logo
مشايخ وأفندية

مشايخ وأفندية

القدس العربي منذ 3 أيام
يقول الشيخ علي الطنطاوي في ذكرياته: «كان في مصر أيام سفري إليها مشايخ وأفندية، أزهر وجامعة، محاكم شرعية ومحاكم مدنية، يختلفان في الزي وفي التفكير وفي تقويم (لا تقييم) الحياة، يمشيان كالخطين المتوازيين، يتجاوران ولا يتلاقيان، يتكلمان بلسانين ويفكران بعقلين، فلا يكاد الشاب يفهم ما يقوله الشيخ، ولا يرتضي تفكيره، ولا كان الشيخ يعرف الطريق إلى إفهام الشاب وإثارة اهتمامه بما يفكر هو فيه.
وكانت هذه هي العلة الكبرى، وقد ظهر أفراد جمعوا طرفي الخيط ولكنهم كانوا قلائل، حاولوا أن يقربوا العلوم الجديدة، أو الفكر المعاصر من الإسلام، ومنهم من صنع ذلك باعتدال كالشيخ محمد عبده في مصر، وصاحبه السيد رشيد رضا، ومنهم من أوغل فيه حتى جانب الحق، وأفراد بلغوا الغاية في تحصيل العلوم (الجديدة) والأستاذية فيها، وكانوا على إلمام تام، أو اطلاع كاف على العلوم الإسلامية، من أظهرهم محمد أحمد الغمراوي في مصر، وأحمد حمدي الخياط في دمشق، وكلاهما من أساتذة الجامعات».
ما تحدث عنه الشيخ الطنطاوي عن الانفصال بين المشايخ والأفندية كان معضلة عثمانية، أشار لها المفكر ألبير أورتايلي: «كانت الإدارة والتربية تتغربان في تركيا بصورة لا مفر منها. ومع انعكاس التحديث على التربية، بقيت أوساط المدارس الدينية وطبقة العلماء خارج هذه العملية، وبدأت بفقدان دورها القديم المسيطر في حياة الدولة والمجتمع. وكان هذا هو الفرق المهم بين التحديث الإيراني والتحديث العثماني، فقد استطاع رجال الدين في إيران، الذين يمكن لنا أن نشبههم بطبقة الرهبان، المحافظة على مواقعهم بتلقيهم التعليم الحديث»، وهذا يشكل مفتاحاً لفهم كثير من الأمور التي جرت في بلاد الشام، خلال القرن العشرين وما زالت مفاعيلها مستمرة حتى اليوم. كانت عملية «التحديث» في الدولة العثمانية تغريبية بحتة، وتمت على طريقة «مفتاح في اليد»، حيث تتولى الشركة المتعهدة إنشاء المصنع من البناء إلى التجهيز، ثم تسلم مفتاح المصنع ليد الحكومة المعنية، وهذه الطريقة لا تؤدي إلى تراكم أي خبرة فنية في البلد الذي أُنشئ فيه المصنع، بل يظهر وكأنه زرع زرعاً في أرض غريبة. أما المجتمع التقليدي، فقد بقي على حاله دون أن يتأثر بالحداثة، ومن هذه اللحظة بدأ ينشأ داخل الدولة العثمانية مجتمعان متوازيان.
كان المجتمع التقليدي ينتج نخبه (رجال دين وفقه ولغة) بواسطة التعليم في الكتاتيب والمدارس الملحقة بالمساجد، أو عبر التعليم العائلي، أو بواسطة المؤسسات الأرقى مثل الأزهر، دون إدخال العلوم الحديثة مثل الفيزياء والكيمياء والرياضيات، لكن بعد منتصف القرن التاسع عشر دخلت المدارس التبشيرية (الأمريكية في البداية، ثم لحقتها باقي الطوائف) إلى عملية التعليم العثمانية، فأنشأت مدارس ومعاهد حديثة على الطريقة الغربية، في البداية بيد غربية، كما في الإرسالية الأمريكية، التي افتتحت عدداً كبيراً من المدارس في بلاد الشام بشكل خاص، وكذلك الطوائف الكاثوليكية، أو بيد أبناء البلد بعد أن انخرطت الطائفة الأرثوذكسية بالعملية التعليمية، خشية على رعيتها من التبشير البروتستانتي. وهذا أدى إلى نظامين لتخريج النخب في الدولة العثمانية، النظام التقليدي الذي يعتمد على دراسة الفقه واللغة وعلومها وآدابها في الكتاتيب، أو في الحلقات الملحقة بالمساجد، أو داخل العائلة، ثم في المدرسة الرسمية التركية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وهذا النظام التعليمي يُخّرج مثقفاً تقليدياً، بمرجعية عربية إسلامية.
