
نتائج الاتفاق التاريخي بين بريطانيا وإسبانيا
وهي معاناة قل نظيرها في التاريخ البشري المعاصر. اتفاق يونيو/حزيران 2025 شكل منعرجًا هامًا في العلاقة بين إسبانيا وبريطانيا، وبين الاتحاد الأوروبي، وبريطانيا.
حيث إنه بمقتضى هذا الاتفاق سيتم إلغاء ما يعرف في إسبانيا بـ "الفيرخا"، أي إلغاء الحدود ورفع المراقبة عن الأشخاص والسلع. "الفيرخا" هذه التي كانت مصطلحًا محفورًا في اللغة اليومية لسكان البلدات الحدودية الإسبانية، اليوم ستصبح فقط جزءًا من الذاكرة اللسانية لهؤلاء.
يشار إلى أنه في السابق، كان الجانبان: الإسباني والأوروبي قد توصلا 31 ديسمبر/ كانون الأول 2020 إلى اتفاق مبدئي يضمن حرية تنقل الأشخاص ودخول السلع بين إسبانيا وجبل طارق.
بيد أن هذا الاتفاق عرف عدة عراقيل، منها ما هو ذو طبيعة سياسية أحيانًا، ومنها ما هو ذو طبيعة اقتصادية واجتماعية أحيانًا أخرى، هذا إلى جانب ما هو تقني ولوجيستي. لكن الجميع كان عازمًا على تدبير مجمل الخلافات بإرادة سياسية واضحة تُوّجت اليوم بالتوصل إلى اتفاق وصفته جميع الأطراف المتفاوضة بالتاريخي.
وضع جبل طارق في منظور الأمم المتحدة
يعتبر جبل طارق في المنظور الأممي بلدة محتلة من طرف بريطانيا التي تحتل كذلك تسع مناطق أخرى بعيدة جغرافيًا عن بريطانيا، والمنتسبة إلى الأطلسي والكاريبي من جهة، والمحيط الهادئ من جهة ثانية.
في بلاغ للحكومة البريطانية الصادر بعد الاتفاق اعتبر رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر ونظيره الإسباني بيدور سانشيز، الاتفاق فرصة لتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين وصناعة مستقبل أفضل للجميع.
هذا، وأكد وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، أن الاتفاق بين بريطانيا، وإسبانيا، ثم بريطانيا، والاتحاد الأوروبي يضمن السيادة البريطانية على المنطقة والوجود العسكري لبريطانيا، في إشارة للقاعدة العسكرية البريطانية الموجودة هناك، والتي شكلت واحدة من عوائق الحسم في موضوع الاتفاق.
بلاغ وزارة الخارجية البريطانية هو الآخر، أشار إلى أنّ اتفاق اليوم أوجد حلولًا عملية لمشكلات عالقة دامت سنوات، وأنه بفضل جهود الحكومة المحلية لجبل طارق تمّ التوصل إلى اتفاق ينتصر للسيادة البريطانية، ويدعم اقتصاد جبل طارق، ويُمكّن المقاولات المحلية من النموّ على المدى البعيد.
من جانب آخر، أكّد وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس أن الاتفاق هو تدشين لمرحلة جديدة في تاريخ العلاقات الإسبانية البريطانية، ليس فقط في موضوع تدبير الخلافات بين البلدين وإنما كذلك في كل ما له علاقة بالمجال الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
أما تصريحات رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، فقد أكدت أن الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا من شأنه إلحاق جبل طارق بفضاء شنغن وبالسوق الأوروبية المشتركة، ومن ثمة بالمنظومة الجمركية الموحدة لدول الاتحاد الأوروبي. مؤكدة في نفس السياق أهمية الاستقرار في المنطقة ودلالات الأمن القانوني والتنمية والازدهار على المستوى الجهوي.
ومن المعلوم تاريخيًا، أن فيليبي الخامس ملك مملكة آل بوربون بإسبانيا تنازل عن جبل طارق لصالح التاج البريطاني بمقتضى اتفاقية أوترخت 1713، في أفق تشكيل ميزان قوى جديد يحُول دون استفراد أي طرف بالقوة على مستوى أوروبا، مع كسر شوكة إسبانيا من خلال الحيلولة دون اتحاد فرنسا، وإسبانيا تحت حكم واحد.
جبل طارق كذلك هو من المناطق السبع عشرة التي تعتبرها الأمم المتحدة مناطق محتلة وغير مشمولة بالاستقلال في منظور القانون الدولي لحدود اليوم.
فمنذ ذلك الوقت وإسبانيا تطالب باسترجاعها، وتذكر العالم في كل مناسبة بأحقيتها في ذلك ضمن فعاليات الأمم المتحدة. سواء مع الحكومة الاشتراكية الأولى في تاريخ التحول الديمقراطي في إسبانيا، حكومة فيليبي غونزاليس ماركيز الذي نجح في حلحلة موضوع الحدود بين إسبانيا وجبل طارق مع بريطانيا بعد فشل وزير خارجية حكومة فرانكو الدكتاتورية فرناندو ماريا كاستييا إي مايز في ذلك، أو الحكومة اليمينية بقيادة خوسيه ماريا أزنار لوبيز الذي طرح موضوع السيادة المشتركة على الصخرة، أو حكومة الاشتراكي خوسيه لويس رودريغيز ساباثيرو، أو حكومة اليمين بزعامة ماريانو راخوي بري، أو حكومة اليساري بيدرو سانشيز بيريز كاستيخون الحالية.
يشار إلى أن منسوب الضغط على بريطانيا ارتفع بعدما متّعت بريطانيا البلدة بوضع مدينة لها حكومتها المحلية وبرلمانها 2022، باعتبارها مدينة ذات هوية تاريخية وخصوصيات ثقافية تضمن لها موقعها مثل باقي المدن البريطانية في خريطة المملكة المتحدة.
الأمر الذي مَكّنها من مجموعة من الحقوق والامتيازات كتأسيس جامعة وكاتدرائية، إلى جانب إدارة ومؤسسات محلية تستجيب لاحتياجات المواطنين؛ وهو وضْع سبق أن أعلنت عنه الملكة فيكتوريا 1842 دون تثبيته رسميًا.
مضمون الاتفاق
في تصريح مثير، اعتبر خوسيه مانويل ألباريس وزير الخارجية الإسباني أن الاتفاق هو بمثابة آخر حائط يسقط في أوروبا القارية، في إشارة منه إلى تعزيز الروابط السياسية والثقافية للدول المشكِّلة للاتحاد الأوروبي وفضاء شنغن، وهو ما يجعل منها قوة حقيقية بإمكانها فرض منظورها الإستراتيجي في المنطقة.
إن الهدف الأساسي للاتفاق هو تحقيق رفاهية الشعبين، حيث ستعمل السلطات على إلغاء الحدود ورفع الرقابة عن الأشخاص والسلع بين إسبانيا وجبل طارق. هذا مع العمل على تأمين فضاء شنغن للاتحاد الأوروبي والسوق الأوروبية المشتركة الموحدة، إلى جانب منظومة جمركية أوروبية موحدة تشمل جبل طارق. باعتبار أن توحيد المنظومة الضريبية بين الاتحاد الأوروبي وجبل طارق يضمن تنافسية عادلة، حسب عبارة ألباريس.
فبعد دخول الاتفاق حيز التنفيذ، سيصبح جبل طارق جزءًا من فضاء شنغن، وسيتمتع العمال كما الإسبان بجميع الحقوق الاجتماعية المرتبطة بالتغطية الاجتماعية والصحية، مع الحق في التقاعد الذي كان يطرح إشكالًا حقيقيًا قبل الاتفاق. أي أن هذا الاتفاق سيضع حدًا لمعاناة ما كان يعرف بالعمال الحدوديين، أي العمال الذين يأتون من البلدات الإسبانية الواقعة على الحدود مع جبل طارق، خصوصًا بلدة لالينيا دي لا كونسبسيون، والجزيرة الخضراء، وسان روكي، ولوس باريوس، وطريفة.
فهؤلاء العمال كانوا مطالَبين بعبور الحدود يوميًا والعودة إلى بلداتهم الإسبانية مساءً. بعد الاتفاق ستشرف السلطات الإسبانية وسلطات الاتحاد الأوروبي بتنسيق مع سلطات المملكة المتحدة والسلطات المحلية لجبل طارق على مجموع عمليات للمراقبة الحدودية، سواء على مستوى جبل طارق، أو على مستوى فضاء شنغن، إنْ في نقاط المراقبة في الميناء أو في مطار جبل طارق.
في نفس السياق، تم إقرار مبدأ المساواة في الشروط في مجال المساعدات الاجتماعية والمنظومة الضريبية والشغل والبيئة والتجارة والتنمية المحلية.
هذا، ويؤكّد الجانبان على ضرورة التعاون والتنسيق في مجال مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال ومحاربة الجريمة المنظمة، التي تتقاطع مع ما تفرضه دول الساحل جنوب الصحراء من تحديات أمنية وإستراتيجية.
الحق أن هذه في المجمل هي مطالب ساكنة البلدة التي يعتمد الناتج المحلي الخام بها بنسبة 25% على مضيق جبل طارق، حسب تقرير أعدته الغرفة التجارية لجبل طارق.
إن العلاقة بين البلدات الإسبانية الحدودية وبلدة جبل طارق هي بالغة الأهمية بالنسبة للطرفين، حيث إن الجزء الأكبر من اليد العاملة للمدينة مصدره البلدات الإسبانية.
وهو ما يفرض تحديات ورهانات كبيرة تختلط فيها الأبعاد الإنسانية والسياسية والاجتماعية المنُوط بالاتفاق تجاوزها، وبالتالي وضع حد للمعاناة اليومية لحوالي 15 ألف عامل، حوالي 10 آلاف منهم إسبان.
تحديات ورهانات الاتفاق
فبيان ريكاردو الوزير البريطاني الرئيسي لجبل طارق ورئيس الحكومة المحلية، ونائب الرئيس التنفيذي للمفوضية الأوروبية ماروس سيفكوفيس وصفا الاتفاق بالهام والتاريخي. وحسب تصريحات المسؤولين الإسبان، فإن إسبانيا ستشرف على مراقبة جوازات السفر سواء على مستوى الميناء، أو على مستوى مطار جبل طارق.
هي محطة تاريخية سيكون لها حقيقة ما قبلها وما بعدها، وستنعكس لا محالة على الاستقرار والتعاون بالمنطقة حسب تصريح وزير الخارجية الإسباني في ندوة صحفية تلت الاتفاق، مؤكدًا أن جبل طارق سيصبح جزءًا لا يتجزأ من فضاء شنغن، كما أن إسبانيا ستشرف بعد دخول الاتفاق حيز التطبيق على مجمل عمليات الدخول والخروج.
