
من هو سيد الشرق الأوسط القادم؟
لم يعد السؤال عن "سيد الشرق الأوسط" مجرد استفسار جغرافي أو عسكري، بل هو تساؤل مركّب يتقاطع فيه مفهوم الشرعية والوعي الجمعي والتحالفات المتغيرة، ومصير الشعوب التي تحمل على عاتقها مستقبل هذه الأمة.
تمثّل الحرب على غزة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 نقطة تحوّل نوعي في تشكيل الرأي العام العالمي، ليس فقط من حيث حجم الإبادة الجماعية المرتكبة، بل من حيث انعكاساتها على بنية النظام الدولي ومفاهيمه الأخلاقية.
فقد كشفت هذه المحرقة هشاشة السردية الصهيونية في مواجهة أدوات التوثيق الرقمي الفوري، وعرّت ازدواجية المعايير الغربية، حيث فشلت القوى الكبرى في الحفاظ على الحد الأدنى من التوازن القيمي الذي تدّعي تمثيله.
في المقابل، برزت القضية الفلسطينية كمؤشر أخلاقي يعيد فرز مواقف النخب والشعوب على أسس تتجاوز الاصطفاف السياسي التقليدي.
لقد فرضت غزة نفسها كعامل محفّز لإعادة تموضع الإنسانية دوليًا وإقليميًا، ولتشكيل شبكة تضامن مدني وشعبي عابرة للقارات، ما قد يفتح الباب أمام تحولات إستراتيجية تشمل اهتزاز مسارات التطبيع، وتنامي الضغوط الشعبية على الأنظمة العربية، وتوسّع الجبهة القانونية لمحاكمة الاحتلال.
وعليه، فإن ما يجري في غزة لم يعد شأنًا محليًا أو فلسطينيًا فقط، بل أصبح قضية كونية تُشكّل اختبارًا أخلاقيًا للنظام الدولي بكامله.
شهدت المنطقة في الآونة الأخيرة مرحلة مواجهة مباشرة استمرت اثني عشر يومًا بين إيران والمحور الصهيو-أميركي، كشفت هشاشة الدفاعات الجوية الإيرانية، لكنها في الوقت نفسه أظهرت قدرة إيران على استهداف العمق الصهيوني حتى في قواعده المتقدمة.
هذه الجولة لم تكن مجرد صدام عابر، بل نقطة تحول تُبرز هشاشة توازن الردع القائم على الاستنزاف المتبادل، وتُشير إلى احتمال تصاعد المواجهات نحو جولات أكثر خطورة، قد تؤدي إلى اتساع رقعة الصراع إذا ما وقع خطأ في التقدير أو قرار متهور.
في ظاهر المشهد، تهدئةٌ قائمة، لكن خلف الكواليس كل طرف يشحذ أسلحته: إيران تعيد التموضع بهدوء إستراتيجي بدعم صيني واقتصادي غير مسبوق، وأذرعها تتحرك بدقة في لبنان واليمن والعراق، بينما واشنطن تراقب بصمتٍ ذكيّ وتتهيأ للانخراط عند لحظة الضغط.
في المقابل، تل أبيب تعيش صمتًا عسكريًا مشحونًا، تتخلله انفجارات داخلية سياسية وقضائية تهدد حكومة نتنياهو من العمق أكثر مما تهددها الصواريخ.
الجميع في حالة استعداد دقيق لانفجار، حيث ستكون المعركة المقبلة أكثر من مجرد تبادل نيران: إنها مواجهة إستراتيجية، إعلامية، وقانونية.. والأرض تشتعل دون صوت.
وقد شهد وقف إطلاق النار بين إيران والمحور الصهيو-أميركي ترحيبًا دوليًا حذرًا، وسط هشاشة الوضع وتصريحات متباينة بين القادة. ففيما عبّر ترامب عن إحباطه، أعلن نتنياهو عن "تدمير البرنامج النووي الإيراني"، رغم تقارير استخباراتية تنفي ذلك.
تناولت وسائل الإعلام الغربية- مثل نيويورك تايمز والإيكونوميست- وقف النار كفرصة محتملة لتهدئة الصراع في غزة، لكن تحليلات أخرى حذّرت من أن تجنّب إسرائيل حلّ القضية الفلسطينية سيُبقي على دورة العنف قائمة.
أكدت "فايننشال تايمز" أن الهدنة الراهنة ليست سوى مرحلة انتقالية هشّة، والقرار الحقيقي يكمن في استعداد إسرائيل للانخراط في تسوية عادلة تفضي إلى دولة فلسطينية كاملة السيادة، لا الاكتفاء بإدارة الصراع كأمر واقع.
