
العودة إلى زمن (المصابيح الزرق) لحنّا مينه.. علامة مبكرة من روائع الرواية العربية الحديثة
أما قبل عقود غير بعيدة، فلم يكن هناك (إنترنت) ولم يكن هناك وسائل تواصل، كان الروائيون العظام يولدون في ظروف مختلفة، وهكذا ولدت أسماء كبيرة منها على سبيل المثال: نجيب محفوظ، صنع الله إبراهيم، غائب طعمة فرمان، عبد الرحمن منيف، غالب هلسا، حنا مينه، الطاهر وطار، مؤنس الرزاز…إلخ.
في هذه المقالة نلقي الضوء على بدايات حنا مينه، وهو واحد من روائيي العرب العظام في القرن الـ20، مثّلت رواياته موردا رئيسيا من موارد الرواية العربية، وفي الوقت نفسه ندعو إلى قراءته وقراءة تجارب جيل الروائيين والكتاب الكبار، وخاصة من الأجيال الجديدة، ممن يتوجهون إلى كتابة الرواية، فهذه التجارب الرائدة تمثل موردا مهما من موارد الكتابة والإبداع.
حنا مينه.. أشهر روائيي سوريا
حنا مينه (1924-2018) أشهر الروائيين العرب في سوريا، وواحد من أبرز الأسماء في الرواية العربية بأسرها، في سيرته أنه من مواليد اللاذقية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط عام 1924م، لعائلة فقيرة، هاجرت عائلته من اللاذقية إلى بلدة السويدية في لواء الإسكندرون، ثم إلى الإسكندرون (المدينة) وظلت فيها عدة سنوات حتى هاجرت مجددا عام 1939 إلى اللاذقية. درس مينه المرحلة الابتدائية في الإسكندرون، ثم خرج من المدرسة ليعمل صبيا لإعانة عائلته. وكذا فعل بعد الهجرة إلى اللاذقية، فعمل حلاقا، وعاملا وحمالا وصبيا أو فتى في الميناء… فكان الواقع المدبب الشقي مدرسته الكبرى التي تأسست عليها رؤيته وموقفه وكتابته الروائية فيما بعد.
وقد تكون هذه النشأة في بيئة الكفاح والعمل هي التي قربته إلى الواقعية الأدبية والفكرية، فإلى هذا الواقع كان يعيد رؤيته اليسارية وكراهيته لليمين، يقول:
"وقد كنت كما هو معروف، يساريا وسأبقى..أما لماذا الأمر كذلك، فإن هذه (اللماذا) في غير محلها! تصوروا ابن العالم السفلي، العاري، الحافي، الجائع، مثلي ومثل ناسي… ثم نكون في اليمين الذي يتغذى أطفاله بالشيكولاته ويركبون الكاديلاك! مفارقة أليس كذلك".
(أشياء من ذكريات طفولتي، ط.دار الآداب، ص121).
إعلان
ويبدو أن المصادفات لها دورها في تكوينه الثقافي الاعتباطي، ففي السنوات الأولى لعمله وهو صبي، تصادف أن معلّمه الأمي كان شيوعيا بسيطا، فكان الصبي يساعده في قراءات النشرات الحزبية، وعن تلك البدايات كتب حنا مينه:
"بعد شهادتي الإبتدائية، وهي الوحيدة التي حصلت عليها، عملت أجيرا عند صاحب دكان لتأجير الدراجات، كان هذا المعلم، يدعى عفيف الطويل، مشبوها، قد ضبط، في أول أيار، يعلق بيارق صغيرة حمراء، على أعمدة الهاتف، وفي بيته حيث يعيش مع أخته الخياطة، صودرت كل الفساتين من اللون الأحمر الفاقع، الذي كان موضة تلك الأيام.
كان معلمي أسمر طويل، فيه طيبة وفيه ملاحة لكنه بسيط، لا يخطر لك وأنت تراه، أنه في خلية حزبية، تعقد اجتماعاتها في المغائر على ضوء الشموع، ولأن معلمي أمّي فقد كان يأخذني مساء لأقرأ له بعض النشرات.
وفيها لأول مرة قرأت كلمة فلسفة، ما قرب ماركس من قلبي ونفسي، أنه بفكره العظيم، أعطاني مفهوما عن العالم، منحني الرؤية التي فتحت عيني، وأضفى على مهنتي الأدبية، لا الوعي وحده، بل الجمالية أيضا".
(وقائع الندوة التكريمية، ص214).
وهكذا تعلم حنا مينه على نفسه، وكتب قصصا ومسرحيات أول الأمر، نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، ولكن (المصابيح الزرق) أولى رواياته التي قدمته للقارئ ولأوساط الثقافة، وقد كتبها في السنوات الأولى من خمسينيات القرن الـ20، ونشرها عام 1954م. ليسجل بصدور هذه الرواية المتفوقة اسما لامعا في سجل الرواية العربية.
الاتجاه الواقعي وتأثير محفوظ وغوركي
وقد اختار حنا مينه الاتجاه الواقعي، الذي افتتحه نجيب محفوظ قبيل ذلك بسنوات قليلة، عندما نشر منتصف الأربعينيات رواياته المكانية: خان الخليلي، زقاق المدق، القاهرة الجديدة. وكذلك ظهرت رواية عبد الرحمن الشرقاوي (الأرض)، ويبدو أن هذا الاتجاه قد راق حنا مينه بتفاعله مع الواقعية وبقراءته بعض آثار الأدباء الروس والسوفيات، وعلى رأسهم (غوركي)، وبانتماء الكاتب إلى الواقع الكادح، وبرغبته في التمرد ضد الواقع؛ ولذلك فقد كان لروايته دورها الريادي إلى جانب الأعمال القليلة في تلك الحقبة في التحول من الرومانسية إلى الواقعية.
