
موسيقى "تشيمورينغا".. أنغام الثورة في زيمبابوي
سكنت شعوب السان هذه الأرض منذ آلاف السنين، قبل أن تصل موجات الهجرة البانتوية، حاملةً معها لغات وأساطير ومعتقدات روحية.
مع نهاية القرن التاسع عشر، دشّنت شركة جنوب أفريقيا البريطانية مرحلة الاستعمار في روديسيا الجنوبية، لتخضع البلاد لحكم الأقلية البيضاء من المستوطنين الأوروبيين.
وفي عام 1965، أعلن رئيس الوزراء إيان سميث استقلالًا أحاديًا عن بريطانيا، ما أدى إلى عزلة دولية وحرب تحرير قادتها حركتا زانو بقيادة روبرت موغابي، وزابو بقيادة جوشوا نكومو.
تحت ضغط الحرب والعقوبات، دخلت روديسيا مفاوضات لانكستر هاوس عام 1979، التي مهدت لأول انتخابات ديمقراطية. وفي 18 أبريل/نيسان 1980، وُلدت زيمبابوي، معلنةً نهاية الاستعمار وبداية عهد جديد.
تضم زيمبابوي 16 لغة رسمية، أبرزها الشونا التي يتحدث بها أكثر من 70% من السكان، بينما تُستخدم الإنجليزية لغة مشتركة في الحكومة والتعليم، وهي اللغة الأولى للبيض والثانية لغالبية السود.
موسيقى حرب الأدغال.. حين يصبح الإيقاع سلاحًا
قبل أن تتحول الموسيقى إلى سلاحٍ في يد الثوار، كانت مرآةً للروح الزيمبابوية. تقليديًا، ترتكز على السلم الخماسي، مثل سلم "دو الكبير" (دو – مي – فا – صول – سي بيمول)، وأحيانًا على سلم خماسي صغير (دو بيمول – مي بيمول – فا – صول – سي).
كما تُغنى أنماط "المبيرا" على سلم سباعي يُشبه المقامات الأفريقية التقليدية، لكنه يختلف عن النظام النغمي الغربي المتساوي. تعتمد الموسيقى الزيمبابوية التقليدية في العموم على التكرار الميلودي، وتُرافقها إيقاعات الطبول التي تُشبه نبض الأرض.
الموسيقى إحدى أدوات التحرر
وفي خضم حرب تحرير زيمبابوي (1964-1979)، تحولت الموسيقى إلى أداة تعبئة وتحريض، تُغني للثورة وتُعلّم المقاتلين، وتبني الهوية الوطنية في وجه الاستعمار. كانت الأغاني تُردد في المعسكرات، وتُستخدم في التدريب، وتُغرس في الوجدان كأنها صلاةٌ يومية.
موسيقى "تشيمورينغا" كسرت الطوق الثقافي الاستعماري، وأصبحت أشبه بالطائفة الروحية لمقاتلي التحرر، بسبب نزوعها إلى الأصول الأفريقية.
استخدمت جماعات المقاومة الأغاني كأدوات تنظيمية، وفي أحيان كثيرة كجزء من إعداد المقاتلين، في مقابل الموسيقى الوطنية للأقلية البيضاء التي احتفظت بسيطرة رمزية تراجعت لاحقًا أمام زخم موسيقى المقاومة.
توماس مابفومو.. صوت الثورة الذي لا يُسكت
في خضم هذا الزخم، بزغ نجم توماس مابفومو، الموسيقي الزيمبابوي الذي يُلقب بـ"أسد زيمبابوي"، و"موكانيا" بلغة قبيلته. ابتكر مابفومو نمطًا موسيقيًا جديدًا أطلق عليه اسم "تشيمورينغا"، وهي كلمة في لغة الشونا تعني "التحرير"، وتعود إلى اسم أحد قادة انتفاضة 1896، مورينغا، الذي أصبح رمزًا لحروب التحرير.
مزج مابفومو بين موسيقى الشونا التقليدية وآلة "المبيرا"، وبين الآلات الكهربائية الحديثة، ليخلق صوتًا ثوريًا يحمل مضامين اجتماعية وسياسية، ويدعو صراحةً إلى الإطاحة بالحكومة، كما في أغنيته "هوكويو!" التي تعني "انتبه!"، والتي تقول:
احذروا… احذروا !!
