
صنع الله إبراهيم .. راقب تحولات العالم من النقطة ذاتها
شخص عصامي فولاذي الإرادة، شديد الاعتداد بالنفس. أما شَعره الخشن، فيحيله على إرث إفريقي قديم، وربما ورثه حقاً عن أمه كما قالت له أخته "نبيلة" يوماً ما.
يميّزه ذلك الشارب، وعلى الأرجح احتفظ به كذكرى من والده خليل أفندي أو "خليل بيه" كما يناديه الآخرون، وكان الأب يعتني به ويبرمه لأعلى على طريقة الملك فؤاد. فالشارب ذكرى طفولة شبه سعيدة، وكناية عن العصر الملكي، حيث كان جزءاً من الوسامة والرجولة آنذاك.
هذا هو وجه صنع الله إبراهيم (1937 ـ 2025) الذي غادرنا عن ثمانية وثمانين عاماً.
أب وأم وزوجة
ثمّة تقاطعات كثيرة بين سيرة صنع الله ونجيب محفوظ، ليس فقط علوّ المكانة الروائية، والإخلاص المذهل لمشروعهما الإبداعي، بل يشتركان في كونهما الطفل الأصغر لأب كبير السن نسبياً.
روى محفوظ سيرته بإسهاب ودقة داخل وخارج أدبه، بينما مال صنع الله إلى الكتمان والتحفظ. عاش الأوّل طفولة هادئة مستقرّة في رعاية أمه، ومن خلالها تعرّف على أبجدية الحياة، وظلت سنداً له حتى بعدما تجاوز الأربعين من دون زواج.
أما الثاني، فلا يبدو أنه عاش طفولة مستقرّة، لأنه كان الطفل الرابع لموظف في الخامسة والخمسين، أنجبه من زوجة ممرضة تصغره بأكثر من ثلاثين عاماً تدعى "روحية"، ارتبط بها سراً بعد مرض زوجته الأولى، التي أنجب منها ابنتين، ماتت الصغرى في صباها، بينما عاشت الكبرى "نبيلة"، إضافة إلى أخ أكبر غير شقيق.
من الواضح أن فارق العمر بين صنع الله وأخوته لا يقلّ عن ربع قرن، إضافة إلى رفض زواج الأب وكراهية زوجته الشابة.
ملكوت الكتابة
بفضل الأم، دخل محفوظ ملكوت الكتابة والخيال، بينما حدث العكس مع صنع الله، لأن الأب الذي كان يقترب من الستين، أراد تعويضه تحسباً لرحيله، إضافة إلى أنه لم يعش في شبابه مشاعر الأبوة مع أولاده الكبار بسبب انشغاله، لذلك تفرّغ تماماً لأصغر أبنائه، ونشأت بينهما صداقة، حيث يصحبه إلى الشوارع والمحال والأصدقاء، ويوفر له الكتب والمجلات ويسمع مسامراته ونكاته وسجالاته السياسيه مع الرفاق.
وثّق صداقته الغريبة لأبيه في روايته القصيرة "التلصص"، بينما مرّت الأم الشابة روحية مرور الكرام. كان ثمّة حاجز نفسي بينهما، فأتى ذكرها في مشاهد مبتورة لا تكتمل، آخرها مشهد زيارتها في المستشفى، بما يُفهم منه أنها ماتت شابة. بدت الأم مثل جرح نرجسي أو عقدة أدويبية مفجرة للإبداع رغم أنها شبه غائبة، بينما الأب هو الحاضر دائماً.
ومثلما تزوج محفوظ كبيراً، وأنجب ابنتين، واختار سيدة بعيدة عن الوسط الثقافي هي "عطيات الله"، تزوّج صنع الله السيدة "ليلى"، وكلا الزوجتين كانتا بمثابة الحارس الأمين للمشروع السردي وصاحبه.