وقد أقر حنا مينه بأثر محفوظ وغوركي بوجه خاص فكتب عن الاتجاه الواقعي وتأثره به:
"في تأثري بالمذهب الواقعي كان لي اتصال بنجيب محفوظ من الروائيين العرب، وبغوركي من الروائيين العالميين. وحين بدأت كتابة روايتي الأولى "المصابيح الزرق" لم يكن لي أي إلمام، أو اطلاع، على نظرية الرواية، أو تقنيتها أو مفهومها".
ومعنى هذا أنه يذهب إلى أنه تعلم من قراءة الروايات التي راقته ووافقت ميوله الأدبية، أكثر من الاطلاع على الجانب التاريخي والنظري والتقني المتصل بنظرية الرواية وتطورها وتاريخها.
ومع ما سبق فإن قارئ هذه الرواية التي تمثل باكورة تجربة الكاتب الراحل الرائد، يدرك أن اطلاع الكاتب لم يكن هينا، ولكن حنا مينه يميل دائما لتصوير الكتابة كأنها إلهام رغم واقعيته الاشتراكية التي لا تعترف بمثل هذه الميول، فكل ما في الرواية من عناصر ومن إتقان ومن حرفية تشهد على اتساع الاطلاع لا على الروايات العربية والأجنبية وحدها، وإنما على قطاع واسع من تقنيات الرواية الواقعية بوجه خاص، وأن الأمر لا يعود إلى الموهبة وحدها، وإنما إلى ضرب من الثقافة الواسعة إلى جانب الاستعداد الإبداعي والإخلاص للتجربة.
إنها رواية واقعية ذات نفس ملحمي إذا صح التوصيف، ذلك أنها بمقدار ما فيها من شخصيات بارزة، تقصدت التعبير عن روح شعب أو قطاع من الشعب العربي يغالب الاستعمار والانتداب، ويغالب الحرب العالمية الثانية التي أشعلتها القوى الكبرى واحترقت الشعوب بتأثيراتها، وتمكن من المحافظة على درجة دقيقة من النفس التاريخي مع دمجه بالتفاصيل الواقعية الغنية، التي ملأت الرواية بالحياة والحيوية. فكانت الروح الجماعية هي صاحبة البطولة وليس الفرد.
إعلان
والرواية من عنوانها وفقرتها الأولى تضع القارئ في أجواء الحرب العالمية الثانية، فالمصابيح الزرق هي المصابيح التي تطلى باللون الأزرق لتخفيف الإضاءة تجنبا لخطر الحرب:
"لم يكن فارس في بدء الحرب العالمية الثانية شيئا يذكر. كان صبيا يافعا في السادسة عشرة من العمر، مولعا شأن اليافعين، بالروايات والحوداث الفظيعة! لعله كان يبغي، دون أن يعي منفذا إلى الحركة من الجمود المسيطر على حياته، ويحلم بمغامرات خارقة أملا بالحصول على ما حرم منه".
ص18.
هذه هي نقطة البداية، تحديد الزمان والشخصية المحورية، ثم تهيأ للرواية أن تتشعب مع تقدم الزمن، زمن الحرب وما ألقته على حياة الناس من تأثيرات، وتقدم فارس في العمر حتى دخوله مرحلة النضج والشباب. وهي في جوانب منها أقرب إلى روايات التعلم أو التربية، تلك التي تقدم صورة نامية عن أبطالها وكيفية تكونهم وتطور وعيهم وسلوكهم.
وقدمت الرواية مشاهد قوية لتسجيل مشاهد الجوع والفقر والبطالة والظلم، من خلال مشاهد واقعية حية، فصوّرت صراع الناس من أجل رغيف الخبز، ومعاناتهم أمام نقصان السلع واختفائها من الأسواق، وانتشار البطالة وغير ذلك من مشكلات اجتماعية واقتصادية مركبة، ترتد كلها إلى المشكلة السياسية وإلى الاحتلال أو الاستعمار، وهو أمر يحسب للوعي السياسي عند المؤلف، بمعنى أنه لم يفصل هذه المشكلات وإنما جعلها كتلة مترابطة ترتد كلها إلى ظروف الانتداب وما جاء معه من شرور وويلات.
ومن اللمحات الدالة أن مشاكل الصيادين الذين كانوا يلجؤون لخير البحر قد تفاقمت مع قدوم شركات الصيد الأجنبية التي تستخدم القوارب الحديثة، فلا تترك لهم شيئا. وتدفعهم الرواية إلى الوعي بالربط بين تراجع أحوالهم وانهيارها وبين الاحتلال الذي جاءت معه هذه القوارب المعادية التي لا تبقي لهم شيئا يصيدونه.
المنظور الطبقي من مسلّمات الواقعية
وإلى جانب هذا، التفتت الرواية إلى قسمة حاسمة بين عالمين، عالم الفقراء والكادحين والعمال، وهو العالم الذي تولد فيه روح الثورة والتمرد والنضال، مقابل عالم الأغنياء والمتنفذين وأعوان السلطات وصولا إلى سلطات الانتداب، وقلما نجت شخصية من هذا الضرب من التنميط. فإما أن تكون هنا أو هناك.