في قلب هذا المشهد، يظلّ مشروع "إسرائيل الكبرى" حاضرًا كأحد أبرز التهديدات، إذ تسعى تل أبيب لإقامة هيمنة شاملة من النيل إلى الفرات، لا تقتصر على الأرض الفلسطينية فقط، بل تشمل تفكيك السيادة الوطنية للدول العربية وتحويلها إلى كيانات تابعة.
المشروع لا يقوم فقط على السيطرة العسكرية، بل يمتد إلى الاقتصاد، والأمن، والتطبيع الثقافي، وشبكات النفوذ الخفي داخل مؤسسات الحكم العربية.
ورغم النجاحات الاستخباراتية والعسكرية التي يحققها المحور الصهيو-أميركي، فإن مشروعه لقيادة "الشرق الأوسط الجديد" يصطدم بجملة من المعوّقات البنيوية: فرفض الشعوب العربية، وتماسك قوى المقاومة، والأزمات الداخلية، وغياب مشروع إقليمي جامع، كلها عوامل تُضعف من قدرته على فرض واقع مستدام.
كما أن اعتماد المشروع الإسرائيلي بشكل كلي على الدعم الأميركي يضعه في مأزق إستراتيجي، خاصة مع تراجع نفوذ واشنطن، نتيجة أزماتها الداخلية وضغوط ملفَّي أوكرانيا والصين، ما يقلّص من قدرتها على التحكم الأحادي بمسار المنطقة.
وقد بدأ هذا الفراغ الجيوسياسي يُملأ تدريجيًا من قبل الصين وروسيا، عبر أدوات اقتصادية وعسكرية جديدة، تمهّد لنظام دولي متعدد الأقطاب، يُنهي عهد الهيمنة الأميركية المطلقة.
مصر، كقلب العالم العربي، تُعد هدفًا مركزيًا في هذه الإستراتيجية، حيث تُهدّد محاولات التحكم بنهر النيل، واستهداف قناة السويس دورها الإقليمي والاقتصادي.
أما دول الخليج، فتواجه محاولات فرض شراكات أمنية تُضعف استقلال قراراتها. وفي العراق وسوريا ولبنان والأردن، يحاول المحور الصهيو-أميركي تثبيت هيمنة نفسية وجوية تمنع هذه الدول من استعادة دورها السيادي الكامل.
في المقابل، تبرز إيران كمحور مقاومة يمتلك عمقًا إستراتيجيًا ممتدًا من غزة إلى صنعاء، ويُعيد إنتاج خطاب تحرّري راسخ يربط بقاء الأمة بتحرير فلسطين.
فصائل المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس، لم تعد مجرد أدوات ضغط، بل صارت قوى فاعلة تؤثّر عسكريًا وإعلاميًا وسياسيًا في معادلات المنطقة.
غزة، رغم الحصار والدمار، تحوّلت إلى مركز ثقل أخلاقي، تُعيد تشكيل مشروعية المقاومة، وتُفقد المحور الصهيو-أميركي ما تبقّى من غطاء أخلاقي أمام الرأي العام العالمي.
في موازاة ذلك، لم تعد أدوات الصراع التقليدية هي الفيصل في حسم الهيمنة على الشرق الأوسط، بل باتت جبهات الوعي تحتل الصدارة.
فالإعلام المقاوم ووسائل التواصل الاجتماعي والتعليم والدين والثقافة والاقتصاد والذكاء الاصطناعي أصبحت ساحات مركزية في معركة التحرر، تعيد تشكيل وعي الشعوب، وتكسر هيمنة السردية التي يفرضها الاحتلال، وتعزز خطاب المقاومة والعدالة.
هذا الحضور المتصاعد لتلك الأدوات يمنح المشروع التحرري امتدادًا نفسيًا وثقافيًا واقتصاديًا، ويحوّله من فعل مقاومة عسكرية محدودة إلى مشروع حضاري شامل، يهدد منظومة السيطرة من جذورها، ويعيد تعريف موازين القوة ليس فقط من منظور عسكري، بل من زاوية معرفية وقيمية وأخلاقية.
في النهاية، لا يمكن التنبؤ بسيّد واحد للشرق الأوسط القادم، بل إن المنطقة تتجه نحو شبكة معقدة من اللاعبين المتنافسين والمتعاونين، وفق المصالح والظروف المتغيرة.
