أحدث الأخبار مع #الاستشراق


الجزيرة
منذ 6 ساعات
- سياسة
- الجزيرة
أكبر الأكاذيب المؤسسة لإسرائيل
إن حروب السرديات، هي انعكاس لحروب وصراع الأفكار والمعتقدات والرؤى، ولذلك، لا يمكن فهم جوهرها ونقدها إلا بممارسة التفكيك، حيث ينطق نص السردية بما يعتوره من تناقضات وأساطير وخرافات تأسيسية تعتمل في الخفاء وتؤسس لنتائج قد تبدو عقلانية من منظور المنطق الاستعماري، حيث الحرب شرعية بمقاييس الرأسمالية الاحتكارية. فمن المعلوم أن تأسيس دولة إسرائيل، كما مر معنا، لم يكن نتاج أحداث سياسية مباشرة، بقدر ما كان نتيجة لتراكمات تاريخية لخطاب استشراقي يمتد بجذوره إلى القرن السابع عشر، حيث تم إنتاج وتسويق تصورات غربية عن الشرق، بما يشمل الهند والصين، وعموم العرب والمسلمين. وهي تصورات نفت المنطق والعقل والعقلانية عنه، بمقابل انفراد الغرب بالحضارة والعقلانية، وهو ما سيشكل الأساس الإبستيمي (المعرفي) لخطاب الاستشراق، ولعلنا نجد في كتابات جاك غودي، وخاصة كتاب: "الشرق في الغرب"، خير تفكيك لهذه الأسس. لكن التركيز الاستشراقي، كما الأنثروبولوجي، كان من نصيب العرب والمسلمين، ومن بينهم طبعا الفلسطينيون، الذين شكلوا هذا الآخر المعاكس والمناقض للذات الغربية، حيث شكلت هذه الصور والرؤى والتصورات المنافية للعقل والعقلانية والحضارة والمدنية عن هذا الآخر الأساس المرجعي للجهاز المعرفي للغرب عن الشرق، وبالتماثل إسرائيل عن العرب والمسلمين والفلسطينيين. وهي رؤية لا يخفيها القادة الإسرائيليون باختلاف انتماءاتهم السياسية، وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو في أحدث طبعة لسيرته الذاتية "مكان تحت الشمس". ففلسطين في الخطاب الاستشراقي كانت أرضا خلاء، استوطنها بعض من البدو العرب الرحّل في سياق البحث عن الكلأ والمراعي، ولا تربطهم أية صلة بها، وهم متخلفون حضاريا، وهو عين خطاب ما يسمى بالاستشراق المساند للصهيونية، خاصة في أواخر القرن التاسع عشر. الخطاب الاستشراقي من المعرفة إلى الاستعمار الاستيطاني إذا كان رواد الاستشراق يعتبرون الخطاب الاستشراقي مشروعا معرفيا وفكريا، وكان مثقفو الغرب الديكولونياليون يعتبرون أن هذا الخطاب سقط، دون قصد، في إنتاج أنماط ونماذج جاهزة مؤسسة على أحكام قيمة، وسرعان ما تم تجاوزها، فإن واقع الحال يقول العكس تماما. فهذا الخطاب بالرغم من الانتقادات التي وجهت إليه، كما حدث مع الأنثروبولوجيا، ما زال يتأسس على أحكام القيمة التغريضية والتنقيصية من الشرق، خاصة من العرب والمسلمين، بعد أن فندت الصين وكافة نمور آسيا مقولة الاستشراق الغربي، وأصبحت من البلدان الأكثر تقدما في العالم، بل وصارت الصين المنافس الذي يهدد عرش الولايات المتحدة الأميركية ذاتها، ويهدد هيمنة الغرب على العالم. ذلك أن الاستشراق لم يكن مجرد دراسات حول الشرق، بقدر ما هو بنية معرفية لا تنفصل عن السيطرة الاستعمارية والهيمنة الرأسمالية الاحتكارية الغربية، وهو ما شكل جوهر كتاب المفكر الأميركي من أصول فلسطينية إدوارد سعيد: "الاستشراق" الذي صدر في طبعته الإنجليزية سنة 1978، حيث وضّح هذا الأخير كيف أنتجت أميركا وعموم الغرب تمثلات وصورا نمطية ومشوهة عن العرب والمسلمين وعموم الشرق الذي بات يمثل في الاستشراق الآخر المتخلف البربري وغير العقلاني، بمقابل الذات الغربية المالكة حصرا للعقل والعقلانية والحداثة والمدنية. ولذلك، فهي تملك حق تمدين العالم ومساعدة الشعوب المتخلفة في نظرها على التحضر والتمدن عبر الاستعمار والاستيطان. على المستوى الفلسطيني، وبالرجوع إلى الكتابات التاريخية الغربية، يتضح أن الخطاب الاستشراقي بدأ في بلورة تصور عن الإنسان الفلسطيني منذ القرن التاسع عشر، قبل وعد بلفور، وحتى قبل المؤتمر الأول للصهيونية في مدينة بازل السويسرية في أغسطس/ آب 1897 برئاسة وإشراف ثيودور هرتزل، والداعي لتشكيل وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، التي يعتبرها هذا الخطاب أرضا بلا شعب، أرضا خلاء. كما تحضر في السيرة الذاتية لنتنياهو، وفي كتابات منظري الصهيونية بشكل عام والمستوحاة من الخطاب الاستشراقي، عبارة عن "أرض مقدسة ضائعة"، و"أرض ضاع مجدها ويجب إحياؤه"، و"الإحياء المقدس لأرض فلسطين"… إلخ، وأن الفلسطينيين هم مجرد عرب بدو أجلاف استقر بعضهم في مرحلة تاريخية مؤقتة في سياق الترحال والبحث عن المراعي، دون أن تكون لهم أية صلة تاريخية وشرعية بالأرض. وفي مقابل ذلك، يتم تصوير اليهودي بوصفه "الابن الأصلي والشرعي لأرض كنعان"، وأن "اليهود طُردوا منها ظلما وجورا، وأن لهم دوما الحق في العودة، وهي عودة مقدسة". وقبيل وعد بلفور أسهم الضابط والمؤرخ البريطاني لورنس العرب في تقوية الفصل بين الشرق والغرب، بين الإسرائيلي والعربي، معتبرا أن العرب غير قادرين على إدارة أمورهم. ولذلك كان يرى أنهم في حاجة إلى الوصاية حتى يتم ترقيتهم حضاريا ومدنيا، وهي مهمة الغرب بامتياز. وعلى هذا المستوى، لم يكن وعد بلفور سوى الترجمة الحرفية لهذه المهمة الغربية، ولهذا الخطاب الاستشراقي، فإسرائيل تمثل تجمعا ليس لليهود، من منظور الدولة الدينية التي أساسا تتناقض مع الحداثة الغربية، فحسب، بل تمثل شعبا أوروبيا سُلبت الأرض من أجداده، وهو شعب منسجم يمتلك حضارة وعقلانية ومنطقا، بمقابل العرب الفلسطينيين الذين ليسوا سوى مجرد بدو رحّل في الأصل، لا تجمعهم وحدة ولا رابط، لكونهم طوائف وعشائر، وهو ما يعكس انحيازا استشراقيا لا تخطئه العين من أول سطر في هذا الخطاب الذي شكل الخلفية المرجعية للدعم البريطاني للمشروع الصهيوني قبل أن تصبح أميركا عرّابه الأكبر. فإذا كان الاستشراق ظاهرة فكرية وسياسية ظهرت قُبيل بداية الغزو الاستعماري الأوروبي، جوهرها الخطابي هو إنتاج معرفة إمبريالية عن الشرق بغية تبرير الاستعمار وتسويغه، فإن بروز المشروع الصهيوني جعل هذا الاستشراق يتخذ من العالم العربي وفلسطين تحديدا موضوعه الأهم، بالنظر إلى ارتباط هذا المشروع باحتلال واستيطان أرض فلسطين، التي تحولت بفضل هذا الخطاب إلى بلاد كنعان، وأرض الميعاد، ومملكة إسرائيل التاريخية، بعدما أُفرغت تخييليا من سكانها الأصليين. حيث تعاونت مراكز أبحاث وجامعات وباحثون غربيون مع نظرائهم من إسرائيل لإنتاج دراسات وأبحاث وكتابات تُعنى بالمنطقة العربية والإسلامية تكون في خدمة الأهداف الأيديولوجية والسياسية للحركة الصهيونية. وهو ما تولد عنه الاستشراق الصهيوني الذي ارتبط ارتباطا وثيقا بإسرائيل كدولة استعمار استيطاني. لقد ظل هذا المشروع الأيديولوجي المغرض بعيدا عن المساءلة عربيا وإسلاميا إلى أن جاء إدوارد سعيد، حيث أظهر بجلاء في كتابه "الاستشراق" كيف أن بعض المستشرقين اليهود استخدموا أدوات الاستشراق الغربي لخدمة أهداف صهيونية، أبرزها تقديم العرب كتهديد دائم لمشروع الدولة اليهودية. ومن هذا المنطلق، كثرت وازدهرت الكتابات من هذا النوع، خاصة من قِبل مؤرخين إسرائيليين حاولوا تزوير الأحداث التاريخية وابتكار أخرى واستدعاء ثانية من وحي الخيال والأساطير لصناعة سردية غربية إسرائيلية مُخصبة باليورانيوم الاستشراقي، حيث العرب والفلسطينيون تهديد قائم لليهود ولدولة إسرائيل، بالنظر إلى أنهم مجبولون بالفطرة على الإرهاب والغلو والتطرف والبربرية، وهم، كما باقي الشرق، لا يتوفرون على شروط ومقومات العقلانية والحداثة بالنظر إلى توغلهم في حياة البداوة وتخلف دينهم، خاصة فيما يتعلق بكل نشاط فكري إسلامي. ولعلنا نجد في البريطاني برنارد لويس خير مؤشر مرجعي على الاستشراق الصهيوني، فيما كتبه من كتب ومنشورات تفيد تخلف العرب وعداءهم المرضي لليهود، وضمن هذا السياق التأسيسي، يمكن اعتبار إسرائيل شاحاك أحد أهم الباحثين الذين أسسوا اللبنات الأولى للاستشراق الصهيوني، حيث كان هدفه إنتاج معرفة استشراقية من أجل تيسير التحكم في العرب وقيادتهم وإقناع نخبهم بمهمة إسرائيل الحضارية في المنطقة. وهنا أعتقد أن شاحاك، بالرغم من أنه انقلب فيما بعد منتقدا الصهيونية، فدوره تاريخي في التأسيس للاستشراق الصهيوني. وكما هو شأن الاستشراق الغربي، ليس فقط نزعة فكرية ومعرفية فردية مرتبطة بأشخاص معينين، ما دام أنه بنية بحثية وفكرية مؤسساتية، يُعد الاستشراق الصهيوني بنية مؤسساتية قائمة الذات، ترتكز على مؤسسات جامعية ومعاهد ومراكز أبحاث. ولهذا، نجد الجامعات الإسرائيلية، مثل الجامعة العبرية وتل أبيب، قد أنشأت أقساما متخصصة بالدراسات الشرقية، مرتبطة بالمؤسسة العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية. ومثلما يشير إلى ذلك عدد من المفكرين المنتقدين للصهيونية، من قبيل إيلان بابيه ونعوم تشومسكي، وزيجمونت باومان، وحنة أرندت، وأبرهام ملتسر، وغيرهم كثر، سعى المشروع الاستشراقي الصهيوني إلى توفير معرفة إستراتيجية لتوجيه السياسات الإسرائيلية في التعامل مع العرب، وتشويه صورتهم وصورة المسلمين بشكل عام بوصفهم غير عقلانيين، متخلفين، وعدوانيين، لتبرير سياسات الاحتلال. ومن ثم نزع الشرعية عن الثقافة العربية، عبر تزييف الوقائع والأحداث للبرهنة على أن العرب لا يتوفرون على أي إرث حضاري، والهدف من ذلك هو إعادة كتابة التاريخ الفلسطيني، وتصوير فلسطين كأرض بلا شعب قبل مجيء الصهاينة، وهنا يمكن إدراج تهويد الأماكن والفضاءات والأسماء ومنحها هوية يهودية وإسرائيلية، والسعي نحو إقناع العالم بذلك. لهذا، في الحقيقة، لا ينفصل المشروع الاستشراقي الصهيوني عن "الهاسبارا"، أي جهاز الدعاية الإسرائيلية الموجهة إلى الغرب، خاصة أن الكتابات والدراسات الجامعية والأكاديمية تُوجّه تحديدا إلى الغرب والنخب الحاكمة في العالم العربي لتبرير الاستيطان وتزييف الرواية الفلسطينية. بيد أنه في السنوات الأخيرة باتت هذه الكتابات تُوجّه أيضا إلى