
مبادرة فرنسية – سعودية للأمم المتحدة تهدف لإيقاظ المجتمع الدولي
تعتزم الأمم المتحدة عقد مؤتمر لتعزيز حلّ الدولتين في فلسطين برئاسة مشتركة من فرنسا والمملكة العربية السعودية. ومن المقرّر عقد المؤتمر الذي دعت إليه الجمعية العامة في ديسمبر/كانون الأول 2024 يومي 28 و29 يوليو/تموز في مقر الأمم المتحدة بنيويورك. وبغض النظر عن النتيجة، لا أجد مؤتمراً للأمم المتحدة أهم من هذا الموضوع الحيوي الذي بليت به إسرائيل والفلسطينيين لما يقرب من ثمانية عقود.
لكن ما يُثير الحيرة هو أن إدارة ترامب تُثني حكومات العالم عن حضور المؤتمر. ينص التحذير الدبلوماسي الذي أُرسل يوم الثلاثاء 10 يونيو/حزيران على أن الدول التي تتخذ 'إجراءات معادية لإسرائيل' عقب المؤتمر ستُعتبر متعارضة مع مصالح السياسة الخارجية الأمريكية وقد تواجه عواقب دبلوماسية من واشنطن.
وتكمن المفارقة هنا في أنه عندما كشف ترامب عن خطة إدارته للسلام في الشرق الأوسط في البيت الأبيض في 28 يناير/كانون الثاني 2020، فقد أيد صراحةً حل الدولتين، قائلاً: 'رؤيتي تُقدم فرصة مربحة للجانبين، حلاً واقعيًا قائمًا على دولتين يُعالج خطر إقامة دولة فلسطينية على أمن إسرائيل'.
ينبغي على ترامب الذي يُفترض أنه يهتم بالأمن القومي لإسرائيل واستمرارية بقائها كدولة مستقلة أن يعلم، كما أثبت الزمن مرارًا وتكرارًا، أن أمن إسرائيل النهائي يكمن في إنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. فبدلاً من تشجيع فرنسا والمملكة العربية السعودية على مبادرتهما والإشادة بهما، فإن تحذيره الدبلوماسي مُشين لأنه لن يؤدي إلا إلى إطالة أمد الصراع لعقود قادمة على حساب كلا الجانبين.
كان من غير المعقول أن يُوجّه هذا التهديد المُحيّر للدول التي ستدعم القرار، لا سيما في ظلّ الحرب المروعة الدائرة في غزة، والتي أثبتت أن الوضع الراهن لم يكن ولن يكون مستدامًا. سيزداد الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني تعقيدًا وفتكا وسيُتوّج من جديد بعنفٍ سيُلقي بظلاله حتى على الحرب الكارثية الحالية في غزة، مُسببًا موتًا ودمارًا لا يُحصى من كلا الجانبين.
غالبا ً ما تُوقظ أي أزمة بهذا الحجم الناس على واقعهم المُرّ، مُثيرةً تساؤلًا حول كيفية تغيير الديناميكية لإنهاء صراع مُتفشٍّ كهذا، والبحث عن انفراجة من الإنهيار الوشيك غير المسبوق الذي عجّلت به حرب إسرائيل وحماس.
علاوة على ذلك، فإن دراسة تاريخ الصراع، مع الأخذ في الإعتبار الحالة النفسية للشعبين، ومطالباتهما الراسخة بالأرض نفسها، وما حدث على مر السنين، قد أثبتت بشكل لا لبس فيه أن وجود دولتين مستقلتين فقط يُتيح حلًا عمليًا ومستدامًا. وهكذا، فقد ثبت خطأ من نعوا حلّ الدولتين خطأً ذريعاً. ولم تصمد الخيارات الأخرى التي طُرحت أمام التدقيق.
عدم استدامة الوضع الراهن
يزداد الوضع الراهن صعوبةً، كما تُظهر الحرب الحالية وتصاعد العنف في الضفة الغربية بجلاء. فقد أظهرت قرابة ستة عقود من الإحتلال اتسمت بالعنف والإنتفاضات والإرهاب والتوغلات المتكررة في غزة، والتي بلغت ذروتها في الحرب بين إسرائيل وحماس، أن هذا الإحتلال غير قابل للإستمرار. علاوة على ذلك، أدى الحفاظ على الوضع الراهن إلى خلق واقع دولة واحدة بحكم الأمر الواقع. وقد قاوم الفلسطينيون بشدة، ولا يزالون يقاومون، لأنه خلق نظام فصل عنصري بحكم الأمر الواقع، حيث يُحكم اليهود الإسرائيليون في الضفة الغربية بالقانون المدني، بينما يُحكم الفلسطينيون بالأحكام العرفية.
دولة ديمقراطية واحدة
يرحب الفلسطينيون بدولة ديمقراطية واحدة، إذ يمكنهم، في انتخابات حرة ونزيهة تشكيل أغلبية قريبًا، وربما حكم إسرائيل. يوجد ما يقرب من 3 ملايين فلسطيني في الضفة الغربية و2.1 مليون في غزة ومليونان في إسرائيل نفسها، أي ما مجموعه أكثر من 7 ملايين، وهو ما يعادل تقريبًا عدد السكان اليهود الإسرائيليين. هذا من شأنه أن يقوّض أسس إسرائيل كدولة يهودية، وهو أمر مرفوض رفضًا قاطعًا من جميع الإسرائيليين تقريبًا بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية.
كيان فلسطيني مستقل
هناك خيار آخر يتمثل في إنشاء كيان فلسطيني مستقل في الضفة الغربية وغزة، يشمل المنطقتين 'أ' و'ب'، و80 إلى 90% من المنطقة 'ج'، وغزة. سيكون هذا الكيان منزوع السلاح، لكنه يحافظ على الأمن الداخلي بالتعاون مع إسرائيل، مما يُنهي الإحتلال نظريًا. من جانبها ترفض إسرائيل التخلي عن السيطرة الأمنية الشاملة خوفًا على سلامتها. وقد واصل الفلسطينيون رفضهم القاطع لهذا الخيار، لأنه سيُنتزع حقهم في إقامة دولة.
حلّ الدولتين
يبقى حلّ الدولتين – دولتان مستقلتان تتعايشان بسلام وتحترمان سيادة وحقوق كل منهما الأخرى – الخيار الوحيد القابل للتطبيق. وبالنظر إلى التداخل السكاني في الضفة الغربية والواقع المتغيّر منذ عام 1967، فإن التعاون الأمني والإقتصادي الوثيق شرطان أساسيان لسلام مستدام.
يجب على الإسرائيليين والفلسطينيين تقبّل حقيقة أن تعايشهم لا رجعة فيه. أمامهم خياران فقط: إما أن ينموا ويزدهروا ويعيشوا بسلام معًا، أو أن يستمروا في دوامة العنف لعقود قادمة. الخيار لهم – إما أن يورثوا الحياة أو الموت للأجيال القادمة.