"إسرائيل" رغم أزماتها، تواصل السعي نحو الهيمنة، وإيران تعزز نفوذها المقاوم، بينما تعيد تركيا والسعودية ومصر تموضعها الإستراتيجي. الولايات المتحدة تتراجع، فيما تتقدم موسكو وبكين بخطى مدروسة.
لكن المعركة الحقيقية التي ستحسم الوجهة النهائية للمنطقة ليست فقط في ساحات السياسة أو الجغرافيا، بل في ميدان الوعي والشرعية.
سيد الشرق الأوسط القادم، سيكون من يملك الرؤية الحضارية الأعمق، والقدرة على بناء توازنات تحررية تعيد للأمة سيادتها، وتمنح شعوبها الحرية والكرامة في نظام عالمي جديد.
"فالشرق الأوسط لا ينتظر مستعمرًا جديدًا، بل قائدًا تحرريًا يعيد صياغة المعنى ويوحد الصفوف".
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
تجدد الاشتباكات بالسويداء وإسرائيل تقصف مواقع للحكومة السورية وتتوعد بالمزيد
نقلت القناة 12 الإسرائيلية أن سلاح الجو الإسرائيلي يقصف أهدافا تابعة للحكومة السورية في محافظة السويداء ، في حين توعد وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس بأن إسرائيل ستواصل مهاجمة قوات الحكومة السورية حتى تنسحب من السويداء، وذلك تزامنا مع تجدد الاشتباكات في المدينة بين قوات الأمن السوري ومجموعات مسلحة. وقالت وكالة الأنباء السورية إن مسيرات إسرائيلية تستهدف مدينة السويداء، وإن القصف الإسرائيلي أدى لوقوع إصابات بين المدنيين، بينما قال الدفاع المدني السوري للجزيرة إن فرقه تجلي بعض العائلات وتخمد حرائق في السويداء جراء الاشتباكات الدائرة في المدينة. وجاء القصف الإسرائيلي بعد مطالبة وزير الدفاع الإسرائيلي الحكومة السورية بسحب قواتها من السويداء، وقال إن "على النظام السوري أن يترك الدروز في السويداء ويسحب قواته إلى الوراء". وأكد وزير الدفاع الإسرائيلي: "لن نتخلى عن الدروز في سوريا وسنفرض سياسة نزع السلاح التي قررناها". حشد إسرائيلي على الحدود السورية وفي تطور متصل، قالت وسائل إعلام إسرائيلية إن الجيش الإسرائيلي دفع بكتيبتين إضافيتين إلى الحدود بين إسرائيل وسوريا ضمن تعزيز قواته على الحدود السورية مبررا ذلك بخشيته من اقتحام دروز من إسرائيل السياج الحدودي. وقال الجيش الإسرائيلي إن تعزيز قواته عند الحدود السورية يأتي في ضوء تقييم للأوضاع الأمنية. كما قالت القناة الـ12 الإسرائيلية إن عشرات الدروز يعبرون الحدود إلى سوريا، وإن أعمال شغب اندلعت عند السياج الأمني الفاصل على الحدود الإسرائيلية السورية. ويأتي الحشد الإسرائيلي وتصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي التي توعد فيها بمواصلة قصف سوريا، رغم طلب إدارة الرئيس دونالد ترامب من إسرائيل التوقف عن مهاجمة قوات الجيش السوري في جنوب البلاد، وفق ما نقله موقع أكسيوس الإخباري عن مسؤول أميركي أمس الثلاثاء. وأضاف المصدر الأميركي أن إسرائيل وعدت واشنطن بوقف هجماتها على قوات الجيش السوري بدءا من مساء أمس الثلاثاء. وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو -المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية – ووزير دفاعه يسرائيل كاتس ، قد أمرا الجيش بشن هجوم على قوات الحكومة السورية في السويداء، وعلى الأسلحة التي تم إدخالها إلى المحافظة. في غضون ذلك، قالت إدارة الإعلام بوزارة الدفاع السورية للجزيرة إن مجموعات خارجة عن القانون عادت إلى مهاجمة القوات السورية في السويداء. وقالت الوزارة إن قواتها ترد على مصادر النيران داخل السويداء مع مراعاة قواعد الاشتباك لحماية الأهالي. من جانبها أفادت الإخبارية السورية أن قوى الأمن السوري بدأت تمشيط الأحياء الشرقية لمدينة السويداء من المجموعات المسلحة التي تصفها وزارة الداخلية السورية بالخارجة عن القانون. بدوره، قال مراسل الجزيرة إنّ الاشتباكات بين قوات الأمن السوري ومجموعات مسلحة تجددت صباح اليوم في أحياء داخل مدينة السويداء. وأوضح مراسلنا أن هذه الاشتباكات ترافقت مع عمليات قصف على أحياء في مركز المدينة. وكانت الداخلية السورية أوضحت أنها تمكنت من طرد من وصفتهم بالخارجين عن القانون من مركز مدينة السويداء. وكانت قوات من وزارتي الدفاع والداخلية قد دخلت مدينة السويداء في محاولة لبسط السيطرة على الأحياء المضطربة لحفظ الأمن وإعادة الاستقرار.