لكن هذا الاتفاق سيطرح مجموعة من التحديات، حيث قال رئيس بلدية لالنيا دي لا كونسيبسون خوسيه خوان فرانكو رودريغيز، إن البلدية التي يترأسها هي الأكثر تأثرًا بتداعيات الاتفاق، مؤكدًا في نفس الاتجاه أن هناك مجموعة من النقاط لم تؤخذ بعين الاعتبار أثناء عملية التفاوض، من بينها إمكانية هروب شرائح واسعة من سكان البلدات الحدودية إلى بلدة جبل طارق.
وهو ما يعيد إلى الأذهان ما حصل بالضبط 1969، فيما يشبه الهروب شبه الجماعي من البلدات الإسبانية إلى الصخرة، مع بسطه مخاوف أخرى مرتبطة بارتفاع أسعار السكن هناك، وتكلفة الحياة.
من جانب آخر، لا يمكن أن نسقط من البال أن الاتفاق بين إسبانيا وبريطانيا سيدفع لا محالة المغرب إلى المزيد من الضغط على الجارة إسبانيا من أجل استرجاع مدينتي سبتة ومليلية، وهو الذي لا يفوت أية فرصة يراها مواتية للتذكير بمطلبه التاريخي هذا.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 33 دقائق
- الجزيرة
إعلان نيويورك: استعادة مسار الدولة الفلسطينية أم تسويق للوهم؟
إعلان نيويورك حول التسوية السلمية لقضية فلسطين وتنفيذ حل الدولتين، بقدر ما حاول استعادة الزخم العالمي لحل الدولتين ووقف الحرب على قطاع غزة، بقدر ما أثار شكوكا حول إمكانية التنفيذ العملي على الأرض، وتجاوُز العقبات التي عطلته على مدار 32 عاما من اتفاق أوسلو. وبقدر ما حاول تحشيد أكبر تأييد دولي للمشروع، بقدر ما قدم تنازلات، لا يراها معظم الفلسطينيين مبررة، بحق المقاومة ودورها في الشراكة الفاعلة في صناعة القرار الفلسطيني دون قوالب أو إملاءات خارجية. المؤتمر الدولي، على مستوى الأمم المتحدة، الذي انعقد في الفترة 28-30 يوليو/ تموز 2025، وتشكلت ثمانية فرق عمل لتنضيج الأفكار ومشاريع القرارات المتعلقة بحل الدولتين سياسيا واقتصاديا وأمنيا وماليا، أصدر إعلان نيويورك بمشاركة 17 دولة، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية. وعلى هامش المؤتمر صدر إعلان عن وزير الخارجية الفرنسي حول اعتزام 15 دولة أوروبية الاعتراف بدولة فلسطين، وتوجيه نداء لمن لم يفعل بالانضمام إلى الاعتراف. ومن بين هذه الدول 9 دول لم تعترف بعد، غير أنها عبرت عن استعدادها أو اهتمامها بالاعتراف. حمل الإعلان عددا من المؤشرات الإيجابية أبرزها: تحشيد مسار دولي قوي للدفع باتجاه حل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على أساس خطوط الهدنة قبل حرب يونيو/ حزيران 1967. وبغض النظر عن موقف كاتب هذه السطور من حل الدولتين، فإن هذا التحشيد الدولي قد يسهم في تصعيد الضغوط على الاحتلال الإسرائيلي الذي تجاوز هذا الحل، وانشغل عمليا بشطب الملف الفلسطيني وبفرض خطة "الحسم" بضم ما تبقى من فلسطين المحتلة وتهويدها؛ وأخذ يتبنى فكرة "السلام مقابل السلام" أو "السلام بالقوة"! انضمام كتلة وازنة من الدول الأوروبية والحلفاء التقليديين الداعمين للاحتلال الإسرائيلي لأول مرة للاعتراف بدولة فلسطين وإنفاذ حل الدولتين، بما في ذلك فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، وكندا، وأستراليا…؛ وهو ما يفرض مزيدا من العزلة الدولية والضغوط على الكيان الإسرائيلي. رفض العدوان الإسرائيلي على غزة، وإدانة اعتدائه على المدنيين، والمطالبة بوقف الحرب، وإدخال المساعدات، ورفض التهجير القسري، ورفع التجويع، والمطالبة بإعادة الإعمار واستئناف تقديم الخدمات كالكهرباء والماء والوقود، والتأكيد على دور الأونروا؛ وهو ما يعني إفشال جزء كبير من المخطط الإسرائيلي في القطاع. إبداء نوع من الجدية في إنفاذ حل الدولتين، من خلال تشكيل لجان عمل تعالج التفصيلات السياسية والاقتصادية والأمنية والمالية، ومن خلال السعي لوضع جدول زمني محدد وصولا لاتفاق نهائي إسرائيلي فلسطيني. عدم المساس بوضع القدس، وتأكيد الوصاية الهاشمية، والتأكيد على أن غزة جزء من الدولة الفلسطينية، وتعزيز الاقتصاد الفلسطيني، ومطالبة الاحتلال الإسرائيلي بالإفراج عن عائدات الضرائب. الملاحظة الأساسية على هذه المؤشرات الإيجابية أنها لم تحمل جديدا في الموقف الذي تُعبر عنه معظم دول العالم تجاه قضية فلسطين منذ عشرات السنوات؛ وهي لخصت بشكل عام مئات القرارات التي صدرت عن الأمم المتحدة بأغلبية ساحقة على مدار الـ 55 سنة الماضية؛ وإن كانت حاولت استرداد روح المبادرة في وجه الأمر الواقع الذي يفرضه الإسرائيليون. وقد سبق للمنظومة الدولية الداعمة لمسار التسوية أن شكلت مجموعات عمل سياسية واقتصادية وأمنية ومتعلقة باللاجئين بعد اتفاق أوسلو، ولكنها لم تؤدِ إلى نتيجة. كما سبق تبني "خريطة طريق" لإنشاء دولة فلسطينية سنة 2003 خلال سنتين، وانتهت بالفشل بالرغم من الرعاية الأميركية للخطة. ولعل عددا من الدول الصديقة لـ "إسرائيل" أرادت أن تُنقذ" إسرائيل" من نفسها، بعد أن رأت أن السلوك والممارسات المتعجرفة المتطرفة لحكومة الكيان ستتسبب بإشعال عناصر الغضب والتفجير في المنطقة، وبالتالي سترتد خطرا وجوديا على بقاء الكيان نفسه. هل هو مسار مصمم للفشل؟ يوفر لنا إعلان نيويورك مرة أخرى "سيارة من دون عجلات"؛ ويتجنب التعامل المباشر مع جوهر المشكلة الذي عطل اتفاقات أوسلو ومسار التسوية. فبعد 32 عاما ثمة إجماع بين دول العالم أن الاحتلال الإسرائيلي عطل الاتفاقات، وتعامل مع مسار التسوية كغطاء لمزيد من التهويد والاستيطان وفرض الحقائق على الأرض، وجعل حل الدولتين مستحيلا. كما جعل الكيان نفسه "دولة فوق القانون"، مستفيدا من الغطاء الأميركي. وإعلان نيويورك هذا لا يوفر أي آليات جادة ولا أي ضمانات لفرض إرادة المجتمع الدولي وقراراته (التي زادت عن 950 قرارا) على الكيان الإسرائيلي. وتندرج كل الطلبات المتعلقة بالجانب الإسرائيلي في إطار الرغائب والدعوات والتمنيات. وليس ثمة عقوبات ولا تلويح بعقوبات رادعة لإجباره على الانصياع. ولذلك سيكون إعلان نيويورك إعادة تسويق لمسار أوسلو العقيم، وإعادة إنتاج للفشل. وهذا سيوفر المزيد من الوقت للاحتلال لمتابعة برامج التهويد، بينما سيتم متابعة الجانب الفلسطيني وفق آليات عمل دقيقة ومحددة تصب في الجيب الإسرائيلي، وتتابع الدور الوظيفي لسلطة رام الله في خدمة الاحتلال. إدانة حماس ونزع سلاح المقاومة لأول مرة تدين دول عربية وإسلامية في وثيقة رسمية عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول وتتهمها باستهداف المدنيين، مستجيبة للرواية الإسرائيلية التي نفتها حماس؛ بينما ترى الأغلبية الفلسطينية والعربية والإسلامية العملية في ذاتها عملا مشروعا، ومنجزا غير مسبوق. وهذا يعد تطورا خطيرا إذ رفضت هذه الدول قبل ذلك أي إدانة دولية لهذه العملية. أما الجانب الأخطر في الموضوع فهو مطالبة حماس بنزع أسلحتها وتسليمها للسلطة الفلسطينية، وهو في جوهره تحقيق لهدف إسرائيلي من الحرب على غزة. وهو إجراء يتم من طرف واحد، ويوفر عمليا الحرية الكاملة للاحتلال الإسرائيلي في الاستمرار والاستقرار، ومتابعة برامج التهويد والاستيطان دونما مقاومة، وبالتالي، متابعة شطب الملف الفلسطيني، كما يحدث في القدس والضفة الغربية، وفي بيئة عربية ودولية تعترف أنها عاجزة تماما عن إلزام الاحتلال الإسرائيلي بشيء. وهكذا، فبدلا من مساعدة الطرف الفلسطيني على حماية نفسه كضحية تحت الاحتلال، يتم مكافأة المعتدي المحتل الذي ارتكب آلاف المجازر وتسهيل مهمته!! بينما لا توجد أي بنود حول نزع أسلحة الاحتلال الإسرائيلي أو فرض حظر دولي عليه. إخراج حماس من المشهد السياسي وتعميق الانقسام يقدم إعلان نيويورك رؤية تسهم في تأزيم الوضع الداخلي الفلسطيني بدلا من تعزيزه، فهي تشترط لإجراء الانتخابات الفلسطينية في الضفة والقطاع أن يشترك فيها فقط الفلسطينيون الملتزمون بمسار أوسلو وبالالتزامات التي التزمت بها قيادة منظمة التحرير. وهذا يعني عمليا إخراج حماس والجهاد الإسلامي وقوى المقاومة الرافضة لاتفاقات أوسلو من العملية الانتخابية، وصياغة "شرعية فلسطينية مصطنعة"؛ في الوقت الذي تشير فيه كل استطلاعات الرأي أن قوى المقاومة تتفوق شعبيا على القوى المؤيدة لمسار التسوية. ثم إن كل الاتفاقات الفلسطينية طوال العشرين سنة الماضية تؤكد على الشراكة الكاملة لكل القوى الفلسطينية