ها هو السيفُ بيدي،
ها هو الحدُّ عندي،
أنا المقاتلُ الوحيد،
أنا كاريكوغا، أناديك أيها الملك
انظروا… ها هو السهم العاشر،
قد أسقط اثنين بضربةٍ واحدة،
من يكون ذاك القادم؟
من يجرؤ على التقدّم؟
احذروا… احذروا !!
كانت كلمات الأغنية نداء يقظة، وصيحة تحذير، ورمزًا للمقاومة المسلحة. حظرت الحكومة الروديسية بثها، واعتقلت مابفومو دون تهمة، لكن الأغنية تسللت إلى الحانات ومحطات الإذاعة الحرة، ومنها "صوت موزمبيق"، لتصبح صوتًا لا يُقمع.
رقصة "توّي توّي".. جسد يحتج
في معسكرات التدريب الجزائرية في ستينيات القرن الماضي، وُلدت رقصة "توّي توّي"، لا كفنٍ للترفيه، بل كتمرين عسكري للمجندين الأفارقة ثم انتقلت جنوبًا إلى تنزانيا وزامبيا، ثم إلى قوات تحرير زيمبابوي، لتصبح لاحقًا رقصة احتجاجية تُجسّد انتصار الروح على القمع.
كانت "توّي توّي" تُؤدى في الشوارع، وتُستخدم شكلا من أشكال العصيان المدني، حتى حصرها موغابي عام 2004 داخل القاعات، خشية أن تتحول إلى شرارة غضب، وكان نشيد "أماندلا" شعارًا شعبيًا حاشدًا، يُعتبر علامة مميزة للمؤتمر الوطني الأفريقي، و"أماندلا" تعني "القوة" في لغتي الزولو والهوسا.
بوب مارلي في هراري.. حين غنّى الريغي للحرية
في ديسمبر/كانون الأول 1979، وقّعت اتفاقية لانكستر هاوس في لندن، فاتحةً الطريق لأول انتخابات حرة في روديسيا، التي ستُعرف لاحقًا بزيمبابوي، وفي فبراير/شباط 1980، حقق حزب زانو-بي إف فوزًا ساحقًا، وأصبح زعيمه روبرت موغابي أول رئيس وزراء للبلاد.
بدعوة من قادة التحرير، سافر أسطورة الريغي الجامايكي بوب مارلي إلى هراري، حاملًا فرقته الموسيقية ونظامه الصوتي بالكامل، ليُشارك في حفل استقلال زيمبابوي في الأول من أبريل 1980، كان العرض مقررًا في ملعب "روفارو"، حيث امتلأت المدرجات بالجماهير، لكن الحدث تعطل بسبب تدفق الحشود نحو البوابات.
في تلك الأمسية، تحوّل الملعب إلى مسرحٍ للتاريخ. أُنزل علم بريطانيا، وارتفع علم الدولة الوليدة، وأشعل موغابي شعلة الحرية أمام أنظار العالم ووسط حضور بلغ 40 ألف شخص، يتقدمهم الأمير تشارلز، وريث العرش البريطاني، ورئيسة وزراء الهند آنذاك إنديرا غاندي، اعتلى مارلي المسرح، ليغني لزيمبابوي.
لم يكن مارلي مجرد ضيف موسيقي، بل مؤمنًا إيمانا عميقًا بقضية التحرر الأفريقي. موّل رحلته بنفسه، وجاء ليشهد ميلاد أمة جديدة. ومع أول نغمة من أغنيته "زيمبابوي"، انفجر المدرج بالهتاف والدموع. بالنسبة للمحاربين القدامى، كان الصوت مزيجًا من النصر والحنين، وصرخةً في وجه الاستعمار.
إعلان
لكن أغنية "زيمبابوي" لم تولد في تلك الليلة فقط. قبل عامين، في أديس أبابا، بدأ مارلي بتجريب لحنها، مستلهمًا من روح أفريقيا وإيقاعات الشونا، كان يشعر أن لحظة الاستقلال قادمة، وأن صوته يجب أن يكون جزءًا منها. وهكذا تحوّلت موسيقاه إلى نشيد للمقاتلين، وصرخة في وجه الاستعمار والتمييز العنصري.