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
هل تحولت قوة إسرائيل الغاشمة عبئا دبلوماسيا عليها؟
منذ عام 2007، تحوّل الحصار الإسرائيلي الممتد على غزة من إجراء أمني إلى أداة عقاب جماعي وشكل من أشكال السيطرة الكاملة على السكان، واعتمدت إسرائيل على سياسة ممنهجة لعزل قطاع غزة اقتصاديًّا وإنسانيًّا. واعتبرت الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية مثل هيومن رايتس ووتش الحصار عقابًا جماعيًّا ينتهك القانون الدولي الإنساني. ولم يكن هذا الحصار مؤقتًا، بل إستراتيجية طويلة الأمد هدفها كسر إرادة المقاومة وتفكيك الجبهة الداخلية. وكما ورد في تقرير لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا، 2024) "أدى الحصار إلى انهيار البنى الأساسية في القطاع، بما في ذلك القطاع الصحي والمياه والكهرباء، مما تسبب بأزمة إنسانية مزمنة". ومنذ اندلاع حرب غزة 2023-2025، انقلب المشهد الإستراتيجي رأسًا على عقب، فإسرائيل التي اعتادت لعب دور المحاصِر، باتت تواجه موجات غير مسبوقة من العزلة السياسية والدبلوماسية، كما سيبينه هذا التقرير. تطور أدوات الحصار الإسرائيلي تحوّل "الاحتواء" من مفهوم أمني إلى ممارسة سياسية شاملة، تستند إلى سيطرة على تدفق السلع والوقود والدواء، وفرض قيود على الحركة حتى في الحالات الطارئة. وتشير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) إلى أن كلفة الحصار على الاقتصاد الفلسطيني تجاوزت 16 مليار دولار منذ عام 2007، مما يعكس بوضوح أن الهدف لم يكن الردع فقط، بل الخنق المنهجي والهيمنة الشاملة على الحياة اليومية. لم يقتصر الحصار الإسرائيلي على الإجراءات العسكرية والقيود الجغرافية، بل تطوّر ليشمل أدوات تكنولوجية متقدمة، أبرزها الرقابة الرقمية والتجسس السيبراني، ونتيجة لذلك بات الحصار يشمل التحكم في المعابر الرقمية والمالية، بل حتى في المحتوى الإلكتروني. فقد أشار تقرير " أمنستي إنترناشيونال" (2023) إلى أن إسرائيل استخدمت أنظمة مراقبة متطورة لتتبع تحركات السكان الفلسطينيين، بما في ذلك استخدام برامج تجسس مثل "بيغاسوس" لتعقّب الناشطين والصحفيين. تحوّل الحصار الإسرائيلي أيضا إلى شكل مركّب يتجاوز إغلاق المعابر وتجفيف الموارد، فإسرائيل تخوض معركة على الرواية، تسعى فيها لتطويق السردية الفلسطينية داخل الحدود الجغرافية والرقمية، معتمدةً على أدوات إعلامية وسيبرانية وحملات تشويه مستمرة. ووفقًا لمقال نشره مركز "مدى الإعلامي" (2024)، فإن المنصات الغربية الكبرى خضعت لضغوط إسرائيلية لحظر المحتوى الفلسطيني وتجريم السرديات المقاومة بوصفها "تحريضًا". وبهذا الشكل، اتسع نطاق الحصار ليشمل الوعي والإدراك، فبات الفلسطينيون محاصَرين حتى في قدرتهم على التعبير عن واقعهم. الردع بالمقاومة قلب موازين التأثير والوعي في مواجهة ذلك، لم تعد المقاومة الفلسطينية مجرد صاروخ وبيان، بل غدت منظومة ذكية توزّع صور المعاناة وتعيد بناء سرديتها وإيصالها إلى العالم، فانقلبت معادلة الخوف والردع الإسرائيلية، وباتت معاناة غزة تصحح وعي العواصم الغربية والشباب. ومع تصاعد استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي ، دخلت الرواية الفلسطينية مرحلة جديدة من التأثير، فالمحتوى الرقمي المقاوم لم يَعُد عفويًّا أو مشتتًا، بل بات يستند إلى خوارزميات ذكية لتحسين الانتشار، واستهداف الرأي العام الغربي بلغته وأساليبه. يقول الباحث الأميركي مايكل ترافيرس في دراسته عن "حرب السرديات الرقمية في الشرق الأوسط" (جامعة ستانفورد ، 2024) "إن إسرائيل فشلت في الحفاظ على صورتها كضحية في ظل تصاعد محتوى مرئي مؤثر من غزة يَفضح جرائم القصف، وينتج وعيًا عالميًّا جديدًا". لقد أسهم الذكاء الاصطناعي في كسر احتكار الرواية الإسرائيلية التي كانت تُحكم السيطرة على منصات الإعلام الغربية، وحوّل الفلسطيني من "عنصر غائب" إلى فاعلٍ رقمي يصوغ خطابًا مغايرًا للنسق السائد. كانت الغارات الإسرائيلية على غزة تهدف تقليديًا إلى إخماد المقاومة وفرض الردع بالقوة، لكن مع توالي المجازر، بدأ هذا "الردع" يرتد على إسرائيل في ساحات الدبلوماسية والشارع العالمي. تقول المحللة السياسية داليا شنايدرلين في صحيفة هآرتس (يونيو/حزيران 2025) "إن ما تعتبره إسرائيل ضربة إستراتيجية في غزة يتحوّل إلى هزيمة دبلوماسية في نيويورك وجنيف ولندن". فالاحتجاجات الطلابية في جامعات أميركية، وتعليق اتفاقيات جامعية وتجارية، واستدعاء السفراء، وحتى الدعوات العلنية لفرض عقوبات، كلها مؤشرات على انتقال الحصار من الجغرافيا إلى الدبلوماسية، وذلك ما جعل إسرائيل تدفع ثمنًا سياسيًّا باهظًا لكل طلعة جوية. الحصانة الإسرائيلية في مهبّ المقاومة والأسئلة الأخلاقية طورت المقاومة الفلسطينية أدواتها من البنى التحتية الميدانية إلى المنصات الرقمية والميدانية المدمجة، فكما استطاعت بناء شبكة أنفاق تقوض التفوق التكنولوجي الإسرائيلي، طوّرت أيضًا شبكات إعلامية ومجتمعية تخترق وعي الجمهور العربي والعالمي. فوفقا لتقرير معهد "تشاتام هاوس" البريطاني (مايو/أيار 2025) "لم تعد المقاومة الفلسطينية مجرد ظاهرة عسكرية بل مشروع وطني متعدد الأبعاد، قادر على التأثير في الرأي العام وصياغة رمزية جديدة للردع". هذه التحولات أجبرت إسرائيل على التعامل مع أشكال جديدة من التهديد، تتجاوز الصواريخ والأنفاق، لتصل إلى قنوات التليغرام، وصنّاع المحتوى، وشبكات التأثير المتنوعة التي باتت تُربك النخب الحاكمة في تل أبيب. وتحت ركام المستشفيات المدمرة تتلاشى الأساطير القديمة، فالدعم الغربي لم يعد شيكًا مفتوحًا بلا مساءلة، إذ ينهض الشارع والبرلمانات ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان لتواجه حكوماتها بأسئلة أخلاقية تهز الحصانة الإسرائيلية حتى في واشنطن. ولطالما شكّل الدعم الأميركي لإسرائيل ركيزة إستراتيجية في السياسة الخارجية لواشنطن، لكن سند هذا الدعم بات يتآكل أخلاقيًّا وشعبيًّا داخل الولايات المتحدة. وفي استطلاع رأي أجراه معهد بيو للأبحاث في مارس/آذار 2025، أبدى 62% من الشباب الأميركيين (تحت 30 عامًا) رفضهم للدعم العسكري غير المشروط لإسرائيل، معتبرين أن "القصف في غزة لا يمثل القيم الأميركية". ورغم استمرار إدارة دونالد ترامب الثانية في إمداد إسرائيل بالسلاح، فإن الأصوات المعارضة