أما النوع الثاني فهو النظام «الحديث»، الذي يماثل المدرسة الأوروبية في مناهجه العلمية من الرياضيات والعلوم الطبيعية والفيزياء، وتعليم اللغات الأوروبية، خاصة الفرنسية والإنكليزية، ويقدم للطلاب رؤية استشراقية للكون إما بشكل مباشر، أو موارب، رؤية تقوم على احتقار الإسلام، واعتباره مصدر التخلف، واعتبار الإسلام عاصفة هوجاء هبت من جزيرة العرب وأدت إلى إطفاء نار الحضارة في كل من بلاد الشام والرافدين. كما تركز مناهج التاريخ على الحضارات السابقة للإسلام محاولة تحويلها إلى هوية حضارية، ففي لبنان هناك الفينيقية وفي مصر الفرعونية، إلخ.
أدت هذه العملية إلى نشوء نوعين من المثقفين في الدولة العثمانية هما: المثقف التقليدي المتعلم بالطريقة التقليدية، ويختص باللغة والدين والفقه (الشيخ)، ومرجعيته الحضارية عربية ـ إسلامية، والمثقف «الحديث» (الأفندي) الذي تعلم في المدارس الحديثة التابعة للإرساليات التبشيرية، ويختص بالعلوم الحديثة كالطب والهندسة والحقوق، وهو على اطلاع على الثقافة الغربية واللغات الأجنبية، ومرجعيته الحضارية غربية. وبالتالي نشأ شرخ في المجتمع العثماني، وتكونت منذ اللحظة الأولى لهذا الانقسام بوادر انشقاق خطيرة بين مجتمع تقليدي مرجعيته الحضارية عربية ـ إسلامية، ومجتمع «حديث» مرجعيته الحضارية غربية. وكان هذا الانقسام يحمل خطورة مرفوعة إلى أس كبير في بلاد الشام، بسبب التنوع الديني والطائفي، فقد تراكب فوق الشرخ الثقافي ـ الحضاري، بين مثقف تقليدي ومثقف «حديث»، بين مجتمع تقليدي ومجتمع «حديث».
تراكبت خطوط الانقسام الديني والطائفي، ومن ثم تحولت خطوط الانقسام الثقافية إلى خطوط انقسام طائفية، لأن «الحداثة» في بلاد الشام دخلت عبر مدارس الإرساليات التبشيرية والدينية، التي حددت كل منها الفئة المستهدفة لها، فالمدارس الأرثوذكسية اختصت بالأرثوذكس، والكاثوليكية بالكاثوليك، أما البروتستانتية الأمريكية فاتجهت نحو التبشير في أوساط الطوائف الإسلامية غير السنية (العلويين، الدروز)، وفي أوساط الطوائف المسيحية الأخرى (الأرثوذكس، الكاثوليك)، لعدم وجود طائفة بروتستانتية أصلاً. وبالتالي فإن الحداثة الغربية اختصت في البداية بالمسيحيين، ثم بأبناء الأٌقليات الإسلامية. وترافق ذلك مع ما سمي بالمسألة الشرقية وحماية الأقليات، حيث بسطت كل دولة غربية حمايتها على أقلية دينية أو طائفية كما هو معروف. أما المسلمون السنة الذين يشكلون أغلبية السكان فقد استمروا بتلقي التعليم بطريقة تقليدية في الكتاتيب، أو في المدارس الملحقة بالمساجد، ثم لاحقاً في المدارس الرسمية العثمانية، فبقيت مرجعيتهم الحضارية عربية ـ إسلامية، وبقوا سياسياً مواطنين عثمانيين قبل أن تلتحق نخبهم بالمدارس التبشيرية أيضاً، ونادراً ما كنت تجد طالباً مسيحياً خارج مدرسة طائفته، ويذكر يوسف الحكيم في مذكراته أن والده أصر على إلحاقه وأخيه بالمدرسة الرسمية العثمانية، لضمان مستقبلهم في الوظيفة الحكومية، لكن ذلك كان موضع استغراب القائمين على الطائفة الأرثوذكسية في اللاذقية، وجرت محاولات كثيرة لتغيير موقف الأب وإقناعه بوجوب التحاق أبنائه بمدرسة الطائفة!
أما ما يتحدث عنه الشيخ الطنطاوي عن الالتقاء بين المشايخ والأفندية، فقد تم بواسطة أفراد محدودين وبجهود فردية، وحتى اليوم لم يتحول إلى مؤسسة قادرة على إنتاج نخب بأعداد كبيرة تمزج بين التراث والحضارة المعاصرة.
كاتب سوري
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