لم يخلُ الحفل من التوتر. آلاف تجمعوا خارج الملعب وحاولوا الدخول، ما دفع الشرطة لاستخدام الغاز المسيل للدموع، لكن مارلي لم يتوقف، ظل يغني وسط الدخان، ليجعل موسيقاه أقوى من الفوضى. وفي اليوم التالي، كرر العرض أمام جمهور مضاعف قارب المئة ألف، لتبقى تلك الليلة من أبريل/ نيسان 1980 محفورة في الذاكرة، ليلة غنّى فيها بوب مارلي لزيمبابوي، فصارت الأغنية وطنًا قبل أن يصبح الوطن حقيقة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 8 ساعات
- الجزيرة
موسيقى "تشيمورينغا".. أنغام الثورة في زيمبابوي
في قلب القارة الأفريقية، حيث تتنفس السافانا أنفاس الأسلاف، كانت روديسيا، الدولة الحبيسة، مسرحًا لصراع طويل بين الاستعمار والهوية. سكنت شعوب السان هذه الأرض منذ آلاف السنين، قبل أن تصل موجات الهجرة البانتوية، حاملةً معها لغات وأساطير ومعتقدات روحية. مع نهاية القرن التاسع عشر، دشّنت شركة جنوب أفريقيا البريطانية مرحلة الاستعمار في روديسيا الجنوبية، لتخضع البلاد لحكم الأقلية البيضاء من المستوطنين الأوروبيين. وفي عام 1965، أعلن رئيس الوزراء إيان سميث استقلالًا أحاديًا عن بريطانيا، ما أدى إلى عزلة دولية وحرب تحرير قادتها حركتا زانو بقيادة روبرت موغابي، وزابو بقيادة جوشوا نكومو. تحت ضغط الحرب والعقوبات، دخلت روديسيا مفاوضات لانكستر هاوس عام 1979، التي مهدت لأول انتخابات ديمقراطية. وفي 18 أبريل/نيسان 1980، وُلدت زيمبابوي، معلنةً نهاية الاستعمار وبداية عهد جديد. تضم زيمبابوي 16 لغة رسمية، أبرزها الشونا التي يتحدث بها أكثر من 70% من السكان، بينما تُستخدم الإنجليزية لغة مشتركة في الحكومة والتعليم، وهي اللغة الأولى للبيض والثانية لغالبية السود. موسيقى حرب الأدغال.. حين يصبح الإيقاع سلاحًا قبل أن تتحول الموسيقى إلى سلاحٍ في يد الثوار، كانت مرآةً للروح الزيمبابوية. تقليديًا، ترتكز على السلم الخماسي، مثل سلم "دو الكبير" (دو – مي – فا – صول – سي بيمول)، وأحيانًا على سلم خماسي صغير (دو بيمول – مي بيمول – فا – صول – سي). كما تُغنى أنماط "المبيرا" على سلم سباعي يُشبه المقامات الأفريقية التقليدية، لكنه يختلف عن النظام النغمي الغربي المتساوي. تعتمد الموسيقى الزيمبابوية التقليدية في العموم على التكرار الميلودي، وتُرافقها إيقاعات الطبول التي تُشبه نبض الأرض. الموسيقى إحدى أدوات التحرر وفي خضم حرب تحرير زيمبابوي (1964-1979)، تحولت الموسيقى إلى أداة تعبئة وتحريض، تُغني للثورة وتُعلّم المقاتلين، وتبني الهوية الوطنية في وجه الاستعمار. كانت الأغاني تُردد في المعسكرات، وتُستخدم في التدريب، وتُغرس في الوجدان كأنها صلاةٌ يومية. موسيقى "تشيمورينغا" كسرت الطوق الثقافي الاستعماري، وأصبحت أشبه بالطائفة الروحية لمقاتلي التحرر، بسبب نزوعها إلى الأصول الأفريقية. استخدمت جماعات المقاومة الأغاني كأدوات تنظيمية، وفي أحيان كثيرة كجزء من إعداد المقاتلين، في مقابل الموسيقى الوطنية للأقلية البيضاء التي احتفظت بسيطرة رمزية تراجعت لاحقًا أمام زخم موسيقى المقاومة. توماس مابفومو.. صوت الثورة الذي لا يُسكت في خضم هذا الزخم، بزغ نجم توماس مابفومو، الموسيقي الزيمبابوي الذي يُلقب بـ"أسد زيمبابوي"، و"موكانيا" بلغة قبيلته. ابتكر مابفومو نمطًا موسيقيًا جديدًا أطلق عليه اسم "تشيمورينغا"، وهي كلمة في لغة الشونا تعني "التحرير"، وتعود إلى اسم أحد قادة انتفاضة 1896، مورينغا، الذي أصبح رمزًا لحروب التحرير. مزج مابفومو بين موسيقى الشونا التقليدية وآلة "المبيرا"، وبين الآلات الكهربائية الحديثة، ليخلق صوتًا ثوريًا يحمل مضامين اجتماعية وسياسية، ويدعو صراحةً إلى الإطاحة بالحكومة، كما في أغنيته "هوكويو!" التي تعني "انتبه!"