للأسف، سيستمر الإسرائيليون والفلسطينيون في المعاناة ودفع ثمن باهظ من الدماء والأموال ما دام نتنياهو أو أي شخص آخر من أمثاله في السلطة. لقد تعهد بعدم السماح أبدًا بإقامة دولة فلسطينية في عهده، وهو الآن يستغل الحرب في غزة ليدفن نهائيًا أي أمل في قيام دولة فلسطينية مستقلة، وهو أمر سيفلت منه مهما حاول. والأسوأ من ذلك، أنه لم يتوصل إلى أي حل مقبول للطرفين لإنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.
يستطيع ترامب من ناحية أخرى استخدام نفوذه لتغيير ديناميكية الصراع وجذب الإسرائيليين الذين يثقون به وشرح لماذا يوفر لهم حلّ الدولتين وحده الأمن القومي النهائي. يمكنه كبح جماح نتنياهو لإنهاء الحرب في غزة، ووضع استراتيجية للخروج والتحرك نحو إيجاد مسار يؤدي، مع مرور الوقت، إلى إقامة دولة فلسطينية. وقد أبلغه السعوديون أنه لن يكون هناك تطبيع للعلاقات مع إسرائيل ما لم يتم إرساء مثل هذا المسار الموثوق.
وبدلاً من ذلك، اختار أن يُظهر لجمهوره، وخاصة الإنجيليين، اهتمامه البالغ بإسرائيل، بينما في الواقع يجعل إسرائيل أكثر ضعفًا وانعدامًا للأمن بترك الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني يتفاقم دون نهاية تلوح في الأفق. والآن يهدّد بلا خجل بمعاقبة الدول التي ستدعم المبادرة الفرنسية – السعودية في الأمم المتحدة، بدلاً من تبنيها من كلّ قلبه.
نتنياهو وترامب شخصان مضللان بشكل خطير، يُثير عجزهما وسوء فهمهما الحيرة لما يتطلبه إنهاء أطول صراع وأكثرها دموية منذ الحرب العالمية الثانية. ستكون دماء الإسرائيليين والفلسطينيين الذين سيستمرون في الموت في هذا الصراع لأجيال قادمة ملطخة بأيديهما.
لا أقلل للحظة واحدة من مدى صعوبة، بل واستحالة، حلّ العديد من القضايا الخلافية بين إسرائيل والفلسطينيين والتوصل إلى اتفاق قائم على حل الدولتين. ومع ذلك، في غياب أي خيار آخر قابل للتطبيق ليس أمامهما خيار سوى التوقف عند حد ّمعين وتقديم التنازلات اللازمة، بغض النظر عن المدة التي قد يستغرقها التوصل إلى اتفاق.
أُشيد بالمبادرة الفرنسية – السعودية لمحاولتها إحياء آفاق حلّ الدولتين، لا سيما في أعقاب الحرب المروّعة في غزة. لقد أثبتت الحرب أنه طالما مُنع الفلسطينيون من إقامة دولة خاصة بهم، سيستمر الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني العنيف في الإشتعال، ولن يورث للأجيال القادمة سوى الموت والدمار.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الأيام
منذ 2 ساعات
- الأيام
تهديدات وتسريبات جنسية عطّلت تحقيقات خان في جرائم الحرب الإسرائيلية
كشف تحقيق خاص أجراه موقع 'ميدل إيست آي'، تفاصيل حملة الترهيب التي تعرض لها مدعي المحكمة الجنائية الدولية كريم خان بسبب تحقيقاته في جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة. وأكد الموقع أن التسلسلات الزمنية للأحداث تُظهر أن الضغوط على خان بدأت بالتزايد في أبريل 2024 خلال استعداده لتقديم طلبات مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك يواف غالانت ثم تصاعدت مجددا في أكتوبر، قبل إصدار القضاة لتلك المذكرات. وقد شملت هذه الحملة تهديدات مباشرة وتحذيرات من شخصيات نافذة وتسريبات من مقربين وزملاء وأصدقاء للعائلة يعملون ضده هذا إلى جانب مخاوف على سلامته بعد رصد فريق من الموساد في لاهاي وتسريبات إعلامية بشأن مزاعم باعتداء جنسي. ويأتي ذلك في سياق جهود عمل خان على قضية ضد نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين آخرين بسبب إدارتهم للحرب على حماس في غزة وتصاعد الاستيطان وأعمال العنف بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة بشكل غير قانوني. وذكر الموقع أنه في ماي الماضي، كشف خان أنه تلقى تحذيرا مفاده أنه إذا لم يتم سحب مذكرات التوقيف التي صدرت السنة الماضية بحق نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، فإن المحكمة الجنائية الدولية ستُدمَّر وسيُدمَّر معها، مشيرا إلى أن هذا التحذير جاء قبل أقل من أسبوعين من نشر مزاعم الاعتداء الجنسي ضد خان التي ينفيها بشكل قاطع، وذلك في وقت كان يستعد فيه لطلب مذكرات توقيف إضافية بحق مسؤولين في الحكومة الإسرائيلية. وكانت الضغوط على خان قد بدأت في التصاعد حتى قبل انتشار المزاعم في وسائل الإعلام، حيث حصل 'ميدل إيست آي' على تفاصيل مراسلات بين خان والمشتكية – وهي موظفة في المحكمة – تطرح تساؤلات بشأن بعض ما ورد سابقا في الإعلام الأمريكي والبريطاني حول القضية. ويذكر 'ميدل إيست آي' أن المشتكية حافظت على علاقات ودية مع كل من خان وزوجته طوال الفترة التي زعمت فيها تعرضها لاعتداءات منتظمة من خان. وقد أكدت المشتكية أنها تعاونت بشكل كامل مع التحقيق الأممي، لكنها لا تستطيع 'التفاعل مع الأسئلة المطروحة أو تصحيح المغالطات' بسبب 'الالتزام بالسرية والنزاهة المهنية'. أما خان فقد امتنع عن التعليق على القضايا المطروحة في هذا التحقيق. ويكشف التحقيق أنه في أبريل 2024، وقبل أسابيع من تقدُّم خان بطلبات توقيف بحق نتنياهو وغالانت، وجّه وزير الخارجية البريطاني آنذاك، ديفيد كاميرون، تهديدا غير معلن إلى خان مفاده أن بريطانيا ستوقف تمويل المحكمة وستنسحب منها في حال صدرت مذكّرات توقيف بحق قادة من الكيان الإسرائيلي. ولم يرد كاميرون على طلبات 'ميدل إيست آي' للتعليق، كما رفضت وزارة الخارجية البريطانية الإدلاء بأي تصريح. في اليوم التالي للمكالمة مع كاميرون، كتب 12 سيناتورا جمهوريا، من بينهم ماركو روبيو الذي يشغل الآن منصب وزير خارجية إدارة ترامب، رسالة إلى خان حذروا