داخل الكونغرس والحزب الديمقراطي وحتى في الجامعات والأوساط الأكاديمية بدأت تُشكّل ضغطًا ملموسًا. وكتب توماس فريدمان في نيويورك تايمز (أبريل/نيسان 2025) "لم تعد العلاقة بإسرائيل قابلة للاستمرار في صورتها القديمة، ما لم تواكبها مساءلة حقيقية عن سلوكها العسكري". الاتحاد الأوروبي من الشراكة إلى المراجعة كان الاتحاد الأوروبي دومًا شريكًا اقتصاديًّا وسياسيًّا لإسرائيل، لكن حرب غزة الأخيرة وضعت هذه العلاقة على محك المراجعة. فقد جُمّدت اتفاقيات علمية مع جامعات إسرائيلية، ودعا البرلمان الأوروبي في جلسة خلال أبريل/نيسان 2025 إلى "إجراء تحقيق دولي مستقل في جرائم الحرب بغزة". ورغم الحذر الذي تتسم به سياسات العواصم الأوروبية الكبرى، فإن موجة الضغوط الشعبية داخل دول مثل أيرلندا وإسبانيا وبلجيكا دفعت إلى مواقف أكثر جرأة. نقلت الغارديان في مايو/أيار 2025 عن مسؤول أوروبي قوله "لم نعد قادرين على التغطية على ما يحدث في غزة من دون فقدان مصداقيتنا الحقوقية عالميا". هذا التحول لا يعني، بحسب مراقبين، القطيعة مع إسرائيل، بل بداية انكفاء ناعم، عنوانه المصلحة الأوروبية أولًا، لا الحصانة الإسرائيلية المطلقة. كذلك شهدت المؤسسات الحقوقية الغربية تحوّلًا واضحًا في خطابها، فقد انتقلت من "القلق" إلى "الإدانة" الصريحة، وذلك ما أعاد سؤال المساءلة الدولية إلى الواجهة. ففي مايو/أيار 2025، أصدرت هيومن رايتس ووتش تقريرًا بعنوان "غزة تحت النار -سياسة العقاب الجماعي الإسرائيلية"، وصنّف القصف جريمة محتملة ضد الإنسانية. وأعلنت المحكمة الجنائية الدولية أنها تنظر في ملفات مرتبطة بالقصف المتعمد على المستشفيات ومخيمات النزوح. ووفق دراسة صادرة عن منظمة العفو الدولية ، فإن "نظام الحصانة الذي تمتعت به إسرائيل طوال عقود بات مهددًا أمام حجم الانتهاكات المسجلة". هذه الأصوات لا تغير السياسة الدولية فورًا، لكنها تُعيد تشكيل الإطار الأخلاقي والقانوني الذي كانت إسرائيل تتحرك ضمنه بحرية شبه مطلقة. المفارقة الإسرائيلية.. دولة تقصِف وتخشى العزلة رغم الضربات القاسية التي وُجّهت إلى غزة، يعيش الداخل الإسرائيلي حالة من التوتر النفسي والانقسام المجتمعي العميق. فكل صاروخ يسقط على غزة ينفجر صداه في تل أبيب مخاوف وانقسامات؛ تتصدع الثقة بالجيش ويتهامس الشارع: هل انتصرنا حقًا، أم علقنا في فخ عزلة دولية آخذة بالاتساع تلتهم الشرعية؟ ووفق استطلاع نشره معهد الديمقراطية الإسرائيلي في يونيو/حزيران 2025، فإن 48% من الإسرائيليين يرون أن "انتصار غزة المعنوي والإعلامي بات خطرًا على صورة إسرائيل أكثر من الصواريخ نفسها". ولم يعد القلق فقط من الأنفاق، بل من مشاهد الشهداء الأطفال على شاشات العالم، ومن تغيّر الرواية العالمية التي طالما أعطت إسرائيل تفوّقًا أخلاقيًّا. وكتب المحلل الإسرائيلي نحميا شتراسر في صحيفة هآرتس "نقصف ونُعاقَب دوليا. نرد بقوة لكننا نُحاكم أخلاقيًّا. هذا ثمن لم نكن نعرفه". وهكذا، أصبحت القوة العسكرية الإسرائيلية في حالات كثيرة عبئًا سياسيًّا وإعلاميًّا على القيادة. يقول الباحث عاموس هارئيل في هآرتس (يونيو/حزيران 2025) "القوة الزائدة