، والتي تقول: احذروا… احذروا !! ها هو السيفُ بيدي، ها هو الحدُّ عندي، أنا المقاتلُ الوحيد، أنا كاريكوغا، أناديك أيها الملك انظروا… ها هو السهم العاشر، قد أسقط اثنين بضربةٍ واحدة، من يكون ذاك القادم؟ من يجرؤ على التقدّم؟ احذروا… احذروا !! كانت كلمات الأغنية نداء يقظة، وصيحة تحذير، ورمزًا للمقاومة المسلحة. حظرت الحكومة الروديسية بثها، واعتقلت مابفومو دون تهمة، لكن الأغنية تسللت إلى الحانات ومحطات الإذاعة الحرة، ومنها "صوت موزمبيق"، لتصبح صوتًا لا يُقمع. رقصة "توّي توّي".. جسد يحتج في معسكرات التدريب الجزائرية في ستينيات القرن الماضي، وُلدت رقصة "توّي توّي"، لا كفنٍ للترفيه، بل كتمرين عسكري للمجندين الأفارقة ثم انتقلت جنوبًا إلى تنزانيا وزامبيا، ثم إلى قوات تحرير زيمبابوي، لتصبح لاحقًا رقصة احتجاجية تُجسّد انتصار الروح على القمع. كانت "توّي توّي" تُؤدى في الشوارع، وتُستخدم شكلا من أشكال العصيان المدني، حتى حصرها موغابي عام 2004 داخل القاعات، خشية أن تتحول إلى شرارة غضب، وكان نشيد "أماندلا" شعارًا شعبيًا حاشدًا، يُعتبر علامة مميزة للمؤتمر الوطني الأفريقي، و"أماندلا" تعني "القوة" في لغتي الزولو والهوسا. بوب مارلي في هراري.. حين غنّى الريغي للحرية في ديسمبر/كانون الأول 1979، وقّعت اتفاقية لانكستر هاوس في لندن، فاتحةً الطريق لأول انتخابات حرة في روديسيا، التي ستُعرف لاحقًا بزيمبابوي، وفي فبراير/شباط 1980، حقق حزب زانو-بي إف فوزًا ساحقًا، وأصبح زعيمه روبرت موغابي أول رئيس وزراء للبلاد. بدعوة من قادة التحرير، سافر أسطورة الريغي الجامايكي بوب مارلي إلى هراري، حاملًا فرقته الموسيقية ونظامه الصوتي بالكامل، ليُشارك في حفل استقلال زيمبابوي في الأول من أبريل 1980، كان العرض مقررًا في ملعب "روفارو"، حيث امتلأت المدرجات بالجماهير، لكن الحدث تعطل بسبب تدفق الحشود نحو البوابات. في تلك الأمسية، تحوّل الملعب إلى مسرحٍ للتاريخ. أُنزل علم بريطانيا، وارتفع علم الدولة الوليدة، وأشعل موغابي شعلة الحرية أمام أنظار العالم ووسط حضور بلغ 40 ألف شخص، يتقدمهم الأمير تشارلز، وريث العرش البريطاني، ورئيسة وزراء الهند آنذاك إنديرا غاندي، اعتلى مارلي المسرح، ليغني لزيمبابوي. لم يكن مارلي مجرد ضيف موسيقي، بل مؤمنًا إيمانا عميقًا بقضية التحرر الأفريقي. موّل رحلته بنفسه، وجاء ليشهد ميلاد أمة جديدة. ومع أول نغمة من أغنيته "زيمبابوي"، انفجر المدرج بالهتاف والدموع. بالنسبة للمحاربين القدامى، كان الصوت مزيجًا من النصر والحنين، وصرخةً في وجه الاستعمار. إعلان لكن أغنية "زيمبابوي" لم تولد في تلك الليلة فقط. قبل عامين، في أديس أبابا، بدأ مارلي بتجريب لحنها، مستلهمًا من روح أفريقيا وإيقاعات الشونا، كان يشعر أن لحظة الاستقلال قادمة، وأن صوته يجب أن يكون جزءًا منها. وهكذا تحوّلت موسيقاه إلى نشيد للمقاتلين، وصرخة في وجه الاستعمار والتمييز العنصري. لم يخلُ الحفل من التوتر. آلاف تجمعوا خارج الملعب وحاولوا الدخول، ما دفع الشرطة لاستخدام الغاز المسيل للدموع، لكن مارلي لم يتوقف، ظل يغني وسط الدخان، ليجعل موسيقاه أقوى من الفوضى. وفي اليوم التالي، كرر العرض أمام جمهور مضاعف قارب المئة ألف، لتبقى تلك الليلة من أبريل/ نيسان 1980 محفورة في الذاكرة، ليلة غنّى فيها بوب مارلي لزيمبابوي، فصارت الأغنية وطنًا قبل أن يصبح الوطن حقيقة.