فيها: 'استهدفوا إسرائيل وسنستهدفكم'. وهددوا بأنه إذا أصدرت المحكمة مذكرات توقيف ضد مسؤولين إسرائيليين، فإن الولايات المتحدة ستفرض 'عقوبات على موظفيكم وشركائكم، وستمنعكم وعائلاتكم من دخول الولايات المتحدة'. كما كتبت له المرأة التي اتهمته بسوء السلوك الجنسي في ماي سنة 2024 عبر رسائل نصية أنها تشعر بأن 'هناك ألعابا تُدار' وأن هناك محاولات لاستخدامها 'كأداة في لعبة لا ترغب في المشاركة فيها'. وقد أُغلقت التحقيقات الداخلية في المحكمة بشأن المزاعم بعد رفضها التعاون. وترافقت الحملة ضد خان مع إجراءات عقابية وعدائية اتخذتها الولايات المتحدة ضد المحكمة. ومنذ فبراير، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على خان على خلفية مذكرات التوقيف التي أصدرها بحق نتنياهو وغالانت، مع العلم أن الولايات المتحدة، شأنها شأن الكيان الإسرائيلي، لا تعترف باختصاص المحكمة. وفي الشهر الماضي، فرضت الولايات المتحدة مزيدا من العقوبات على أربعة قضاة في المحكمة، متهمة إياهم بـ'أعمال غير مشروعة' تستهدف الولايات المتحدة و'إسرائيل'. وفي هذا الشهر، وجّه مستشار قانوني رفيع في وزارة الخارجية الأمريكية تحذيرا إلى الهيئة الرقابية للمحكمة، مؤكدا أن 'جميع الخيارات مطروحة' إذا لم تُسحب مذكرتا التوقيف بحق بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت. ومع ذلك، رفض قضاة المحكمة الجنائية الدولية في 16 يوليوز طلبا إسرائيليا لسحب مذكرتي التوقيف بانتظار صدور قرار المحكمة في الطعن الإسرائيلي الجاري بشأن اختصاصها في القضية. وقال مصدر مطّلع في لاهاي، تحدّث إلى موقع 'ميدل إيست آي' بشرط عدم الكشف عن هويته: 'هذه كانت محاولةً ليس فقط للنيل من كريم خان بل لضرب المحكمة الجنائية الدولية نفسها – من قبل دول تدّعي دعمها لسيادة القانون الدولي'. وأضاف أن خان التزم بجميع الإجراءات القانونية بدقة عند تقديم طلبات المذكرات، مردفا: 'إن كان هناك ما يُؤخذ عليه، فهو أنه أبطأ سير العملية'. ومنذ تولّيه منصب المدعي العام في سنة 2021، شدّد خان معايير إصدار مذكرات التوقيف لتتطلّب وجود احتمال واقعي بالإدانة. وكان التحقيق الجنائي في مزاعم ارتكاب جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية المحتلة قد أُطلق قبل أشهر قليلة من تسلّم خان لمنصبه خلفًا لفاتو بنسودا، وزيرة العدل السابقة في غامبيا وسفيرة بلادها حاليًا في لندن. وكشفت صحيفة الغارديان السنة الماضية أن جهاز الموساد الإسرائيلي مارس ضغوطًا على بنسودا وهدّدها في حملة استمرت لسنوات ولم تنجح في ثنيها عن فتح التحقيق، ثم وُضع خان تحت المراقبة بعد تولّيه المنصب.


بلبريس
منذ 2 ساعات
- بلبريس
برقية ترامب للملك ترسم ملامح التسوية النهائية لملف الصحراء
برقية ترامب إلى المغرب: تكريس للموقف الأمريكي الثابت من السيادة المغربية على الصحراء وملامح التسوية النهائية للملف الدكتور مولاي بوبكر حمداني – رئيس مركز التفكير الاستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية لطالما شكلت المراسلات الرسمية بين الدول أدوات أساسية لتوثيق وتأكيد السياسات الخارجية، وفي عالم الدبلوماسية غالبًا ما تحمل الرسائل الرسمية بين قادة الدول أبعادًا تتجاوز الكلمات والمجاملات لتعكس المواقف السياسية وتؤكد على التحالفات، وترسم ملامح التوجهات المستقبلية. وفي هذا الصدد لم تكن البرقية التي وجهها الرئيس الأمريكي، دونالد ج. ترامب إلى العاهل المغربي، الملك محمد السادس، بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش استثناءً من هذه القاعدة بل على العكس كانت هذه الرسالة بمثابة تكثيف لواحد من أهم التحولات في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة شمال إفريقيا منذ عقود إلا وهو الاعتراف بسيادة المغرب على كامل تراب صحرائه، وتثبيت هذا الموقف كعقيدة راسخة في صلب العلاقات الثنائية. إن قراءة هذه البرقية لا يقتصر على فهم اللحظة التي أُرسلت فيها، بل يتطلب الغوص في أعماق تاريخ طويل من العلاقات المتميزة، وتفكيك الأبعاد الاستراتيجية التي تجعل من الشراكة بين الرباط وواشنطن حجر زاوية للأمن والاستقرار الإقليمي، حيث لا تجسد كلمات ترامب حول دعم مقترح الحكم الذاتي باعتباره 'جادًا وذا مصداقية وواقعيًا، والأساس الوحيد لتسوية عادلة ودائمة' مجرد تكرار لموقف سابق، بل جاءت كتأكيد على أن هذا القرار لم يكن مرحلة عابرة لإدارة راحلة، وإنما هو أساس متين تُبنى عليه فصول جديدة من التعاون، وتعبيرًا عن تقدير متواصل لدور المغرب في المنظومة الإقليمية. المحور الأول: العمق التاريخي للعلاقات الثنائية المغربية-الأمريكية لا مناص في هذا المقام من التذكير بأن العلاقات المغربية-الأمريكية استندت إلى سوابق تاريخية منحتها خصوصية وصبغة استثنائية، ففي عام 1777 وفي خضم الثورة الأمريكية أصدر السلطان محمد الثالث قرارًا سياديًا بفتح الموانئ المغربية أمام السفن الأمريكية وحمايتها، وهو ما عُد أول اعتراف فعلي من دولة ذات سيادة بالولايات المتحدة الأمريكية الوليدة، وقد تُوّج هذا الاعتراف المبكر بتوقيع معاهدة السلام والصداقة المغربية-الأمريكية في مراكش عام 1786، وهي وثيقة تفاوض عليها عن الجانب الأمريكي كل من توماس جيفرسون وجون آدامز، وظلت هذه المعاهدة سارية المفعول دون انقطاع مما جعلها أطول معاهدة صداقة مستمرة في تاريخ الولايات المتحدة أسست لإطار من الثقة والاحترام المتبادل. ولم يقتصر هذا التعاون على الإطار الدبلوماسي بل امتد ليشمل مجالات أخرى، حيث احتضنت مدينة طنجة أول بعثة دبلوماسية أمريكية كما أصبحت 'المفوضية