بلا غطاء شرعي تُنتج عزلة، لا ردعًا". وقد انعكس ذلك على صانع القرار الإسرائيلي الذي بات حائرًا بين الإصرار على الحسم العسكري والخوف من الكلفة الأخلاقية والاقتصادية والسياسية، كما ظهرت داخل المؤسسة العسكرية مواقف تدعو إلى إعادة تقييم جدوى استمرار العمليات، في ظل شلل سياسي وإخفاق في إحداث تأثير إستراتيجي حاسم. نقد الرواية الإسرائيلية لطالما استفادت إسرائيل من خطاب "الدولة الصغيرة المهددة"، لكن هذا الخطاب بدأ يتهاوى تحت ثقل الصور الآتية من غزة. فقد أظهر تقرير "مرصد انحياز الإعلام" الصادر في مايو/أيار الماضي أن نسبة التغطية النقدية للسياسات الإسرائيلية في الإعلام الغربي تضاعفت مقارنة بعامي 2021 و2022. في حين وصفت قناة 4 البريطانية ما يحدث في غزة بأنه "قصف انتقامي بلا حدود"، وكتبت لوموند الفرنسية "إسرائيل تواجه غزة بالسلاح وتواجه العالم بالتبرير". هذه التحولات في التغطية الإعلامية تعكس تبدلًا في موقع إسرائيل من كونها ضحية إلى مَن يُحمَّل المسؤولية، ويعمق هذا الانزياح في الوعي الإعلامي عزلة إسرائيل، ويفقدها أوراقها الأكثر حساسية في المعارك غير التقليدية: الصورة والرواية والمظلومية. سيناريوهات المستقبل والمقارنة بالأبارتهايد تفكّك اتفاقيات التطبيع ، وتصاعد حملات المقاطعة، وتهديد المحاكم الدولية، وتحوّل الفضاء السيبراني إلى جبهة مشتعلة، كلها صور ترسم لوحة مستقبلية مفتوحة لإسرائيل. بدأ بعض المحللين يقارنون بين إسرائيل في حقبة ما بعد حرب غزة 2023–2025 ونظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا. وهذه المقارنة لم تعد حكرًا على الناشطين الفلسطينيين، بل تتردد في أروقة مراكز بحث غربية. فقد نشر معهد كارنيغي في يونيو/حزيران الماضي تقريرًا بعنوان "إسرائيل ما بعد غزة: خطر العزلة الأخلاقية"، حذّر فيه من تقويض مكانة إسرائيل في المؤسسات الدولية، واحتمال فرض عقوبات رمزية أو حتى اقتصادية على المدى المتوسط. ومع دعوات في الأمم المتحدة لتعليق عضوية إسرائيل في بعض الوكالات الأممية، وتهديدات بإصدار مذكرات توقيف ضد مسؤولين عسكريين، يبدو سيناريو العزلة أقرب من أي وقت مضى. وإذا تزايدت المقارنات مع نظام الأبارتهايد، فإن إسرائيل ستدخل مرحلة جديدة من الضغط السياسي المشابه لما عاشته بريتوريا في الثمانينيات. ورغم أن إسرائيل راهنت على مشروع التطبيع كمدخل للاندماج الإقليمي، فإن حرب غزة الأخيرة أعادت خلط الأوراق. ففي الوقت الذي حافظت فيه بعض الدول العربية على علاقاتها الرسمية مع تل أبيب، شهد الشارع العربي تصعيدًا في الرفض الشعبي، وخرجت مظاهرات عارمة في عمّان والرباط والمنامة والقاهرة. وأشار تقرير صادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (مايو/أيار 2025) إلى "تصاعد التوتر بين الأنظمة والشارع العربي، وذلك ما يضع مشاريع التطبيع أمام معضلة أخلاقية وأمنية". ومع استمرار الحرب، تتهاوى رواية إسرائيل كدولة ضحية أمام صور الأطفال تحت الأنقاض، ولا ينذر استمرار هذا المسار فقط بتآكل شرعيتها، بل يرسم مشهدًا جيوسياسيًّا جديدًا تتبدّل فيه مواقع القوة والردع داخل الإقليم وعلى مستوى المسرح الدولي.