الجزيرة
منذ 14 ساعات
- الجزيرة
سباق أفريقي مع الزمن لتحقيق العدالة الكهربائية
في صباح عاصف من أغسطس، وقف وزير الكهرباء الجنوب أفريقي كغوسينتشو راموكغوبا أمام محطة "ميدوبي" لتوليد الطاقة، معلنا أن البلاد على مشارف إنهاء أزمة انقطاع الكهرباء المتكرر، أو ما يُعرف بـ"التحميل المرحلي"، الذي أضرّ بالنمو الاقتصادي لأكبر اقتصاد في القارة حسب ما يقول تقرير فايننشال تايمز. لكن خلف هذا الإعلان، يقول التقرير، تكمن أزمة أعمق: فحتى أكثر دول أفريقيا تصنيعا مثل جنوب أفريقيا ، تعاني من شبكة كهرباء متهالكة، تغذيها محطات فحم قديمة، وتثقلها أزمات الفساد والتخريب. وتقف شركة "إسكوم" الحكومية، التي تنتج ثلث كهرباء القارة وتغذي 90% من جنوب أفريقيا، على رأس منظومة تعاني من خلل بنيوي مزمن. ملايين الأفارقة بلا كهرباء وجاء في التقرير، إن أزمة جنوب أفريقيا تُظهر حجم التحدي الذي تواجهه القارة في إيصال الكهرباء إلى نحو 600 مليون شخص، يمثلون أكثر من 80% من سكان العالم الذين يفتقرون إلى وصول موثوق للطاقة. وبينما تقترب دول المغرب العربي من تحقيق الوصول الشامل، تغرق مناطق واسعة من أفريقيا جنوب الصحراء في الظلام كل ليلة، ما يعيق التعليم والرعاية الصحية والتنمية الاقتصادية. ويحذر خبراء من أن إنهاء الانقطاعات لا يعني بالضرورة توفير خدمات الطاقة المطلوبة لدعم النمو السكاني والاقتصادي، الذي يُتوقع أن يبلغ 4.3% هذا العام، وهو الأعلى عالميًا حسب ما توصل إليه تقرير فايننشال تايمز. استثمارات ضخمة مطلوبة بحسب وكالة الطاقة الدولية، فإن تحقيق الوصول الشامل يتطلب إيصال الكهرباء إلى 90 مليون شخص سنويا، أي ثلاثة أضعاف المعدل الحالي، بتكلفة تُقدّر بـ64 مليار دولار سنويا وفقا للبنك الأفريقي للتنمية. لكن شبكات الكهرباء، التي يعود بعضها إلى الحقبة الاستعمارية، تحتاج إلى إعادة تأهيل شاملة، إذ تبلغ خسائر النقل والتوزيع في أفريقيا نحو 20%، مقارنة بـ5% فقط في الدول المتقدمة. الجغرافيا السياسية والطاقة ويشير التقرير إلى تأثير الحرب الروسية على أوكرانيا في أسعار الوقود، ما زاد من معاناة الدول الأفريقية التي تعتمد على مولدات الديزل. كما عززت موسكو نفوذها في سياسات الطاقة لدى عدد من دول الساحل، التي تسعى إلى الابتعاد عن القوى الاستعمارية السابقة. إعلان ويرى التقرير أن جذور التفاوت في توزيع الطاقة يعود إلى أنظمة استعمارية ركزت على النخب الحضرية والصناعات الاستخراجية، تاركة المناطق الريفية في عزلة، وهي اليوم موطن أكثر من 80% من السكان المحرومين من الكهرباء، حيث تُعد الشبكات الصغيرة وأنظمة الطاقة الشمسية المستقلة الحل الأنسب. فرص الطاقة المتجددة رغم التحديات، تقول فايننشال تايمز، إن الطاقة المتجددة تمثل 55% من احتياجات القارة، مدفوعة بوفرة ضوء الشمس والتكنولوجيا المتطورة. في نيجيريا ، تهدف خطة التحول الطاقي إلى تحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060، مع أهداف طموحة لرفع قدرة الطاقة الشمسية المركزية إلى 8 غيغاواط بحلول 2030، ثم إلى 80 غيغاواط