الأمريكية في طنجة' أول ملكية دبلوماسية تقتنيها الحكومة الأمريكية خارج أراضيها، وهي اليوم معلمة تاريخية ترمز لعمق هذه العلاقات. وخلال القرن العشرين، تجسد البعد العملي لهذه الشراكة في محطات حاسمة، ففي الحرب العالمية الثانية شكلت الأراضي المغربية مسرحًا لعملية 'تورش' في نوفمبر 1942 التي كانت من أولى العمليات العسكرية الأمريكية الكبرى في شمال إفريقيا، وفي يناير 1943 استضافت الدار البيضاء 'مؤتمر أنفا' الذي جمع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، بحضور السلطان محمد الخامس حيث تم التخطيط للمراحل الحاسمة من الحرب واتخاذ قرار مبدأ استسلام دول المحور دون شروط. وعقب استقلال المغرب وخلال حقبة الحرب الباردة اتخذت المملكة موقفًا واضحًا بالانحياز إلى المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، وترجمت هذا الموقف عمليًا من خلال توقيع اتفاقيات سمحت للولايات المتحدة بإقامة واستخدام قواعد جوية على الأراضي المغربية، مثل قواعد سيدي سليمان وبن جرير والنواصر، التي لعبت دورًا في الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية، كما استضاف المغرب محطة إرسال قوية لإذاعة 'صوت أمريكا'. وبناءً على هذه الشواهد فلم تكن الشراكة وليدة اللحظة بل شكلت هذه الوقائع التاريخية المتتالية رصيدًا تراكميًا من المصالح المشتركة والثقة المتبادلة، وهو ما يفسّر مستوى التعاون المتقدم القائم بين البلدين في مراحل لاحقة. لقد تطور الموقف الأمريكي من قضية الصحراء، التي نشأت عقب الانسحاب الإسباني عام 1975، عبر مراحل متباينة، وصولًا إلى مرحلة الوضوح الحالية، حيث انه بعد سنوات من دعم جهود الأمم المتحدة لإيجاد 'حل سياسي متوافق عليه'، بدأ الموقف الأمريكي يشهد تحولًا تدريجيًا مع تقديم المغرب لمبادرة الحكم الذاتي عام 2007، وهي المبادرة التي وصفتها إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، ومن بعدها إدارة الرئيس باراك أوباما بشكل متكرر بأنها 'جادة وذات مصداقية وواقعية'. ورغم أن هذا التوصيف كان إيجابيًا إلا أنه ظل يندرج ضمن إطار دبلوماسي حذر لم يحسم الموقف بشكل نهائي لصالح السيادة المغربية وأبقى الباب مفتوحًا من الناحية النظرية أمام خيارات أخرى. بيد أن الإعلان الرئاسي الصادر في العاشر من ديسمبر 2020 أحدث تغييرًا جوهريًا في هذه المقاربة، حين نص الإعلان صراحةً على اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب الكاملة على منطقة الصحراء، واعتبر أن 'قيام دولة صحراوية مستقلة ليس خيارًا واقعيًا لحل النزاع'، والأهم من ذلك أنه أقر بأن 'الحكم الذاتي الحقيقي تحت السيادة المغربية هو الحل الوحيد الممكن'. ومن ثم فقد جاءت هذه البرقية موضوع التحليل، التي وجهها الرئيس ترامب للعاهل المغربي لتؤكد وتثبت هذا الموقف واصفةً المبادرة المغربية بأنها 'الأساس الوحيد من أجل تسوية عادلة ودائمة لهذا النزاع'، حيث يترتب على هذا التحديد الدقيق للموقف نتائج مباشرة ومتعددة الأبعاد. فعلى الصعيد الدبلوماسي يمنح هذا الموقف دعمًا سياسيًا متواصلاً للمغرب داخل مجلس الأمن الدولي، حيث تضطلع الولايات المتحدة بدور 'حاملة القلم' (Penholder) في صياغة القرارات المتعلقة بالنزاع، كما سيشجع هذا القرار دولًا أخرى على أن تحذو حذوها، إما من خلال فتح قنصليات عامة في مدينتي العيون والداخلة، أو عبر إصدار بيانات دعم صريحة لمبادرة الحكم الذاتي. وعلى الصعيد القانوني والاقتصادي سوف تزيل هذه الخطوة أي غموض قانوني أو سياسي قد يعتري الشركات الأمريكية الراغبة في الاستثمار في الأقاليم الجنوبية، وهو ما سبق وان تجسد في الإعلان عن مشاريع استثمارية أمريكية واعتزام فتح قنصلية أمريكية في مدينة الداخلة هدفها تعزيز الفرص الاقتصادية والتجارية في المنطقة، وبهذا لن يعد الموقف الأمريكي مجرد تثبيت لموقف من من مبادرة للتفاوض بل سياسة دولة واضحة ذات آثار ملموسة. لقد شكلت عبارة 'الأساس الوحيد' التي وردت في البرقية لوصف مبادرة الحكم الذاتي المغربية، تحولًا مفاهيميًا في المقاربة الأمريكية للنزاع، وتجاوزت حدود التوصيف الإيجابي لتصبح توجها سياسيًا ذا دلالات محددة حيث سبق الإشارة إليها سابقا في بلاغ وزارة الخارجية الأمريكية وبالتالي فإن فهم هذه العبارة يقتضي قراءة أبعادها على مستويين: مستوى الاستبعاد الدبلوماسي، ومستوى إعادة تأطير النقاش. فعلى المستوى الأول، استخدمت عبارة 'الأساس الوحيد' كأداة للاستبعاد الدبلوماسي الصريح للخيارات البديلة التي طُرحت تاريخيًا لتسوية النزاع وفي مقدمة هذه الخيارات يبرز خيار الاستفتاء المفضي إلى الانفصال حيث ظلت الأمم المتحدة لعقود تتمسك بهذا الخيار نظريًا، ولكنه أثبت عدم قابليته للتطبيق عمليًا بسبب الخلاف الجوهري والمستعصي حول تحديد هوية من يحق له التصويت (تحديد الهيئة الناخبة)، ومن خلال تبني مصطلح 'الأساس الوحيد' تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد أعلنت بشكل قاطع تخليها عن دعم مسار الاستفتاء، معتبرة إياه طريقًا مسدودًا، وبذلك ستنتقل السياسة الأمريكية من دعم 'عملية سياسية' مفتوحة على كل الاحتمالات، إلى دعم 'إطار حل' محدد مسبقًا. أما على المستوى الثاني، فإن هذه العبارة سوف تؤدي إلى إعادة تأطير جوهر النقاش المستقبلي حول القضية. فبدلًا من أن يكون السؤال المحوري للمفاوضات هو 'ما هو الوضع النهائي للصحراء؟' (استقلال أم اندماج)، سيصبح السؤال هو 'كيف سيتم تطبيق الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية؟'