في انتخابات السلطة والمجلس الوطني الفلسطيني وإعادة بناء منظمة التحرير. ويأتي هذا الطرح متوافقا مع الاشتراطات الإسرائيلية الأميركية والرباعية الدولية التي أثبتت فشلها، كما يأتي متوافقا مع أطروحات محمود عباس وقيادة فتح التي تعرف عجزها عن أي منافسة انتخابية ديمقراطية شفافة مع حماس وقوى المقاومة. ويضع أحد البنود مزيدا من الملح على الجرح فيتحدث عن اعتماد تدابير محددة ضد الكيانات والأفراد الذين يعملون ضد مبدأ التسوية السلمية لقضية فلسطين. وبالطبع فلن تُتخذ هذه الإجراءات ضد الأحزاب الإسرائيلية الحاكمة التي عملت طوال العقود الماضية على إفشال هذا المسار وإسقاطه، وإنما سيتم ملاحقة قوى المقاومة الفلسطينية التي تمارس حقها الطبيعي والشرعي في مقاومة الاحتلال وتحرير أرضها من الاحتلال الإسرائيلي! دولة فلسطينية منزوعة السلاح يقدم إعلان نيويورك تنازلا خطيرا في بنية الدولة الفلسطينية المستقلة، ويتحدث عن دولة بلا جيش أو منزوعة السلاح. وبدل أن يوفر الضمانات لهذه الدولة لحماية نفسها من الاحتلال والعدوان والاستعمار الإسرائيلي؛ فإنه يُقدم الضمانات والطمأنات للقوة المحتلة المستعمرة التي تمارس المجازر ومصادرة الأرض والمقدسات بشكل منهجي؛ ويوفر لها أدوات الإغراء لمتابعة تغولها وفرض هيمنتها وإعادة الاحتلال متى أرادت، ووفق أي تفسيرات مصلحة ترتئِيها. إدماج الكيان الإسرائيلي في المنطقة يسعى إعلان نيويورك لمكافأة الاحتلال الإسرائيلي من خلال برنامج تطبيعي يؤدي لـ"إدماجه" في المنطقة. ويتجاوز الحديث عن محاسبة الاحتلال على جرائمه، وعن عدوانه المستمر على لبنان وسوريا، وعدوانه على إيران، ومحاولة فرض هيمنته الأمنية على المنطقة. وأخيرا، فعلى المجتمع الدولي أن يكف عن سياسة طمأنة المجرم المحتل وتقديم الحوافز له، ومعاقبة الضحية ومطالبتها بالمزيد من التنازلات والضمانات. كما أن عليه أن يكف عن فرض رؤيته الفوقية وإرادته لمواصفات الشرعية والقيادة الفلسطينية، فالشعب الفلسطيني لديه النضج الكافي لاختيار قيادته بنفسه وصناعة قراره. وإذا كان المجتمع الدولي جادا في دعم إنشاء الدولة الفلسطينية على الأرض المحتلة سنة 1967، فجوهر جهده يجب أن يتوجه لإجبار الاحتلال على الانسحاب، وليس لإخضاع الشعب الفلسطيني المظلوم لمعايير الاحتلال؛ ولا بمكافأة الاحتلال بمزيد من التطبيع وتوفير عناصر الاستقرار والازدهار له، حتى قبل أن يقوم بانسحابه. ويظلَ إعلان نيويورك ضمن مشاريع كثيرة تتهربُ من التعامل مع جوهر المشكلة، وهو إيجاد آليات قادرة على إلزام الاحتلال بالانسحاب وإنفاذ القرارات الدولية… وبالتالي سيعيد إنتاج الوهم والفشل.


الجزيرة
منذ 33 دقائق
- الجزيرة
دعَم فلسطين ولم يفهم سوريا ويريد القيادة.. كيف نفهم لغز جيريمي كوربن؟
في ظهر أحد أيام الربيع الماطرة شرق العاصمة البريطانية لندن، وصل جيريمي كوربن إلى مركز اجتماعي تابع لمسجد في المنطقة. كان بنطاله الرمادي مجعدًا بعد أن جاء إلى المكان يقود دراجته، وخوذته تتدلى من إحدى يديه. عندما رآه مراهق يمر في الشارع هتف بصوت عال "الحرية لفلسطين!". رفع كوربن قبضته من غير تردد مبتسمًا في تأييد. في الداخل، كانت الغرفة ضيقة وعلى جدرانها آيات قرآنية معلقة، ونشرات مجتمعية، وإعلانات عن التبرعات التي ينشط فيها المجتمع في هذه المنطقة، وكانت تفوح منها رائحة خفيفة من الهيل وبقايا مطهر يُباع في السوبر ماركت. ومع ذلك كانت الغرفة مكتظة بالعشرات من البريطانيين من خلفيات مختلفة طلابًا ومسنّين متقاعدين، امرأة محجبة من لجنة إدارة المسجد، وامرأة بيضاء ترتدي كوفية وتحتضن طفلًا نائمًا. لم تكن هناك منصة، لكن ذلك لم يكن غريبًا على كوربن الذي سرعان ما وقف أمام كرسي قابل للطي كي يخاطب الحشد، وفي خلفيته صورة مؤطرة للمسجد الأقصى. لم يكن كوربن يجري لقاء انتخابيًّا تقليديًّا، فلم يكن هنا للترويج لنفسه، بل "للاستماع" كما قال. وفي بداية حديثه قال كوربن بنبرة هادئة: "تعلمون أني أجيء إليكم من غير دعم حزب، لكنني ما زلت هنا، لأن الظلم لم يتوقف عندما طردني حزب العمال، ولم أتوقف عن الجهر بسياساتي أيضًا!". كان كوربن والبريطانيون يتجهزون للانتخابات العامة لعام 2024، لكنه كان قد خسر دعم حزب العمال بقيادة كير ستارمر للترشح في دائرته التي يمثلها منذ أربعين سنة! لكن كوربن ترشح مستقلًّا على أية حال وفاز! في أنحاء لندن وبين مسلميها، رأى الناس كوربن باعتباره رجل دولة مخضرمًا، رغم أنه لم يكن أبدًا في موقع سلطة، مثّل كوربن بوصلة أخلاقية وتذكرة لما يجب أن يكون عليه السياسي. في ذلك الوقت، كانت غزة تشغل العالم والناس بعد أن دخلت حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة شهرها السابع، ومعها الصمت الدولي والتواطؤ الغربي. نهض أحد الأئمة المسلمين مخاطبًا كوربن قائلًا: "لعلك السياسي الوحيد الذي يتحدث باسمنا الآن!". نظر كوربن إلى الأسفل في تواضع حقيقي وعدل سترته البادية القِدم قائلًا "ليس المهم التحدث باسمكم، بل الوقوف إلى جانبكم!". كان كوربن يعي ما يقول، فالرجل قضى أكثر من أربعة عقود في حزب العمال، وانتُخب في البرلمان في ذروة صعود المحافظين مع مارغريت تاتشر عام 1983، شابًّا في منتصف الثلاثينيات، بصحبة شاب آخر هو توني بلير ، الذي كان يؤدّي -خلال مسيرته- دور النقيض لكوربن. لكن في الوقت الذي اختفى فيه توني بلير أو كاد، مع ارتباط اسمه بفضائح كبرى لم تبدأ مع حرب العراق، ولم تنته مع دعمه للأنظمة الاستبدادية التي قادت الثورات المضادة بعد الربيع العربي، يستمر كوربن بل ويعود بعد إخراجه من حزب العمال ليقدم شيئًا جديدا في السياسة البريطانية: حركة سياسية وُلدت من رحم السخط واليأس والحرب. لعله من غير الواضح ما سيؤول إليه مصير هذه الحركة، سواء أصبحت جماعة ضغط أو محاولة غير مجدية أو حزبًا ثالثًا قابلًا للاستمرار في بريطانيا، لكن المؤكد أن جيريمي كوربن لم ينته بعد. فبعد ست سنوات من قيادة حزب العمال، ثم أربع سنوات بعد خروجه من الحزب بسبب خلاف لم يتعلق بالسياسة الداخلية البريطانية، بقدر ما تعلق بالهوية الوطنية وما تعنيه، وبالخطوط الحمراء التي احتفظت بها إمبراطورية التاج البريطاني منذ بدايات عهد الاستعمار، يجهز كوربن لعودته. لا إلى الحزب الذي كان يقوده، بل إلى شيء أكثر أهمية بكثير، وربما أكثر فوضوية، إلى ساحة السياسة الشعبية، وبناء التنظيمات والحركات من الجذور، وإلى النضال ضد الإمبريالية الذي يعني نضاله ضد حكومته أكثر مما يعني أي شيء آخر. في سن السادسة والسبعين، ومن دون اعتماده على أي منصب رسمي، اللهم إلا ذاكرة الناخبين الذين حولوه إلى أسطورة حية، يكثر كوربن من الحديث عن الإبادة في غزة، وعن الاعتداءات على اليمن، وعن فقراء لندن، ومشكلات السكن في بلاده. يعود كوربن بلا وعد سوى أن يعيد المبادئ إلى السياسة. لكن لكي نفهم المرحلة التالية من مسيرة جيريمي كوربن، المتمرد الذي انتهى به المطاف خارج حزبه، فعلينا أن نعود إلى الوراء، لا إلى عام 2015 عندما قلب نجاحه حزب العمال رأسًا على عقب، ولا حتى إلى عام 2003، عندما قاد أحد أكبر المسيرات المليونية في تاريخ أوروبا مناهضًا للحرب على العراق، بل إلى كوربن وهو تلميذ المدرسة الثانوية الذي رفض الانضمام إلى فرقة المتطوعين في الجيش، وإليه وهو منظم نقابي يدخل إلى البرلمان مرتديًا شارة أعطتها إياه أمه للمطالبة بنزع السلاح النووي، وبرلماني مغمور مختلف عن كل الساسة في بريطانيا. لم يكن كوربن طوال مسيرته سياسيًّا فحسب، بل كان اقتراحًا يمشي على قدمين لما يجب أن يكون عليه السياسي، سواء أصاب أم أخطأ، هذا المقال هو قصة هذا الاقتراح. سيرة ذاتية مختصرة وأسطورة سياسية ممتدة وُلد جيريمي كوربن في مايو/أيار عام 1949 في بلدة تشيبنهام بمقاطعة ويلتشير بالقرب من مدينة باث القديمة إلى الغرب من لندن. ومع وصوله إلى سن الحادية عشرة، انضم إلى مدرسة ثانوية للمتفوقين، تُسمى مدرسة القواعد (Grammar School). منذ وقت مبكر، أظهر كوربن اهتمامًا بالعمل العام، فانضم إلى رابطة المناهضين للرياضات المتوحشة، المعنية بحقوق الحيوانات في الرياضات المختلفة، وانضم كذلك إلى رابطة الشباب الاشتراكيين لحزب العمال. لكن لعل