كثيراً ما تُعقد المقارنات بين والد محفوظ و"السيد أحمد عبد الجواد" بطل "الثلاثية"، ذلك الصارم المهيب بين أفراد أسرته المتماسكة، وفي الوقت نفسه هو رجل يحب اللهو والنساء.
أما والد صنع الله، فهو مؤسس أسرة لا تبدو متماسكة، يشترك مع "سي السيد" في حب النساء، وهو ما أشار إليه مراراً في "التلصص" التي صدّرها بقوله: "دراما صغيرة لصبي في التاسعة من عمره، وأب في الخامسة والستين، محورها السعي وراء دفء المرأة".
مسقط الرأس
تملك القاهرة ـ بمعناها الواسع ـ إرثاً ممتداً لآلاف السنين، يشد على دول وعصور وحروب وأديان، بوصفها واحدة من أكبر وأقدم المتاحف الإنسانية المفتوحة، لذلك يصعب أن يتكوّن "روائي" مصري ما لم يمرّ بالقاهرة وتمرّ فيه القاهرة.
صنع الله إبراهيم ـ مثل سلفه محفوظ ـ هو قاهري بالولادة والنشأة. وللمفارقة عاش كلاهما طفولته في حيّين متجاورين، فمحفوظ قضى طفولته ومراهقته في حيّ العباسية، وصنع الله ولد وعاش صباه في حي مصر الجديدة، الأكثر حداثة بطرازه الأوروبي.
تجاورا مكانياً، لكن محفوظ تفتّح وعيه في الثامنة من عمره على مظاهرات وهتافات ثورة 1919 وقيمها الليبرالية، وعاش حياته مخلصاً لها وكاتباً يستدعي أحلامها وآمالها.
أما صنع الله، فتشكل وعيه القاهري في لحظة مغايرة، على وقع نكبة فلسطين، واليأس من الوفد والملك معاً، فانغمس في توثيق الهزيمة.
كانت القاهرة محور الارتكاز في مشروعهما السردي، وجسداً نادراً ما غادرها الاثنان وكأنها بداية العالم ومنتهاه. لكن من يفحص سيكتشف أن كليهما كتب "قاهرته" التي تخصّه، ولعل الرابط الأساسي بينهما تلك الريبة في ثورة يوليو ومآلاتها. مع الفارق بين ريبة الليبرالي الوفدي، وريبة الثوري المتمرد المنتمي إلى تنظيم "حدتو".
بسبب هذا الانتماء وبفضله، دافع صنع الله عن الثورة ـ حلمه المجهض ـ في أماكنها كلها، فاستدعاها وسافر بجسده وخياله إلى "برلين 69"، حيث عمل نحو ثلاث سنوات هناك في وكالة الأنباء الألمانية، كما كتب "بيروت بيروت"، واستحضر سلطنة عمان في روايته "وردة". واتخذ من الكتابة أداة للمقاومة، وفضاء للخلاص الروحي.
الثمن مدفوع
نحن نتاج ما عشناه في طفولتنا، فصنع الله ازداد جموحاً حتى قبل التحاقه بالجامعة، وانتمى إلى تنظيم سري، لدرجة أنه هدّد والده بالقتل لو أصرّ على منعه.
جرّب حيل الساسة والعمل السرّي، وتكرّر القبض عليه إلى أن قضى في المعتقل نحو 5 سنوات بين عامي 1959 و1964 ووثّق تلك المرحلة التعيسة بشجاعة في "يوميات الواحات"، الذي يعتبر الجزء المكمل لمرحلة الشباب والاعتقال بعد طفولته في "التلصص"، كما استحضر السجن والمراقبة واقعياً ورمزياً في روايات كثيرة، أشهرها "اللجنة" و"شرف".
استفاد من عمله في الصحافة ودراسته للتصوير السينمائي في موسكو، في سمتين أساستين في إبداعه، هما التوثيق الصحفي وسرد عين الكاميرا المحايدة. تناول مرحلة اعتقاله في شهادة مؤلمة للتاريخ، بعدما تقوّضت كل أحلامه السياسية، وابتعد عن رفاق الأمس، ومن بعدها كرّس ستين عاماً للإبداع.