، وهذا التحول سينقل النقاش من مسألة تتعلق بتقرير المصير بمعناه الانفصالي، إلى مسألة تقرير مصير داخلي تتعلق بتوزيع السلطات وتحديد الصلاحيات داخل إطار سيادي مقرر، وبذلك لن تعود السيادة المغربية نتيجة محتملة للمفاوضات بل أصبحت من منظور أمريكي المنطلق والمرتكز الذي يجب أن تُبنى عليه أي تسوية. وعليه فإن استخدام الإدارة الأمريكية لهذه العبارة لم يكن اعتباطيًا بل كان خطوة مدروسة تهدف إلى تحقيق هدفين متلازمين: الأول هو إغلاق الباب أمام حلول ثبت عدم واقعيتها، والثاني هو توجيه أي جهود دولية مستقبلية نحو نقاش براغماتي يركز على تفاصيل تطبيق الحكم الذاتي، وسيكون هذا التحديد بمثابة إرساء لقواعد اشتباك دبلوماسي جديدة، تضع المغرب في موقع قوة، وتدفع الأطراف الأخرى إلى التفاعل مع مقترحه كمنطلق إلزامي لأي حل دائم. أنتج الموقف الأمريكي، الذي كرس مبادرة الحكم الذاتي كـ 'أساس وحيد' للتسوية، واقعًا دبلوماسيًا جديدًا، لن تقتصر آثاره على تعزيز الموقف المغربي، بل سيفرض تحديًا مباشرًا على الجزائر باعتبارها الطرف الرئيسي الداعم لجبهة البوليساريو. ولاشك ان فهم كيفية تعامل الجزائر مع هذا الوضع يقتضي قراءة متقاطعة بين الضغط الذي ستولده البرقية الأمريكية والفرصة التي أتاحتها الدبلوماسية المغربية كما عبر عنها بوضوح الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش. فمن جهة ستشكل عبارة 'الأساس الوحيد' تضييقًا منهجيًا للهامش الدبلوماسي الجزائري، فهذا المصطلح سيجرد الموقف الجزائري التقليدي، القائم على دعم خيار الاستفتاء، من أي غطاء أو دعم محتمل من قبل فاعل دولي رئيسي وعضو دائم في مجلس الأمن، الشيء الذي سيؤدي إلى عزل الأطروحة الانفصالية دوليًا وبحولها من قضية 'تصفية استعمار' – كما كانت تقدمها الجزائر – إلى نزاع إقليمي يتطلب حلًا سياسيًا براغماتيًا وواقعيًا، وبذلك ستجد الجزائر نفسها في مواجهة مباشرة مع سياسة أمريكية واضحة تضع إطارًا محددًا للحل الشيء الذي سيجعل من الصعب عليها الاستمرار في التمسك بخيارات أصبحت، من منظور واشنطن، متجاوزة. ومن جهة أخرى وفي مقابل هذا الضغط الأمريكي، قدمت الدبلوماسية المغربية مقاربة بديلة قائمة على الحوار والتهدئة و للسلام، وقد جسد الخطاب الملكي هذه السياسة بوضوح، حيث أكد الملك على أن 'الشعب الجزائري شعب شقيق'، مجددًا 'التزامنا الراسخ باليد الممدودة لأشقائنا في الجزائر' ودعوته إلى 'حوار صريح ومسؤول'، وهذه الدعوة لا يمكن بتاتا اعتبارها مناورة تفاوضية او خطابا ظرفيا بل هي بمثابة عرض دبلوماسي متكامل يهدف إلى طمأنة الجزائر وفتح قناة للتواصل المباشر انطلاقاً من التأكيد على 'وحدة شعوبنا' و'المصير المشترك'، والالتزام بإيجاد 'حل توافقي، لا غالب فيه ولا مغلوب يحفظ ماء وجه جميع الأطراف'، حيث تكون هذه الخطوة قد قدمت للجزائر في هذه المرحلة الحرجة مخرجًا مشرفًا من المأزق الذي وضعها فيه الموقف الأمريكي. وعليه ستضع هذه الدينامية المزدوجة الجزائر أمام خيارين مصيريين: إما الاستمرار في سياسة الرفض والتمسك بالمواقف التقليدية، مما قد يؤدي إلى مزيد من العزلة الدبلوماسية وتكريس حالة الجمود الإقليمي، أو الاستجابة للدعوة المغربية للحوار، والتعامل مع الواقعية السياسية الجديدة عبر الانخراط في 'حوار أخوي وصادق' كما دعا إليه الخطاب الملكي، قد يتيح للجزائر اعادة التموقع في الخريطة السياسية الإقليمية وأن تلعب دورًا بنّاءً في مناقشة تفاصيل الحكم الذاتي وضماناته، بما يحفظ مصالحها الإقليمية ويساهم في تحقيق التكامل المغاربي الذي أكد عليه الخطاب. وبالتالي فإن كيفية تعامل الجزائر مع هذه المعادلة الجديدة التي تجمع بين الضغط والفرصة هو ما سيحدد بشكل كبير مسار التسوية النهائية للملف ومستقبل الاستقرار في منطقة المغرب العربي بأكملها. لاريب ان التعاون الأمني والعسكري قد شكل مكونًا رئيسيًا وثابتًا في العلاقة الثنائية بين واشنطن والرباط وازدادت أهميته في ظل تصاعد التهديدات الإقليمية كالإرهاب والجريمة المنظمة، وفي عام 2004، قامت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش بتصنيف المغرب كـ'حليف رئيسي للولايات المتحدة من خارج حلف الناتو'، وهو وضع منح المملكة امتيازات في مجالات التعاون العسكري والدفاعي، بما في ذلك تسهيل الحصول على المعدات والتكنولوجيا العسكرية الأمريكية المتقدمة والمشاركة في برامج تدريب مشتركة، كما تجسد هذا التعاون في تحديث الترسانة العسكرية المغربية عبر اقتناء معدات أمريكية متطورة، شملت طائرات إف-16، ودبابات أبرامز وأنظمة دفاعية متنوعة. وإلى جانب التعاون في مجال التسلح شارك المغرب بفعالية في جهود مكافحة الإرهاب وتبنى مقاربة متعددة الأبعاد نالت تقديرًا دوليًا، فعلى الصعيد الأمني أقامت الأجهزة الأمنية المغربية وعلى رأسها المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني علاقات تنسيق استخباراتي وثيقة مع نظيراتها الأمريكية، وساهم هذا التنسيق في إحباط العديد من المخططات الإرهابية داخل المغرب وخارجه. وعلى الصعيد الفكري والديني أسس المغرب 'معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات'، الذي عمل على تدريب أئمة من دول إفريقية وأوروبية على نشر خطاب إسلامي معتدل ومتسامح لمواجهة الأيديولوجيات المتطرفة، وهو ما اعتبرته واشنطن أداة فعالة في استراتيجية 'القوة الناعمة'. اضافة لذلك شكل تمرين 'الأسد الإفريقي' العسكري السنوي الذي يستضيفه المغرب التجسيد العملي الأبرز لهذه الشراكة، حيث تطور هذا التمرين ليصبح أكبر تدريب عسكري تنظمه القيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) بمشاركة آلاف الجنود من الولايات المتحدة