مشايخ وأفندية
مشايخ وأفندية

القدس العربي

timeمنذ 3 أيام

  • القدس العربي

مشايخ وأفندية

يقول الشيخ علي الطنطاوي في ذكرياته: «كان في مصر أيام سفري إليها مشايخ وأفندية، أزهر وجامعة، محاكم شرعية ومحاكم مدنية، يختلفان في الزي وفي التفكير وفي تقويم (لا تقييم) الحياة، يمشيان كالخطين المتوازيين، يتجاوران ولا يتلاقيان، يتكلمان بلسانين ويفكران بعقلين، فلا يكاد الشاب يفهم ما يقوله الشيخ، ولا يرتضي تفكيره، ولا كان الشيخ يعرف الطريق إلى إفهام الشاب وإثارة اهتمامه بما يفكر هو فيه. وكانت هذه هي العلة الكبرى، وقد ظهر أفراد جمعوا طرفي الخيط ولكنهم كانوا قلائل، حاولوا أن يقربوا العلوم الجديدة، أو الفكر المعاصر من الإسلام، ومنهم من صنع ذلك باعتدال كالشيخ محمد عبده في مصر، وصاحبه السيد رشيد رضا، ومنهم من أوغل فيه حتى جانب الحق، وأفراد بلغوا الغاية في تحصيل العلوم (الجديدة) والأستاذية فيها، وكانوا على إلمام تام، أو اطلاع كاف على العلوم الإسلامية، من أظهرهم محمد أحمد الغمراوي في مصر، وأحمد حمدي الخياط في دمشق، وكلاهما من أساتذة الجامعات». ما تحدث عنه الشيخ الطنطاوي عن الانفصال بين المشايخ والأفندية كان معضلة عثمانية، أشار لها المفكر ألبير أورتايلي: «كانت الإدارة والتربية تتغربان في تركيا بصورة لا مفر منها. ومع انعكاس التحديث على التربية، بقيت أوساط المدارس الدينية وطبقة العلماء خارج هذه العملية، وبدأت بفقدان دورها القديم المسيطر في حياة الدولة والمجتمع. وكان هذا هو الفرق المهم بين التحديث الإيراني والتحديث العثماني، فقد استطاع رجال الدين في إيران، الذين يمكن لنا أن نشبههم بطبقة الرهبان، المحافظة على مواقعهم بتلقيهم التعليم الحديث»، وهذا يشكل مفتاحاً لفهم كثير من الأمور التي جرت في بلاد الشام، خلال القرن العشرين وما زالت مفاعيلها مستمرة حتى اليوم. كانت عملية «التحديث» في الدولة العثمانية تغريبية بحتة، وتمت على طريقة «مفتاح في اليد»، حيث تتولى الشركة المتعهدة إنشاء المصنع من البناء إلى التجهيز، ثم تسلم مفتاح المصنع ليد الحكومة المعنية، وهذه الطريقة لا تؤدي إلى تراكم أي خبرة فنية في البلد الذي أُنشئ فيه المصنع، بل يظهر وكأنه زرع زرعاً في أرض غريبة. أما المجتمع التقليدي، فقد بقي على حاله دون أن يتأثر بالحداثة، ومن هذه اللحظة بدأ ينشأ داخل الدولة العثمانية مجتمعان متوازيان. كان المجتمع التقليدي ينتج نخبه (رجال دين وفقه ولغة) بواسطة التعليم في الكتاتيب والمدارس الملحقة بالمساجد، أو عبر التعليم العائلي، أو بواسطة المؤسسات الأرقى مثل الأزهر، دون إدخال العلوم الحديثة مثل الفيزياء والكيمياء والرياضيات، لكن بعد منتصف القرن التاسع عشر دخلت المدارس التبشيرية (الأمريكية في البداية، ثم لحقتها باقي الطوائف) إلى عملية التعليم العثمانية، فأنشأت مدارس ومعاهد حديثة على الطريقة الغربية، في البداية بيد غربية، كما في الإرسالية الأمريكية، التي افتتحت عدداً كبيراً من المدارس في بلاد الشام بشكل خاص، وكذلك الطوائف الكاثوليكية، أو بيد أبناء البلد بعد أن انخرطت الطائفة الأرثوذكسية بالعملية التعليمية، خشية على رعيتها من التبشير البروتستانتي. وهذا أدى إلى نظامين لتخريج النخب في الدولة العثمانية، النظام التقليدي الذي يعتمد على دراسة الفقه واللغة وعلومها وآدابها في الكتاتيب، أو في الحلقات الملحقة بالمساجد، أو داخل العائلة، ثم في المدرسة الرسمية التركية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وهذا