إنها رواية متشعبة كأنه وضع فيها بذور موهبته ورواياته اللاحقة كلها، ومن يعرف روايات مينه يدرك أن بذور أغلبها موجودة في بعض تشعبات هذه الرواية وأجوائها وتفاصيلها الكثيرة. فهي رواية بحر من جهة من خلال بيئة اللاذقية وتصوير البيئة البحرية وثقافة ناس الشاطئ السوري، وهي رواية مقاومة على صعد كثيرة، صورت موقف سكان اللاذقية وحي القلعة الفقير -المكان الرئيس في الرواية- من سلطات الاستعمار الفرنسي ، فقدمت مشاهد المظاهرات المنظمة والإضرابات وصولا إلى المعارك التي تنشب في هذه الأجواء، وظهور طبقة من القيادات الشعبية التي تسعى لتنظيم المتظاهرين ومعظم تلك القيادات نلمح فيها التفاعل مع الفكر المقاوم، ولكن على قاعدة التجربة والكفاح الشعبي أكثر من التأثر الفكري القادم من الكتب أو الأدبيات الفكرية والسياسية.
والرواية إلى ذلك في قسم واسع منها تمثل جانبا من أدب السجون، من خلال تجربة فارس الذي بدا كأنه الشخصية المحورية، أو الخيط الناظم بين أكثر شخصيات الرواية، فلقد تعرض للسجن، وفيه نضجت تجربته وانتقل من مرحلة الصبا إلى الشباب بقوة وشجاعة:
"في السجن عاش فارس فتى بين الرجال، ثم صار رجلا مثلهم..أنضجه بسرعة ما رأى وما سمع من شؤون الحياة".
(ص159)
ودائما هناك المعلمون الذين يلتقيهم بالمصادفة، كعبد القادر في السجن، ومحمد الحلبي وأبو جميعة خارجه، لقد بدا ميالا إلى هؤلاء الذين يمثلون التمرد والروح النضالي بوضوح.
وهي رواية تتأمل الواقع، بما فيه من إقطاع أو بقايا إقطاع، وتتقصد التحرش بالقسمة غير العادلة، بين المالكين الأثرياء والعاملين، سواء في الأرض، أو البحر، أو المصانع والمشاغل (العمال)، معظم أصحاب العمل أشرار مستغلون -كما تقدمهم الرواية- وهي صورة نمطية صاحبت الرواية الواقعية، وأما الكادحون فهم غالبا أخيار مضطهدون مظلومون، ولكنهم رغم فقرهم وتحليهم بالصبر مستعدون للتمرد وللنضال ضد الواقع المختل.
ومؤكد أن هذا التنميط يقتضي المراجعة والنقد في كثير من الأحيان، ولكنه في العموم سمة كبرى صاحبت الرواية الواقعية في تلك المرحلة المبكرة.
الدقة في رسم الشخصيات
ومن الأمور التي يمكن تأملها في هذه الرواية، الدقة في رسم الشخصيات، إذ تظهر قدرة الكاتب على إبداع الشخصيات ورسمها رسما دقيقا، بما فيها الشخصيات الثانوية أو الهامشية، كشخصية (مريم السودا) التي لم يفت الكاتب وصفها، والوقوف عند سوادها، مع التنويه على لسان أبي فارس: "لا تأخذوا بالمظاهر.. الإنسان في فعله لا في لونه". ص33.
مثل هذه اللمحة التي تحمل وعي الرواية والروائي تتسرب على ألسنة الشخصيات وتميز رواية المصابيح الزرق. ولكن يفلت منه ما يعارضها أحيانا، فبعد اللمحة الواعية السابقة يأتي على لسان الراوي: "أما مريم السودا -ويسميها أبو فارس الجاجة- فكانت تحاول الظهور بمظهر النساء النصف، ويقول العارفون إنها تكبر زوجها 20 عاما..". ص33.
فالكنية التي مصدرها أبو فارس لا تستقيم مع ما ظهر من وعيه حيال رفض التمييز بناء على اللون، أو تضعف ذلك الوعي على أقل تقدير.
أما أبو فارس، إلى جانب عمله في البناء، فهو مغني الحي في أوقات الراحة القليلة، غناؤه المفضل هو الموال: "وكان أحب الغناء إلى أبي فارس، الموال، ففيه رجولة وأصالة –هكذا يقول- وفيه معان بعيدة عن التخنث والابتذال". ص35.
ويستطرد بعدها لإيراد نماذج أو أمثلة على مواويلله. وما يخالطها من الميجنا. والرقص الذي يخالط ذلك كله وتشارك فيه مريم السودا بعرجتها المميزة، وزوجها نايف وعازار الإسكافي ذو الرجل المقطوعة.. فيغدو الحفل حفلا خاصا على مقاس سكان هذه الدار من دور حي القلعة.
تتميز الرواية الواقعية بوضوح عنصر الشخصية، وبأنها مرسومة بدقة وقوة، بدءا من اسمها، أي أن الشخصيات تحمل أسماء وكنى تنبئ عن طبيعتها وفرادتها ووضوح مكوناتها، وقد سمى المؤلف معظم شخصياته الرئيسة والثانوية بأسماء دالة: فارس، أبو فارس، الصفتلي، محمد الحلبي، جريس المختار، الشاروخ، بشارة القندلفت، مريم السودا، وزوجها الفحل، عبد المقصود أفندي، رشيد أفندي، نجوم (الفتى الريفي/الراعي)، رندة… آرتين (الخمار)، فتسمية الشخصية عنصر مركزي في هذه الرواية وفي معظم روايات مينه اللاحقة.