وبينما لجأ كثيرون من قادة اليسار إلى التحالف مع مشروع عبد الناصر، ونيل الرضا والمناصب، اكتفى بأن يراقب من بعيد، ويوثّق كل ما يرى ويسمع.
دفع ثمن تمرّده، وعاش مستقلاً بعيداً عن جنة المؤسسة. حياة متقفشة من عائد دخله ككاتب، وفي شقة بسيطة في مصر الجديدة، أي أنه انتهى من حيث بدأ، باستثناء سنوات المعتقل وأخرى قضاها في الدقي، وأخرى بين برلين وموسكو.
حافظ صاحب "العمامة والقبعة" على البقاء في مسقط رأسه، يتأمل تحوّلات العالم من النقطة ذاتها، وبينما فضّل محفوظ أن تكون المسافة من السلطة حيادية أقرب إلى السلام البارد، وهو ما ضمن له منصب وكيل وزارة الثقافة، ونيل الجوائز، التزم صنع الله في مواقفه بموقع المعارض، بما في ذلك موقفه الشهير حين رفض جائزة ملتقى الرواية العربية.
ظل صاحب "أمريكانلي" حتى لحظاته الأخيرة ذلك الغاضب، ووظّف روح الشاب الثوري في التوثيق إبداعياً لعصره، من دون إدعاء أو تكسّب، كي يفضح كل ما تواطأ الجميع على إخفائه وكنسه تحت السجادة.
وهذا فارق مهم عن محفوظ ،الذي كان مهادناً ومُصلحاً لا ثورياً، ومشغولاً بالمعنى الخفي وراء الحكاية وفلسفة الأشياء، وليس التوثيق.
من ثم أرّخ كلاهما للقاهرة بمزاج مختلف، إذ جدّد محفوظ في البلاغة الكلاسيكية، لكنه ظل حذراً في التمرّد عليها. أما صنع الله، فاحتفى بالبلاغة السردية الحديثة، لجهة جرأة البناء، وتعدّد الأصوات والمونولوجات الداخلية، ومزج الفصحى والعامّية، والتوثيق الصحفي ومشهدية عين الكاميرا، والتعبيرات المباشرة الحادّة والمتقشفة والسوقية أحياناً.
لا يعني ذلك أن محفوظ الذي رحل وهو يقارب المائة، أقلّ تجديداً أو أقلّ زهداً من صنع الله، الذي غادر وهو يقارب التعسين، وإنما يعني فقط أن الأخير شقّ طريقاً لنفسه ومشاه وحيداً، غير مكترث برضا السلطة ولا العطايا ولا الجوائز ولا حتى الشهرة.