اهتمام كوربن بالسياسة والعمل العام أثر في أدائه الدراسي بشكل كبير، فترك المدرسة في سن الثامنة عشرة، بُعيد الوقت الذي انضم فيه إلى حملة نزع السلاح النووي عام 1966، وهو نفس الوقت الذي نشط فيه ضد حرب فيتنام. وبعد أن ترك الدراسة، عمل كوربن في سن التاسعة عشرة مراسلًا لصحيفة محلية، قبل أن يقرر مغادرة بريطانيا ليتطوع في جامايكا مدرسًا للجغرافيا. وبين عامي 1969 و1970، زار كوربن الكثير من بلاد أميركا الجنوبية مثل البرازيل وتشيلي والأوروغواي، وهناك شارك في العديد من الفعاليات المناهضة لأنظمة الحكم العسكري في تلك البلاد. في عام 1971 عاد كوربن إلى بريطانيا، وإلى شمال لندن تحديدًا، لينضم إلى نقابة الخياطين، وهو اتحاد عمالي يضم الحائكين والعمال المرتبطين بصناعات النسيج والملابس. في هذه الفترة، درس كوربن مدة وجيزة في معهد تقني في شمال لندن، لكنه انسحب بعد عام واحد من دون الحصول على شهادة. منذ ذلك الوقت، انخرط كوربن بكل قوته في اتحادات العمال، والنقابات المهنية، والمجالس المحلية، ليُنتخب قبل أن يُتم الخامسة والعشرين عضوًا في مجلس محلي، ثم يصبح رئيسًا لإحدى البلديات في عام 1978، حتى عام 1983 عندما دخل البرلمان لأول مرة. ترشح كوربن للبرلمان أول مرة عام 1983، وهي الانتخابات التي شهدت أسوأ خسارة لحزب العمال في تاريخه في ظل الصعود الصاروخي لحزب المحافظين تحت قيادة مارغريت تاتشر، لكن رغم خسارة الحزب، فاز كوربن بمقعده ولم يرتض الناخبون في دائرته ممثلًا غيره منذ ذلك الحين. فعلى مدى العقود الثلاثة التالية، بنى كوربن سمعته بوصفه عضوًا برلمانيًّا مبدئيًّا، لا يتولى مسؤوليات تنفيذية، ويصوت ضد كل الحكومات المحافظة، لكن الغريب أنه كذلك صوّت آلاف المرات ضد الرأي السائد في حزب العمال، ليقف داعمًا للعديد من القضايا التي تُعد على هامش السياسة البريطانية، بل وحتى تلك التي تعادي السياسة الرسمية البريطانية. فخلافًا للحكومات البريطانية المتعاقبة، عُرف عن كوربن دعمه لنزع السلاح النووي، والمطالبة بإعادة تأميم السكك الحديدية، وأقام علاقات بقادة حزب شين فين الأيرلندي، الذي كان يُنظر إليه باعتباره الجناح السياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي. كذلك وقف الرجل بثبات إلى جانب حركة مناهضة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ولم يتوان عن دعم النضال الفلسطيني منذ وعى. كتب كوربن بانتظام في صحيفة "مورنينغ ستار" الاشتراكية، وظل على علاقة وثيقة باليسار العمالي وبعض أهم رموزه التاريخيين. وشكّلت هذه الخلفية صورة له باعتباره مناضلًا مبدئيًّا خارج المؤسسة السياسية. وكما أشار أحد كتّاب سيرته، فإنه "لم يسعَ قط، ولم يُعرض عليه قط، أي منصب وزاري" خلال فترة حزب العمال الجديد، التي قادها زميله في البرلمان توني بلير (1997–2010). بل إن كوربن أصبح معارضًا دائمًا لحكومة بلير، يقدّم التعديلات البرلمانية، ويشارك في الاحتجاجات، ويتزعم التظاهرات المناهضة للحروب. مع مرور السنوات، تشكّلت أسطورة كوربن بوصفه النائب الخارج عن المألوف: رجل يرفض السلطة لكنه ينال جوائز السلام (مثل جائزة غاندي الدولية للسلام وجائزة ماكبرايد للسلام). راكم الرجل مكانة شبه أسطورية في صفوف اليسار العمالي، إلى حد اعتباره "رجلًا من خارج الزمن، أو قادمًا من عالم ما قبل النيوليبرالية" كما وصفه أحد الكتاب في مقال منشور مؤخرًا. مهدت هذه الأسطورة الطريق لصعوده المفاجئ في عام 2015. فبعد استقالة إد ميليباند من زعامة حزب العمال عقب هزيمة الحزب في الانتخابات ضد حزب المحافظين بقيادة ديفيد كاميرون ، انتقل كوربن من مرشح هامشي لرئاسة الحزب إلى فائز كاسح بنسبة 60٪ من الأصوات، أي ثلاثة أضعاف أقرب منافسيه! المفارقة أن عدد ناخبي حزب العمال تضاعف، من قرابة 200 ألف إلى أكثر من 550 ألفًا خلال شهري الانتخابات، ليصوت معظمهم لجيريمي كوربن، أما من بين أعضاء الحزب وقياداته البرلمانية، فلم يصوت من بينهم سوى 20 شخصًا فقط لكوربن، وهي الإشارة التي تؤكد تحيزات الرجل الذي حافظ على موقعه خارج مؤسسة السلطة في بريطانيا. في هذه المرحلة سُمي فوزه بـ"كوربنمانيا" أو الهوس بكوربن، فقد استطاع تأسيس حركة شعبية جديدة شديدة الحيوية جذبت الشباب والعمال والناخبين الساخطين من الأداء الاقتصادي للمحافظين. على جانب آخر، استطاع كوربن اختراق الآلة الانتخابية لحزب العمال، وهي التي أدارها مؤيدو توني بلير وسياساته من خلال تنظيمه تجمعات جماهيرية ضخمة في كل أنحاء بريطانيا. كانت القاعات تمتلئ إلى حد أنه اضطر في بعض الأحيان إلى إعادة خطاباته على الأرصفة للجموع العالقة التي لم تستطع الوصول إلى قاعات المؤتمرات. بين ليلة وضحاها، انتقل كوربن من المقاعد الخلفية في البرلمان إلى زعامة المعارضة، وحتى مع خسارة حزب العمال للانتخابات العامة عام 2019، التي اضطر بعدها كوربن إلى الاستقالة من قيادة الحزب، تركت قيادته أثرًا لا يُمحى: فقد ضاعف عدد أعضاء الحزب، وحوّل دفة برنامج الحزب السياسي نحو اليسار من خلال مشاريع تأميم المرافق، وزيادة الضرائب على الشركات الكبرى، وتوسيع برامج الرفاه، وأطلق جيشًا جديدًا من المتطوعين النشطاء الذين كان لهم أبلغ الأثر في الحراك الداعم لفلسطين من بين العديد من القضايا الأخرى. خرج كوربن من حزب العمال، لكنه حافظ على إرثه في حزب العمال، واستطاع أن يحفر شعاره "من أجل الكثيرين لا القلة" في الذاكرة الجمعية البريطانية. أما بالنسبة لأنصاره من اليسار، فيظل كوربن شخصية شبه أسطورية تمثل الصدق والنقاء الأخلاقي، داعية سلام، لم يقبل مال الشركات، ولم يخن وعوده التي قطعها للناس. نقول هذا لنؤكد أن كوربن، كما وصفته إحدى افتتاحيات صحيفة "مورنينغ ستار" لا يزال "يعبر عن آراء ملايين الناس العاديين الذين حُرموا من التمثيل" في ظل التواطؤ، أو "التوافق" كما تسميه الصحيفة "الخانق بين النخبة السياسية" على ما ينبغي أن تكون عليه الأمور. بل إن هزائم كوربن أصبحت جزءًا من أسطورته: فمع طرده من حزب العمال في 2024، أُعيد انتخابه نائبًا مستقلًّا بأغلبية ساحقة. يساري من شأنه أن يجعل ماركس فخورًا! يعرف كوربن نفسه على أنه اشتراكي، ويتحدث كثيرًا عن إعادة توزيع الثروة، وقوة النقابات، ويعتبر الخدمات العامة الشاملة حقوقًا ثابتة لا تُنتقص. ففي عام 2018، وبينما كان قائدًا لحزب العمال، قال أمام البرلمان في ويستمنستر إن العالم دخل في "عصر فيكتوري جديد" من اللامساواة، مطالبًا بتغيير جذري من أجل الأغلبية، لا من أجل الرضوخ لتطرف السوق. تشكل الأممية والنضال الجماعي محورًا مركزيًّا في رؤيته. إذ طالما حاجّ كوربن بأن السياسة الخارجية البريطانية يجب أن تستند إلى القانون الدولي وحقوق الإنسان، لا إلى استعراض القوة مثلما كان عليه الحال دومًا. هذا الموقف تجلى بوضوح في تصريحاته التي عكست وعيًا بالواقع، ورفضًا للسياسات القائمة مثلما قال حينها إن "الحركة المناهضة لهذه الحرب قدمت رؤية وإستراتيجية أوضح من السياسيين الذين قادونا إليها". وقد حمّل كوربن الإمبريالية التوسعية الغربية مسؤولية مآسي القرن العشرين، خاصة في الشرق الأوسط وأفريقيا مشيرًا إلى دور بريطانيا في انقلاب إيران عام 1953 ، الذي زرع بذور العداء للغرب وهو ما أفضى إلى الثورة الإسلامية في النهاية. ويستند كوربن في رؤيته لسياسة خارجية مبنية على مبادئ مناهضة للإمبريالية إلى هذا التصور عن مسؤولية الغرب. محليًّا، يلتزم كوربن بأسلوب أخلاقي صارم، مما يجعله ينادي بحقوق متساوية للجميع، وإن كان يعلي صوته دومًا للدفاع عن المظلومين سياسيا أو المسحوقين اقتصاديًّا. يناهض كوربن بشدة سياسات التقشف الحكومية المتكررة، وقد شجب إجراءات خفض الدعم الحكومي، مثل وصفه لقصر الإعانة الحكومية للأسر على الطفل الثاني، الذي فرضته حكومة المحافظين بأنه ينتمي للأخلاقيات الظالمة التي صدرتها الإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر، وتعهد بإعادة إعانات التدفئة الشتوية للمسنّين، وإلغاء رسوم التعليم الجامعي، وضمان أجور مناسبة للجميع. داخليًّا أيضًا يصر كوربن على دعم حقوق المهاجرين واللاجئين، وموقفه ثابت في ذلك سواء كانت الحكومة محافظة أو