النخب العربية من مختلف التوجهات، خاصة الحداثية، من أجل تعبئة هذه النخب خدمة للصهيونية الوظيفية، بتعبير عبدالوهاب المسيري. الاستشراق الصهيوني والتقابل الانحيازي تأسيسا على ما سبق، سوف ينحو الاستشراق الصهيوني منحى الدعم المباشر لقيام دولة إسرائيل، وفيما بعد لدعم حروبها وتبريرها بدعاوى حضارية ومدنية، من خلال إعادة إنتاج وتحيين التصورات والتمثلات الاستشراقية، خاصة بعد أن تعرض الاستشراق نفسه لضربات موجعة من قبل الدراسات الثقافية وما بعد الكولونيالية. هذا الخطاب الاستشراقي الصهيوني، والذي تطور على يد باحثين ينتمون أساسا إلى جيش الاحتياط الإسرائيلي، يصور الجندي الإسرائيلي كرجل غربي جديد يعيد التمدن لمنطقة مقدسة مهملة، ويصور الجيش كمجموعة من الرجال والنساء الذين يقومون بمهام مقدسة جليلة. وبما أن هذا الخطاب تواضع على مزاعم أن فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وهي مقولة استشراقية بامتياز، فإن الفلسطينيين ليسوا سوى إرهابيين يحاربون المدنية والحضارة، ويقوضون أسس القداسة في أرض الميعاد. وهو ما عملت على ترويجه ومأسسته وترسيمه الجامعات الغربية والإسرائيلية على حد سواء، كشكل من أشكال الدعم الصريح لإسرائيل، فمنذ أوائل القرن العشرين لم تتوانَ المؤسسات الأكاديمية والجامعية ومراكز الدراسات والأبحاث في إغناء وتكريس هذا الخطاب الاستشراقي المؤيد للرواية الإسرائيلية، حتى صارت مصطلحات مثل "الدراسات الشرق أوسطية" مقابلا موضوعيا للسردية الصهيونية الاستشراقية. إن هذا الخطاب الاستشراقي الصهيوني ليس خطاب نخبة، بل خطاب المدرسة، والإعلام، والأسرة، والجامعة، والجيش، وخطاب الحاخامات على حد سواء. لقد بات بفضل الدعاية والترويج والتسويق للسردية الغربية، ذاكرة جماعية تأبى أن تتفكك على وقع الأحداث اليومية التي تكشف زيفه وتسقط أقنعته، وإذا كانت أحداث الانتفاضة الأولى 1987، أو ما سُمي بأطفال الحجارة، والانتفاضة الثانية 2015، قد أسهمت في إعادة إحياء القضية الفلسطينية، على الأقل إعلاميا ومؤسساتيا: (الأمم المتحدة، مجلس الأمن، مجلس الاتحاد الأوروبي، جامعة الدول العربية)، وفكريا من خلال (الكتب والإصدارات… إلخ)، فإن أحداث طوفان الأقصى قد كشفت، بشكل غير مسبوق في تاريخ الكيان، زيف أقنعة الحداثة والمدنية والحضارة، وأظهرت للعالم وجه الإبادة الحقيقية التي تمارسها إسرائيل في حق أرض بشعب وشعب بأرض. بيد أن الدعاية الغربية ما تزال مستمرة في تبرير حروب إسرائيل الاستيطانية والإحلالية في فلسطين، وحروبها التوسعية في المنطقة: لبنان، سوريا، إيران… إلخ. إن الحروب الإسرائيلية المستديمة في منطقة الشرق الأوسط، منذ حروب: 1948، و1956، و1967، و1973، ومنذ قصفها المفاعل النووي السلمي العراقي 1981، إلى حرب لبنان الأولى 1982، وحرب لبنان الثانية 2006، مرورا بحروب غزة المتكررة: 2006، 2012، 2014، 2016، 2021، 2022، 2023، 2025، انتقالا إلى حرب إيران في يونيو/ حزيران 2025، وهي سلسلة طويلة ولا تنتهي، وإن كان جوهرها الأساس هو الغارات الجوية كل مرة على بلدان المنطقة، ليس آخرها قصف العاصمة دمشق في يوليو/ تموز 2025، تُعد بمثابة امتداد لمشروع استعماري طويل الأمد، يجد تبريراته في التمثلات الاستشراقية التي تسبق وتصاحب كل حرب من حروبها. ولعلنا نجد في التبرير الإعلامي، سواء الغربي أو الإسرائيلي، للحروب المرتبطة بالمستوطنات والتهويد الذي طال الذاكرة الفلسطينية المادية والرمزية على حد سواء، ما يعكس بجلاء هذه التصورات الاستشراقية، وأن أعداء الحضارة والتقدم والازدهار يرفضون إسرائيل فقط؛ لأنها ممثل الحضارة الغربية والمدنية التي جاءت من أجل مهمة حضارية، وإعادة إحياء أرض مقدسة طُرد منها يهود بني إسرائيل ظلما وعدوانا. على سبيل الختم إذا كان المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد قد أبرز كيف يتم استخدام الاستشراق من أجل صياغة سياسات الهيمنة، وجعل العالم ينتبه للاستشراق الصهيوني، وكشف عبدالوهاب المسيري البنية الاستعمارية للخطاب الصهيوني، فإن المؤرخين الجدد في إسرائيل، مثل إيلان بابيه، قد فضحوا الطابع الأيديولوجي للتاريخ الاستشراقي الإسرائيلي. في حين أسقط المفكر نعوم تشومسكي ألاعيب وإستراتيجيات الاستشراق الصهيوني الساعية إلى استلاب العالم وإخضاعه لمشيئة الصهيونية من خلال شيطنة العرب والفلسطينيين وسلبهم تاريخهم الحضاري والمدني العريق، بينما أبرز المفكر جوزيف مسعد كيف أن أحداث غزة كشفت زيف الغرب وأوهام الحداثة، فيما أظهره من كراهية عرقية للفلسطينيين. ومن هذا المنطلق، يجب على النخب في العالم العربي والإسلامي أن تعي جيدا أن الحروب الدائرة في الميدان في غزة والضفة الغربية، وفي لبنان وسوريا، وفي اليمن وإيران… إلخ، ليست سوى الترجمة الحرفية لحرب تتم بعُدة وعتاد مختلفين، أساسهما المعرفة والتاريخ والأيديولوجيا. إن الاستشراق الصهيوني ليس مجرد معرفة محايدة، كما هو حال الاستشراق الغربي عامة، بل هو أداة سياسية وأيديولوجية، وجزء من الحرب المعلنة على العرب والمسلمين، تخدم مشروعا استعماريا استيطانيا وإحلاليا. ولذلك، فتفكيك هذا الخطاب وإسقاط أقنعته وفضح تحيزاته تُعد ضرورة معرفية وأخلاقية لمواجهة المشروع الصهيوني في المنطقة وفي العالم ككل من منظور نقدي ومعرفي. وهو ما يشكل إحدى مهام الجامعات والمفكرين والباحثين في العالمين العربي والإسلامي بشكل خاص، وكل المفكرين الأحرار في العالم بشكل عام.


الجزيرة
٠١-٠٨-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
أوليفييه روا: الغرب لا يرى الإسلام مشكلة ثقافية بل كتهديد وجودي وحقوق الإنسان استُخدمت أداة هيمنة
في حوار معمّق مع المفكر وأستاذ الدراسات الشرقية أوليفييه روا (المولود عام 1949) قدّم الأكاديمي الفرنسي قراءة نقدية جذرية لمسار العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي، مركزاً على تطور مفهوم الاستشراق وتحولاته، ودور الخطاب الغربي في إنتاج تصورات سلبية عن الإسلام والمسلمين، واستخدامه مفاهيم مثل التقدم وحقوق الإنسان كأدوات استعمارية مغطاة بغلاف أخلاقي. وجاء ذلك في حوار مدير "الجزيرة 360" جمال الشيال مع روا مدير أبحاث مركز البحوث العلمية ومدير دراسات المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية الفرنسي السابق، ضمن بودكاست (Center Stage) للجزيرة الإنجليزية الذي يستضيف شخصيات من قادة الفكر المؤثرين ويستطلع وجهات نظرهم حول القضايا العالمية الملحة. وبدأ روا عمله في أفغانستا ن التي ذهب إليها صبيا عام 1969 عندما كان بالكاد قد أنهى دراسته الثانوية (الليسيه) وذهب مترحلا ومتجولا في شوارع كابل ومستكشفا الحياة في مدن الشرق، ولاحقا درس آسيا الوسطى في مدن أوزبكستان وطاجيكستان العريقة، قبل أن يعود لباريس وينال دكتوراة الفلسفة، ويدرّس في عدة جامعات ومعاهد فرنسية. وقدم مؤلفات مهمة في علم اجتماع الإسلام والأديان ترجمت أغلبها للعربية، ومنها "الإسلام والعلمانية، الجهل المقدس.. زمن دين بلا ثقافة، الجهاد والموت، عولمة الإسلام، فشل الإسلام السياسي" وغيرها، واستضافت الجزيرة نت روا ليتحدث عن مستقبل الأديان والهوية والعلمانية، وفيما يلي أبرز ما جاء على لسانه من أفكار خلال المقابلة: من الإعجاب إلى الهيمنة يؤكد روا أن الاستشراق لم يكن نتاج الحقبة الاستعمارية فقط، بل سبقها بكثير. فقد نشأ أواخر القرن الـ18 كمجال معرفي أكاديمي يتمحور حول دراسة "الشرق" بوصفه حضارة متميزة. وكان أول المستشرقين في أوروبا من المعجبين بالحضارة الإسلامية، ولكنهم نظروا إليها كماضٍ مجيد فقد صلته بالحاضر. إعلان ويرى أن تلك النظرة تغلغلت في الخطاب الغربي، إذ اعتُبر أن العالم الإسلامي "فاته ركب التقدم والعلمانية" وأن عليه أن يبدأ من جديد، وأن يتعلم من الغرب مسار "الحداثة". ويشير روا إلى أن هذا التوجه لم يقتصر على الغرب، بل تبناه عدد من القادة السياسيين في العالم الإسلامي، مثل مصطفى كمال أتاتورك الذي رأى ضرورة محو المؤسسات التعليمية والثقافية التقليدية وبناء مؤسسات "حديثة" على النموذج الغربي. العلمانية كوسيلة للسيطرة ينتقد روا الفرضية الغربية القائلة بأن "التقدم لا يتحقق إلا من خلال العلمانية" ويعتبر أنه تم تعميمها لتصبح شرطاً حضارياً للانتماء إلى العصر الحديث. ويضيف أن تلك الرؤية لم تكن بريئة، بل وظفت سياسياً في سياق الاستعمار. ويضرب مثلاً بفرنسا التي لم تكن في البداية معنية بثقافة الجزائر، لكنها لاحقاً أنشأت مؤسسات مثل كليات الشريعة الإسلامية بإدارة فرنسية، لا بهدف الاعتراف بالثقافة المحلية بل بهدف السيطرة عليها وإعادة إنتاجها بما يخدم هيمنة المستعمر. عالمية مزعومة ينتقد روا بحدة الاستخدام الغربي لخطاب حقوق الإنسان، ويؤكد أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1947 كان بتمثيل غربي شبه حصري، مما جعل "العالمية" المفترضة تميل إلى كونها "خصوصية غربية مصدَّرة". ويشير إلى أن ذلك الخطاب تحول إلى وسيلة لفرض نموذج ثقافي محدد، يتجاهل السياقات المحلية أو يصنّفها كمعارضة للمفاهيم الكونية، مثل الدين أو القيم المجتمعية غير الغربية. ويضرب مثلاً بالمواقف الغربية المتباينة من القضايا العالمية، مثل الحرب في أوكرانيا والمجازر في غزة، ليوضح أن ما يُفترض أنه موقف مبدئي "يُكيف حسب المصلحة الجيوسياسية". من الحضارة إلى "مشكلة الإسلام" يُبيّن روا أن التحول الأخطر في الخطاب الاستشراقي الحديث يتمثل في الانزياح من رؤية "الشرق الإسلامي كحضارة" إلى رؤيته كـ"مشكلة دينية". فمنذ السبعينيات، لم يعد الإسلام يُنظر إليه كمكون ثقافي، بل كتهديد مباشر للغرب، وتحوّل إلى "ذريعة لتجريم المجتمعات الإسلامية". فالرموز الدينية مثل الحجاب أو الامتناع عن الخمر أصبحت