حمل صنع الله اسماً متفرداً اختاره الأب العجوز عشوائياً، لأن إصبعه توقّف عنده بعدما فتح كتاب الله، وعاش حياته فريداً في نزاهته مبدعاً وإنساناً. وكما بدأ الرحلة طفلاً وحيداً في شقة بسيطة في مصر الجديدة في عصر الملك فاروق، ختمها وحيداً في البقعة ذاتها.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


عكاظ
منذ 2 ساعات
- عكاظ
رسالة كريم محمود عبد العزيز لزوجته تُنهي شائعات الانفصال
كسر الفنان المصري كريم محمود عبدالعزيز صمته، وردّ لأول مرة على الشائعات التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي أخيراً، حول انفصاله عن زوجته آن الرفاعي، وارتباطه بالفنانة دينا الشربيني. ونشر كريم عبر حسابه على «إنستغرام» صورة تجمعه بزوجته، مرفقاً إياها بكلمة مقتضبة: «بحبك»، ليغلق باب الجدل نهائياً ويؤكد استمرار علاقتهما، وسط تفاعل واسع ودعوات من جمهورهما بحياة سعيدة. وكانت التكهنات قد تصاعدت بعد فترة صمت من الطرفين، قبل أن يحسم النجم المصري الأمر بنفسه. ويستعد كريم حالياً لتصوير فيلمه الجديد «طلقني»، الذي يجمعه مجدداً بدينا الشربيني، بعد نجاحهما معاً في فيلم «الهنا اللي أنا فيه» العام الماضي، بمشاركة نخبة من النجوم، ومن إخراج خالد مرعي، وتأليف أيمن بهجت قمر. أخبار ذات صلة


عكاظ
منذ 2 ساعات
- عكاظ
الإعلان عن أعضاء لجنة تحكيم الموسم الجديد المرتقب من «The Voice»
كُشف عن أسماء لجنتي تحكيم الموسمين الجديدين من برنامجي اكتشاف المواهب الغنائية « The Voice » و« The Voice Kids »، بعد توقف لعدة سنوات، على أن يبدأ تصويرهما قريباً. وتضم لجنة تحكيم « The Voice » كلاً من الفنان اللبناني ناصيف زيتون، والفنانة العراقية رحمة رياض، والفنان المصري أحمد سعد. أما لجنة تحكيم « The Voice Kids » فتضم الفنان المصري رامي صبري، والفنانة السعودية داليا مبارك، والمغني السوري عبدالرحيم فواز الملقب بـ«الشامي». ومن المقرر عرض مرحلة «الصوت وبس» في أكتوبر القادم، مع انطلاق تصوير البرنامج لأول مرة في الأردن، فيما تواصل المواسم الجديدة الحفاظ على إرث البرنامج الذي شهد في نسخه السابقة مشاركة نخبة من نجوم الغناء العرب مثل كاظم الساهر، أحلام، راغب علامة، تامر حسني، وشيرين عبدالوهاب. أخبار ذات صلة


العربية
منذ 6 ساعات
- العربية
محمود سعد يوضح حالة أنغام.. "تتحسن لكن لسه الألم شديد"
أفاد الإعلامي المصري محمود سعد، الجمعة، بتطورات الحالة الصحية لمواطنته النجمة أنغام، مبيناً أنه في حالة تحسن لكنها لا زالت تعاني من ألم شديد. ثقافة وفن أنغام تخضع لجراحة دقيقة لاستئصال جزء من البنكرياس وكتب عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، "الحمدلله أنغام بتتحسن"، مشيرا إلى أن تحسن تحاليها التي خضعت لها يوم الخميس. وكتب سعد "أرقام تحاليلها في تحسن لكن لسه لم تصل إلى المرحلة التي تسمح بخروجها من المستشفى. ولسه الألم الشديد". وأكد محمود سعد، الذي يتواصل يومياً مع عمر عارف، -الابن الأكبر لأنغام-، أن العملية التي خضعت لها الفنانة لم تكن سهلة، لكنها تجاوزت بفضل الله المرحلة الصعبة. وطلب الإعلامي المصري من متابعيه تكثيف الدعاء للمطربة أنغام، حتى تغادر المستشفى سريعا، وتعود من جديد إلى عائلتها ومحبيها في مصر. كما أكد سعد تلقيه عدداً كبيراً من الرسائل عبر الصفحة من جمهور الفنانة المصرية، الذين يرغبون في الاطمئنان عليها، مشيراً إلى أن محبة الجمهور وصلت إلى أنغام، وهو ما يحدث فرقاً كبيراً لديها. تجدر الإشارة إلى أن الفنانة المصرية خضعت قبل حوالي أسبوعين لعملية منظار جراحي لاستئصال كيس من البنكرياس، تبعتها فحوص طبية دقيقة كشفت عن ضرورة تدخل جراحي آخر لاستئصال ما تبقى من الكيس وجزء من البنكرياس، وهو ما تم خلال الأيام الماضية.