ونلتفت إلى عناية المؤلف بشخصية فارس التي تبدو مشتقة من شخصية المؤلف نفسه، في بعض جوانبها، ولكنه تصرف بها وحولها إلى شخصية روائية مبتعدا بها عن أطياف السيرة الذاتية، التي عالجها في روايات لاحقة وخاصة (بقايا صور) و(القطاف) و(المستنقع). وقد صوّر حب فارس ورندة، فلا بد في الملاحم والروايات الطويلة من قصة حب، ولكنه حب لم يكتمل، ولم يقيض له في زمن الحرب أن ينجو من ويلاتها.
إنه حب محكوم بالعطب، تعرض هذا الحب للاختراق من خلال ما تعرض له فارس من استغلال، بسبب حاجته للعمل بعد خروجه من السجن، فقد استغلته أرملة معلمه القديم، وكافأته ليعمل بوظيفة جيدة من وظائف سلطات الانتداب، ثم لما ابتعد عنها ليكسب رندة، عاقبته عقابا قاسيا، ففصل من عمله.
وبالرغم مما منحه المؤلف للشخصية من وعي فإنه في الفصل الأخير لم يكن مقنعا بتصوير الصراع الذي أدى بفارس أن يتطوع ليتجند في صفوف الجيش الفرنسي، طواعية، سوى ظروف البطالة، وبدا أن كل الوطنيين والمقاومين وأهله كذلك يعدّون هذا العمل غير مشرف، حتى وإن كان سيحارب معهم في ليبيا.
لم تسوغ الرواية هذا التحول في شخصيته، ولم تقدم إيضاحا سرديا كافيا أو مقنعا لهذا الانكسار بعد أن جعلته تلميذا وفيا للمقاومين منذ دخوله السجن وبعده. فلا يليق بتلميذ المقاومة أن ينتهي إلى هذا المآل.
المهم أن الروائي عاقبه بهذا التحول المخزي، فجعله يضيع أو يموت ولا يعود إلى موطنه، ولم يتبق منه غير صورة مكبرة على الجدار الفقير في غرفة أسرته تبكي أمامها أمه كل يوم في انتظار عودة لن تتحقق. أما رنده فتمرض وتموت، دون أن تفسر الرواية أسباب ذلك، ودون أن تربط مرضها بغياب فارس إلا على سبيل الافتراض.
وترصد الرواية دخول الراديو والفونوغراف (الحاكي)، إلى الحي، وهي لمحة على محاولة الرواية التقاط المؤثرات الجديدة، وما تخلفه من أثر. ولكن مع الحرب اختلف كل شيء، فحتى هذه اللحظات المبهجة القليلة سرقتها الحرب. وهو يذكرنا برصد محفوظ لدخول الراديو إلى المقهى وتراجع دور الشاعر الشعبي في التقاطة مماثلة من اللفتات الواقعية في رواية زقاق المدق لمحفوظ.
وفي الرواية لمحات قوية من الموروث، من مثل سرد أجزاء من سيرة الزير سالم المعروفة بأجوائها البطولية، حيث يقوم الصفتلي بدور الحكواتي، ويتم التركيز على الأجزاء الملحمية البطولية كأنها تغذي بقية أجزاء القصة. (ص167)
وكذلك بعض اللقطات من الثقافة الشعبية المحلية، ففي حادثة مقتل أحد الجنود، بعد تعرض فتاة لتمزيق ملايتها من جندي ثمل، وما تبعه من إيقاف بعض المتهمين، محمد الحلبي وبعض رفاقه، "وذهب وفد إلى السراي محتجا، وضع أحدهم خنجره على طاولة المحافظ دون أن يتكلم. كانت عادة وضع السلاح على مكتب صاحب النفوذ أو السلطة عادة قديمة، لكنها متبعة، معناها أن الأمر لن يمر بسلام" ص170.
أما اللغة فقد أحكمها المؤلف إحكاما شديدا، وتمكن باللجوء إلى الفصيحة المطعمة بالمفردات والتأثيرات المحكية في الحوارات الثنائية والجماعية من تقديم نموذج قوي على التنوع في الشخصيات وفي الكلام المنسوب إليها، وهي سمة تكاد تداني مقدرة نجيب محفوظ، في هذا الجانب الحيوي.
النهاية المتفائلة
النهاية رغم هذا الموت لبعض الشخصيات الفردية كانت متفائلة، مقاومة، بمشهد المظاهرة والقبضات المهددة الرافضة للاستعمار. وبمعنى ما فإن انتصار الجماعة واستمرار المقاومة هو الفكرة التي أرادت الرواية تثبيتها، رغم الحوادث الفاجعة التي مني بها الحي فوق الفقر والبطالة والاحتلال.
"ظل المتظاهرون يتقدمون بجموع سدت الشارع الكبير على رحبه. كان محمد الحلبي في المقدّمة يحمل البيرق مركزا عقب ساريته في خصره، ومصطفى الصيداوي وأبو فارس وصقر والجبلاوي وعلي مكسور يسيرون مع السائرين، وعبد القادر يهتف محمولا على الأكتاف، وهتافات الجموع ما تفتأ تعنف وتعنف في كل خطوة، والناس يتسارعون فينضمّون إلى المظاهرة ويهزّون قبضاتهم في الفضاء، مرسلين إنذارا بالموت أو الجلاء".
ص317.
هذه لمحة من بدايات حنا مينه التي حملت رواياته اللاحقة معظم طوابعها، فكانت توسيعا وتجويدا وتفصيلا لبلاغة الواقع ولبعض ما عايشه الروائي الراحل في اللاذقية وبيئة الشاطئ السوري. وعلى وجه الإجمال، قدم حنا مينه رواية ناجحة ما زالت قابلة للقراءة، حتى اليوم، فيها قوة الفكرة أو المضمون، وفيها المتعة السردية المشوقة، وفيها المقدرة على تصوير المشاهد الجماعية المعقدة.