النظام التعليمي يُخّرج مثقفاً تقليدياً، بمرجعية عربية إسلامية. أما النوع الثاني فهو النظام «الحديث»، الذي يماثل المدرسة الأوروبية في مناهجه العلمية من الرياضيات والعلوم الطبيعية والفيزياء، وتعليم اللغات الأوروبية، خاصة الفرنسية والإنكليزية، ويقدم للطلاب رؤية استشراقية للكون إما بشكل مباشر، أو موارب، رؤية تقوم على احتقار الإسلام، واعتباره مصدر التخلف، واعتبار الإسلام عاصفة هوجاء هبت من جزيرة العرب وأدت إلى إطفاء نار الحضارة في كل من بلاد الشام والرافدين. كما تركز مناهج التاريخ على الحضارات السابقة للإسلام محاولة تحويلها إلى هوية حضارية، ففي لبنان هناك الفينيقية وفي مصر الفرعونية، إلخ. أدت هذه العملية إلى نشوء نوعين من المثقفين في الدولة العثمانية هما: المثقف التقليدي المتعلم بالطريقة التقليدية، ويختص باللغة والدين والفقه (الشيخ)، ومرجعيته الحضارية عربية ـ إسلامية، والمثقف «الحديث» (الأفندي) الذي تعلم في المدارس الحديثة التابعة للإرساليات التبشيرية، ويختص بالعلوم الحديثة كالطب والهندسة والحقوق، وهو على اطلاع على الثقافة الغربية واللغات الأجنبية، ومرجعيته الحضارية غربية. وبالتالي نشأ شرخ في المجتمع العثماني، وتكونت منذ اللحظة الأولى لهذا الانقسام بوادر انشقاق خطيرة بين مجتمع تقليدي مرجعيته الحضارية عربية ـ إسلامية، ومجتمع «حديث» مرجعيته الحضارية غربية. وكان هذا الانقسام يحمل خطورة مرفوعة إلى أس كبير في بلاد الشام، بسبب التنوع الديني والطائفي، فقد تراكب فوق الشرخ الثقافي ـ الحضاري، بين مثقف تقليدي ومثقف «حديث»، بين مجتمع تقليدي ومجتمع «حديث». تراكبت خطوط الانقسام الديني والطائفي، ومن ثم تحولت خطوط الانقسام الثقافية إلى خطوط انقسام طائفية، لأن «الحداثة» في بلاد الشام دخلت عبر مدارس الإرساليات التبشيرية والدينية، التي حددت كل منها الفئة المستهدفة لها، فالمدارس الأرثوذكسية اختصت بالأرثوذكس، والكاثوليكية بالكاثوليك، أما البروتستانتية الأمريكية فاتجهت نحو التبشير في أوساط الطوائف الإسلامية غير السنية (العلويين، الدروز)، وفي أوساط الطوائف المسيحية الأخرى (الأرثوذكس، الكاثوليك)، لعدم وجود طائفة بروتستانتية أصلاً. وبالتالي فإن الحداثة الغربية اختصت في البداية بالمسيحيين، ثم بأبناء الأٌقليات الإسلامية. وترافق ذلك مع ما سمي بالمسألة الشرقية وحماية الأقليات، حيث بسطت كل دولة غربية حمايتها على أقلية دينية أو طائفية كما هو معروف. أما المسلمون السنة الذين يشكلون أغلبية السكان فقد استمروا بتلقي التعليم بطريقة تقليدية في الكتاتيب، أو في المدارس الملحقة بالمساجد، ثم لاحقاً في المدارس الرسمية العثمانية، فبقيت مرجعيتهم الحضارية عربية ـ إسلامية، وبقوا سياسياً مواطنين عثمانيين قبل أن تلتحق نخبهم بالمدارس التبشيرية أيضاً، ونادراً ما كنت تجد طالباً مسيحياً خارج مدرسة طائفته، ويذكر يوسف الحكيم في مذكراته أن والده أصر على إلحاقه وأخيه بالمدرسة الرسمية العثمانية، لضمان مستقبلهم في الوظيفة الحكومية، لكن ذلك كان موضع استغراب القائمين على الطائفة الأرثوذكسية في اللاذقية، وجرت محاولات كثيرة لتغيير موقف الأب وإقناعه بوجوب التحاق أبنائه بمدرسة الطائفة! أما ما يتحدث عنه الشيخ الطنطاوي عن الالتقاء بين المشايخ والأفندية، فقد تم بواسطة أفراد محدودين وبجهود فردية، وحتى اليوم لم يتحول إلى مؤسسة قادرة على إنتاج نخب بأعداد كبيرة تمزج بين التراث والحضارة المعاصرة. كاتب سوري

