتباع امتصّوا ثقافة الهيمنة. ويُكافَؤون على قربهم من البياض، لا على فكرهم أو استقلالهم. تصريحات ترامب كشفت عن اعتقاده بأن الأفارقة الذين يتمتعون ببلاغة لغوية أو جاذبية شكلية هم حالة استثنائية، وفضول يستحق الإعجاب العابر. ومن خلال اختزال كل من بواكاي وفيراس إلى مجرد فضول بصري، تجاهل ترامب إنجازاتهما بشكل كامل. أكثر من أي شيء آخر، فقد جرّدت تعليقات ترامب القمة من أي وهم بأنها كانت تدور حول شراكة حقيقية. وللمقارنة، يمكن النظر إلى قمة قادة الولايات المتحدة وأفريقيا التي عقدها الرئيس جو بايدن في ديسمبر/ كانون الأول 2022. في ذلك الحدث، استُقبل أكثر من 40 رئيس دولة أفريقية، إضافة إلى ممثلين عن الاتحاد الأفريقي والمجتمع المدني والقطاع الخاص. يبقى من غير المفهوم كيف توصّلت إدارة ترامب إلى أن خمسة رجال يمكن أن يمثلوا قارة بأكملها، ما لم يكن الهدف في الحقيقة ليس التمثيل على الإطلاق، بل السيطرة. فترامب لم يكن يريد تفاعلاً حقيقيًا، بل استعراضًا. وللأسف، فقد لبّى ضيوفه هذا الطلب. وعلى النقيض من اللقاء المنضبط والمنظم بعناية الذي عقده ترامب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الثامن من يوليو/ تموز، بدا الغداء مع القادة الأفارقة كعرض جانبي فوضوي، خالٍ من الحسّ السياسي. كان فاي مخيبًا للآمال بشكل خاص. فقد وصل إلى السلطة على أساس برنامج مناهض للإمبريالية، متعهدًا بقطع الصلة مع السياسات الاستعمارية الجديدة واستعادة كرامة أفريقيا. ومع ذلك، في البيت الأبيض، لم يكن الأمر كذلك. وكغيره، فشل في تحدي ترامب، أو التأكيد على مبدأ المساواة، أو الدفاع عن السيادة التي يجاهر بالدعوة إليها علنًا في بلاده. في لحظة كان يمكن لقادة أفريقيا أن يتصدّوا فيها لعقلية استعمارية تتجدد، لكنهم منحوا ترامب الفرصة لإحياء خيال الهيمنة الغربية من القرن السادس عشر. ولمكافأتهم، عرض عليهم ترامب "جائزة": ربما لن يفرض رسومًا جمركية جديدة على بلدانهم، قائلًا: "لأنهم الآن أصدقائي". ترامب، "السيّد"، انتصر.