تلقائياً تُربط بالسلطوية وغياب الحريات. ويضيف أن الإسلام لم يعد يُعالج كجزء من تنوع الثقافات، بل كعدو مبدئي لحقوق الإنسان، في رؤية تُختزل في عنوان "الإسلام ضد الحداثة". أزمة الغرب المعاصرة: الهوية بدل المبادئ يقول روا إن الغرب يشهد اليوم انحداراً من "الخطاب القيمي الكوني" إلى "خطاب الهوية والإقصاء" وتحديداً مع تصاعد الخطاب الشعبوي. ويضرب مثلاً بفرنسا، حيث تُعامَل المظاهر الدينية الإسلامية كتهديد لوحدة الأمة، رغم أن دساتيرها تنص على حرية المعتقد. ويشير إلى أن المفارقة تكمن في أن تلك الدول التي تدّعي نشر التعددية في الخارج تسعى لطمس التنوع داخلياً. ويضيف أن الديمقراطيات الغربية تعاني أزمة بنيوية، وليست "تتعرض لتهديد الإسلام" كما يُروّج، بل تُقوَّض من الداخل على يد الحركات الشعبوية، في حين أن المسلمين من الجيلين الأول والثاني بأوروبا في الغالب يؤمنون بالديمقراطية ويريدون الاندماج، لكن مع احترام حريتهم الدينية. ويلفت روا إلى أن المسلمين في الغرب يطالبون بحقوق مضمونة في الدساتير، مثل الحق في المظاهر الدينية أو الغذاء الحلال، لكن يُواجَهون بالرفض. ويقول إن المسلمين ليسوا ضد الديمقراطية، ولكن يُصوَّرون كذلك في الخطاب السياسي الغربي، ويجري استثمار هذا الخطاب لأغراض سياسية داخلية. ويشير إلى أن الفارق في التعامل مع الأحزاب السياسية الإسلامية، مقارنة بالأحزاب القومية المتطرفة الصاعدة في أوروبا، مثل "رالي الوطنية" في فرنسا و"البديل من أجل ألمانيا" يُظهر الكيل بمكيالين، إذ يُحرَّم على الإسلاميين ممارسة السياسة، في حين يُسمَح لليمين المتطرف بالتمدد في السلطة. أزمة الاستشراق ومأزق الغرب يختتم روا بأن العالم الغربي يعيش اليوم صراعاً داخلياً بين مبادئ الكونية ونزعات الهوية والإقصاء. ويقول إن النزاع لم يعد بين حضارتين، كما ذهب صموئيل هنتنغتون، بل بين الهوية والمبدأ، في ظل تحوّل الإسلام في المخيال الغربي إلى تهديد جوهري لا مجرد اختلاف ثقافي أو ديني. ويخلص المفكر والأكاديمي الفرنسي إلى أن مأزق الغرب يكمن في فشله في تحقيق المساواة في الداخل، وازدواجية معاييره بالخارج، وتراجع إيمانه بقيمه المؤسسة نفسها، وعلى رأسها الديمقراطية.


الجزيرة
١٢-٠٧-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
البروفيسور كَبَا عمران: التراث الإسلامي العربي الأفريقي في خطر كبير في غرب القارة السمراء
لطالما كان للمستشرقين الأوروبيين دور مؤثر في فهم وتوثيق تاريخ وثقافة الشعوب الأفريقية، والتي غالبا ما شابها تحيزات استشراقية تركز على تصوير أفريقيا من زاوية تابعة للغرب. وفي هذا الحوار الخاص، مع البروفيسور كَبَا عمران، تفتح الجزيرة نت، نافذة على تاريخ معقّد ومتشابك بين الغرب الاستعماري وغرب أفريقيا، من خلال عدسة الاستشراق وأبعاده الثقافية والتعليمية والدينية. والبروفيسور عمران، من جمهورية غينيا غرب أفريقيا، وُلِد عام 1968م، في آبدجان، في كوت ديفورا، يشغل منصب، عميد كلية الآداب وعلوم اللغة، ومدير برامج دكتوراه اللغة والحضارة العربية بجامعة الجنرال لانسانا كونتي، كوناكري، جمهورية غينيا. نستكشف مع الباحث الغيني البارز في شؤون الهوية الأفريقية والعلاقات الثقافية بين أفريقيا والعالم العربي، بدايات الاستشراق الأوروبي في غرب القارة الأفريقية، وكيف تحوّل من مجرّد فضول أكاديمي إلى أداة سياسية وأيديولوجية استُخدمت في محاربة الإسلام، وتهميش اللغة العربية، التي كانت لقرون لغة علم وتعليم وثقافة في هذه المنطقة. يرصد البروفيسور عمران، من خلال هذا الحوار، الأدوار التي لعبها المستشرقون في إعادة تشكيل الوعي الأفريقي بما يتماشى مع مصالح القوى الاستعمارية، ويقول: "كانت أهداف تقارير هؤلاء المستشرقين ومخططاتهم بعيدة المدى لتحقيق جميع أهدافهم القريبة والبعيدة، منها: السيطرة الكاملة على غرب القارة، سيطرة عسكرية، تليها سيطرة تعليمية بفتح مدارسها الفرنسية والإنجليزية، ثم يليها تنصير المناطق الوثنية، ثم مواجهة المناطق ذات الغالبية المسلمة". ويتحدث عن مشاريع المستشرقين البحثية والتعليمية في إقصاء اللغة العربية من المنظومة التعليمية، إذ يؤكد: "تمّ توظيف بعض المستشرقين خصيصا لمواجهة التعليم العربي الإسلامي في غرب القارة السمراء"، وعن محاولة المستشرقين فصل المجتمعات الأفريقية عن تراثها الديني والثقافي المرتبط بالإسلام. إذ يشير إلى أنهم "لما أخفقوا في قضائهم على الدين الإسلامي نصّروا الجماعات الوثنية، ومن والاهم من المسلمين واغترّوا بثقافتهم الأوروبية"، ويوضح بأن الأوروبيين "شوّهوا إسلامهم وأضلّوهم بالتغريب وسلخوهم من الاعتزاز بالإسلام إلى الاعتزاز بالحداثة الأوروبية". ويؤكد البروفيسور كَبَا عمران في حديثه، أنّ تركيز المستشرقين على التعليم العربي كان يهدف إلى "عرقلة تقدم التعليم العربي لكي يتقدم التعليم الفرنسي بكل سهولة"، فإلى الحوار: View this post on Instagram A post shared by المؤتمر الدولي للاستشراق – الدوحة (@dohaorientalism) كيف يمكن أن تصف لنا بدايات الاستشراق في غرب أفريقيا؟ ومتى بدأ الاهتمام الأوروبي بهذه المنطقة؟ ظهرت بدايات الاستشراق في منطقة الغرب الأفريقي مع الاستعمار الأوروبي الذي خطّط إلى توظيف بعض المستشرقين المكتشفين لأغراض كثيرة خلال القرن الـ18 والـ19 الميلاديين. لأنّ إدارة الاستعمار بقيت على سواحل المحيط لأطلسي تتعامل مع المحليين بتجارة النخاسة، ولم تتجرّأ أن تتوغل داخل المدن، لذا فضّلت أن ترسل عيونا لها من المستشرقين الذين وقّعوا على اتفاقيات مسبقة قبل القيام برحلات ضحّوا بحياتهم لتحقيقها، لأن كثيرا منهم لقوا منيتهم فيها، واختفوا الآخرون فلم يعثر على آثارهم من شيء. وبعد أن وقفت إدارة الاستعمار على حقيقة ما في داخل القارة من ثروات ومن خواطر، وما لها من شعوب وديانات، استعدت أن ترسل إليها جنودا لتحقيق سيطرتها الكاملة. وبعد الوقوف على تقارير هؤلاء المستشرقين وضعوا مخططات بعيدة المدى لتحقيق جميع أهدافهم القريبة والبعيدة، منها: السيطرة الكاملة: سيطرة عسكرية، تليها سيطرة تعليمية بفتح مدارسها الفرنسية والإنجليزية، ثم يليها تنصير المناطق الوثنية، ثم مواجهة المناطق ذات الغالبية المسلمة. ويمكن تحديد هذه البدايات بالقرن الـ17، واستمر الوضع على ذلك إلى منتصف القرن الـ19، الذي يعد عصر المقاومة الدموية ضد الاحتلال الأجنبي للمنطقة. هل برأيكم، وظف الاستعمار الأوروبي، المستشرقين لمواجهة التعليم العربي الإسلامي في غرب القارة؟ نعم، تمّ توظيف بعض المستشرقين خصيصا لمواجهة التعليم العربي الإسلامي في غرب القارة السمراء، منهم البريطاني مونغو بارك، وبول مارتي. وذلك بعد ظهور خطورة المقاومة التعليمية الإسلامية ومقاومة الزعماء المسلمين في المنطقة: إنَّ الجبهة التي تصدّت للثقافة الأوروبية هي جبهة تكون من العلماء المستعربين والزعماء الصوفيين والمتعلمين بخلاف جبهة الملوك الوثنيين الذين كانوا معجبين بهم، في الوقت الذي يكفّرهم المسلمون ويلعنونهم، ويقولون إنهم أصحاب جهنم اعتمادا على أوصافهم السيئة الواردة في القرآن الكريم. أما مقاومة الزعماء المسلمين فظهرت في جميع أقطار غرب أفريقيا: الشيخ مابا جخو، والملك لاتجو جوب في السنغال، والشيخ محمد الأمين درامي في مالي، والحاج عمر تال والإمام ساموري توري في غينيا، وغيرهم. الأمر الذي جعل المستعمرين يندفعون إلى معرفة هذه الجماعة الإسلامية في أفريقيا، لذا استطاع المستشرق "رينيه كايي" أن يعبر غرب القارة السمراء من شمالها المغربي إلى غربها وراء الصحراء، فعرف خلال ذلك امتداد الإسلام ورسوخه في الجماعات الإسلامية. لماذا اتجه المستشرقون لدراسة الزوايا الصوفية، في غرب القارة الأفريقية؟ لأنّ أكثر الزعماء المقاومين للاحتلال الأجنبي من الشيوخ الصوفيين، لذا وجّهوا بعض المستشرقين لدراسة الزوايا الصوفية لمعرفة الأسباب العقدية لكراهية الاحتلال ولمعرفة نوايا بعض الشيوخ الصوفيين الذين اشتهروا بشعبيتهم وجماعتهم. والجدير بالذكر أنّ هؤلاء الشيوخ كانوا محل ارتياب شديد، يتهمهم المستعمرون أنهم يبثون كراهية "الرجل الأبيض" في نفوس المواطنين، ويذكرون في مواعظهم أنّ "توباب الأوروبيين" (توباب Toubabou: لفظة محلية ومعناها الرجل الأبيض)، أسباب جميع الانحرافات الخلقية وتفشّي انحلال الأخلاق: خمر، ورقص، ودعارة، ونخاسة…، بل هم حزب الشيطان الرجيم. هل كان الاهتمام الاستشراقي بغرب القارة الأفريقية نتيجة دوافع دينية، استعمارية، أم بحثية بحتة؟ الدوافع الاستعمارية هي أهمّ دوافع المستشرقين لمعرفة الثروات المعدنية والزراعية والحيوانية، ولمعرفة مدى تجذّر الإسلام في المناطق المحتلة، لكي يعرفوا مدى إمكانيات تنصير المناطق الوثنية ومراقبة المناطق الإسلامية. كما بيّنت سابقا أنّ أهداف المستعمرين مخططة بإستراتيجية متوالية: الاستعمار العسكري السياسي، ثم الاستعمار الاقتصادي، ثم الاستعمار الثقافي التعليمي، ثم الاستعمار الديني، وينتهي كل ذلك إلى "استعمار سياسي كامل" كي يتحقق مشروع "جمهورية فرنسا ما وراء البحار" وقد تحقّق هذا المشروع مع "مايوت" (Mayotte) ومارتينك وغويانا الفرنسية. لذا جاء الجنرال الفرنسي، شارل ديغول (1890-1970م)، بمشروع الاستفتاء خلال أواخر الخمسينيات من القرن الـ20، لتختار الدول الأفريقية الانضمام إلى مشروع جمهورية فرنسا ما وراء البحار أو الاستقلال التام، فاختارت غينيا الاستقلال التام في استفتاء 28 أغسطس/آب 1958 خلال انتخابات وطنية، فخرجت فرنسا من غينيا بجميع أدواتها وإداراتها ورجالها الإداريين وأساتذتها فبقيت غينيا يتيمة أو أرملة بدون أي معونة فقال الرئيس أحمد سيكو توري: "نفضل الحرية في الفقر على العبودية في الغنى". ما الموضوعات التي ركز عليها المستشرقون الأوائل في دراساتهم عن غرب أفريقيا؟ الموضوعات التي ركّز عليها المستشرقون هي معرفة الجماعات القبلية العرقية ولهجاتها اللغوية، ومواطن الثروات المعدنية (كالذهب مثلا)، ومعرفة أديانهم الوثنية أو الإسلامية. وتدفعهم نتيجة ذلك كله إلى وضع مخطّطات إستراتيجية للاستفادة من أحوال تلكم المناطق. ويمكن تصنيف هؤلاء المستشرقين إلى أصناف: من اهتموا بجميع ما يتعلق بالمنطقة من ثروات معدنية وحيوانية وزراعية، ومن أخبار عن الممالك والجماعات، ومن مجموعات لغوية ودينية، ومن مناطق سلمية وذات خطورة على الاحتلال الأجنبي. لذا خلّف كل مستشرق دراسات إخبارية عن مشاهداته ولقاءاته الميدانية، وما جمع من تراث عربي إسلامي. هل كان تركيزهم منصبا على التاريخ المحلي، أو على البيئة الاجتماعية والسياسية، أم على الدين والثقافة؟ أوّل ما يركزون عليه هو أخبار السلطة المحلية السياسية للقضاء عليها، ثم البيئة الاجتماعية لإثبات وجودهم المحلي. وبعد ذلك يولون اهتمامهم بالدين فينصّرون الجماعات الوثنية ويتعاملون بسكان المناطق الإسلامية بالمبادلات التجارية: الرقيق والقطن والذهب والمحصولات الزراعية. لا اهتمام لهم بالتاريخ الأفريقي القديم، ولكن عنايتهم بوضعية الأفارقة في مناطقهم أكبر، ثم يصفون بمشاهداتهم كل ما تقع عليه عيونهم من أخبار بيئية، وهي ما زالت موجودة في "الأراشيف الوطنية" لمعظم بلدان غرب أفريقيا. فلما أخفقوا في قضائهم على الدين الإسلامي نصّروا الجماعات الوثنية، وأما من والاهم من المسلمين واغترّوا بثقافتهم الأوروبية فإن الأوروبيين شوّهوا إسلامهم وأضلّوهم بالتغريب وسلخوهم من الاعتزاز بالإسلام إلى الاعتزاز بالحداثة الأوروبية. بعد تمكّن المستعمرين من الغلبة العسكرية اتّجهوا إلى الاستعمار الثقافي، فوجدوه في ذلك صعوبة منكرة في المناطق ذات الأغلبية الإسلامية، لذا اتّخذوا قرارات صارمة لوضع عراقيل أمام المؤسسات التعليمية العربية، ومن هنا تم توظيف بعض المستشرقين لدراسة المراكز العلمية والزوايا الصوفية. لم يكن هناك اهتمام بالغ؛ فرأوا أن التركيز على التعليم الغربي سيجعلهم يعرقلون تقدم التعليم العربي لكي يتقدم التعليم الفرنسي بكل سهولة. ثم اهتموا بمخرجات المدارس الفرنسية أو الإنجليزية لتوظيفهم في إداراتهم الاستعمارية، وهم الذين خلّفوهم في إدارات الحكومات الأفريقية، فانقلب فضل المجتمع الأفريقي رأسا على عقب، فصار الفضل لخريجي التعليم الأوروبي أكبر وأعظم من مكانة المتعلمين المستعربين في المجتمعات الأفريقية. وما زال الوضع على ذلك مستمرا إلى يومنا هذا. هل كان هذا الاهتمام بالأساس لفهم طبيعة المجتمعات، أم لفهم دور الإسلام كقوة ثقافية فاعلة؟ كان هذا الاهتمام مؤسَّسا على هذين الغرضين: لمعرفة طبيعة المجتمعات لأغراض اقتصادية وسياسية، ولفهم مدى رسوخ الإسلام في المناطق التي يحتمل منها اندلاع الثورات الشعبية ضدّ الوجود الأجنبي. وساعدهم على فهم طبيعة المجتمعات هؤلاء الأفارقة الذين استعبدوهم وكانوا عملاء لهم. أضف إلى ذلك بعض الأمراء الأفارقة الذين يتاجرون في النخاسة مع المستعمرين، وكان المستشرقون يجعلون هؤلاء الأمراء وأولئك الأفارقة المستعبدين وساطة لهم لمعرفة طبيعة المجتمعات الأفريقية. أَمَّا الغرض الثاني لفهم دور الإسلام في رسوخ الكراهية المحلية لدى السكان المسلمين، فهو أنهم كانوا بحاجة ماسة إلى معرفة الأسباب العقدية والأحوال الدينية التي تدفع هؤلاء المسلمين إلى التصدي أمام الثقافة الأوروبية. كيف واجهت المجتمعات الإسلامية في غرب أفريقيا هذه النظرة الاستشراقية؟ استسلمت المجتمعات الإسلامية لهذه النظرة الاستشراقية تحت الرقابة الاستعمارية العسكرية، بل يمكن أن نعدّ هؤلاء المستشرقين جواسيس وعيون المستعمرين المحتلين. والجدير بالذكر أنّ كثيرا من سواد المجتمع لم يفقهوا خطورة هؤلاء المستشرقين، بل لم يعرفوا إذا كانوا يقومون بدراسات حول مناطقهم، غير أن بعض العلماء تنبّهوا إلى أعمالهم الاستشراقية، واستشرفوا مخاطر جمة منهم، لذا تخوّفوا منهم فحذّروا ذويهم من اقترابهم، ولكنهم اضطروا لاستقبالهم تحت رقابة الإدارة الاستعمارية. لذا واجهتهم جبهات المقاومة المسلّحة كما ذكرنا آنفا، وتصدّت جبهات سلمية أخرى لعناية بالغة بالتعليم العربي الإسلامي مضادا للتعليم العلماني الأوروبي، وقد أخفق أولئك الزعماء المسلحون فقبض عليهم أو قتلوا أو نفوا، ولكن جبهات التعليم العربي الإسلامي نجح جلّ زعمائها في إنشاء المدارس والزوايا، التي تحوّلت إلى مدارس نظامية حديثة، فتطور التعليم العربي في بعض البلدان إلى دراسات جامعية فتخطى مرحلة الليسانس إلى مرحلتي الماجستير والدكتوراه. برأيكم، هل قدَّم المستشرقون إسهامات علمية ذات قيمة لدراسة تاريخ وثقافة غرب أفريقيا؟ أم أن كتاباتهم كانت مشوبة بالتحيزات الاستعمارية؟ رغم ما وراء كتاباتهم من نوايا سيئة إلا أنّ بعضها تعدّ مؤلفات رائدة عن تاريخ المنطقة، لأنها وصفت بأوصاف مشاهدة العيون، وعُرفت جغرافية الجماعات اللغوية وتحركاتها في المنطقة، ومختلف الممالك المحلية. واستطاع هؤلاء المستشرقون أن يصوّروا هؤلاء الشيوخ بالصور الشمسية التي يستفيد منها الباحثون الأفارقة الآن: فصور الحاج مالك سي في السنغال، وكران سنكن في غينيا، من أعمال بول مارتي الذي أفرد لمعظم دول أفريقيا الغربية دراسة الإسلام فيها. أضف إلى ذلك أنّ كتاباتهم تعدّ باكورة دراسات حديثة عن المنطقة إبان عصر عويص، كما يستفيد الباحثون من منهجياتهم في كتابة التاريخ الأفريقي والحديث عن المجموعات اللغوية. هل هناك مستشرقون تميزوا بالموضوعية في تناولهم للثقافة الإسلامية في غرب أفريقيا؟ نعم، يمكن أن نقول إن موضوعيتهم لم تبلغ درجتها 100%، ولكنها تتراوح ما بين 70% و80% إلى حدّ بعيد. وخاصة عند "موريس ديلافوس" (Maurice Delafosse) الذي عُني باللغات الأفريقية وجذورها ولهجاتها، وفيسان مونتيل الذي له كتاب "الإسلام الأسود". ومهما يكن من أمر، فإنّ أي كتاب يقرؤه الباحث ينبغي أن يتأمل فيه بقراءة نقدية: إذا أصاب المؤلف فيأخذ منه مزيدا من الحق، وإذا وقف على انحرافات فكرية فيعلن عنها ليتخوّف منهم القراء اللاحقون. كيف تنظرون اليوم إلى الدراسات الغربية الحديثة حول الإسلام في أفريقيا؟ وهل تطورت عن النظرة الاستشراقية الكلاسيكية؟ هناك دراسات غربية حديثة حول الإسلام في أفريقيا وحول اللغات المحلية وحول التقاليد البيئية في أفريقيا، وذلك في الأطاريح الجامعية، أو في مقالاتهم العلمية المنشورة في الدوريات العلمية الجامعية أو في أبحاث المراكز الدراسية. ونجد اتجاها جديدا من الموضوعية لدى الباحثين الأفريقيين الأوروبيين، الذين ظلوا متخصصين بدراسات أفريقيّة، منهم سياسيون توظفهم الحكومات الأوروبية، ومنهم صحافيون توظفهم القنوات الدولية، ومنهم اقتصاديون توظفهم مؤسسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومنهم رياضيون توظفهم وكالات النوادي الرياضية الدولية، ومنهم جامعيون توظفهم المراكز البحثية الجامعية بأوروبا. هناك حوار علمي حقيقي على صعيد المؤتمرات والندوات العلمية، وبين الطلبة الأفارقة وبين بعض المستشرقين الذين يشرفون عليهم في أطروحاتهم الجامعية. وفي كل شهر يتم تنظيم لقاءات علمية كثيرة في أفريقيا وفي أوروبا: ندوات علمية في الجامعات، ومؤتمرات دولية تنظمها مختلف الوزارات، وطاولات ثقافية تشرف عليها منظمات ثقافية دولية، ودورات تدريبية تقوم بها مؤسسات إقليمية وعالمية. هذه هي الأصعدة التي تتم فيها محاورات علمية حقيقية بين المثقفين الأفارقة والباحثين الأوروبيين المتخصصين في الشؤون الأفريقية. لماذا استمر اهتمام المستشرقين الأوروبيين، بعد استقلال الدول الأفريقية، والبحث عن الإسلام وحضارته في جامعاتهم ومراكزهم البحثية؟ ما زال اهتمام المستشرقين بالبحث عن الإسلام مستمرا، لأنهم يريدون أن يحققوا العولمة الثقافية في المجتمعات الأفريقية، والثقافة الإسلامية هي التي تتصدى لهم. فنجد منظمات دولية في أفريقيا، بعضها من فروع أجهزة الأمم المتحدة: كـ"اليونيسيف" (UNICEF)، و"يونسكو" (UNESCO)، و"بنود" (PNUD)، و"أوئم" (OIM)، وبعضها منظمات علمانية أو يهودية كمنظمة "بلان" (PLAN)، وكلها تستعين بالباحثين الأوروبيين المتخصصين في الشؤون الأفريقية لتحقيق أهدافهم التربوية والتثقيفية والبحثية. قضية "تعليم اللغة العربية وسوق العمل" من أهم المعضلات والتحديات الاجتماعية في أفريقيا. وكون اللغات الأوروبية لغات رسمية لمعظم البلدان الأفريقية يعدّ من التحديات التي تواجه تطوّر اللغة العربية في القارة السمراء. أضف إلى ذلك أنّ التراث الإسلامي العربي الأفريقي في خطر كبير إذا لم تنقذها أيدي المنظمات الإسلامية الدولية. وهناك تحديات أخرى للبحث العلمي في أفريقيا: إذ إن معظم المشاريع العلمية والبحثية في العالم العربي لا يهتمون بإحياء التراث الإسلامي الأفريقي ولا بإنتاج علماء المنطقة، ولا بنشر أطاريح الباحثين الأفارقة بخلاف إنتاجات الباحثين الأفارقة في اللغات الأوروبية ولهم جوائز تشجيعية قيمة. وكذلك الإعلام العربي لا يعنى بأفريقيا ولا بالتراث الإسلامي فيها ولا بالمثقفين الأفارقة المستعربين بخلاف وسائل الإعلام الغربي الذي يتّخذ من الأفارقة الصحافيين من يمثلهم، ومن يستجوبونه في قضايا أفريقية. كان هذا المؤتمر مبادرة طيبة من المنظمين، ويعد منصة جديدة لدى الباحثين، وفرصة طيبة للمشاهدين. ويمكن القول إنه كان فرصة لنتحدث عن الاستشراق الأفريقي أمام جمهور لم يكن له سابق العلم به، وأن تنشر نتيجة هذا البحث على صعيد دولي لأول مرة. ولا شك أنّ العالم العربي سيعرف أنّ لهم إخوة في أفريقيا حريصين على لغة الضاد، وقد ضحّوا بحياتهم لنشر هذه اللغة التي تشدُّ أواصر الوحدة والتضامن بين إخوة هذه الأمة الإسلامية.