من العبث إلى اللايقين... جدل الحضور بين ألبير كامو وهايزنبرغ
من العبث إلى اللايقين... جدل الحضور بين ألبير كامو وهايزنبرغ

العربي الجديد

timeمنذ 3 أيام

  • العربي الجديد

من العبث إلى اللايقين... جدل الحضور بين ألبير كامو وهايزنبرغ

تسعى هذه المقالة إلى بناء جدل فلسفي بين تصوّر ألبير كامو للعبث والتمرّد، وبين مبدأ اللايقين كما صاغه فيرنر هايزنبرغ في الفيزياء الحديثة، في محاولة لإعادة التفكير في "الحضور الإنساني"، لا بوصفه يقينًا تاريخيًّا أو جوهرًا متعاليًا، بل بوصفه فعلًا حرًّا يتحدّد في لحظة المواجهة مع اللايقين. ونُظهر من خلال هذه القراءة المتقاطعة أنّ الحاضر لا يُصاغ بالاستناد إلى الماضي، بل يتعيّن بالانخراط الواعي في شرطه الزمني المفتوح. الحاضر بصفته إشكالية فلسفية غالبًا ما يُفهم الحاضر في السياقات الاجتماعية والسياسية بوصفه نتيجة لماضٍ طويل، يحمل داخله مبرّراته، وهُويّاته، وشرعيته. غير أنّ هذا الفهم يُغفل بعدًا أساسيًّا أنّ الزمن الحي لا يُمنح، بل يُنتج. فحين يغيب الوعي عن إدراك الحاضر بوصفه لحظة مفتوحة، يلجأ العقل إلى استدعاء الماضي بوصفه ملاذًا نفسيًّا ورمزيًّا. لكن هذا الاستدعاء ليس بريئًا؛ إنه، في جوهره، إنكارٌ لشرط الحضور الحر، ومحاولة لاشغال الفراغ الوجودي بوهم المعنى. العبث عند ألبير كامو: مواجهة بلا خلاص يرى كامو أنّ الوعي الإنساني، في لحظة اكتشافه لغياب المعنى، يصطدم بكونٍ صامت لا يقدّم أي تفسير أو غاية. هذا الاصطدام يُنتج ما يسميه "العبث". لكن كامو لا يدعو إلى الاستسلام أو الهروب، بل إلى ما يسميه بـ"التمرّد"، تمرّد لا يسعى إلى خلاص ميتافيزيقي، بل يؤكّد حرية الإنسان في قلب العبث. الوعي التمردي لا يقبل بالمعنى المفروض، بل يصنع حضوره عبر المواجهة، لا عبر الهروب إلى الماضي أو الأنساق المغلقة. لا يحتاج الوعي الحر إلى الماضي ليبرّر وجوده، بل إلى شجاعة البقاء في اللحظة، والإنصات إلى صمت العالم مبدأ اللايقين: تأويل وجودي للواقع الفيزيائي في عام 1927، طرح الفيزيائي فيرنر هايزنبرغ مبدأ اللايقين، مؤكّدًا استحالة معرفة موقع الجسيم وسرعته في آن واحد بدقة مطلقة. وبتعبير أدق: "لا يمكن الحديث عن خصائص محددة للجسيم إلا عندما نقوم بقياسها؛ أي إن فعل الملاحظة يُنتج حالة الجسيم، ولا يكشف عنها فقط". هذه الفكرة تقوّض التصوّر الكلاسيكي للواقع معطًى مُسبقًا ومحدّدًا، وتفتح المجال لفهمه بوصفه احتمالًا يتعيّن فقط حين نُلاحظ ونفعل. الحاضر بين كامو وهايزنبرغ: من الذاكرة إلى الحرية استدعاء الماضي بوصفه إطارًا لتفسير الحاضر ليس فعلًا تأويليًّا بريئًا، بل غالبًا ما يكون محاولة لإخماد التوتّر الوجودي الذي يُنتجه الحاضر. إنه، بتعبير كامو، "انتحار فلسفي"، أي الاستعاضة عن الحضور الحر بوهم المعنى الجاهز. وفي ضوء مبدأ هايزنبرغ، يُمكن القول: إنّ الحاضر بوصفه واقعًا احتماليًّا لا يتحدّد إلا بالفعل الحر والملاحظة. أما عندما نفرض عليه تأويلًا موروثًا، فإننا نشوّه بنيته اللايقينية، ونفقد إمكانية الحرية. الإنسان، بوصفه كائنًا حرًّا، يصنع معناه بالفعل، لا بالرجوع سيزيف والملاحظ الكمومي صورة واحدة للمقاومة كما يدحرج سيزيف صخرته إلى الأبد من دون وعد بالخلاص، يؤكّد كامو بطولة الفعل في غياب المعنى. وكذلك، لا يكتشف الملاحظ الكمومي الحقيقة بل يُسهم في إنتاجها. وهنا يكمن الجسر الفلسفي: الوعي الحر لا يحتاج إلى الماضي ليبرّر وجوده، بل إلى شجاعة البقاء في اللحظة، والإنصات إلى صمت العالم بوصفه نداءً للفعل، لا للهروب. في عالمٍ لا يقيني أخيراً لا خلاص في المقولات الجاهزة، ولا في استدعاء الذاكرة ملاذًا رمزيًّا. الإنسان، بوصفه كائنًا حرًّا، يصنع معناه بالفعل، لا بالرجوع. وبين هايزنبرغ وكامو، تتضح صورة الحضور: ليس مرآة لزمن مضى، بل صيرورة تتحدّد من داخلها.