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
طاهر سليم.. قصة أسير فلسطيني خرج إلى وطن منكوب وبلا عناق
غزة – في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2011، خرج طاهر مصطفى سليم من منزله في غزة إلى وجهة لم يكن يدري أنها ستقوده إلى غياب دام 14 عاما خلف قضبان الاحتلال. في ذلك اليوم، غادر بيته تاركا زوجته نور إسليم، الحامل بطفلهما الثالث، وولديه الصغيرين محمد ومعتز، على أمل أن يتصل بها خلال أيام، لكنها لم تسمع صوته مرة أخرى إلا من خلال خبر الاعتقال الذي وصلها بعد 8 أيام، في ليلة صامتة جاء فيها إخوتها وأبناء عمومتها ليخففوا وقع الخبر عنها. نور كانت في عامها الثالث في الجامعة، بين أمومتها المبكرة وكتبها الثقيلة، وحين اعتُقل طاهر كانت في منزل أهلها، تستعد لتقديم امتحاناتها، وتحاول أن تصدّق أن زوجها لن يعود قريبًا. بعد عام صدر الحكم "17 سنة، خلف الأسوار". مرت السنوات ببطء ثقيل، لم تكن الزيارة سوى لحظة كل شهرين، محفوفة بالتفتيش والإهانات، لكنها كانت كفيلة بأن تعيد لروح نور شيئًا من الحياة، وحين منعت سلطات الاحتلال الزيارات عن أسرى غزة عام 2013، لم يتبقَ لها سوى رسائل الصليب الأحمر المتأخرة، تصل بعد أشهر من إرسالها، كأنها أخبار من زمن آخر. كبر الأبناء، ومعاذ وُلد دون أن يؤذن له والده في أذنه. غاب الأب عن لحظات النجاح، عن حفلات التكريم، عن أول يوم مدرسة، عن بناء البيت، عن تخرج نور من الجامعة ومن الماجستير. وذات يوم، أصيب محمد، طفلها البكر، بمرض مزمن خطير في الدم، واحتاج لعلاج شهري في رام الله، ثم ساءت حالته واضطرت نور للسفر به إلى مصر خلال الحرب. حرية منقوصة في السجن، كان الأسرى يسمعون عن الحرب في غزة، لكن ما تخيله طاهر خلف القضبان لم يكن يُقارن بما رآه حين تحرر في يوليو/تموز 2025، ضمن الدفعة الخامسة من صفقة "". وصل طاهر إلى غزة فوجدها منكوبة، مدينته التي كانت تعني الحياة صارت مدينة رماد، وحرية الخروج لم تكن سوى عبور إلى سجن أكبر. لكن أكثر ما آلمه في تلك اللحظة، أن زوجته نور وأطفاله لم يكونوا في استقباله، فقد كانوا في القاهرة ، حيث يرقد محمد على سرير العناية المركزة. يقول طاهر "تحررت من الجدران، لكنني دخلت سجن الحرب وسجن الغياب وسجن الأسئلة". ويضيف "كان أول من خطر بباله حين خرجت أريد أن أحتضن عائلتي"، لكنه لم يحتضنهم فقد كان اللقاء من خلف شاشة الهتاف الجوال، صوت نور ودموعها كانا عزاءه الوحيد، ووجودها البعيد منح لحظته المنقوصة قليلًا من المعنى. أما الزوجة نور سليم، التي انتظرت هذه اللحظة لسنوات، وكانت تحلم بأن تلبس الثوب الأبيض الفلسطيني، وأن تزغرد في الحارة، أن يركض الأولاد ويحتضنوا والدهم عند باب البيت، لكنها عوضًا عن ذلك، جلست خلف شاشة هاتف، تراقب الباصات التي تقل المحررين، تنتظر صورة، أو فيديو. وانهارت حين وصلها أول مقطع لطاهر، بصوته وضحكته التي تعرفها، لكنها لم تكن هناك. في الغربة، كانت تعيش كل لحظة بوجع مضاعف فزوجها المحرر مهدد تحت القصف، وطفلها يصارع المرض، وهي تحاول أن تكون الأم والممرضة والمعيلة. تقول "كل يوم كان معركة، اشتغلت أكثر من وظيفة، وصارت الأعباء جزءًا من يومي. ما كان في خيار غير أني أتحمل وأكمل". وتضيف "هو اليوم حر، لكني في كل لحظة أخاف أن أفقده، أخاف عليه من القصف، من الغياب، من انقطاع الاتصال، وأحيانًا أتمنى أنه يظل في السجن، لكنه يظل عايش". أما طاهر، فكلما تذكر نور، شعر أن الحريّة من دونها لا تكتمل. يقول "نور مش بس زوجتي، هي كانت امتدادي وأنا في السجن. ربت عني، صمدت عني، كملت الطريق لوحدها، واليوم لما بشوفها عم تشتغل، تكتب، وتقاوم بالغربة، بعرف إنه أنا ما كنت لحالي في السجن.. هي كمان كانت مقاوِمة خلف قضبان الحياة". ورغم الحب العميق الذي لم تنل منه المسافة، يقول كلاهما إن "الحرية ناقصة، فالعائلة لم تجتمع بعد. هما في مكانين مختلفين، بلا بيت واحد، بلا حضن، بلا عناق حقيقي. ووسط الحرب، والغربة، والمرض، والانتظار، لا تزال الأحلام مؤجلة".