الجزيرة
٠٥-٠٧-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
عرفان أحمد: رحلتي الأكاديمية تحولت لنقد معرفي "للاستشراق الهندوسي" الحديث
لطالما ارتبط مصطلح "الاستشراق" في أذهاننا بالهيمنة المعرفية الغربية على الشرق. لكن، ماذا لو كانت أدوات الهيمنة هذه قادرة على التشكل من جديد داخل السياقات المحلية؟ ماذا لو تحولت المعرفة الوطنية نفسها إلى "استشراق داخلي" يُقصي مكونات أصيلة من المجتمع؟ وهذا هو التحدي الفكري الذي يطرحه مفهوم "الاستشراق الهندوسي" وهو المصطلح النقدي الذي صاغه أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا عرفان أحمد. فمن خلال هذا المفهوم، لا يكتفي بتوسيع دائرة نقد إدوارد سعيد، بل يكشف عن بنية معرفية منظمة في الهند تقدم الإسلام والمسلمين كـ"آخر" دخيل، في عملية تشبه إلى حد كبير آليات الاستشراق الكلاسيكي. وفي رحلته الأكاديمية التي امتدت من الهند إلى أوروبا وأستراليا، وصولًا إلى كرسي الأستاذية بجامعة ابن خلدون في إسطنبول، حوّل أحمد تجربته الشخصية كطالب شعر بالاغتراب داخل فصول دراسية مؤممة، إلى مشروع فكري رصين يتحدى المسلّمات. وعلى هامش مشاركته في " المؤتمر الدولي للاستشراق" بالدوحة، حاورت الجزيرة نت الأستاذ الأكاديمي، في حوار يغوص في أعماق نشأة هذا المفهوم، ويستكشف كيفية تفكيك الهيمنة المعرفية بعيدًا عن الشعارات، وبمنهجية نقدية أكثر تأصيلًا وعمقًا، فإلى الحوار: كيف تبلور لديك مفهوم "الاستشراق الهندوسي" وما العوامل الشخصية التي ساهمت في تشكيله؟ إن صياغة المفاهيم وابتكار مصطلحات جديدة يشبه المسار التجريبي لحياة المرء، وهو في الوقت ذاته مسار مفهومي (مفاهيمي). فجزء من السبب الذي دفعني إلى تبني هذا المسار كان نابعا من التجربة الشخصية، وتحديدا من الطريقة التي تلقيت بها تعليمي. فقد نشأت في الهند، والتحقت أولا بمدرسة إسلامية، ثم بمدرسة حكومية، ثم انتقلت إلى الجامعات. وفي الجامعة، التي كانت في دلهي، لم تكن الكتب الدراسية التي تعلمتها، ولا طريقة تناولهم لمسائل الإسلام والمسلمين، مُرضية، بل كانت متحيزة بشكل كبير. وكان هذا أمرا يلاحظه أي شخص يملك قدرا من الوعي، لكن بسبب قوة الهيمنة الوطنية، لم يكن من السهل على أحد أن يفهم حقيقة ما يجري. فالأمر يتطلب جهدا كبيرا ووعيا نقديا متراكما. في الجامعة، التي كانت في دلهي، لم تكن الكتب الدراسية التي تعلمتها، ولا طريقة تناولهم لمسائل الإسلام والمسلمين، مُرضية، بل كانت متحيزة بشكل كبير. وكان هذا أمرا يلاحظه أي شخص يملك قدرا من الوعي، لكن بسبب قوة الهيمنة الوطنية، لم يكن من السهل على أحد أن يفهم حقيقة ما يجري. فالأمر يتطلب جهدا كبيرا ووعيا نقديا متراكما. لقد كانت رحلة طويلة بالنسبة لي، رحلة البحث عن كيفية التعبير عن شعور عدم الرضا الذي لازمني كطالب، سواء في سياق التدريس أو البيئة الأكاديمية عموما. وحين أقول إن المعرفة في الهند مؤممة إلى حد كبير، فأنا لا أتحدث عن تجربة فردية فقط، بل عن حالة عامة. فاستيعاب المعرفة، في مثل هذا السياق، يعني أيضا أن علينا نزع هويتنا الوطنية، لأن المعرفة والقومية كانتا متداخلتين بعمق. لذا استغرق الأمر مني وقتا طويلا لتحليل ما هو سبب هذا الشعور بعدم الرضا، وكيف يتجلى. وبخلاف ذلك، فإنه في الفصل الدراسي -بالمناسبة- لم يكن الأمر مقتصرا على محتوى الكتب الدراسية فحسب، بل يشمل كذلك طبيعة الأسئلة المطروحة، والحوارات التي تدور في الندوات والمؤتمرات، وغير ذلك من الفضاءات الأكاديمية. لذا فإن البيئة الوطنية بمجملها تفرض نمطا معينا من الحوار عليك أن تتأقلم معه. وأعتقد أن المعرفة المناهضة للاستعمار لا تقتصر على التشكيك في هذه المعرفة المؤممة فحسب، بل تمتد لتشمل أيضا البحث عن بديل لها. ولكن الوصول إلى بديل لا يكون ممكنا إلا بعد تشخيص المشكلة الحقيقية، وهذه مهمة شاقة ومعقدة. لذا، يمكنني القول إن رحلتي كانت تجريبية في البداية، لكن الرحلة التجريبية وحدها لا تكفي، إذ يجب تحويل هذه الرحلة التجريبية إلى اختبار مفاهيمي. وعندما يندمج البعد التجريبي مع المفاهيمي نصل إلى عمق أكبر في الفهم. كما قال طلال أسد في وقتٍ ما إن أي أفكار -ساهم بها في مجال الأنثروبولوجيا أو الفلسفة أو مسألة الأخلاق- لها جذورها في الحياة التي عاشها. وهذا صحيح، لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن للمرء أن يتوصل إلى مفهوم جديد إلا بعد تجربته، وهذه ليست النقطة المهمة أيضا، لكن الأمر الأساسي الذي يجب مراعاته هو كيفية تحويل تجربتك إلى سؤال مفاهيمي. وهذا ما يتطلب جهدا كبيرا وتأملا عميقا. نشأت في الهند، وانتقلت من المدارس الإسلامية إلى الحكومية، ثم إلى الجامعات. وخلال هذه الرحلة التعليمية، كنت أقرأ في الكتب الدراسية ما يخبرك أن الإسلام دين دخيل، وأنه قوة خارجية دخلت الهند، وأنه غير مرغوب فيه. وكان يفسر دائما على أنه غزو ما الذي دفعك لتطوير مفهوم "الاستشراق الهندوسي" وكيف تكشّف لك بوصفه نظاما معرفيا يتجاوز الصور النمطية والتجارب الفردية؟ أجل، كما ذكرت سابقا، فقد نشأت في الهند، وانتقلت من المدارس الإسلامية إلى الحكومية، ثم إلى الجامعات. وخلال هذه الرحلة التعليمية، كنت أقرأ في الكتب الدراسية ما يخبرك أن الإسلام دين دخيل، وأنه قوة خارجية دخلت الهند، وأنه غير مرغوب فيه. وكان يفسر دائما على أنه غزو، على سبيل المثال. وبمجرد قراءة هذا الكلام، والنظر إلى سياق ما بعد حرب 11 سبتمبر، يمكنك أن ترى أن الأمر لم يكن مقتصرا على الهند فقط، بل كان جزءا من نقاش عالمي حول الإسلام والإرهاب. وعندما ذهبت إلى مدارسهم أو جامعتهم، وتعلمت أشياء من هذا القبيل، كان الأمر كما لو أنني كنت أنا المشكلة. وبالمناسبة، في هذه الجامعات، لا نجد سوى عدد قليل جدا من الطلاب المسلمين، بينما الغالبية العظمى من الطلاب من الهندوس. ثم عليك دراسة "المجتمع الهندي" و"الحضارة الهندية" ويُقال لك إن الإسلام مشكلة، وهي مشكلة سلبية، وإذا كان المدرس هو من يدرس هذه المادة، فإن زملائي ينظرون إلي وكأنني أنا المشكلة. وهذا نوع من "التشييء" وربما تبدو الكلمة قاسية، لكنها الأقرب إلى فكرة نزع الصفة الإنسانية. فأنا أجلس معهم في نفس الفصل، لكن على عكس أصدقائي الهندوس، أشعر وكأنني موضع الاتهام، لأن الإسلام -بحسب هذا الطرح- غريب عن الهند، ووجوده فيها أمر يجب التخلص منه بدلا من الافتخار به. وهذه التجربة دفعتني إلى التفكير في أن المسألة لا تتعلق بكتاب دراسي سيئ، أو بمحاضر متحيز، أو حتى بباحث يقدم طرحا سلبيا هنا أو هناك. فالمشكلة أعمق من ذلك، إنها ليست في الأفراد، بل هي مسألة معرفية. فلماذا يقول الأستاذ الشيء نفسه المذكور في الكتاب؟ ولماذا يأتي باحث من الخارج ليكرر الفكرة ذاتها؟ بل وحتى بعض العلماء الهنود يرددون الطرح نفسه؟ ثم الأجانب كذلك؟ وبدأتُ بدراسة هذا الأمر، ثم أدركتُ أنه ليس مجرد تحيز فردي من قِبل أ، ب، أو ج، أو من قِبل الكتاب المدرسي، بل هناك نظام معرفي منظم ينتج هذه الصورة بشكل متماسك، وليس مجرد مجموعة من الانطباعات أو الصور النمطية. المسألة تتجاوز الصور النمطية، فثمة طريقة تنظم بها المعرفة بحيث تقدم الإسلام والمسلمين كغرباء أو شيء دخيل. توصلت إلى صياغة مفهوم "الاستشراق الهندوسي". وجوهر هذا المفهوم أن المسلمين هم "الآخر" الأساسي في هذا البناء المعرفي. وربما يمكن القول إنهم الآخر الأوضح، لكنهم ليسوا الوحيدين، فهناك أيضا آخرون، كأفراد الطبقات الدنيا وسكان القبائل، ممن يتم تهميشهم أو نزع الشرعية عنهم ضمن هذا الإطار المعرفي وبعد دراسة هذه الظاهرة وتحليل جذورها، فكرتُ أنه علينا تحديد جوهر المفهوم، وتوصلت إلى صياغة مفهوم "الاستشراق الهندوسي". وجوهر هذا المفهوم أن المسلمين هم "الآخر" الأساسي في هذا البناء المعرفي. وربما يمكن القول إنهم الآخر الأوضح، لكنهم ليسوا الوحيدين، فهناك أيضا آخرون، كأفراد الطبقات الدنيا وسكان القبائل، ممن يتم تهميشهم أو نزع الشرعية عنهم ضمن هذا الإطار المعرفي. وهنا، يجب التنبيه إلى أن مفهوم "الاستشراق الهندوسي" لا يقتصر على الإسلام والمسلمين فحسب، كما أنه لا يقتصر على حدود الهند. فالمعرفة عن الهند نفسها مرتبطة بإرث استشراقي غربي طويل، وهي دراسة أُنتجت في بريطانيا وألمانيا وفرنسا، ثم لاحقا في الولايات المتحدة. لذا سترى أن ما يُسمى البعد شبه القاري مرتبط بالتشكيل الغربي للمعرفة. لذا فبهذا المعنى، يسمح "الاستشراق الهندوسي" بدراسة كيفية تطور تشكيل المعرفة. وبالمناسبة، هذا النوع من الاستشراق لم يتطور بالأمس. ولذا، عندما نستخدم مصطلح الاستشراق الجديد، على سبيل المثال، نجد فيه شيئا جديدا، ولكن علينا أيضا أن ندرك أنه لم ينشأ فجأة، ولهذا الأمر جذور تاريخية عميقة. ولعل وصف "الجديد" هنا يشبه ما نراه في عالم الإعلانات، مثلما ترى معجون أسنان بالسوبرماركت التركي مكتوبا عليه "yeni – يني" (أي: جديد) في حين أنه في الحقيقة ليس جديدا تماما. وفكرة الاستشراق الجديد تحمل في طياتها شيئا جديدا، ولكنه ليس مفاجئا. وهناك دائما ما يسبقه. ولذا، هذه إحدى الطرق العديدة لتفسير فكرة الاستشراق الهندوسي. كيف يمكن للجيل الجديد أن يتعامل بشكل نقدي وموضوعي مع المعرفة التي تشكلها أطر مثل الاستشراق الهندوسي، بدلا من الاعتماد على الشعارات المجردة؟ أعتقد، كما تعلمون، أننا بحاجة إلى تجاوز ما يسمى الشعارات. ففي مناخنا اليوم، وفي البيئة الأكاديمية التي نعيش فيها، أصبح من الشائع جدا أن نسمع عبارات مثل "هذه المعرفة أوروبية المركز" أو "نحن بحاجة إلى تجاوز المركزية الأوروبية" أو حتى "علينا التخلص من هذا النمط من المعرفة". ولكن، قبل إطلاق أي من هذه الادعاءات، فإن الشرط الأول -لا سيما من منظور أكاديمي- هو معرفة الموضوع الذي نريد انتقاده تحديدا. لأنه ما لم ندرك على وجه التحديد ما هي المركزية الأوروبية، فلن نتمكن من نقدها فعليا. نصيحتي للشباب: لا تقعوا في فخ هذه الشعارات فحسب، بل اذهبوا وادرسوها، واعرفوها بأدق تفاصيلها. ثم طوروا نقدا، لأنه حينها فقط سيكون نقدكم سليما جدا ويمكن أن يكون بديلا فعالا. وما لم تفحصوا مكوناتها وبنيتها، فإن مجرد القول إن بعض النظريات أو المفاهيم ذات مركزية أوروبية لا يكفي ولهذا أعتقد أن الجيل الأصغر سنا بحاجة إلى تجاوز الشعارات المجردة. فقبل أن تنتقدها، حاول أن تتعمق خطوة بخطوة وتكتشف ماهية المركزية الأوروبية، وكيف تطورت، وما هي الركائز المفاهيمية لها. وبمجرد أن نعرفها من الناحيتين المنهجية والنظرية، وبمجرد أن نتعرف على مكوناتها المختلفة، وبنيتها، وأسلوبها المنطقي في الحجج، حينها فقط سنكون قادرين على تفكيكها. وبمجرد أن ندرك هذه الأسس من الجانبين المنهجي والنظري، ونتعرف على مكوناتها المختلفة، وبنيتها، وأسلوبها المنطقي في بناء الحجج، عندها فقط يمكننا أن نشرع في تفكيكها بوعي. ولذا، نصيحتي للجيل الشاب هي: لا تقعوا في فخ هذه الشعارات فحسب، بل اذهبوا وادرسوها، واعرفوها بأدق تفاصيلها. ثم طوروا نقدا، لأنه حينها فقط سيكون نقدكم سليما جدا ويمكن أن يكون بديلا فعالا. وما لم تفحصوا مكوناتها وبنيتها، فإن مجرد القول إن بعض النظريات أو المفاهيم ذات مركزية أوروبية لا يكفي. حتى لو قلت هذا، فمن واجبك أن تثبت أيضا، ليس فقط ادعاء أنها أوروبية المركز، بل أيضا إثبات كيفية ذلك، ثم تقديم بديل تدريجيا.


الجزيرة
٠٣-٠٧-٢٠٢٥
- منوعات
- الجزيرة
منتصر الحمد: كيف نعيد تموضع اللغة العربية كفاعل ثقافي عالمي؟
يعد الدكتور منتصر فايز فارس الحمد، الأكاديمي والباحث في اللغات السامية والكتابات القديمة، أحد أبرز الخبراء الدوليين في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها. وقد جاء حضوره في سياق " مؤتمر الاستشراق – الدوحة" ليمنح بعدا حيا وناقدا لمفهوم "الآخر" كما تشكل في الوعي العربي، لا سيما في مجال اللغة، وكيف تعامل العرب الأوائل مع الأعجمي، ليس من منطلق مركزيتهم، بل من منطلق مسؤوليتهم الثقافية. والدكتور منتصر الحمد هو أكاديمي وباحث، ولد في 12 يوليو/تموز 1971، ويقيم حاليا في الدوحة، ويشغل منصب أستاذ مشارك في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها بجامعة قطر ، ويعد خبيرا دوليا معتمدا في هذا المجال، حيث تعاون مع عدد من الجهات الكبرى كجامعة اليرموك، وشبكة الجزيرة الإعلامية، والمجلس الثقافي البريطاني. يحمل الدكتور منتصر درجة الدكتوراه في اللغات السامية المقارنة، ودرجة الماجستير في النقوش والكتابات القديمة، إلى جانب دبلوم عال في التربية والممارسة الأكاديمية، وبكالوريوس في اللغة العربية وآدابها. وقد مثل اللغة العربية في محافل علمية وإعلامية دولية، وشارك بصفته محاضرا وخبيرا في مؤتمرات وندوات متخصصة داخل العالم العربي وخارجه. كما يتميز بإسهاماته الثقافية والإبداعية، منها ابتكار شخصيات تعليمية كرتونية (يوسف وياسمين)، والمشاركة في تأسيس مهرجان إدنبرة العربي، ومشروع "ألف اختراع واختراع" العالمي. إلى جانب نشاطه البحثي، يعرف الدكتور منتصر بقدرته على الربط بين الأصالة اللغوية والتجديد المعرفي، ساعيا إلى تقديم رؤية نقدية متجذرة في الثقافة العربية تجاه قضايا التعليم والاستشراق والاستعمار اللغوي. ولقد الدكتور إلى أن العرب -من الجاحظ إلى ابن خلدون- قد صاغوا مصطلحاتهم ومفاهيمهم الخاصة، مثل "المستعرب" و"اللكنة" و"العجمة"، من رؤية داخلية نابعة من فهم ذاتي، لا من انبهار خارجي أو تقليد أعمى. ودعا الحمد في رؤيته إلى ضرورة توطين العلوم، لا باعتبارنا مستهلكين لمفاهيم الآخر، بل بوصفنا فاعلين ثقافيين نمتلك رصيدا غنيا يمكن إعادة بعثه وتقديمه بقوالب جديدة. وقد كان لافتا في طرحه مقاربته النقدية لمصطلحات مثل "اللغة الأم" و"اللغة الثانية"، التي نشأت -كما قال- في سياقات استعمارية ترى في غيرها موضوعا لا فاعلا، مؤكدا أن هناك اليوم في الغرب ذاته جهودا لتفكيك هذا الإرث عبر مبحث "تفكيك الاستعمار في تعليم اللغات" (De-colonization of Language Teaching). تحاور "الجزيرة نت" الدكتور منتصر الحمد عن مشاركته بالمؤتمر، ومداخلاته النقدية في صلب علاقة الذات بالآخر، والمركز بالهامش، والاستشراق بوعي الذات الثقافية، مناقشا الاستشراق بزاوية جديدة تنطلق من اللسان العربي، وتفتح أسئلة حقيقية حول القدرة على إعادة تعريف علاقتنا بأنفسنا وبالعالم. فإلى الحوار: جاء مؤتمر الاستشراق في الدوحة -كما تفضلت الوزيرة لولوة الخاطر- بمبادرة ورؤية من سعادتها، وذلك بعد زيارة قامت بها إلى روسيا الاتحادية قبل عدة سنوات. وقد تزامن ذلك مع اهتمام متزايد داخل المؤسسات الأكاديمية في دولة قطر ، وعلى رأسها جامعة قطر ، بموضوع "الاستغراب" (أي دراسة الغرب من منظور شرقي). ارتأت سعادة الوزيرة، وكانت آنذاك تعمل في السلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية، أن دراسة الاستشراق من منظور عربي، وبمساهمة فكرية ومعرفية من الإنسان العربي، تمثل خطوة مهمة في إعادة صياغة وتفكيك الرؤية الاستشراقية السائدة في المؤسسات الأكاديمية الغربية، وهي الرؤية التي شابتها حمولات سلبية في كثير من الأحيان. ومع مرور الزمن، وخصوصا بعد الإصدار الشهير للراحل إدوارد سعيد لكتابه "الاستشراق"، الذي قدم فيه الاستشراق بوصفه خطابا ملازما للاستعمار، ظهرت الحاجة إلى إعادة النظر في هذا المفهوم وتفكيكه، وقراءته قراءة أكثر اتزانا. وقد حاول إدوارد سعيد نفسه لاحقا، في كتابه "الثقافة والإمبريالية"، أن يوضح أنه لم يكن يقصد أن يتحول موضوع الاستشراق إلى هذا البعد الأحادي، أو أن تحصر المناقشة في زوايا معينة لم يكن يرغب في تسويقها منذ البداية. من هنا، نشأ مؤتمر الاستشراق في الدوحة ليقدم رؤية عربية مستقلة -ليست منعزلة عن الآخر بل منفتحة عليه- تسعى إلى مساهمة العرب أنفسهم في رسم ملامح حقل الاستشراق، لا كمجال معرفي مغلق، بل كحقل معرفي عام، بيني، عابر للتخصصات. من هنا، نشأ مؤتمر الاستشراق في الدوحة ليقدم رؤية عربية مستقلة -ليست منعزلة عن الآخر بل منفتحة عليه- تسعى إلى مساهمة العرب أنفسهم في رسم ملامح حقل الاستشراق، لا كمجال معرفي مغلق، بل كحقل معرفي عام، بيني، عابر للتخصصات. فالاستشراق لا يعد تخصصا بمنهجية واحدة، بل يشمل دراسات اجتماعية لغوية تاريخية وأنثروبولوجية، وله مناهجه الخاصة التي يحتكم إليها، والتي تبنى على أساسها النتائج العلمية الرصينة. ومن ثم، لا ينبغي أن نسطح مفهوم الاستشراق أو نختزله على أنه مجرد فرع معرفي محدود، بل يجب فهمه ضمن سياق تعدد المناهج والتخصصات التي يتقاطع معها. كيف تسهم دراسات ما بعد الاستعمار ومؤتمر الاستشراق في الدوحة في تجاوز النظرة التقليدية للاستشراق وبناء علاقة أكثر ندية وتفاعلا بين الشرق والغرب؟ إعلان ما يعرف بالاستشراق الجديد أو بدراسات ما بعد الاستعمار -إن اتفقنا أصلا على أننا نعيش الآن في "حقبة ما بعد الاستعمار"- يعكس تحولا مهما في النظرة إلى العلاقة بين الشرق والغرب. قد نكون قد تحللنا من الاستعمار بصورته التقليدية، لكني لا أود استخدام المصطلح الذي أطلقه المفكر علي شريعتي حين غير حرف العين إلى حاء في الكلمة. بل أود الإشارة إلى أن هذا "الاستعمار الجديد" أو "دراسات ما بعد الاستعمار" حاولت أن تنأى بنفسها عن الحمولات السلبية التي ارتبطت بمفهوم الاستشراق التقليدي. لقد ارتبط الاستشراق، في صورته الكلاسيكية، بالمؤسسة الأكاديمية الغربية، التي كانت، في كثير من الأحيان، متشابكة مع مشاريع استعمارية، سواء من حيث التمويل أو الأهداف. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المستشرق أو الباحث نفسه قد لا يكون واعيا بدوره في هذه المنظومة، فقد يكون مجرد ترس صغير في آلة ضخمة، لا يدرك بالضرورة الأجندة الكاملة التي تتحرك بها هذه المؤسسة. وقد يرى البعض طرحي هذا نوعا من التبسيط أو السذاجة، لكنه يعبر عن واقع مركب. ارتبط الاستشراق، في صورته الكلاسيكية، بالمؤسسة الأكاديمية الغربية، التي كانت، في كثير من الأحيان، متشابكة مع مشاريع استعمارية، سواء من حيث التمويل أو الأهداف. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المستشرق أو الباحث نفسه قد لا يكون واعيا بدوره في هذه المنظومة، فقد يكون مجرد ترس صغير في آلة ضخمة، لا يدرك بالضرورة الأجندة الكاملة التي تتحرك بها هذه المؤسسة. وقد يرى البعض طرحي هذا نوعا من التبسيط أو السذاجة، لكنه يعبر عن واقع مركب. دراسات ما بعد الاستعمار سعت إلى مراجعة هذا التراث، فبدأ كثير من الجامعات والمؤسسات الأكاديمية في تغيير خطابها ومصطلحاتها، بل تخلى عدد كبير من الباحثين عن وصف "مستشرق" لما يحمله من دلالات سلبية. وبدلا من ذلك، ظهرت تسميات بديلة مثل "مستعرب"، أو تغييرات في أسماء التخصصات، كما نرى في انتقال بعض الجامعات من تسمية Oriental Studies (الدراسات الشرقية) إلى Middle Eastern Studies (دراسات الشرق الأوسط)، أو Gulf Studies (دراسات الخليج)، كما هو الحال في جامعة إكستر البريطانية، وغيرها من المؤسسات التي اختارت توصيفات أكثر حيادية أو دقة. لكن، في الجوهر، لا تزال هذه الدراسات تدور حول الموضوعات نفسها: الدين، الثقافة، اللهجات، المجتمعات الشرقية، والعوامل المؤثرة فيها. الفارق يكمن في السؤال التالي: هل تدرس هذه الموضوعات باعتبارها مجرد "مواضيع للدراسة"؟ أم باعتبارها "فاعلة ثقافيا" ومؤثرة في الفضاء الحضاري العالمي؟ إذا انطلقنا من الفرضية الثانية، نكون قد تحررنا من الإطار الضيق للاستشراق، وانتقلنا من منطق "الصدام الحضاري" إلى منطق "التعايش الحضاري"، بل إلى "التعاون الحضاري" الذي يعد درجة أرقى، إذ إن التعايش قد ينطوي على قدر من السلبية أو التحييد، بينما التعاون يعني الندية والفاعلية المتبادلة. وهنا يتولد سؤال جوهري: كم من مؤسساتنا الأكاديمية العربية تهتم اليوم بالدراسات المناطقية أو بدراسة "الغرب" كفاعل حضاري مؤثر في واقعنا العربي؟ وكم من الباحثين العرب يدرسون المجتمعات الغربية أو، على نحو أدق، يدرسون "الآخر الصهيوني" الذي يمارس علينا اليوم حرب إبادة؟ كم من الدارسين العرب يعكفون على دراسة تاريخ هذا الآخر، وأفكاره، وخلفياته الفكرية والفلسفية؟ إذا لم نكن على وعي بهذه المنطلقات التي يشكل بها الآخر رؤيته لنا، ويقولبنا بها، فلن نتمكن من مواجهته أو التفاعل معه بفعالية. من مؤسساتنا الأكاديمية العربية تهتم اليوم بالدراسات المناطقية أو بدراسة "الغرب" كفاعل حضاري مؤثر في واقعنا العربي؟ وكم من الباحثين العرب يدرسون المجتمعات الغربية أو، على نحو أدق، يدرسون "الآخر الصهيوني" الذي يمارس علينا اليوم حرب إبادة؟ كم من الدارسين العرب يعكفون على دراسة تاريخ هذا الآخر، وأفكاره، وخلفياته الفكرية والفلسفية؟ إذا لم نكن على وعي بهذه المنطلقات التي يشكل بها الآخر رؤيته لنا، ويقولبنا بها، فلن نتمكن من مواجهته أو التفاعل معه بفعالية من هنا جاءت مبادرة الأستاذة لولوة الخاطر، حين كانت تعمل في وزارة الخارجية، من إدراكها العميق لدور الدبلوماسي في فهم الآخر، والانفتاح عليه، والتعامل معه. فالذي يعمل مع الآخر، كما كانت تفعل هي في محافل العالم المختلفة، لا بد أن يفهم كيف يفكر هذا الآخر، وكيف يعيد إنتاج مفاهيمه ومواقفه، من أجل بناء جسور التعاون على المستويات الإنسانية والسياسية والاقتصادية وغيرها. هذه الرؤية هي ما نأمل أن نكون جزءا منه في مؤتمر الاستشراق بالدوحة. نحن لا نقيم هذا المؤتمر رفضا للباحثين الغربيين الذين يدرسوننا كـ "آخر"، بل ندعوهم إلى فضاءات أكاديمية عربية، نتحاور فيها بانفتاح، ونناقش كل الأفكار، سواء راقت لنا أم لم ترق. وما لا يروق لنا ينبغي أن نرد عليه بمنهج علمي رصين، لا بردود انفعالية أو اتهامية. لا وجود لما يسمى "شيطنة" في عالم المعرفة، بل ينبغي أن يكون خطابنا قائما على المنهج، وأن نصل إلى نتائج مدروسة عبر أدوات علمية دقيقة. لا وجود لما يسمى "شيطنة" في عالم المعرفة، بل ينبغي أن يكون خطابنا قائما على المنهج، وأن نصل إلى نتائج مدروسة عبر أدوات علمية دقيقة. هل لديكم نية للتوسع في موضوع "الاستغراب"؟ وما أهمية دراسته في السياق العربي المعاصر؟ وكيف تسهم في إعادة تشكيل الوعي الذاتي والعلاقة مع الآخر الغربي؟ بالطبع، أتمنى لو كنت قادرا على الإجابة عن هذا السؤال من جوانبه التخطيطية والإستراتيجية، لأقول: نعم، هناك خطط واضحة ومحددة للتوسع في هذا المجال. ولكن، ما يمكنني الحديث عنه الآن هو الأمنيات والطموحات. بصفتنا أكاديميين، لا يمكن أن نتجاهل أن بعض الأكاديميين العرب، أو ربما كثيرا منهم -وخصوصا في الحقول الإنسانية- أصبحوا اليوم، بشكل أو بآخر، جزءا من ما يمكن تسميته بـ "الاستشراق الذاتي"، أي أنهم ينظرون إلى ذواتهم ومجتمعاتهم بعين الآخر الغربي، متأثرين برؤاه ومنطلقاته الفكرية والمعرفية. ومن أجل التحرر من هذا التأثير، أو حتى من أجل بناء رؤية نقدية حقيقية للذات، لا بد أن ندرس الآخر أيضا، لا من باب التماهي، بل من باب المقارنة، ومن أجل استخدام الأدوات والمنهجيات العلمية التي استخدمها هو في دراستنا وتفكيك مجتمعاتنا، لنستخدمها بدورنا في دراسة مجتمعاته وتفكيك خطابه. نحن بحاجة إلى دراسة "الآخر" الغربي، ليس فقط لأغراض البحث الأكاديمي، بل لنقدم نتائج هذه الدراسات لأصحاب الرؤية في مجتمعاتنا: من دبلوماسيين وساسة وتجار وأدباء ونقاد وصناع سينما وغيرهم، فهؤلاء يحتاجون إلى صورة حقيقية وواعية عن هذا الآخر، لكي يعرفوا كيف يتعاملون معه، لا أن يترك له المجال ليقدم نفسه كما يشاء، ويشكل صورته كما يريد، مستخدما في ذلك أدوات القوة الناعمة، بمختلف أشكالها، ليؤثر فينا ويشكل وعينا الجمعي. لقد وقعنا، في كثير من الأحيان، فريسة لهذه القوة الناعمة الغربية، التي لم تكتف بتقديم صورة الآخر عن نفسه، بل قدمت "نحن" أيضا لمجتمعاتنا، بالشكل الذي يخدم سرديته ومنظومته القيمية. لقد وقعنا، في كثير من الأحيان، فريسة لهذه القوة الناعمة الغربية، التي لم تكتف بتقديم صورة الآخر عن نفسه، بل قدمت "نحن" أيضا لمجتمعاتنا، بالشكل الذي يخدم سرديته ومنظومته القيمية. لذلك، من الضروري أن تعي الجامعات العربية أهمية هذه الدراسات، لا سيما تلك التي تتناول "الاستغراب"، أي دراسة الغرب بوصفه موضوعا للبحث والفهم، وليس فقط كمرجعية أو نموذج. وأنا لا أوافق أولئك الذين يقولون إن دراسات الاستشراق أو الاستغراب أصبحت جزءا من الماضي. نعم، ربما تكون بعض صيغها التقليدية قد انتهت أو تجاوزها الزمن، لكن دراسة الآخر ستظل دائما ذات أهمية متجددة، لأنها تمثل جسرا لفهم الذات والواقع، كما تمثل أداة للتفاعل مع الآخر، سواء من أجل التعاون أو التعايش، أو حتى الصدام إن كان لا بد منه. الآخر ليس كائنا بعيدا أو هامشيا، بل هو حاضر معنا في مختلف مستويات الحياة: من الفرد إلى الأسرة إلى المجتمع إلى الدولة إلى العلاقات الدولية وغيرها. هناك "آخر" دائما في المشهد، ولهذا يجب أن نفهمه، وأن نحسن التعامل معه، علميا وثقافيا وسياسيا. لا أدعي أن لدي منظورا جديدا كليا، ولكن ما يمكنني تأكيده هو أن علماء العرب، عندما بدؤوا التفكير بهذا الحقل، وعندما تشكلت لديهم الرؤية تجاه "الآخر" الراغب في تعلم لغتهم وثقافتهم، أسسوا لذلك من منطلق عربي خالص. فمنذ الجاحظ وصولا إلى ابن خلدون، بدأت تتبلور معالم هذا الاهتمام، حيث استخدمت مصطلحات ذات خلفية معرفية عربية، عكست نظرتهم إلى المتعلم الأجنبي، وإلى المادة التعليمية، والتحديات اللغوية التي تواجهه. لا أدعي أن لدي منظورا جديدا كليا في تدريس اللغة العربية ، ولكن ما يمكنني تأكيده هو أن علماء العرب، عندما بدؤوا التفكير بهذا الحقل، وعندما تشكلت لديهم الرؤية تجاه "الآخر" الراغب في تعلم لغتهم وثقافتهم، أسسوا لذلك من منطلق عربي خالص. فمنذ الجاحظ وصولا إلى ابن خلدون، بدأت تتبلور معالم هذا الاهتمام، حيث استخدمت مصطلحات ذات خلفية معرفية عربية، عكست نظرتهم إلى المتعلم الأجنبي، وإلى المادة التعليمية، والتحديات اللغوية التي تواجهه. لقد تحدثوا عن "المستعرب" و"الأعجمي" و"اللكنة"، وغيرها من المصطلحات التي وردت في كتبهم، وتناولوا هذه القضايا بتفصيل واهتمام. وليس خافيا أن من بين أهم من أسهموا في تعليم اللغة العربية وعلومها، لم يكونوا من أصل عربي، بل أعاجم في الأصل، كسيبويه، الذي يعد أبرز مثال… فكيف استطاع رجل أعجمي أن يضع كتابا مؤسسا في قواعد اللغة العربية؟ ما يهمني هنا ليس منهجيته فحسب، بل قدراته اللغوية الفائقة التي مكنته من ذلك. كذلك الأمر بالنسبة لابن جني (أو كما ينطقه بعضهم "ابن جوني")، الذي كان من المولدين، إذ كان والده روميا، لكنه ألف كتاب "الخصائص"، وهو من أعظم المؤلفات في فلسفة اللغة. وغيرهما من المولدين الذين أسهموا في بناء تراثنا اللغوي والمعرفي. نحن بحاجة إلى العودة إلى هذه المصطلحات والمنهجيات، لا لنكون أسرى لما يريده الآخر من مصطلحات أو تعبيرات قد يرى أنها أكثر "لطافة" أو "قبولا". فمثلا، البعض يتحسس من مصطلح "أعجمي"، ويظنه تحقيرا، كما التبس الأمر لدى البعض خلال حرب الخليج حين شبه بـ "العلوج". لكن "الأعجمي" في اللغة العربية لا يعني السباب، بل هو توصيف لغوي، يطلق على من في لسانه عجمة، أي صعوبة في النطق بالعربية، حتى لو كان عربي الأصل. بل إن أبناءنا الذين ينشؤون في الغرب، إذا نشؤوا ولسانهم لا يجيد العربية أو فيه عجمة، فهم يعدون أعاجم، رغم نسبهم العربي. فالقرآن الكريم بين أن الأمر متعلق باللسان: (وهذا لسان عربي مبين)، ولم يقل: "وهذا نسب عربي". أبناءنا الذين ينشؤون في الغرب، إذا نشؤوا ولسانهم لا يجيد العربية أو فيه عجمة، فهم يعدون أعاجم، رغم نسبهم العربي. فالقرآن الكريم بين أن الأمر متعلق باللسان: (وهذا لسان عربي مبين)، ولم يقل: "وهذا نسب عربي". من هنا، فإن توطين المعرفة والمصطلحات والانطلاق من رؤيتنا الذاتية ليس فقط مسألة لغوية، بل هو احترام لذواتنا ولخصوصيتنا الثقافية، باعتبارنا فاعلين لا مجرد متلقين أو مترجمين لمفاهيم الآخر. فبعض المصطلحات التي نروج لها اليوم أصلا نشأت في بيئات استعمارية كانت تنظر إلينا كمفعول به ثقافي، لا كفاعل. ولذلك نجد تعبيرات مثل "اللغة الأم"، و"اللغة الوراثية"، و"لغة الأجداد"، و"لغة أجنبية"، و"اللغة الثانية"، محملة برؤية خارجية. إذن تدعوا لتفكيك الاستعمار أو إزالة المنظور الاستشراقي عن تعليم اللغة العربية؟ حتى الغرب اليوم بدأ يراجع هذه المفاهيم، وهناك دراسات تعنى بما يسمى ب "تفكيك الاستعمار في تعليم اللغات" (Decolonization of Language Teaching)، وهي تحاول التخلص من المصطلحات والمفاهيم التي نشأت في ظل المنظومة الاستعمارية. ما أطالب به ليس بالضرورة استحداث مصطلحات جديدة، بل العودة إلى ما لدينا، نزيل عنه الغبار، ونعيد تقديمه بقوالب جديدة ومعاصرة، تراعي السياقات الحديثة من دون التفريط بالهوية والموروث. ما أطالب به ليس بالضرورة استحداث مصطلحات جديدة، بل العودة إلى ما لدينا، نزيل عنه الغبار، ونعيد تقديمه بقوالب جديدة ومعاصرة، تراعي السياقات الحديثة من دون التفريط بالهوية والموروث. كما أن هذه التناولات الغربية – رغم أهميتها – لا يمكننا تبنيها كما هي، لأن لكل لغة خصائصها. فما يصح في تعليم لغة معينة قد لا يصح في تعليم العربية. ليس لأن اللغة العربية "أفضل"، ولكن لأنها تملك ميزات خاصة، كما لكل لغة ميزاتها. لذلك، فإن تعليم اللغة العربية للأعاجم لا بد أن يتم من خلال مقاربات خاصة بها، تراعي هذه الخصائص، وتنطلق من رؤية نابعة من داخلنا، لا من تصورات مفروضة من خارجنا. والأعاجم ليسوا فئة واحدة، بل هم فئات متعددة ومتباينة. فمثلا: الأعاجم الأتراك يختلفون عن الأعاجم الفرس، وهؤلاء يختلفون بدورهم عن الأعاجم من الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية. الأتراك نشترك معهم في بعض المعجم اللغوي، ولكن لا نشترك معهم في الحرف الكتابي. كما نجد تقاطعا جزئيا في بعض عناصر الثقافة، ولكن لا يجمعنا بهم تركيب لغوي مشترك، فهم ينتمون إلى اللغات اللصقية.أما الفرس، فنشترك معهم في المعجم إلى حد ما، ونتقاطع معهم في استخدام الحرف (العربي)، لكننا لا نشترك معهم في التركيب اللغوي، إذ إن لغتهم تنتمي إلى العائلة الهندو-أوروبية.بينما الغربيون (كالناطقين بالإنجليزية أو الفرنسية) فقد نتلاقى معهم في جانب التركيب اللغوي أكثر من غيرهم، لكننا لا نلتقي معهم لا في المعجم ولا في الثقافة. من هنا، فإن التعامل مع الفضاء العالمي بوصفه كتلة واحدة في مجال تعليم اللغة العربية ، وتقديم اللغة ذاتها بالطريقة ذاتها لكل الأعاجم، هو طرح غير دقيق. بل ينبغي لنا أن ندرس الشعوب المختلفة، وثقافاتها، وأنماط تفكيرها، لنقدم لغتنا وثقافتنا بأفضل الوسائل، وأنسب الطرائق، بما يراعي خصوصية كل فئة. وهنا أطرح سؤالًا: نحن نحتفل باللغة العربية في مناسبات عدة – في اليوم العالمي للغة العربية الذي يصادف 18 ديسمبر، أو في اليوم العالمي للغة الأم في فبراير. ولكن، متى نحتفل بـ اليوم العالمي للغة الإنجليزية؟ لا يوجد. ومتى هو اليوم العالمي للغة الفرنسية؟ كذلك لا يوجد. فلماذا توجد أيام عالمية لبعض اللغات ولا توجد لغيرها؟ إن كان الغرض من تخصيص يوم عالمي للغة ما هو الاعتراف بها كلغة عالمية، فلماذا لا ينسحب هذا المبدأ على اللغات الأخرى؟.. أترك هذا السؤال مفتوحا للتأمل. وأحب أن أسوق مثالا، عندما كنت طالبا في بريطانيا ، كان يضرب لدينا مثل طريف يتداول في فترة الأعياد. كانوا يقولون للناس بعد انقضاء مواسم الاحتفال "Dogs are not just for Christmas"، أي "الكلاب ليست فقط لفترة الأعياد"، والمقصود لا تأخذوا الكلاب للتنزه واللعب أثناء الأعياد ثم تهملوها بعد ذلك وتتركوها في البيوت. وأنا أقول كذلك اللغة العربية ليست فقط لليوم العالمي للغة العربية. لا يصح أن ننزل اللغة من على الرف، ونحتفي بها، ونصفق لها، ونهتف ونزغرد، ثم ما إن ينتهي الاحتفال حتى نعيدها إلى الرف مرة أخرى! فاللغة العربية ليست زينة موسمية، بل ينبغي أن يكون الاحتفاء الحقيقي بها هو في توظيفها، قدر المستطاع، في كل مجالات حياتنا. وأنا أقول كذلك اللغة العربية ليست فقط لليوم العالمي للغة العربية. لا يصح أن ننزل اللغة من على الرف، ونحتفي بها، ونصفق لها، ونهتف ونزغرد، ثم ما إن ينتهي الاحتفال حتى نعيدها إلى الرف مرة أخرى! فاللغة العربية ليست زينة موسمية، بل ينبغي أن يكون الاحتفاء الحقيقي بها هو في توظيفها، قدر المستطاع، في كل مجالات حياتنا. أتذكر أستاذي في الجامعة، دخلت عليه ذات مرة وكنت أتحدث إليه بالعامية "المانكونية" (لهجة مانشستر)، فقال لي "Leave that rubbish outside my office"، أي "دع هذه القمامة خارج مكتبي"، وكان يقصد بذلك لهجة العامية. فقد كان يعتبر أن استخدام اللهجة في المكتب الأكاديمي فيه نقص في احترام المؤسسة الأكاديمية. مع أنني حين أزوره في بيته، أتحدث معه أحيانا بنفس تلك اللهجة، ويقبل ذلك، لكن في بيئة الجامعة كان له موقف واضح وحازم. وهذا الموقف يلقي الضوء على مسألة بالغة الأهمية "الانضباط اللغوي داخل المؤسسة الأكاديمية"، كم من الأكاديميين اليوم في جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية يستخدمون العربية استخداما سليما؟ لن أقول الفصحى الفصيحة على إطلاقها، بل مجرد الالتزام بحد أدنى من الفصاحة والسلامة اللغوية في تدريسهم وكتاباتهم – كم منهم لا يلحن؟ هذه هي التحديات التي يجب أن نضعها في الحسبان عند حديثنا عن "الاحتفال باللغة العربية". فالاحتفاء الحقيقي يبدأ من الصف الأول الابتدائي، ولا ينبغي أن يتوقف حتى نكتب على شاهد القبر جملة سليمة باللغة العربية. هكذا فقط نكون قد وفينا هذه اللغة شيئا من حقها.