والمغرب ودول إفريقية وأوروبية أخرى حيث كانت هذه المناورات ترمي إلى تعزيز قابلية العمل المشترك (Interoperability) بين القوات المسلحة للبلدين وتدريبها على مواجهة مختلف أنواع التهديدات، بما في ذلك التهديدات السيبرانية والكيميائية والبيولوجية، وإرسال رسالة ردع واضحة للجماعات المتطرفة والفاعلين المزعزعين للاستقرار في المنطقة. وبالتالي فقد شكلت هذه الأنشطة المشتركة والمتعددة الأوجه مجتمعة شهادات على مكانة المغرب كفاعل نشط ومساهم رئيسي في منظومة الأمن الإقليمي. كما وسبقت الإشارة فإن الإعلان الرئاسي الأمريكي بالاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه شكل منعطفا جديدا في تاريخ العلاقات المغربية الأمريكية حيث انه ارتبط أيضا عضويًا بالإعلان الثلاثي المشترك بين المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل في دجنبر 2020،الذي نص على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل، وقد اعادت البرقية النص على 'اتفاقات أبراهام' كآلية لتعزيز الاستقرار، مما سيبرز الدور الدبلوماسي الجديد الذي سيضطلع به المغرب، حيث لن يكن هذا الانخراط خطوة معزولة، بل جاء ضمن سياق رؤية أمريكية أوسع تهدف إلى بناء هندسة إقليمية جديدة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تقوم على التعاون البراغماتي لمواجهة التحديات المشتركة، ولطالما امتلك المغرب مقومات فريدة أهلته للعب دور محوري في هذا السياق. فأولًا، يستند هذا التقارب إلى إرث تاريخي من التعايش بين المسلمين واليهود في المغرب، وهو ما تم تكريسه دستوريًا من خلال الاعتراف بـ'الرافد العبري' كأحد مكونات الهوية الوطنية المغربية. ثانيًا، تمنح المكانة الدينية للعاهل المغربي بصفته أمير المؤمنين ورئيس 'لجنة القدس' المنبثقة عن منظمة التعاون الإسلامي الدبلوماسية المغربية شرعية ومصداقية للتواصل مع جميع الأطراف في القضايا المتعلقة بالسلام في الشرق الأوسط. وعقب الإعلان الثلاثي فإن العلاقات المغربية-الإسرائيلية اتخذت مسارًا متسارعًا حيث تم فتح مكتبي اتصال في الرباط وتل أبيب وتم التوقيع على عدة اتفاقيات للتعاون شملت مجالات الطيران المدني، وإدارة المياه، والزراعة، والتكنولوجيا المالية، والأمن السيبراني، ومن المنظور الأمريكي لم يكن هذا التقارب مجرد تطبيع للعلاقات بل كان جزءًا من استراتيجية تهدف إلى خلق محور من الدول المعتدلة القادرة على تعزيز الاستقرار والازدهار الاقتصادي، وقد انسجم هذا التصور مع دور المغرب كجسر محتمل بين أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط مع مما سيعزز من قيمته كشريك دبلوماسي فاعل. نظم اتفاق التبادل الحر، الذي تم توقيعه عام 2004 ودخل حيز التنفيذ عام 2006، العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وكان الأول من نوعه الذي توقعه الولايات المتحدة مع دولة إفريقية حيث مكن هذا الاتفاق من إزالة معظم الحواجز الجمركية الشيء الذي نتج عنه نمو مطرد في حجم المبادلات التجارية، التي انتقلت من بضع مئات الملايين من الدولارات قبل دخوله حيز التنفيذ لتتجاوز عتبة الخمسة مليارات دولار في السنوات الأخيرة، وقذ استفادت الصادرات المغربية خاصة في قطاعات المنتجات الفلاحية والنسيج والصناعات الغذائية من الولوج المباشر إلى السوق الأمريكية الضخمة. وعلى صعيد الاستثمار شجع الاتفاق الشركات الأمريكية على اتخاذ المغرب كمنصة للإنتاج والتصدير نحو إفريقيا وأوروبا حيث تدفقت استثمارات أمريكية كبرى في قطاعات صناعية واعدة أبرزها قطاع صناعة السيارات، وهكذا أقامت شركات أمريكية كبرى مثل 'لير' و شركة Adient 'أديينت' مصانع لها في المغرب لتزويد المصنعين العالميين، كما شهد قطاع صناعة الطيران بدوره حضورًا أمريكيًا لافتًا حيث استقرت شركات مثل 'بوينغ' و شركة 'كولينز أيروسبيس' الرائدة في مجال تكنولوجيا الطيران والدفاع في المغرب مما ساهم في خلق منظومة صناعية متكاملة. إضافة إلى ذلك، دعمت الولايات المتحدة التنمية في المغرب من خلال وكالاتها وعلى رأسها 'مؤسسة تحدي الألفية' (MCC) التي وقعت مع المغرب اتفاقا 'الميثاق الأول' و'الميثاق الثاني' (Compact I and Compact II) بقيمة إجمالية تجاوزت المليار دولار، مستهدفة قطاعات حيوية مثل الفلاحة والصيد البحري والصناعة التقليدية والتعليم وتكوين اليد العاملة، وإنتاجية العقار. كما أزال الموقف الأمريكي المستجد من قضية الصحراء أي عوائق سياسية محتملة أمام تدفق الاستثمارات إلى الأقاليم الجنوبية وهو ما توافق مع النموذج التنموي المغربي لهذه الأقاليم الذي يهدف إلى تحويلها إلى قطب اقتصادي قاري، عبر مشاريع مهيكلة كمشروع ميناء الداخلة الأطلسي. كما انسجم هذا التوجه مع مبادرة 'ازدهار إفريقيا' (Prosper Africa) الأمريكية التي اعتبرت المغرب شريكًا طبيعيًا لتسهيل التجارة والاستثمار بين الولايات المتحدة والقارة الإفريقية. ان المتأمل في دلالات البرقية التي بعث بها الرئيس ترامب سواء في نصها الصريح أو ما يُفهم من بين سطورها، يجد فيها استشرافاً لملامح المرحلة المقبلة للعلاقات المغربية-الأمريكية، حيث نصت البرقية على أن الولايات المتحدة 'تولي أهمية كبيرة للشراكة القوية والدائمة'، كما أكدت على التطلع إلى 'مواصلة التعاون من أجل تعزيز الاستقرار والأمن والسلام'، وهذه العبارات المقترنة بتثبيت الموقف من الصحراء تكون قد رسمت مسارًا مستقبليًا يمكننا تحليله من خلال عدة زوايا وسيناريوهات محتملة ومترابطة: أولًا، على الصعيد الدبلوماسي المتعلق بقضية الصحراء، فإن التأكيد على أن مقترح الحكم الذاتي هو 'الأساس الوحيد' للتسوية