في انتظار صوت الأزهر … حتى لا يتمدد غيره في الفراغ!
في انتظار صوت الأزهر … حتى لا يتمدد غيره في الفراغ!

القدس العربي

timeمنذ 4 أيام

  • القدس العربي

في انتظار صوت الأزهر … حتى لا يتمدد غيره في الفراغ!

تأخر الأزهر كثيرًا عن خطوة إطلاق قناته التلفزيونية، حتى ترك فراغًا تمدد فيه غيره، أو بالأحرى حاولوا التمدد فيه. وكانت أولى هذه المحاولات، من خلال مشروع قناة «أزهري»، التي تزعمها خالد الجندي، ثم تبين أن من يقف خلفها أحد رجال الأعمال الليبيين، وقد ثار خلاف بينهما – بعد ذلك – حول ملكية القناة، حسمه القضاء المصري – حسب ما قرأت – لصالح الجندي، وكان لا بد من جدية طرح السؤال عليه: من أين لك هذا؟ وهو ليس أكثر من موظف في وزارة الأوقاف، فقد أصبح السؤال بلا جدوى بعد أن وضعت السلطة يدها على القناة، تمامًا كما فعلت مع قناة دينية أخرى هي «الناس»، ومعلوماتي أنها مملوكة لسعودي، وإن كان ذاع صيتها بالدعاة السلفيين المصريين، وفي مرحلة معينة نجحت، لدرجة صناعتها لنجومها، وإلى حد أنني تعرضت في هذه الزاوية لأداء أحد هؤلاء النجوم، وهو الشيخ محمد حسين يعقوب، الذي يوشك أن يخرج من الشاشة ليمسك المشاهد من تلابيبه وهو يقول له صلي، قبل أن يهدأ ويقدم الجزرة بعد العصا، ويقول: صلِّ لكي أحبك. وكتبت وقتئذ وماذا في حبه ليكون أداة جذب لتاركي الصلاة، وهو يبدو لنا أنه قادم توًا من قريش! وإذا كانت «الناس» قد حققت نجاحًا في مرحلة ما، فإن «أزهري» لم تحقق أي نجاح، وربما سعت لتقليد الأولى في كل شيء فأطلقت برنامجًا سياسيًا تقليدًا للبرنامج الناجح للشيخ خالد عبد الله على «الناس» بعد الثورة، لكنه لم يحقق مكانة تُذكر، وأذكر أنني شاركت في مناظرة به مع فريد زهران، وموضوعه خوض الانتخابات البرلمانية، التي دعا إليها الرئيس محمد مرسي، وكانت جبهة الإنقاذ قد قررت مقاطعتها، وكلانا ينتمي للتيار المدني، لكني كنت من الداعين للمشاركة فيها، وتبنّى الرأي الآخر فريد زهران وجهة نظر الجبهة، وهذا على الهواء، لكن في الكواليس كان له رأي آخر، لكنه ملتزم حزبيًا! ومع أن الحلقة لم تنقصها الإثارة، فلم يسمع بها أنس ولا جان، على العكس من مشاركاتي المحدودة على قناة «الناس» مع الشيخ خالد عبد الله، وكان آخرها حلقة رفضت فيها استمرار هشام قنديل رئيسًا للحكومة وتبنّى الرأي الآخر، الذي يرى أن الدكتور قنديل أفضل الخيارات زميلنا عماد الدين حسين، رئيس تحرير جريدة «الشروق» وعضو مجلس الشيوخ، بالتعيين على ما أعتقد! «دنيا غرورة ومفرقة الأحباب، كما قال المنُشد»! عرض الدولة وعرض تركي آل الشيخ: وعمومًا فقد وضعت السلطة يدها على القناتين؛ «الناس» و»أزهري»، لتفشل الأولى، وتزيد الثانية فشلًا على فشلها، وهي التي كانت محاولة فاشلة من خالد الجندي لاستغلال البرند، لتكون هناك محاولة أخرى حسب الإعلامي تهامي منتصر، من جانب الوزير