عمالية. فخلال شهر يوليو/تموز الجاري، عبر كوربن عن رفضه لقوانين الهجرة الجديدة التي تعمل على إقرارها حكومة كير ستارمر ، حيث وجه رسالة لقادة البلاد من حزب العمال مستنكرًا جحدهم لإنجازات المهاجرين التي أسهمت في بناء المجتمع البريطاني في مجالات التعليم والصحة والنقل وغيرها. وقد صوّر كوربن نفسه كمتمرد دائم، لأنه –حسب قوله– ثابت في مواقفه على الدوام، ففضلًا عن قضايا الهجرة واللاجئين، دعم كوربن كل مطالب اتحادات العمال والنقابات المهنية في قضايا العمل، وعارض الخصخصة دائمًا، ووقف إلى جانب الفقراء ضد سياسات التقشف بلا استثناء. وبحلول العقد الثاني من الألفية، تطور خطابه من السياسة إلى ما بعد السياسة، أو بعبارة أخرى إلى رؤية أكثر أخلاقية ووضوحًا للعالم؛ ففي المظاهرات المناهضة للحروب من العراق إلى اليمن، لم يكن كوربن يهاجم الظلم والعنف فحسب، بل كان يستهدف بانتقاداته المنظومة العالمية التي تنتج هذا الظلم. فمثلًا، في خطاب له عام 2013، مع صعود موجة الثورات المضادة، حذّر كوربن من أن حق بريطانيا في الاعتراض على انتهاكات حقوق الإنسان لدوافع أخلاقية "يتلاشى حين نكون قد بعنا الأسلحة لمن يقتلون المتظاهرين". وبعد كل تدخل غربي في العالم، كان يسلّط الضوء على التكلفة الإنسانية التي يتجاهلها الساسة عادة. لذلك، فإن أيديولوجية كوربن اليوم تدمج اشتراكية حزب العمال البريطاني على نهجه القديم في السبعينيات، قبل أن تلوثه مغامرات توني بلير وتحالفاته، من التركيز على توفير فرص العمل، ودعم حق المواطنين في السكن، ومسؤولية الدولة عن نظام تأمين صحي شامل، تدمج ذلك مع أممية مناهضة للحرب. ففي الوقت الذي يجاهد فيه لتحسين الأوضاع المعيشية للبريطانيين، يطالب باستمرار بأن تتماشى سياسات بريطانيا مع العدالة باعتبارها قيمة عالمية، سواء في فلسطين أو في اليمن أو العراق. وهي أيديولوجية من شأنها أن تجعل منظري اليسار الأوائل فخورين بما أنتجته ماكينتهم الفكرية في شخص كوربن. وإذا كان أنصار كوربن يرونه مبدئيًّا وأخلاقيًّا، فإن غيرهم يتهمه بالسذاجة أو حتى بالتطرف ودعم الإرهاب. فبالنسبة لمنتقديه، تبدو مواقف كوربن الخارجية، خاصة اتجاه العالم العربي والإسلامي، سببًا كافيًا لوصمه بالتطرف ومعاداة السامية. سياسة خارجية مختلفة، وثمن سياسي باهظ بالنسبة لسياسي بريطاني، بل ربما بالنسبة لمعظم السياسيين في العالم، تبدو مواقف جيريمي كوربن الخارجية، وخصوصًا اتجاه الشرق الأوسط، أكثر أخلاقية مما قد يتصوره المراقب العادي. فقد صاغ كوربن مواقفه ضمن إطار عام من معارضة التدخلات الأجنبية ودعم حق الشعوب في تقرير مصيرها. ففي مناظرة برلمانية عام 2022 حول إيران، ذكّر زملاءه النواب بأن بريطانيا شاركت في الإطاحة بحكومة الدكتور محمد مصدق في إيران في خمسينيات القرن الماضي، واصفًا هذا التاريخ بأنه "حيّ للغاية في ذاكرة الشعب الإيراني". حينها دافع كوربن عن الانخراط مع طهران ضمن إطار الاتفاق النووي لعام 2015، مشددًا على أنه "اتفاق دولي" منتقدًا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في فترته الأولى لتراجعه عن الاتفاق. وأكد أن المفاوضات يجب أن تترافق مع تخفيف العقوبات وفتح حوار حول حقوق الإنسان. كما حذّر من أن انهيار الاتفاق قد سيؤدي إلى سباق تسلح إقليمي، مشيرًا إلى أن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية بالفعل. تقوم رؤية كوربن على عالمٍ خالٍ من الأسلحة النووية ومن الحروب التي تُفرض من الخارج. وبشأن إيران تحديدًا، شدد مرارًا على أهمية الدبلوماسية. ففي خطاب له في مجلس العموم قال: "يجب أن تكون إيران جادة بشأن المفاوضات، ويجب أن نكون نحن أيضًا جادين… ترامب هو من قال إنه اتفاق ثنائي وعلى الولايات المتحدة الانسحاب منه"، مؤكدًا أن الاتفاق مع إيران كان شاملًا للاتحاد الأوروبي لا الولايات المتحدة فقط. وحذر كوربن من الصراع مع إيران متسائلًا: "ما البديل؟". كما ذكّر البرلمان بأن بريطانيا نفسها ليست بريئة، حيث أعلنت مؤخرًا زيادة ترسانتها النووية. أما فلسطين، فيُعد موقف جيريمي كوربن منها حجر الزاوية في هويته السياسية، القائمة على مناهضة الإمبريالية، واحترام القانون الدولي، والدفاع عن حقوق الإنسان. فعلى مدار عقود، برز كوربن ضمن أكثر السياسيين البريطانيين دعمًا وثباتًا في تأييده لحق الفلسطينيين في تقرير المصير، وهو موقف كثيرًا ما وضعه في مواجهة مع التيار السائد في السياسة والإعلام في بريطانيا والولايات المتحدة التي ما فتئت منصاتها الإعلامية تنتقده. يمتد انخراط كوربن في دعم القضية الفلسطينية إلى بداية حياته السياسية. فقد كان عضوًا –إن لم يكن في الغالب رئيسًا– في "حملة التضامن مع فلسطين" (Palestine Solidarity Campaign) منذ ثمانينيات القرن الماضي، وشارك بانتظام في المظاهرات والنقاشات البرلمانية والمنتديات العامة للدفاع عن فلسطين. كما زار الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك قطاع غزة، والتقى بعدد من ممثلي المجتمع المدني والسياسيين الفلسطينيين. يعتز كوربن بذلك التاريخ، ففي خطاب ألقاه عام 2011 في وستمنستر، قال كوربن: "لقد ناضلت من أجل الشعب الفلسطيني طوال حياتي. إن نضالهم من أجل الكرامة والاعتراف والعدالة هو القضية الأخلاقية في زماننا". وقد صدق في ذلك، فقد دعم كوربن كل المقترحات البرلمانية التي تطالب بالاعتراف بدولة فلسطين، ووقف مبيعات الأسلحة البريطانية لإسرائيل، وتحقيق العدالة في جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل. كذلك استخدم كوربن موقعه في البرلمان لتسليط الضوء على تواطؤ بريطانيا مع الاحتلال الإسرائيلي، من خلال مبيعات السلاح والدعم السياسي غير المشروط. وكان من أبرز المطالبين بفرض حظر على تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، لا سيما خلال الحروب الإسرائيلية على غزة في أعوام 2008 و2009 و2014. وفي نقاش برلماني عام 2014 قال إنه لا يمكن لبريطانيا أن تستمر في بيع الأسلحة لدولة تستخدمها في ارتكاب جرائم حرب، واصفًا ما يجري في غزة بأنه "ليس حربًا، بل مجزرة". وكان لكوربن دور محوري في دفع حزب العمال –خلال قيادته بين 2015 و2020– إلى تبني مواقف أكثر جرأة اتجاه القضية الفلسطينية، حيث أدرج الحزب في برنامجه الانتخابي لعام 2019 تعهدًا بـ"الاعتراف الفوري بدولة فلسطين" و"تعليق مبيعات الأسلحة لإسرائيل". أما أثناء حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، فانتقد موقف حزب العمال المتردد، وأجبر الحزب على التصويت لصالح وقف إطلاق النار. ففي مارس/آذار 2024، وصف حرب غزة بأنها "عار عالمي"، وأصر على ضرورة التوصل إلى وقف دائم وكامل لإطلاق النار. وبعد ذلك بشهر واحد، عندما شنت إسرائيل هجومًا على إيران في أبريل/نيسان 2024، حذّر كوربن من اندلاع حرب إقليمية، وكتب آنذاك: "بينما تحترق مدن غزة ورفح، ويتضور الأطفال جوعًا، يجب على القادة الغربيين تمهيد طريق للتهدئة، لا الاستمرار في مبيعات السلاح التي تصنّف الناس إلى أبرياء وأضرار جانبية". وبسبب موقفه من جرائم الحرب الإسرائيلية ودفاعه عن حقوق الفلسطينيين، فقد تعرض كوربن لهجمات امتدت لسنوات، وكان أحد أكثر الفصول تعبيرًا عن سياسات جيريمي كوربن، وعن سطوة اللوبي الإسرائيلي في بريطانيا، ما حدث من اتهامه بمعاداة السامية. ففي عام 2018، تبنّى حزب العمال تحت قيادة كوربن التعريف الأساسي لمعاداة السامية كما أقره التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA)، لكنه اعترض على الأمثلة التوضيحية التي يذكرها التعريف، خاصة تلك التي تعتبر وصف إسرائيل بأنها "دولة عنصرية" أو مقارنة سياساتها بسياسات ألمانيا النازية شكلًا من أشكال معاداة السامية! حينها قال كوربن وحلفاؤه إنهم يرفضون معاداة السامية بجميع أشكالها، لكن صياغة التعريف تُستخدم "لإسكات حرية التعبير حول فلسطين، وتُقيد الانتقاد المشروع لسياسات الدولة الإسرائيلية" لا سيما فيما يتعلق بالاحتلال ومعاملة الفلسطينيين. وقد عبر عن ذلك بقوله "لا يمكننا تبنّي تعريف يُغلق باب النقد المشروع لسياسات إسرائيل، أو يمنع الناس من الدفاع عن حقوق الفلسطينيين". وقد أيد هذا الموقف عدد من الأكاديميين القانونيين ونشطاء حقوق الإنسان، ومنظمات يهودية. كما عبّر أكاديميون بارزون مثل البروفيسور نورمان فينكلشتاين عن تحفظات مشابهة. في المقابل، شنّت الصحافة البريطانية -خاصة الصحف الصفراء والمؤيدة لحزب المحافظين- حملات تشويه شبه يومية على كوربن، ووجهت له اتهامات مباشرة بالتعاطف مع معادي السامية أو بمعاداة السامية، ووصفت حزب العمال بأنه أصبح "مؤسسة معادية للسامية" في ظل قيادته. وخلال هذه الحملات، أعادت الصحافة الترويج لاقتباسات كان كوربن قد قالها عام 2009 وصف فيها حركة حماس وحزب الله بأنهما "صديقان"، داعيا إلى الحوار معهما لا شيطنتهما، رغم تراجع كوربن عن هذا الوصف عام 2016، قائلًا إنه كان وصفًا دبلوماسيًا. وقد فاقم من ذلك بثّ هيئة الإذاعة البريطانية في عام 2019 لوثائقي بعنوان "هل حزب العمال معادٍ للسامية؟"