وكل ذلك يدفعنا لنقول في الختام إن المصابيح الزرق واحدة من الأعمال الروائع في مكتبة الرواية العربية الحديثة.. ويحسن بمن يحاولون الرواية أو يحلمون بكتابتها أن يتعلموا بعض دروس الرواية وتقنياتها وطرق رسم الشخصيات وصياغة الحوارات القوية الحية من مثل هذه الرواية وما يشابهها من روائع الرواية العربية الباقية.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 12 ساعات
- الجزيرة
هل هناك إشارات صهيونية في أدب كافكا؟
لم يكن يقدر للروائي فرانز كافكا (1881 – 1924) أن يكون ذائع الصيت وأن تأخذ أعماله الأدبية شهرة عالمية منقطعة النظير لو لم يبادر صديقه المحرر لرواياته وقصصه "ماكس برود" إلى نشر رواياته، وإتمام ما كان منها غير مكتمل على طريقته الخاصة، وبأسلوبه الذي لا بد وأن يكون مختلفا ولو بعض الشيء عن أسلوب كافكا. حيث عمد برود إلى إصدار ونشر كافة مؤلفات كافكا بعد وفاته، على الرغم من أن كافكا نفسه كان قد أوصاه بحرق جميع آثاره المخطوطة دون قراءتها. ولكن برود وعلى أثر المحرقة التي أقيمت لليهود في ألمانيا وتضخيمها دعائيا هرب مع زوجته مصطحبا كل أعمال صديقه كافكا إلى فلسطين. لم يكن فيما عمله برود وفاء خالص لكافكا، وإنما لرغبة منه في إضفاء الصبغة الصهيونية على أدب كافكا بشكل عام، وبخاصة الروايات غير المكتملة التي لم يتمها كافكا، وتركها غير منتهية، فأتمهما برود وفق مزاجه وعلى طريقته الصهيونية الداعية إلى إقامة دولة لليهود على أرض فلسطين العربية. لقد عمل ماكس برود على رسم الوجه الصهيوني لصديقه الراحل في عربة الموت الميتافيزيقية الغامضة، تلك العربة التي أسدلت عجلاتها الستار على حياة روائي ظل منشغلا بنفسه واغترابه، وعدم إيمانه بمعنى الحياة وجدوى بقائه فيها. حيث مضى يؤسس نظرية كافكاوية مبنية على قلق الإنسان وشقائه وافتقاره للحرية الفردية التي غالبا ما تسطو عليها القوى البيروقراطية، حيث قضى كافكا عمر كتاباته معبرا عن هذه الحالة المجتمعية المهيمنة على حياة الفرد، وبلغة وأسلوب يتسمان بالسريالية والسوداوية والعبثية، إلى درجة إدارة الظهر للحياة الفائضة بالقلق والاغتراب والاعتزال وبشكل خاص في رواياته: المحاكمة والمسخ والقلعة، وفي معظم قصصه القصيرة. كافكا بين الألم والاستغلال بالرغم من صراع كافكا مع ذاته وهويته اليهودية في بيئة ناطقة بالألمانية، لم يكن يحمل نزعة صهيونية، ظل يتمناها صديقه ماكس برود الصهيوني الفكرة والنزعة. تبرعم فرانز كافكا كغصن في جذع الحياة بالرغم من اخضراره لم يزهر غير التوجع والتصوف والتراجع الرومانسي أمام مخالب الواقع القاسي والمفترس، ولهذا كان كافكا في حياته كما في رواياته شقي الطالع وفاشلا في مواجهة صعوبات الحياة، ومتعبدا في محراب تأملاته، حتى قضى آخر أيامه منبوذا في مصحة المصابين بداء السل في انتظار الموت. ومن طرائف كافكا المضحكة المؤلمة التي تروى عنه أنه بعد إصدار الناشر كتابه "التأملات" والعمل على توزيعه اتصل بالناشر مستفسرا منه عن التوزيع. أجابه الناشر متفائلا ومستبشرا: "لقد بعنا في اليوم الأول إحدى عشرة نسخة"، ولم يكن يعلم ذلك الناشر أن كافكا قد اشترى صباح ذلك اليوم 10 نسخ من الكتاب من موظف المبيعات دون علم الناشر الذي بدا متفائلا في إجابته. لقد رأى ماكس برود في حياة صديقه ورفيق دربه في بلاد التشيك وفي طبيعة شخصيات قصصه ورواياته فرصة سانحة وثمينة لتصوير حياة اليهودي المتشرد في بلاد الغرب، فاتخذ منها نموذجا دعائيا لاستعطاف المجتمع الأوروبي على اليهودي الضائع في "براغ" والذي لا يتحدث العبرية ويكتب بالألمانية مفتقرا لاستقراره وطباعه وأصله ولغته من دون الرجوع إلى أرض الميعاد وخاصة بعد صدور وعد بلفور 1917 بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. حين خالف برود وصية كافكا من هنا أغفل برود وصية صديقه كافكا بإحراق مخطوطاته العديدة، فقام بطباعتها وإتمام الناقص فيها بإضافات مغرضة من عنده، وجعل منها حملات تبشير لقصص وروايات يهودي تشيكي لا يجد هويته اليهودية ولغته العبرية. تحدوه في