السعودي تركي آل الشيخ، الذي عرض على شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب، خمسة مليارات جنيه لتمويل مشروع قناة تلفزيونية للأزهر الشريف، نظير قيام هيئة الترفيه بإدارتها، وهنا أنهى الطيب المقابلة، قبل أن تتدخل الدولة وتخصص مليار جنيه للمشروع! وبعيدًا عن المقترح السعودي، وهو من أحاديث الآحاد، فإنه من الواضح أن فكرة قناة خاصة بالأزهر أخذت حيز التنفيذ، من خلال تشكيل مجلس أمناء، والبدء في اتخاذ الإجراءات اللازمة للتأسيس باستخراج الترخيص القانوني، والاشتراك في الأقمار، ونحو ذلك! وسوف نسمع في الأيام المقبلة ضجة ضد تخصيص الدولة مليار جنيه لقناة كهذه، من كل منتحل صفة علماني في مصر، تمامًا مثل الحديث عن دعم الدولة للكليات المدنية في وقت يحرم المسيحيون من الالتحاق بها، إلى غير هذا من رطانة، ولا يجدون من يرد، أهلا بالجميع في الجامعة الأزهرية، وهناك مسيحيون التحقوا قديما بها، ومستشرقون أيضًا، فضلًا عن أن أوقاف الأزهر التي وضعت السلطة يدها عليها يمكن ريعها من امتلاك مدينة الإنتاج الإعلامي، وليس مجرد قناة يتيمة! زمن الهجوم على شيخ الأزهر إطلاق فضائية خاصة بالأزهر، خطوة مهمة، فمطلوب أن يصل موقفه الوسطى للناس كافة، وأن يذهب إليهم بدعاته وفكره حيث هم، وفي وقت لا تقدم فيه الفضائيات من يمثل الأزهر إلا من صانعي الإثارة، الذين يعملون وفق محددات الترند، وما يطلبه المستمعون من الأغاني العربية! وكان شيخ الأزهر قد أعلن قبل سنوات أن القنوات التلفزيونية مغلقة في وجهه. وهو أمر لم تعرفه مصر إلا في هذا العهد، ومن قبل كانت المؤسسة الدينية تستشار من جانب وزارة الإعلام في أسماء من يظهر على الشاشة ويتحدث في الدين، لكن المخطط الجديد كان هو الحط من قيمة الأزهر وشيخه، وكان هناك توجهت من السلطة بذلك يقف عليه كل ما من يتابع المشهد عن كثب! لقد رأينا صحافيًا محسوبًا على الأجهزة الأمنية، يهاجم شيخ الأزهر، وتتم دعوته ليرافق السيسي في زيارة خارجية، وقد صدر حكم قضائي بسجنه لم ينفذ، وبالتالي منع من السفر من سلطات المطار، فقد ألغي قرار المنع وسافر، إلى أن ألغي الحكم، في رسالة لا تخطئ العين دلالتها! بل شاهدنا عمرو أديب يصرخ بأعلى صوته ضد الشيخ، ويهينه إهانة بالغة في برنامجه في القناة السعودية، ولم يقل له أحد عيب، وهو أداء لا يعد عزفًا منفردًا من جانب عماد أديب، الذي فعلها في مرة أخرى، لكن جريدة «صوت الأزهر» تحررت من الوقار الزائد عن الحد، وجعلت من عمرو عبرة، وقادت حركة الجماهير دفاعًا عن الشيخ، وهجومًا على من تطاول عليه، فأصيب البادي بالخرس، وكانت رسالة بأنه ليس في كل مرة تسلم الجرة، ومثلت درسًا بأن الإعلام سلاح مهم ليلزم كل متجاوز حدوده الجغرافيا! نصائح للتجربة الجديدة التوهج الذي شاهدناه في صلاة التراويح في الجامع الأزهر، بجانب مواقف الشيخ من القضايا الكبرى تجعل