لم يكن مجرد موقف سياسي، بل إشارة إلى توجه أمريكي مستقبلي أكثر فاعلية داخل مجلس الأمن الدولي، فمن المتوقع أن تترجم واشنطن هذا الموقف إلى ضغط دبلوماسي ملموس على الأطراف الأخرى، لدفعها نحو الانخراط الجدي في المفاوضات على أساس المبادرة المغربية، كما سيتجسد ذلك في صياغة قرارات مجلس الأمن المستقبلية بشكل يركز بشكل حصري على الحكم الذاتي كإطار للحل مع تهميش أي إشارة إلى خيارات أخرى ثبت عدم واقعيتها، وهذا التوجه سيجعل من الصعب على الأطراف الأخرى الاستمرار في استراتيجية إطالة أمد النزاع وقد يدفعهم هذا نحو إعادة تقييم مواقفهم، بناءً على ذلك يتوقف أحد أهم هذه السيناريوهات المستقبلية على الاستجابة المتوقعة للجزائر للواقع الجديد الذي كرسته عبارة 'الأساس الوحيد'. فالتوجه الأول يتمثل في استمرار الجزائر في موقفها التقليدي الرافض لأي حل خارج إطار الاستفتاء، وهو مسار قد يؤدي إلى تعميق عزلتها الدبلوماسية وزيادة التكاليف السياسية والاقتصادية المترتبة على دعمها لجبهة البوليساريو، خاصة في ظل تزايد الاصطفاف الدولي خلف المبادرة المغربية. أما التوجه الثاني وهو الذي يبدو أن السياسة الأمريكية والمغربية تسعى إلى تشجيعه فيتمثل في تحول جزائري تدريجي نحو الانخراط البراغماتي، وهذا المسار لا يعني بالضرورة تخليًا علنيًا وفوريًا عن مواقفها السابقة، بل قد يتخذ شكل القبول بالعودة إلى طاولة المفاوضات الأممية بنية جديدة تركز على مناقشة تفاصيل الحكم الذاتي بدلاً من مبدأ تقرير المصير، وهذا الانخراط قد يتيح للجزائر أن تكون طرفًا مؤثرًا في صياغة ضمانات تطبيق الحكم الذاتي بما يحفظ مصالحها الأمنية والإقليمية، وينسجم مع مبدأ 'لا غالب ولا مغلوب' الذي طرحه المغرب كقاعدة لحل يحفظ ماء وجه جميع الأطراف. إن الاختيار بين هذين المسارين يعود في النهاية إلى الجزائر، لكن تكريس مبدأ 'الأساس الوحيد' قد غيّر بشكل جوهري حسابات التكلفة والمنفعة، وجعل من خيار الانخراط البناء المسار الأكثر عقلانية على المدى الطويل. ثانيًا، في المجال الأمني والعسكري، أشارت البرقية إلى مكافحة الإرهاب كأولوية مشتركة، ويُفهم من ذلك أن المرحلة المقبلة قد تشهد على الأرجح تعميقًا للتعاون الاستخباراتي والقدرات التشغيلية لا سيما في مواجهة التهديدات المتصاعدة في منطقة الساحل والصحراء. وقد يتطور هذا التعاون من تبادل المعلومات إلى التخطيط والتنفيذ المشترك لعمليات استباقية ضد الجماعات الإرهابية والشبكات الإجرامية، كما قد يشمل توسيع نطاق تمرين 'الأسد الإفريقي' ليشمل مجالات أكثر تعقيدًا، مثل مواجهة الحروب الهجينة واستخدام الطائرات المسيرة، وتدريب قوات دول أخرى من المنطقة داخل المغرب تحت إشراف مشترك مما يرسخ دور المملكة كمنصة للأمن الإقليمي. ثالثًا، على المستوى الاقتصادي، نفهم من عبارة 'توسيع نطاق التعاون التجاري' أنها حملت في طياتها أكثر من مجرد زيادة في حجم المبادلات، فما وراء السطور تبدو هناك إشارة إلى الانتقال نحو شراكة اقتصادية متكاملة تستهدف قطاعات استراتيجية جديدة، وقد تتضمن المرحلة المقبلة توقيع اتفاقيات قطاعية متخصصة في مجالات الطاقة المتجددة، حيث يمتلك المغرب قدرات كبيرة، والاقتصاد الرقمي، والهيدروجين الأخضر. كما أن الاعتراف الاميركي بسيادة المغرب على صحرائه يفتح الباب أمام استثمارات أمريكية كبرى في مشاريع البنية التحتية في الأقاليم الجنوبية بما في ذلك ميناء الداخلة الأطلسي الضخم، ومشاريع تحلية مياه البحر، ومزارع الطاقة الريحية والشمسية، مما سيحول هذه المنطقة إلى قطب اقتصادي يربط المغرب بعمقه الإفريقي وهو ما يخدم المصالح الأمريكية في إطار التنافس الجيواقتصادي القائم في القارة. رابعًا، فيما يتعلق بالهندسة الإقليمية نجد ان الإشارة إلى 'اتفاقات أبراهام' كمرتكز للسلام، تدل على أن واشنطن ستواصل الاعتماد على المغرب كفاعل محوري في توسيع دائرة هذه الاتفاقات وتعميقها، وقد يشمل السيناريو المستقبلي قيام المغرب بدور وساطة نشط لتشجيع دول إفريقية أخرى على الانضمام إلى هذه الدينامية، كما يُتوقع أن يتطور التعاون الثلاثي (المغرب-أمريكا-إسرائيل) ليشمل مشاريع تنموية في إفريقيا، تستفيد من الخبرة الإسرائيلية في التكنولوجيا والزراعة، والتمويل الأمريكي، والشبكة الدبلوماسية والاقتصادية المغربية الراسخة في القارة، مما سيخلق نموذجًا جديدًا للتعاون جنوب-جنوب-شمال. ونستشف من هذه السيناريوهات أن العلاقة المغربية-الأمريكية لم تصل إلى نهايتها بالاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه، بل إن هذا الاعتراف شكل نقطة انطلاق لمرحلة جديدة من الشراكة الأكثر عمقًا وتكاملًا حيث أعادت البرقية التذكير بأن الولايات المتحدة لا ترى في المغرب مجرد حليف تكتيكي بل شريك دائم في بناء منظومة الأمن والازدهار الإقليمي. وصفوة القول ان برقية الرئيس ترامب تكون قد أعادت فتح مرحلة جديدة في العلاقات المغربية-الأمريكية. مفادها ان الموقف الأمريكي الثابت من قضية الصحراء، مضافًا إليه التعاون القائم في المجالات الأمنية والدبلوماسية والاقتصادية يعكس متانة وعمق وترابط المصالح بين البلدين، وتشير بما لا يدع مجالاً للشك إلى استمرارية هذه السياسة من قبل الإدارة الأمريكية مستندة في ذلك إلى تقييم طويل الأمد لدور المغرب في استقرار المنطقة، ولم تكن أبداً مرتبطة بإدارة معينة، وبذلك فإن العلاقات الثنائية القائمة بين البلدين سوف تتتقل إلى طور الشراكة القائمة على رؤية مشتركة لمواجهة التحديات الإقليمية وتحقيق المصالح المتبادلة، مع وجود آفاق أكبر لتعميق هذا التعاون في المستقبل القريب.