، مما زاد من التوترات وأدى إلى استقالات في صفوف موظفي الحزب. وفي أغسطس/آب 2018، وتحت ضغط داخلي كبير، أوصى كوربن بتبنّي التعريف الكامل لمعاداة السامية وفقًا لـ"IHRA" مع ملحق يحمي الحق في انتقاد سياسة الحكومة الإسرائيلية. وقد صوّتت اللجنة التنفيذية الوطنية للحزب لصالح القرار، لكن الضرر الذي لحق بكوربن كان كبيرًا بالفعل، وطارده لوقت طويل لاحق. فبعد تنحيه عن زعامة الحزب عام 2020 عقب هزيمة الانتخابات، استمر مؤيدو إسرائيل في بريطانيا في استعادة الجدل حول تعريف معاداة السامية لملاحقة كوربن. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2020، وبعد صدور تقرير هيئة المساواة وحقوق الإنسان (EHRC) بشأن معاداة السامية في حزب العمال، أصدر كوربن بيانًا قال فيه إن المشكلة تم تضخيمها "لأسباب سياسية" لا حقيقية. أدى هذا التصريح إلى تعليق عضويته في الحزب. ورغم أنه أُعيد لاحقًا عضوًا، فإن زعيم الحزب الجديد كير ستارمر رفض إعادة منحه حق تمثيل الحزب في البرلمان، مبررًا ذلك بضرورة "استعادة الثقة مع الجالية اليهودية". ترك هذا الاستهداف أثرًا عميقًا في اليسار البريطاني، فقد مزّق التحالفات، وأسهم في تهميش الأصوات المؤيدة لفلسطين داخل حزب العمال. ومع ذلك، لا يزال كوربن بالنسبة لكثيرين رمزًا للشجاعة السياسية، لأنه دفع ثمنًا باهظًا وتمسّك بقيمه حتى النهاية. لكن مواقف كوربن الخارجية لم تكن دومًا على هذه الدرجة من الوضوح الأخلاقي. المسألة السورية.. اهتزاز البوصلة إذا كانت سياسة جيريمي كوربن الخارجية اتّسمت دومًا بالوضوح الأخلاقي، سواء في فلسطين، أو اليمن، أو جنوب أفريقيا في عهد الفصل العنصري، فإن سوريا كانت النقطة التي بدأت فيها هذه البوصلة الاهتزاز. حين اندلعت الثورة السورية عام 2011، كان ردّ الكثيرين من اليسار البريطاني بطيئًا ومرتبكًا. فقد بدأت الانتفاضة كحراك ديمقراطي قاده المدنيون ضد نظام بشار الأسد، لكنها تحوّلت مع وحشية نظام الأسد خلال شهور إلى حرب متعددة الأطراف. فقد كان الأسد يحارب شعبه، تدعمه روسيا وإيران، وتقاتل المعارضة الأسد، وتدخلت الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وتدخلت تركيا ضد الأكراد المرتبطين بحزب العمال الكردستاني، وأصبحت روسيا تسيطر على السماء. بالنسبة لمناهضي الإمبريالية مثل كوربن، الذين قضوا عقودًا يعارضون التدخلات العسكرية الغربية في الشرق الأوسط، شكّلت الأزمة السورية سؤالًا محرجًا: ماذا نفعل عندما يكون الطاغية خصمًا لبريطانيا، لا حليفًا لها مثل إسرائيل؟ حافظ كوربن على غموض محسوب. فقد أدان قمع نظام الأسد، ولكن بلغة حذرة ومقتضبة. فعندما سقطت حلب بيد الأسد والقوات الروسية عام 2016، قال: "لا مبرر لقصف المدنيين"، لكنه أضاف فورًا: "ومع ذلك، فإن تصعيد التدخل البريطاني لن يجلب السلام". وفي مناقشات مجلس العموم، كثيرًا ما كان يحوّل النقاش من جرائم نظام الأسد إلى التحذير من "عراق آخر"، مشددًا على رفض تغيير النظام، أو الضربات الجوية، أو حتى تسليح المعارضة السورية. ربما كان هذا الموقف نتيجة لجروح سابقة. فذكريات العراق وليبيا وأفغانستان طاردت جيل كوربن من السياسيين المناهضين للحرب. لكن نفوره من التدخل العسكري جعله عرضة لنوع مختلف من النقد هذه المرة ليس من اليمين، بل من السوريين أنفسهم ومن دعاة الحرية والديمقراطية في العالم العربي والعالم. ففي عام 2013، عارض كوربن التدخل البريطاني حتى بعد تقارير موثقة عن استخدام ا لأسد لغاز السارين في الغوطة ، ومقتل أكثر من 1000 شخص. وفي ذلك الوقت، كان يشغل منصب رئيس "تحالف أوقفوا الحرب"، وهي المنظمة التي أصدرت بيانات تشكك حتى في مسؤولية النظام عن الهجوم، في ترديد غير مباشر لسرديات تُسمع عادة في المنصات الإعلامية الروسية والإيرانية والداعمة للثورة المضادة. وفي كثير من الأحيان، بدا أن تحالف وقف الحرب أكثر اهتمامًا بتكبيل مقاومي نظام الأسد بدلًا من مواجهة جرائمه. حتى بعد سقوط حلب عام 2016، في أعقاب الحصار الذي شهد العالم وحشيته، حتى وصفته مؤسسة بريطانية مثل منظمة العفو الدولية بأنه "سقوط في قاع الجحيم"، ظلت تصريحات كوربن العلنية مقتصرة على دعوات عامة للسلام والدبلوماسية. جلب هذا التردد انتقادات لاذعة مستحقة! وكتب حينها المعارض السوري البارز ياسين الحاج صالح في رسالة مفتوحة انتشرت على نطاق واسع: "نظر اليسار الغربي في المرآة، فرأى الإمبراطورية، لكنه لم يرَ الجلاد الواقف في الغرفة". حتى داخل حزب العمال، شعر بعض النواب بعدم الارتياح. النائبة جو كوكس ، التي اغتيلت على يد متطرف يميني عام 2016، كانت من أبرز الأصوات المطالبة بتدخل إنساني في سوريا. وحذرت حينها من أن "رواندا جديدة" تتشكل تحت براميل الأسد المتفجرة. وفي الكواليس، عبّر بعض أعضاء حكومة الظل عن خيبة أملهم من صمت كوربن. أظهرت الأزمة السورية نقطة عمياء في مناهضة كوربن للإمبريالية، فهو يميل إلى تفسير الصراعات من منظور عبء ذنب الرجل الأبيض وحده. صحيح أن لتاريخ بريطانيا في المنطقة، من سايكس-بيكو إلى غزو العراق، سجلًّا استعماريًّا يستحق المواجهة. لكن التركيز على ما "لا ينبغي أن تفعله بريطانيا" جعل كوربن يتجاهل ما يطلبه المظلومون أنفسهم: من مناطق آمنة، إلى ممرات إنسانية، أو حتى ضربات دولية محدودة لوقف المجازر. ولا تزال آثار هذا الموقف ماثلة إلى اليوم، حتى بعد رحيل الأسد وانتصار الثورة السورية. فبينما يُحتفى بكوربن كرمز للمبادئ من قبل الفلسطينيين واليمنيين والإيرانيين وحتى الأكراد في مواجهة تركيا، فإن اسمه في أوساط السوريين، خاصة في المنفى، يثير شعورًا بالمرارة والحنق. لا يُنظر إلى كوربن كخصم على الأرجح بل كمثال على خيبة الأمل. فهو رجل رفع راية الكرامة الإنسانية في كل محفل، لكنه تردد عندما لم يكن الجلاد مدعومًا غربيًّا كعادة طغاة عالمنا. حزب جديد وإرث كبير في مايو/أيار 2024، وبعد حل البرلمان مباشرة بسبب فشل المحافظين في الحفاظ على استقرار الحكومة، طُرد كوربن رسميًّا من حزب العمال. وبمجرد تحرره من قيود الحزب، بدأ كوربن وحلفاؤه التحرك. ففي 2 سبتمبر/أيلول 2024، بعد أيام من الانتخابات، انضم كوربن إلى أربعة نواب مستقلين جدد (جميعهم من منشقّي يسار العمال وذوي مواقف مؤيدة لفلسطين)، لتشكيل كتلة رسمية في البرلمان تحت اسم "التحالف المستقل". وصفت الغارديان هذه الخطوة بأنها "بداية فعلية لحزب سياسي بلا زعيم"، وهدفت بالأساس إلى منحهم وقتًا أطول في الحديث البرلماني. وجاء في بيان مشترك صادر عن الأعضاء الخمسة: "ملايين الناس يصرخون طلبًا لبديل حقيقي للتقشف، وعدم المساواة، والحروب، وهذه الأصوات تستحق أن تُسمع". تعهد التحالف بإلغاء تحديد إعانة الأسرة بعد الطفل الثاني، واستعادة مزايا التقاعد، وإنهاء مبيعات الأسلحة البريطانية إلى إسرائيل، وهي القضايا التي قالوا إن الأحزاب الكبرى تتجاهلها. كما وجهوا دعوة مفتوحة لانضمام نواب آخرين، في إشارة واضحة إلى النواب العماليين السبعة الذين أُوقفوا بسبب تمردهم على بعض قرارات الحزب التي يتفقون فيها مع كوربن. ومع تبلور التحالف، ظهرت خطة أوسع وأكثر وضوحًا: فبحلول منتصف 2025، دخل كوربن في مفاوضات مستمرة لتحويل هذا التجمّع البرلماني الفضفاض إلى حزب سياسي متكامل. وفي يوليو/تموز الجاري، أحدثت النائبة السابقة عن