بحلول 2040. أما جنوب أفريقيا، فقد حصلت على دعم دولي بـ 8.5 مليارات دولار في إطار "شراكة التحول العادل للطاقة" لتسريع الانتقال نحو مصادر نظيفة. لكن خبراء الصناعة يحذرون من أن التحول السريع قد لا يكون عمليا، إذ لا تزال الحاجة إلى مصادر طاقة أساسية مثل الفحم قائمة لضمان الإمداد المستمر. خيار الطاقة النووية بينما تمتلك جنوب أفريقيا محطة نووية عاملة، تتجه دول شرق أفريقيا مثل أوغندا ورواندا وكينيا وتنزانيا نحو الطاقة النووية كحل طويل الأمد. أوغندا، على سبيل المثال، يقول التقرير، تعهدت ببناء محطة نووية بطاقة 2000 ميغاواط بحلول 2031. لكن الطريق إلى الطاقة النووية طويل ومكلف، ويتطلب استقرارا سياسيا ودعما شعبيا واسعا، وهو ما تفتقر إليه العديد من الدول. ويشير محللون إلى أن رواندا وكينيا، اللتين تخططان لمفاعلات بحثية صغيرة، هما الأقرب للنجاح، رغم التحديات السياسية الأخيرة في كينيا. الطاقة النووية الروسية وقّعت روسيا اتفاقيات نووية مع 18 دولة أفريقية، منها مالي وبوركينا فاسو، اللتان أعادتا توجيه سياساتهما نحو موسكو. لكن حجم المشاريع النووية يفوق بكثير قدرات شبكات الكهرباء والاقتصادات في دول الساحل، ما يجعل من هذه الاتفاقيات، وفقا لخبراء، أدوات لتعزيز النفوذ السياسي والاقتصادي الروسي أكثر من كونها حلولا عملية لأزمة الطاقة.


الجزيرة
منذ 3 أيام
- الجزيرة
ناشونال إنترست: الاستخبارات الأميركية أمام منعطف حاسم
يواجه مجتمع الاستخبارات في الولايات المتحدة اليوم، أزمة قد تعيد صياغة صورته لعقود مقبلة. فالإدارة الأميركية الحالية تدفع باتجاه محاسبة قادة الاستخبارات على ما تعتبره حملة سياسية منسّقة لتضليل الكونغرس والشعب بشأن علاقة الرئيس دونالد ترامب بـ روسيا ، وفق مقال بمجلة ناشونال إنترست. وكتب جوشوا يافي -كبير الباحثين في مركز ناشونال إنترست للدراسات بواشنطن- في المقال أنه حتى إذا بقيت الأدلة الكاملة سرية إلى حد كبير ولم تتجاوز المحاكمات مرحلة لوائح الاتهام أمام هيئة المحلفين الكبرى، وملّ الأميركيون من متابعة القصة، فإن التداعيات ستظل عميقة. واعتبر أن هذا النوع من المحاولات يحدث مرة واحدة في كل جيل، على غرار لجنة التحقيق في هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 على نيويورك وواشنطن، حيث سيُجبر مسؤولون كبار في الاستخبارات (سابقون وربما حاليون) على المثول أمام الرأي العام لمواجهة المساءلة. رواية مصطنعة يشير الكاتب إلى أن مديرة الاستخبارات الوطنية تولسي غابارد رفعت السرية هذا الصيف عن كم هائل من الوثائق التي تكشف أن حملة مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون لانتخابات الرئاسة عام 2016، حاولت -بالتعاون مع مؤسسة جورج سوروس- صرف الأنظار عن فضائحها الخاصة من خلال تلفيق رواية زائفة عن تواطؤ روسيا مع مرشح الحزب الجمهوري آنذاك دونالد ترامب. وبالمقابل، استعجل مدير الاستخبارات الوطنية السابق جيمس كلابر، بمساعدة مدير وكالة الاستخبارات المركزية جون برينان ، ومدير مكتب التحقيقات الفدرالي جيمس كومي، إصدار تقييم استند إلى معلومات كانوا يعلمون أنها مشكوك فيها، رغم اعتراض عدد من زملائهم. ويعتقد كاتب المقال أن هذه هي القراءة المباشرة والواضحة للتفاصيل التي كُشف عنها، ومن الصعب العثور على تفسير عقلاني آخر. هل الاستخبارات مُسيَّسة؟ ينسف يافي في مقاله "خرافتين" أساسيتين يحرص مجتمع الاستخبارات على ترويجهما عن نفسه وهي أن هذا المجتمع موضوعي، وغير مسيّس. يعتبر الكاتب أن هاتين الخرافتين تمثلان ركيزتين لأسلوب العمل التحليلي، وركنا من أركان مهنة التجسس التي تدعي أجهزة الاستخبارات الأميركية أنها تستند إلى "المنهج العلمي" الذي يضفي عليها الاحترام. صحيح أن البيانات الأولية قد تكون حقائق قائمة بذاتها، لكن أي خطوة يتجاوز فيها المحلل مجرد إعادة سرد أحداث مؤكدة وموثّقة تعني بالضرورة انخراطه في الرأي والذاتية، على حد تعبير كاتب المقال. وفي تقدير الباحث يافي أن هذا ليس بالضرورة أمرا سلبيا، بل مجرد واقع يجب الاعتراف به، تماما كما يجب الإقرار بأن صانعي القرار السياسيين يبحثون عن "سرديات" لفهم الأحداث، وأن جزءا من عمل المحللين هو صياغة تلك السرديات. ويضيف أن صعود المسؤولين الاستخباراتيين إلى مناصب رفيعة يتطلب علاقات سياسية لا تقل أهمية عن الخبرة الأمنية، كما برز في طموحات مايك موريل النائب السابق لمدير وكالة الاستخبارات المركزية، وعضو مجلس النواب السابق (السيناتور حاليا) آدم شيف الذي سمح بتسريبات انتقائية من لجنته عبر وسطاء، في محاولة منه لتعزيز فرصه للظفر بقيادة الاستخبارات الأميركية المركزية (سي آي إيه). ثقافة السرية ووفقا للمقال، فإن مهنة الاستخبارات تقوم على ثقافة من السرّية التي يمكن أن تولّد الغرور وانعدام المساءلة لدى كبار المسؤولين إذا تُركت بلا ضوابط. لقد روّجت الاستخبارات الأميركية لفكرة أن الفشل الاستخباراتي يكمن في عجزها عن فصل "الإشارات" عن "الضوضاء"، أو عن توصيل البيانات الصحيحة في الوقت المناسب، أو عن معالجة الانحيازات المعرفية. ومن وجهة نظر المقال أن كل هذه تبريرات توحي بأن زيادة الصرامة العلمية يمكن أن تحسّن المنتج وتنقذ أرواح الأميركيين. ومع أن ذلك يكون صحيحا أحيانا، لكن التواطؤ الروسي المعروف إعلاميا بـ"روسيا غيت" يوحي "بأننا نعيش في عصر السرديات، وأن مجتمع الاستخبارات منشغل بها بقدر انشغال وسائل الإعلام أو مراكز الأبحاث أو حملات الضغط أو حتى المؤثرين على وسائل التواصل". ويقول يافي إنه في الوقت الذي تستمر فيه التحقيقات، وإجراءات رفع السرية، والتسريبات، وربما صدور لوائح اتهام، فإن على أجهزة الاستخبارات في واشنطن أن تدرك أنها ليست فوق الصراعات السياسية، ولا تعيش بمعزل عن المشهد الإعلامي والسياسي في العاصمة، وهي ليست صاحبة الحكم النهائي على ما هو حقيقة وصواب أو خطأ وزيف. ويخلص إلى أن الأجهزة الأمنية في الولايات المتحدة لم تعد قادرة على ادعاء "التفوق المعرفي" أو الاحتماء خلف السرية، وأن الرأي العام الأميركي الذي شاهد نشر كم هائل من الوثائق هذا الصيف سيطالب بالمزيد من الشفافية في الإدارات المقبلة.