ذلك شهوة سياسية لإقحام أعمال كافكا الأدبية داخل دائرة التطلعات الصهيونية بتوجيهاتها العنصرية الاستعلائية على باقي المجتمعات البشرية مستمدة هذا الاستكبار والاستعلاء من تعاليم الديانة اليهودية المنافية لتعاليم الديانات السماوية بما فيها الديانة اليهودية الحقة الخالية من أي تلفيق وتزوير. ومع ذلك فإننا نطالع في كتاب "كوستاف يائوش" (أحاديث مع كافكا)، والذي ترجمه إلى العربية سعدي يوسف، نطالع فيه حوارا صريحا وغريبا من نوعه يجري بين يانوش وكافكا، لدى زيارة الأول لمنزل الثاني في "براغ"، ولعل ما يجبهنا في هذا الحوار قول كافكا مجيبا على أحد الأسئلة الموجهة إليه: "إن عددا أكثر فأكثر من اليهود الشبان يعودون إلى فلسطين، إنها عودة المرء إلى نفسه وإلى جذوره". وعلى الجهة المناقضة لما يذهب إليه كل من "يانوش" و"برود"، نرى كافكا لا يتحدث عن رغبته في العودة إلى فلسطين، أو نيته لفعل ذلك، ونراه حين يخلو بنفسه ويحادث ذاته المنفردة المنعزلة المتصوفة، يستنكر ميوله وانجذاباته الشخصية العارضة نحو التكتل الجماعي ليهود أوروبا، مؤكدا ذلك الاستنكار في يومياته، وفي مواقفه وسلوكياته من (1910 – 1922) متسائلا: "ما الذي يجمعني باليهود؟ إن من الصعب القول بوجود شيء ما يجمعني حتى مع نفسي، علي أن أقف ساكنا في زاوية وأتقبل بسرور واقع أنني أستطيع أن أتنفس". كافكا خارج السرد الصهيوني يظل القارئ العربي إزاء هذه الإشارات المتعاكسة والمتناقضة حائرا مرتابا في حقيقة عالم كافكا الغامض والمثير للتفكير، ويبقى المجال عريضا لتوالد الأسئلة حول عدم وجود دراسة شاملة ومعمقة تستكشف حياة كافكا بما فيها من غموض وقلق وصراع مع الحياة والمرض ففي رواياته المكتملة وغير المكتملة ما يعين الناقد على ذلك. ولابد لأي دراسة نقدية أن تأخذ بالاعتبارات التالية: لم يكن كافكا في حياته ورواياته منسجما مع مواطنته التشيكية وأصوله اليهودية دون أن يفرق بينهما في عدم الانسجام. بالرغم من محاولة كافكا تعلم اللغة العبرية وقيامه بزيارة فلسطين إلا أنه لم يفكر كسائر اليهود الشبان بالهجرة إلى فلسطين والإقامة الدائمة فيها. التركيز أثناء الدراسة النقدية الاستكشافية على نهايات الروايات التي عمل ماكس برود على إتمامها من عنده، فلربما وضع بعض الإشارات الصهيونية على لسان شخصية أو أكثر من شخصيات قصصه ورواياته. النية الواضحة الأهداف لدى ماكس برود في توظيف حياة صديقه كافكا المثقلة بالشقاء والقلق والاغتراب وأيضا شخصيات رواياته من أجل إسقاطها على يهود الشتات لكسب العطف الأوروبي والأميركي على يهود العالم وكسب تأييد دول الغرب والشرق لتجميعهم في فلسطين، والعمل على إقامة وطن مزعوم لهم في قلب الوطن العربي، وفقا لوعد بلفور الظالم والمشؤوم. على الرغم من إقامة فرانز كافكا بفلسطين أيام الانتداب البريطاني لمدة أسبوعين والتقائه بأشخاص صهاينة من اليهود، لم ترق له فكرة الإقامة الدائمة في هذا الوطن الموعود لليهود كما يزعمون، ولم يكن على علاقة طيبة وجيدة مع الصهاينة الذين تعرف عليهم سواء داخل فلسطين أو خارجها. وهنا سؤال يطرح نفسه وهو: كيف يمكن أن يكون كافكا في حياته وكتاباته صهيونيا كما حاول صديقه الملتزم بالصهيونية تصويره بعد مماته؟ رغم محاولة "ماكس برود" إقحام صديقه التشيكي اليهودي في دائرة تأييد الحركة الصهيونية وإضفاء صفة اليهودي المشرد عليه، والذي يعيش بلا وطن وبلا لغة عبرية يتقنها، والذي تهدف الحركة الصهيونية إلى إنقاذه من حياة شقية وقاسية ومثقلة بالهم والضياع والمرض، فإن كافكا في رسائله إلى حبيبته فيليس عبر فيها بوضوح عن انحيازه للمعاناة الإنسانية، بعيدا عن طموحات وخطط الشخصيات الصهيونية التي كان على تضاد معها ونفور منها. حتى في قصته "بنات آوى والعرب"، التي صور فيها مساعدة الرجل الأبيض الأوروبي في عودة اليهودي إلى أرض الميعاد (فلسطين)، اكتفى وبشكل رمزي بالتعبير عن تشاؤمه من تحقيق هذا الحلم المدعوم بريطانيا بوعد بلفور المشؤوم، فلم يُظهر أي تعاطف أو تأييد لهذه الفكرة الصهيونية أو الداعين لها.