حزب العمال زارا سلطانة مفاجأة سياسية بإعلانها استقالتها من الحزب وانضمامها إلى كوربن "للمشاركة في قيادة حزب جديد". مستشعرًا الغضب الشعبي بين قاعدته، أكّد كوربن أن "النقاشات جارية" وأنه متحمس للعمل مع الجميع "للنضال من أجل المستقبل الذي يستحقه الناس". ويبدو أن كوربن يطمح من خلال هذا المشروع إلى بناء تحالف يضم منشقّي حزب العمال، والخضر، والمجموعات الاشتراكية الصغيرة، وأعضاءً سابقين في العمال من الذين خاب أملهم جراء سياسات الحزب. تجنّب كوربن حتى الآن تسمية نفسه زعيمًا للحزب. حتى إن إعلان سلطانة صيغ بلغة تشاركية: "سأشارك في القيادة" بدلًا من تنصيب كوربن على رأس المشروع. ويقول مساعدو كوربن إن الحزب الجديد سيتبع هيكلًا أفقيًّا، ويعتمد المجموعات على الأرض لا الهيراركية التصاعدية. وفي مقابلاته، أكد كوربن أن المشروع "متجذر في النشاط القاعدي"، وأنه يركز على "سياسة خارجية مبنية على السلام" ، كما كان يدعو إليه دومًا. وقد بدأت تتضح معالم الإستراتيجية الجديدة لكوربن، وغزة في القلب منها. فقد شكّلت حرب الإبادة الإسرائيلية لحظة محورية للكتلة الجديدة، حيث ظهرت كصوت يمثل ملايين الناقمين على موقف حزب العمال من القضية الفلسطينية. تقول الناشطة آمنة عبد اللطيف للجزيرة إن هذا التحالف يسعى إلى تصحيح "أخطاء حزب العمال" من خلال الاستماع للمجتمع البريطاني ومكوناته لا النخبة السياسية. كذلك يستهدف الحزب الجديد جذب الناخبين المسلمين والشباب الذين نفروا من قيادة ستارمر للعمال والحكومة. فقد فاز النواب المستقلون في لندن مثل شوكت علي وعدنان حسين في دوائر ذات كثافة سكانية مسلمة عالية، بعد حملات قوية ضد سياسة حزب العمال اتجاه إسرائيل. ومن الواضح أن كوربن وحزبه الجديد يسعون لتوسيع هذا الخطاب على مستوى البلاد. تكتيك آخر يستخدمه كوربن هو بناء التحالفات. فقد فتح التحالف المستقل قنوات تواصل مع حزب الخضر، وقال مرشح قيادة حزب الخضر زاك بولانسكي "أي شخص يريد التصدي للمحافظين وحزب الإصلاح (اليميني المتطرف) وحكومة حزب العمال الفاشلة هو صديقي". بل إن محادثات تجري في بعض المناطق حول التصويت التكتيكي: ففي مدن برمنغهام أو برادفورد، يفكر بعض مرشحي حزب الخضر أو اليسار المحليين في الانسحاب لصالح المرشح المؤيد لكوربن إن بدا أن لديه فرصة أفضل للفوز. لكن هذه الإستراتيجية ليست مضمونة النجاح، إذ إن بناء ائتلاف مستقر من الاشتراكيين، والخضر، والنشطاء المناهضين للحرب ليس بالمهمة السهلة مع الاختلافات الفكرية الكبيرة بينهم. حتى الآن، ركّز نواب التحالف على ما أسموه "انتصارات رمزية"، مثل تقديم مقترحات لوقف إطلاق النار، وكتابة رسائل إلى توني بلير تطالبه بالشهادة بشأن غزة، والمشاركة في المسيرات التضامنية. لكن في أروقة الحزب الجديد يناقش كوربن وحلفاؤه سياسات أكثر جذرية، مثل تمرير قانون مناهض للعنصرية، وفرض ضريبة على الثروة، وتأميم القطاعات الحيوية، لكنهم يتجنبون إصدار برنامج انتخابي كامل في الوقت الراهن، مفضلين التموقع كقوة احتجاج مرنة. غير أن تقريرًا حديثًا نشرته الغارديان في منتصف يوليو/تموز 2025، أورد أن كوربن يُجري اللمسات الأخيرة على هيكل الحزب وبرنامجه السياسي. ويبدو أن فرص كوربن في الوصول إلى نسبة مؤثرة من الأصوات ليست ضعيفة. فقد أثار الحديث عن الحزب الجديد حماسة كبيرة لدى شرائح واسعة من الناخبين -وخاصة الشباب والأقليات المحبطة- في الوقت نفسه الذي أقلق فيه تيارًا في حزب العمال يخشى من انقسام الأصوات. وتقدّم استطلاعات الرأي الأخيرة صورة متباينة. ففي استطلاع أجرته مؤسسة "YouGov" المرموقة في يوليو/تموز الجاري، قال حوالي 18٪ من البريطانيين إنهم "منفتحون على التفكير" في التصويت لحزب بقيادة كوربن، وهي نسبة أقل من دعم حزب العمال البالغة 30٪ لكنها ليست نسبة قليلة. وتظهر البيانات أن هذا الدعم يميل بقوة نحو الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا. وبرزت لندن ضمن معاقل هذا الدعم، إلى جانب ناخبي حزب الخضر السابقين وثلث من صوتوا لحزب العمال في 2024. كذلك لا تزال قاعدة كوربن التقليدية بين المسلمين البريطانيين متماسكة. فبعد حرب غزة، أظهرت استطلاعات عدة تراجع دعم المسلمين لحزب العمال بشكل حاد، وانخفضت شعبية ستارمر في أوساطهم تزامنًا مع ما يرونه تواطؤًا مع إسرائيل في حربها على غزة. أما النقابات العمالية، التي شكلت تاريخيًّا العمود الفقري لحزب العمال، فهي تراقب الوضع عن كثب. فرغم أن القيادات النقابية ما زالت تدعم الحزب رسميًّا، فإن الأعضاء الذين دعموا كوربن بقوة بين 2015 و2019 لا يزالون يميلون إلى خطابه الاجتماعي الديمقراطي. لم تعلن أي نقابة كبرى انشقاقها بعد عن حزب العمال، لكن الخطاب الداخلي لاتحادات العمال والنقابات مليء بأصوات مؤيدة لكوربن ترى أن الحزب قد "خان الطبقة العاملة" جراء سياساته وحتى تعامله مع رئيسه السابق. حتى الآن، لا تُظهر أي استطلاعات انهيارًا مباشرًا في نسب ستارمر بسبب كوربن وحزبه الجديد الذي لا يزال في طور التشكّل. ومع ذلك، يجب القول إن جاذبية كوربن الداخلية حقيقية بلا شك بين الشباب والمجتمعات المسلمة واليسار الراديكالي، لكن يبقى السؤال: هل يمكن تحويلها إلى قاعدة تصويتية مستقرة؟ في النهاية، يخبرنا تاريخ جيريمي كوربن أن أسطورته السياسية ستستمر على الأرجح، بغض النظر عن مدى نجاح حزبه في الحصول على الأصوات أو حتى في الحفاظ على تماسكه.


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
أبو عبد الله "الصغير" آخر سلاطين بني نصر قبل سقوط غرناطة
أبو عبد الله محمد الـ12 -المعروف بأبي عبد الله الصغير- هو آخر سلاطين بني نصر في غرناطة ، اتسم عهده بالصراعات الداخلية والحروب الأهلية والتنافس على العرش، وهذا أدى إلى سقوط غرناطة -آخر معاقل المسلمين في الأندلس- في يد مملكة قشتالة في الثاني من يناير/كانون الثاني 1492م. أطلقت عليه المصادر الإسبانية اسم "الصغير" لتمييزه عن عمه الذي كان يحمل الاسم نفسه، وهو أبو عبد الله محمد وكان لقبه الزغل. تولى العرش بعد ثورة على والده السلطان أبو الحسن علي، الذي وقع في الأسر أثناء قيادته هجوما على إحدى القلاع الخاضعة للمسيحيين. وأطلق سراحه بعد توقيع معاهدة أعلن فيها تبعيته لمملكة قشتالة وتسليمه ابنه رهينة. بعد وفاة والده، استمر صراعه على العرش مع عمه إلى أن تغلب عليه واستعاد الحكم، واستغلت الممالك المسيحية هذه الانقسامات والصراعات فاحتلت البلدات الأندلسية الواحدة تلو الأخرى، ثم فرضت حصارا خانقا على العاصمة غرناطة دام 9 أشهر، اضطر بعدها أبو عبد الله إلى الاستسلام مقابل نفيه وضمان حقوق سكان المدينة. نُفي إلى بلدة أندرش قرب ألميرية، ثم انتقل إلى فاس عاصمة الدولة الوطاسية بالمغرب، وفيها بنى قصورا على الطراز الأندلسي وعاش هناك 40 سنة إلى أن توفي ودفن فيها. المولد والنشأة ولد أبو عبد الله محمد بن أبي الحسن علي بن سعد بن علي بن يوسف بن محمد عام 1460م في قصر الحمراء بغرناطة، والده هو السلطان أبو الحسن ووالدته الأميرة عائشة الحرة ، ابنة السلطان محمد التاسع الملقب بالأيسر. وله شقيقان هما يوسف وعائشة. وتزوج الأمير من مُرَيمة بنت إبراهيم العطار قائد جيش غرناطة، وقد تعرف عليها بعد إحدى المعارك التي خاضها مع أبيها، فطلبها منه عام 1482م وهكذا توطدت علاقتهما أكثر. تشير بعض الملابس التي يحتفظ بها أحد المتاحف في إسبانيا إلى أنه كان نحيفا ، متوسط القامة، إذ تراوح طوله بين 160 و165 سنتيمترا، وورد في بعض السجلات أنه كان ذا بشرة بيضاء وشعر داكن. الطريق إلى العرش كان أبو عبد الله ولي عهد والده السلطان أبي الحسن علي ، لكن هذا الأخير تزوج من محظية مسيحية تدعى إيزابيلا دي سوليس، واعتنقت الإسلام وأطلق عليها اسم ثريا الرومية، وأنجبت له ولدين: هما سعد ونصر. أدى ميل السلطان إلى زوجته الجديدة وإهمال زوجته الأولى وابنة عمه عائشة وولديها إلى غضب هذه الأخيرة وأنصارها، وخاصة أخوالها (بنو السراج) وهي أسرة غرناطية كانت ذات نفوذ سياسي كبير. وقد حاولت عائشة الدفاع عن ابنها وملكه أمام تهديد أبناء الزوجة الثانية، لكن أبا الحسن تأثر بزوجته الثانية لدرجة جعلته يقدم أبناءها