كواليس اليوم
منذ 10 ساعات
- كواليس اليوم
الصحراء المغربية دعم أمريكي متجدد وكشف إسباني وشيك
بقلم : عبده حقي في خضم تعقيدات النزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية، برزت تطورات متسارعة تعزز الموقف المغربي على الصعيدين الدبلوماسي والتاريخي. فقد جدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دعمه القوي لسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، في وقت أعلنت فيه إسبانيا عن خطوة غير مسبوقة تقضي برفع السرية عن آلاف الوثائق التاريخية، من بينها ملفات حساسة تتعلق بانسحابها من الصحراء عام 1975 ومسار المفاوضات التي رافقت الحدث. تأتي تصريحات الرئيس ترامب، التي نقلتها وكالة المغرب العربي للأنباء، لتعيد التأكيد على الموقف الأمريكي الثابت، إذ قال في رسالة موجهة إلى العاهل المغربي الملك محمد السادس: «أجدد تأكيدي أن الولايات المتحدة تعترف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وتدعم مقترح الحكم الذاتي المغربي الجاد وذو المصداقية والواقعي، باعتباره الأساس الوحيد لحل عادل ودائم لهذا النزاع.» إن هذا الموقف، الذي أعاد ترامب إعلانه خلال ولايته الثانية الراهنة، يعزز ما سبق أن قام به في نهاية ولايته الأولى، حين اعترف رسميًا بمغربية الصحراء ضمن اتفاق ثلاثي شمل أيضًا تطبيع العلاقات بين المغرب وإسرائيل في إطار ما سُمي بـ'اتفاقات أبراهام'. ويبدو أن الإدارة الأمريكية مستمرة في اعتبار المبادرة المغربية للحكم الذاتي الإطار الوحيد الممكن لتسوية النزاع، رغم تبدل الإدارات وتعاقب الرؤساء. في هذا السياق، لم يكن الموقف الأمريكي معزولًا، فقد لحقت به دول أخرى وازنة مثل بريطانيا، التي انضمت في يونيو الماضي إلى الولايات المتحدة وفرنسا في دعم الحل المغربي، معتبرة أن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هو المخرج الواقعي للنزاع، في وقت تواصل فيه الجزائر دعم جبهة البوليساريو ورفضها حضور الموائد المستديرة التي ترعاها الأمم المتحدة، متمسكة بخيار استفتاء لم يعد يحظى بأي إجماع دولي وتم إقباره إلى الأبد. لكن البُعد الدبلوماسي لا يُغني عن البعد التاريخي، وهنا يبرز التطور الإسباني اللافت الذي قد يشكل تحولًا حاسمًا في السردية المرتبطة بالنزاع. إذ وافقت الحكومة الإسبانية في يوليو 2025 على مشروع قانون جديد بشأن المعلومات السرية، يقضي برفع السرية تلقائيًا عن جميع الوثائق التي يزيد عمرها عن 45 سنة. وهذا يعني أن آلاف الوثائق المتعلقة بفترة ما قبل 1982 – بما فيها ملفات انسحاب إسبانيا من الصحراء ومسيرة الخضراء – ستصبح في متناول الباحثين والمؤرخين. ويرى المسؤولون والباحثون المغاربة في هذه الخطوة فرصة تاريخية لكشف المستور وتأكيد الشرعية المغربية المدعومة بالوثائق الدامغة. إذ قد تتيح هذه الأرشيفات، وفق مصادر إعلامية إسبانية، الاطلاع على كواليس القرار الإسباني بالانسحاب من الصحراء، والضغوط الأمريكية على مدريد، والمفاوضات السرية مع الرباط. كما يُحتمل أن تحتوي على تقييمات إسبانية داخلية تعترف ضمنيًا أو صراحةً بسيادة المغرب قبل إعلان الاعتراف الرسمي سنة 2022. وقد تُظهر هذه الوثائق كذلك تواطؤًا ضمنيًا في إخفاء الحقائق لعقود، وإبراز ازدواجية الخطاب الإسباني حيال السيادة المغربية، ليس فقط على الصحراء، بل أيضًا على سبتة ومليلية المحتلتين. غير أن بعض المؤرخين حذروا من احتمال إتلاف أجزاء من الأرشيف عمدًا، خصوصًا خلال المرحلة الانتقالية التي أعقبت نهاية الديكتاتورية الفرانكوية، حيث تم إتلاف آلاف الملفات الأمنية. في ظل هذه المستجدات، يبدو أن المغرب بصدد تعزيز موقعه ليس فقط من خلال التحالفات الدولية والدعم السياسي من قوى عظمى، بل أيضًا من خلال توثيق شرعية مطالبه بوثائق تاريخية كانت مغيبة لعقود. فبين الاعتراف السياسي المتجدد من البيت الأبيض، والانكشاف التاريخي المحتمل من مدريد، يقف المغرب اليوم على أعتاب لحظة مفصلية في مسار استكمال وحدته الترابية. وبينما يواصل خصوم الوحدة الترابية للمملكة تكرار أطروحات تجاوزها الواقع الدولي، يُظهر الزمن أن مسار التاريخ والدبلوماسية ينعطفان مجددًا لصالح المغرب، مسلحًا بالشرعية التاريخية ، والمبادرة، والوثيقة.