الجزيرة
منذ 15 ساعات
- الجزيرة
"هدهد" غزة
هو تفصيلتنا اليومية، هو برقية الألم الساكن هناك، هو "البحر" الذي لم يفكر يوما أن يهجر المكان أو يخلع "زرقة" الصحافة أو لون السماء.. هو "هدهد"غزة. تشييع أنس هو تشييع لصوتنا، وكرامتنا، وإنسانيتنا.. أنس إلى جوار ربه فرح بما أتاه الله، لكن هذا العالم المتخاذل.. إلى أين؟؟ لا تفارقني صورته قبل أيام قليلة، عندما بكى على الهواء مباشرة، فقال له أحد المارين: "استمر، استمر يا أنس.. استمر، أنت صوتنا"؛ فتماسك وأكمل تقريره متعاليا على جراحه، ووهن جسده، وألم الخذلان العربي، ووجعه وجوعه، من أجل عيون غزة وأهل غزة. الصحفي الحقيقي يعتاش على محبة الأوطان، يعتاش على رضا الناس وثقتهم فيه، يعتاش على الآمال المعلقة فوق قامته الصلبة، يعتاش على "ربما". لماذا أوجعنا أنس الشريف إلى هذا الحد؟ لأنه أحد أبنائنا، لأنه أعاد تعريف الصحافة، وأعاد تعريف الشجاعة، وأعاد تعريف الوطن برمته.. صحفي شاب، شجاع، أنضجته الحرب قبل أوانه. عندما استشهد الصف الأول من الصحفيين، وجد نفسه فجأة كأي قائد عظيم.. كأسامة بن زيد؛ يرتدي سترتهم، ويحمل ميكرفونهم، ويملأ مكانهم.. لتبقى التغطية مستمرة. هم لم يحملوا أنس الشهيد -أنس الشريف- فوق الأكتاف، هم حملوا ميكرفوننا، حملوا صوتنا الذي لم يغب طوال عامين من القتل والدم والإبادة، حملوا ضمائرنا . تشييع أنس هو تشييع لصوتنا، وكرامتنا، وإنسانيتنا.. أنس إلى جوار ربه فرح بما أتاه الله، لكن هذا العالم المتخاذل.. إلى أين؟؟ أنس أب جميل، له أولاد مثلنا.. كان يشتهي أن يحضنهم، أن يتناول معهم وجبة واحدة دون الخوف من الموت، أن يؤرجحهم في حديقة قريبة، أن يدللهم قبل النوم.. هل فكرنا بكل هذا؟ هل فكرنا كم تحتاج زوجة أنس العظيمة كي تعرِّف الموت لأطفالها، وكي تقول لهم باختصار: الموت هو غياب الاتصال بين نشرتين إخباريتين. أنس، هدهد غزة الذي كان يأتينا بالخبر اليقين.. أنس الذي لم يغب يوما، ولم ينسحب يوما، ولم يفضل نفسه على رسالته يوما، أنس كان دوما يأتينا بسلطان مبين. نم قرير العين يا أنس، يا "هدهد" غزة، وردد ما بدأت به: "الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم"..


الجزيرة
منذ 15 ساعات
- الجزيرة
"لكلامه أشد عليهم من وقع النبل"
بعد 22 شهرًا من العدوان الغاشم والظلم الدائم على غزة وأهلها من قِبل المحتل الغاصب، وبعد تغطية مستمرة طول تلك المدة، ها قد انقطع الصوت المبحوح، وفقدت الشاشة إطلالة الشاب صبيح الوجه، والذي قد علته المتاعب ورؤية الأهوال. يصبح سكان العالم صبيحة 11/ 08/ 2025 على خبر أنس الشريف وصاحبه المراسل محمد قريقع، وزملائهما الصحفيين والمصورين إبراهيم ظاهر ومحمد نوفل ومؤمن عليوة، لكنه خبر لا ينقله أنس كما جرت العادة؛ فقد ترجل فارس الشاشة الذي تعود متابع أخبار غزة أن يراه منتصبا وبيديه لاقط قناة الجزيرة، ناقلًا ببحة صوته المستجدات على الساحة. هيهات هيهات أن يُفتّ في عضدهم؛ فحالهم كحال جند فتح بلاد الفرس، إذ قال قائدهم خالد بن الوليد (رضي الله عنه): "وإلا فوالله الذي لا إله إلا هو لألقاكم بقوم يحبون الموت كحبكم الحياة"! وعزاؤنا الذي نتعزى به لفقد خيرة شباب الأمة أن الله قد اختصهم بالشهادة، وقد قال الله في حق الشهداء: ﴿وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ* سَيَهۡدِيهِمۡ وَيُصۡلِحُ بَالَهُمۡ* وَيُدۡخِلُهُمُ ٱلۡجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمۡ*﴾ [محمد: 4-6] ، ولعل أولئك الشباب ممن يستحقون أن يُمدحوا بما مدح أبو الحسن الأنباري ممدوحه به إذ قال: علـوٌّ في الحياة وفي الممـات لحـقًا أنت إحـدى المعـجزات أسأت إلى النوائب فاستثارت فأنت قتـيـل ثــأر الـنـائبـــات عليـك تحيــة الرحـمـن تترى برحمــات غــوادٍ رائـحــات كيف لا وهم صوت الحق، الذي كان ينقل للعالم وقائع جرائم المحتل الغاصب، ويجلي عدوانه وبوائقه؟ فقد جاهدوا بالكلمة، وحاولوا جهدهم إيصال الصوت. وهل المجاهد باللسان إلا قرين المجاهد بالسِنان؟ حيث ورد في الحديث خطاب النبي ﷺ لحسان (رضي الله عنه): "اهجهم- أو قال: هاجِهم- وجبريل معك" [البخاري: 4133/ مسلم: 2486]؛ فجزى الله خيرا كل من اقتحم الميدان بسنانه أو بلسانه. أما العدو الغاصب، فلعله ظن أن إسكات أنس وزملائه سيخمد نارا تلظت في قلوب العالمين حنقا وغلّا عليه، أو أن تفاصيل جرائمه وعدوانه لن تصل إلى العالم.. فإنا نبشره بأن ظنه خائب ورهانه خاسر. لقد ظن وراهن على أن قتل القادة سيطفئ جذوة المقاومة، فقتل أبو إبراهيم السنوار وأبو خالد الضيف وأبو العبد هنية وغيرهم، فما كان من جذوة المقاومة إلا أن ازدادت اشتعالًا، وزادت نارها إحراقًا، فهم كما قيل: "كلما مات سيد فيهم قام سيد". وظن وراهن على أن تكثيف الاعتداء على المدنيين وتجويعهم سيَفُتّ من عضد المجاهدين والمقاومين، فاستمر التمسك الشعبي بخيار المقاومة وإذلال العدو. وظن وراهن على أن مناوراته الدولية ستُضعف تفاعل وتعاضد شعوب العالم مع قضية غزة، فاشتعلت عليه وعلى شعبه نيران الكراهية من أحرار شعوب العالم. ولعله بجريمته المنكرة يسعى لإخماد صوت التغطية ليبدأ هجوما شرسا قد هدد به.. ونبشره بأن طليعة الأمة بغزة، والأمة خلفهم، موقنون بقول النبي ﷺ: "ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك" [الترمذي: 2516]، وهيهات هيهات أن يُفتّ في عضدهم؛ فحالهم كحال جند فتح بلاد الفرس، إذ قال قائدهم خالد بن الوليد (رضي الله عنه): "وإلا فوالله الذي لا إله إلا هو لألقاكم بقوم يحبون الموت كحبكم الحياة"! وهم كمن وصفهم فيلسوف الإسلام محمد إقبال: نحــن الــذين إذا دعــوا لصــلاتهــم والحرب تسقي الأرض جاما أحمرا جعلوا الوجـوه إلى الحـجاز فكبـروا في مســمع الــروح الأميــن فكـبـرا على من بيده قرار أن لا يتنازل عن شيء لصالح العدو الغاصب؛ فهو العدو الذي لم يراعِ حرمة، ولم يدخر جهدا في محاربة كل الحقوق المشروعة، ومنها حق الإعلام ونقل الصورة؛ فهذه ليست المرة الأولى التي يستهدف فيها وسائل الإعلام والصحفيين فوالله الذي لا إله غيره، ومن لا يُحلف بسواه، إن المحتل الغاصب لمخذول، ومن الأرض ذليلًا مطرود، طال الزمان أم قصر، فهو وعد الله المحقق وسنته الماضية. وإلى حين تحقق ذلك، فعلى كل منا أن يأخذ موضعه، ويدفع الصائل المعتدي قدر استطاعته، ولا يبرح ثغره. ونحن مستحضرون دائما قول الله عز وجل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ﴾ [محمد: 7]، ومن وجوه النصرة المستمرة: المقاطعة للمنتجات الداعمة للمحتل الغاصب. الكتابة والنشر عبر القنوات المتاحة. إظهار الغضب والامتعاض لما يحدث. تعليم الأبناء وتربيتهم على عزة النفس وعدم التسليم للظلم. إقامة الدعاوى لمن يستطيع ضد مجرمي الإبادة. التواصل مع أهل غزة من خلال وسائل التواصل ومواساتهم، والتأسي بهم. تقديم الدعم المادي بالوسائل المتاحة. الاستمرار في الدعاء وجعله وِردا ثابتا بتضرع وافتقار إلى الله تعالى. ولئن رحل أنس وزملاؤه فغزة ما زالت ولّادة، وما زال طلاب الحق والثأر كثر، وما زال المشتاقون للشهادة أكثر.. فلن تنقطع الكلمة، ولن يقف الخبر، فذلك مما يغيظ المحتل الغاصب ويزيده نكالا وعلى من بيده قرار أن لا يتنازل عن شيء لصالح العدو الغاصب؛ فهو العدو الذي لم يراعِ حرمة، ولم يدخر جهدا في محاربة كل الحقوق المشروعة، ومنها حق الإعلام ونقل الصورة؛ فهذه ليست المرة الأولى التي يستهدف فيها وسائل الإعلام والصحفيين، وليست المنطقة الوحيدة، فقد استهدفهم في القدس وفي مناطق الاشتباك شمالي فلسطين وغيرها. وإن لشبكات الإعلام التي قتل العدو موظفيها حق مقاضاته والاقتصاص منه حسب المتاح من السبل، والمقاومة حق مشروع ما دام الاحتلال قائما، فالمقاومة بالسلاح والمقاومة بالسياسة والمقاومة بالإعلام والمقاومة بالكلمة.. كلها حق لا نزاع فيه. ولئن رحل أنس وزملاؤه فغزة ما زالت ولّادة، وما زال طلاب الحق والثأر كثر، وما زال المشتاقون للشهادة أكثر.. فلن تنقطع الكلمة، ولن يقف الخبر، فذلك مما يغيظ المحتل الغاصب ويزيده نكالا، فقد ورد أن النبي ﷺ قال لعمر (رضي الله عنه) يوم دخول مكة لعمرة القضاء، وبعد إنكاره على عبدالله بن رواحة (رضي الله عنه) ما كان يُنشد: "خَلِّ عنه؛ فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من وقع النبل" [النسائي: 2893/ الترمذي: 2847].