لتسلّم مقاليد الحكم بتأثير منها، وقد حاولت استمالته والتأثير عليه لطرد عائشة وأبنائها لتخلو لها الساحة. قرر أبو الحسن في النهاية سجن زوجته عائشة وولديها محمد ويوسف في أحد أبراج قصر الحمراء، وأمر بنقل ولاية العهد إلى ابنه سعد من زوجته ثريا، مما أدى إلى انقسام داخلي واعتراض الأوساط السياسية والأسر ذات النفوذ. وفي ظل الوضع المتوتر الذي كانت تعيشه المنطقة إثر هذه الصراعات، تحالفت عائشة الحرة مع عشيرة بني سراج، التي كانت تكره الملك كرها شديدا، واستغلت غياب السلطان عن العاصمة في إحدى حملاته ضد القشتاليين، فأخرجوها من سجنها وولديها وذهبوا بهم إلى وادي آش، وهناك التف حول ابنها البكر أبي عبد الله العديد من المؤيدين الذين كانوا ساخطين على سياسات والده. عاد أبو عبد الله إلى العاصمة بمساعدة أسرة بني السراج واستقر في حي البيازين، وهناك بايعه الناس سلطانا على غرناطة عام 1482م، فاحتدم الصراع بين أنصار الأب والابن وسالت دماء كثيرة في شوارع غرناطة، واستغل الملك القشتالي فرناندو الثاني هذا الصراع وشن هجمات على البلدات والقلاع في أطراف المملكة. معركة اليسانة تدخل شيوخ وفقهاء وأعيان المدينة للإصلاح بين الطرفين فتوصلا إلى اتفاق واتحدا في مواجهة المسيحيين. وخرج أبو الحسن على رأس جيشه إلى مدينة لوشة المحاصرة وبقي أبو عبد الله في غرناطة للدفاع عنها. وبعد أن فك أبو الحسن الحصار عن لوشة وقتل قائد الجيش الإسباني، عاد ليجد أبواب غرناطة مغلقة في وجهه بعد أن نقض ابنه الاتفاق الذي كان بينهما، فانسحب إلى مدينة مالقة التي كان يحكمها أخوه الزغل. اتخذ أبو عبد الله الصغير لنفسه لقب المنصور بالله، ولإضفاء الشرعية على حكمه قاد حملة عسكرية لحصار "اليسانة" في 20 أبريل/نيسان 1483م الواقعة شمال بلدة لوشة. حاصر أبو عبد الله اليسانة تحت إشراف والد زوجته العطار، الذي كان خبيرا في أراضي جنوب قرطبة، وحقق سلسلة نجاحات متتالية ضد المسيحيين، لكن نظرا لقلة عدد جيش المسلمين، اضطروا للانسحاب إلى ضواحي المدينة، لكن وقتها تلاقى الجيشان وبدأت المعركة. بسبب الهجوم المفاجئ للقشتاليين انسحبت قوات أبي عبد الله بعشوائية، وقتل العطار بينما كان يحاول الدفاع عن أميره بسيفه، وحاول "الصغير" الفرار لكن حصانه علق في الوحل. ورغم محاولته الاختباء، فإن الجنود لاحظوا أهميته من لباسه فاقتادوه أسيرا، ومن هنا كانت نقطة انهيار غرناطة التي سقطت في ما بعد بأيدي القشتاليين، بعدما خسرت المدينة فارسها الشجاع. الأسر اقتيد الأمير أبو عبد الله الصغير إلى إشبيلية مقر إقامة الملك والملكة فرناندو وإيزابيلا، وحينها أعاد وجهاء غرناطة أبو الحسن إلى الحكم، بينما استمر ابنه الآخر أبو الحجاج يوسف يحكم مدينة ألمرية لصالح شقيقه السلطان الأسير أبو عبد الله الصغير. ولإنقاذه من الأسر، أرسلت والدته الأميرة عائشة وفدا إلى قرطبة للتفاوض، وفعل والده الشيء نفسه، إلا أن الملكين المسيحيين فضلا التفاوض مع أنصار أبي عبد الله لتحقيق هدفهما عبر إنهاك مملكة غرناطة بإشعال الصراعات والمنازعات العائلية. في أغسطس/آب 1483م وقع أبو عبد الله الصغير اتفاقية مع الملكين فرناندو وإيزابيلا، تعهد فيها بالخضوع السياسي والعسكري للمملكة المسيحية وتسليم عدد من الرهائن بينهم ابنه البكر أحمد، ودفع 12 ألف قطعة ذهبية، مقابل إطلاق سراحه وحصوله على الدعم المسيحي لمحاربة والده والسيطرة على العرش. وبمجرد أن علم أبو الحسن بهذا الاتفاق، طلب فتوى من كبار علماء العاصمة في أكتوبر/تشرين الأول 1483م، فأفتوا بأن اتفاقية أبي عبد الله ضد شريعة الله وأنها إثم كبير وأن عقد المواثيق مع الكفار حرام، وأن الاعتراف بالأمير الأسير غير مشروع. ضعفت صحة أبي الحسن في آخر عمره، فسلم الحكم لأخيه أبو عبد الله الزغل، فاستمرت الحرب الأهلية بين هذا الأخير وبين ابن أخيه أبو عبد الله الصغير. وبينما انشغلا بالاقتتال استولى المسيحيون على عدد من البلدات والقلاع الإسلامية واحدة تلو الأخرى. الإمارة الثانية وعندما أدرك العم وابن أخيه خطورة صراعهما على نظام العرش وعلى مملكة غرناطة، اتحدا من جديد عام 1486م وذهب كل واحد منهما على رأس أنصاره وجيشه لقتال المسيحيين في لوشة وبلش. فشل الزغل في فك الحصار عن مدينة بلش فعاد إلى غرناطة، لكن أبا عبد الله الصغير سبقه إليها وأغلق أبوابها أمام من تبقى من جيشه كما فعل سابقا مع والده، وأعلن نفسه سلطانا في أبريل/نيسان 1487م، بادئا إمارته الثانية التي كانت الأخيرة بعد قرابة 8 قرون من تاريخ الأندلس. في بداية مايو/أيار 1487م، وقّع "الصغير" معاهدة سرية جديدة مع الملكين المسيحيين ووافق بموجبها على تسليم غرناطة مقابل إمارة في المنطقة الشرقية، التي تضم مدنا وبلدات مؤيدة لأبي عبد الله الزغل. شن المسيحيون هجوما على البلدات المؤيدة للزغل، فاستسلمت مدينة ملقة وألميريا وجواديس وغيرها، وأعلن الزغل استسلامه في العاشر من ديسمبر/كانون الأول 1498. وتحرر أبو عبد الله الصغير من منافسه القوي، لكنه وجد نفسه في مواجهة مملكة المسيحيين التي طالبه ملكاها بتنفيذ بنود الاتفاق السري وتسليم العاصمة غرناطة. حصار غرناطة بعد استيلاء مملكة قشتالة وأراغون على كافة المدن والقلاع في مملكة غرناطة لم تتبق إلا العاصمة، وتقول الروايات الإسبانية إن أبا عبد الله لم يمتثل لالتزاماته بموجب الاتفاقية الموقعة مع الملكين فرناندو وإيزابيلا ورفض تسليم مدينة غرناطة. وتقول روايات أخرى إن الملكين المسيحيين هما من أخلا بالاتفاق واستوليا على الأقاليم الشرقية، التي كانت تحت سيطرة الزغل، ورفضا التنازل عنها لأبي عبد الله الصغير، وهاجما مدينة غرناطة لضمها إلى أراضيهما بالقوة. وتشير روايات أخرى إلى أن نزوح أهالي القرى والبلدات والمدن التي استولى عليها القشتاليون إلى العاصمة غرناطة آخر معاقل الإسلام في الأندلس، جعل المدينة تعج بالشباب والمقاتلين المتحمسين للدفاع عنها، مما جعل أبا عبد الله يتفاءل بقدرته على حماية المدينة. شكل الملكان المسيحيان حملة عسكرية كبيرة قوامها جيش يضم 80 ألف جندي مجهزين بآلات حربية ضخمة من مدافع وبارود، وتقدم الجيش الملك فرناندو والملكة إيزابيلا لزرع الحماس في نفوس الجنود، وأنشآ معسكرا قرب أسوار غرناطة. وفي أبريل/نيسان 1491م بدأ حصار المدينة واستمر 9 أشهر، وانتشر فيها الجوع والمرض بين الأهالي، مما دفع القادة والأعيان والفقهاء إلى مقابلة السلطان في أكتوبر/تشرين الأول 1491م طالبين منه البدء في المفاوضات. انتهت المفاوضات في نوفمبر/تشرين الثاني 1491م باتفاقية الاستسلام التي ضمنت للمسلمين الحق في البقاء في المدينة مع الحفاظ على ممتلكاتهم ودينهم وثقافتهم أو الهجرة مقابل تسليم المدينة. التنحي عن العرش في يوم الاثنين الثاني من يناير/كانون الثاني 1492م سلم أبو عبد الله الصغير رسميا مفاتيح قصر الحمراء إلى مبعوث قشتالي في قاعة العرش، ثم غادر القصر والتقى الملكين فرناندو وإيزابيلا على أبواب العاصمة لإعلان الاستسلام وفق بنود الاتفاق، واستعادة ابنه الذي كان رهينة منذ عام 1483م. وغادر في اليوم نفسه مع أسرته وحاشيته إلى المنفى في بلدة أندرش في منطقة البشارات القريبة من ألميرية. وتقول الروايات التاريخية إن ملكي قشتالة وأراغون دبرا مؤامرات وضغوطا لإجبار أبي عبد الله على الهجرة خارج شبه الجزيرة الإيبيرية، إذ تعرض لخيانة بعض أقرب رجالاته الذين باعوا أملاكه بأقل من قيمتها. وبعد وفاة زوجته المحبوبة مُريمة، لم يعد يطيق الإقامة في المنفى، فأرسل رسالة إلى السلطان الوطاسي في المغرب يطلب منه السماح له باللجوء إلى فاس، وهي رسالة مطولة كتبها كاتبه أبو عبد الله العربي العقيلي بعنوان "الروض العاطر الأنفاس في التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس". في عام 1493م غادر أندرش إلى مليلية مع والدته وباقي أفراد عائلته، ومنها إلى فاس حيث بنى قصورا على الطراز الأندلسي وعاش فيها حوالي 40 سنة. توفي عام 1533م وهو في عقده السابع، بحسب ما ورد في كتاب "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" لأحمد المقري، ودفن قرب المصلى خارج باب الشريعة بفاس، وخلّف ولدين هما أحمد ويوسف وظل أحفاده يعيشون في فاس.