من قناة «الأزهر» معنى، والتي أتمنى أن يكون هذا اسمها، كما أتمنى أن تكون كوادرها من الأزهر، ولدى الجامعة الأزهرية كلية للإعلام، يمكن أن يختار منها الكوادر المطلوبة، بجانب من يصلح للعمل الإعلامي من الكليات الأخرى، فلا معنى لاستيراد سوى الكوادر الفنية من خارجه، مع الوضع في الحسبان أخطاء التجارب السابقة! فالعالم عالم، والمفتي مفتي، والتقديم التلفزيوني وظيفة مختلفة، وكل البرامج الدينية التي قدمها علماء أو حتى خالد الجندي لم تنجح، ومن أول البرامج التي كان قدمها الدكتور أحمد عمر هاشم والدكتور محمد عمارة، فقد كان التكلف فيها واضحًا في أداء الدور، على العكس من بساطة أحمد فراج لأنه اعلامي محترف لا تنقصه المعلومات الدينية! وأشاهد فيديوهات لأزهريين عبر اليوتيوب فأكتشف أن الأزهر لا ينقصه كوادر في الدعوة، وتوافر القدرة على تفكيك الشبهات والرد عليها، ومجابهة الأفكار التي استجدت على الساحة، وأزمة الكوادر المهنية في التقديم، يمكن تكون من خلال لجان مختصة باختيار من يمتلكون الموهبة، والتي تصقل بالعمل والدورات التدريبية! لدي هواجس بأن السلطة ستعرقل الإجراءات، وإذا صحت واقعة تركي آل الشيخ، فقد تكون المليار جنيه خطوة من أهل الحكم من باب المكايدة السياسية، وليس سرًا أن العلاقات المصرية – السعودية ليست على ما يرام! نسأل الله التوفيق أرض جو: ذكرنا الأمين العام قبل الأخير للحزب الوطني حسام بدراوي بالذي مضى! وهناك خطأ يقع فيه كثيرون بالقول إن بدراوي هو آخر أمين عام الحزب، والصحيح أنه كان في المنصب لأيام قبل تنحي الرئيس مبارك، وعندما قضت المحكمة بحل الحزب، كان الحزب برئاسة طلعت السادات وكان محمد رجب زعيم الأغلبية في مجلس الشورى هو الأمين العام. فقد قفز بدراوي من المركب سريعًا! وبدراوي كتب مقالًا ينتقد الأوضاع السياسية المصرية، والمهم فيه هو أنه عرج على افتقاد مصر لحرية الإعلام وأسس لذلك بوقف برامج خيري رمضان، وإبراهيم عيسى، ولميس الحديدي، فذكرني بالذي مضى، عندما كانت الدنيا تقوم ولا تقعد، وتقف منظمة مراسلون بلا حدود على خط النار لمجرد، أن يحال بعض الصحافيين للتحقيق، مجرد التحقيق، مثل إبراهيم عيسى ووائل الإبراشي، ممن يفتقدون للمواقف الجادة ضد الديكتاتورية والاستبداد، ولا يضبطون متلبسين بالدفاع عن قضايا الأمة، بل وتُكرِّم بعض المنظمات هؤلاء الأشخاص لمجرد الاستدعاء للتحقيق، باعتبارهم رموزًا للحرية، في وقت كانت تغلق فيه صحف ويسجن فيها صحافيون ويتم الاعتداء عليهم في الشارع ليلًا ونهارًا، ولا تحرك هذه المنظمات ساكنًا! هل يحتاج فعلًا حسام بدراوي أن نعدد له ملامح قمع حرية الصحافة والصحافيين، بدلًا من الاستناد لأمثلة توفر له النقد الآمن، لتسجيل موقف لمهمة مؤجلة عندما يطرح بديلًا للحكم؟! كفى عبثا! صحافي من مصر

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store