
فاروق الشرع: هكذا أفشل بشّار الأسد الغارق في حبّ الذات الحوار الوطني (6)
يصدر كتاب "مذكرات فاروق الشرع... الجزء الثاني 2000 - 2015" عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ويغطي فترةً من رئاسة بشار الأسد (2005 - 2015) استمر فيها الشرع في منصبه وزيراً للخارجية، ثم في منصب نائب رئيس الجمهورية، قبل أن يضطر إلى الاعتكاف بمنزله في 2013، وإصدار الأسد تعليمات بعدم التواصل معه. وبينما اعتُبر الجزء الأول شهادة تاريخية مهمّة على مسار من الأحداث التي شهدتها سورية في تفاعلاتها الإقليمية والدولية، خصوصاً ما يتعلّق بالمفاوضات السورية - الإسرائيلية، في عهد حافظ الأسد، يقدّم الشرع في هذا الكتاب شهادته على أحداث لا تقل أهمية في عهد بشار، منها اغتيال رفيق الحريري واتهامات مسؤولين سوريين بالتورّط في اغتياله، ما أسهم في دفع الخروج السوري من لبنان، وأحداث عصفت بسورية مع اندلاع الثورة السورية (2011). وتنشر "العربي الجديد" فصولاً من الكتاب. وهنا حلقة سادسة تتناول قرار الرئيس تشكيل هيئة الحوار الوطني برئاسة فاروق الشرع، وفي الوقت نفسه الحملة المنظمة السرّية التي قادها بشار الأسد وأجهزته المختلفة لإفشال الحوار.
..................................................................................................................
شكّل الرئيس بشّار الأسد بموجب القرار الجمهوري رقم 20 في 31 مايو/ أيار 2011 هيئة الحوار الوطني، وكلّفني رئاستها. وضمّت الباحث الاقتصادي الدكتور منير الحمش نائباً لرئيس اللجنة، وعضوي القيادة القُطرية ياسر حورية، وهيثم سطايحي، والدبلوماسي المجرّب والعريق عبد الله الخاني (انسحب من الهيئة لاحقاً)، والأديب وليد إخلاصي، وصفوان قدسي نائب رئيس الجبهة الوطنية التقدمية، وحنين نمر عضو القيادة المركزية للجبهة والأمين العام للحزب الشيوعي السوري الموحد، وأستاذ القانون الدكتور إبراهيم درّاجي. كانت مهمّة الهيئة وضع أسس وآليات حوار وطني وصولاً إلى مؤتمر وطني شامل لحل الأزمة. لقد اعتبر الرئيس تشكيل هيئة الحوار فرصة تاريخية، نقلتها عنه الصحف السورية الرسمية، وهذه الفرصة من شأنها حثّ الشعب على مناقشة مستقبل سورية كما صرّح الرئيس نفسُه.
عقد الرئيس بعدها مباشرة اجتماعاً في قصر الشعب مع أعضاء الهيئة، أكّد خلاله "صياغة الأسس العامة للحوار المزمع البدء به، بما يحقق توفير مناخ ملائم لكل الاتجاهات الوطنية للتعبير عن أفكارها وتقديم آرائها ومقترحاتها بشأن مستقبل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سورية، وتحقيق تحولات واسعة تسهم في توسيع المشاركة في ما يتعلق بقانوني الأحزاب والانتخابات وقانون الإعلام". هكذا أورد الإعلام الحكومي نصّ خبر اللقاء، نقلاً عن المكتب الصحافي لرئاسة الجمهورية، الذي قال أيضاً: "لقد أصبح الحوار ممكناً وقادراً على توفير نتائج أفضل بعد صدور العديد من القرارات والمراسيم التي تسهم في تعزيز المشاركة من مختلف المكونات السياسية والاقتصادية والاجتماعية".
انزعج الرئيس من نشر أخبار اجتماعات هيئة الحوار في وسائل الإعلام، ولم يخطر ببالي أنه كان يرى فيها مساساً بدوره
اجتمعت اللجنة السياسية برئاستي في 11 يونيو/ حزيران 2011، حيث كان الرئيس ينوي التوجّه إلى الشعب بعد أسبوع للحديث عن المسائل التي تمر بها سورية، وعن أهمية الحوار الوطني الشهر المقبل. تمنّت اللجنة السياسية ضرورة تضمين كلمته المتلفزة المواضيع التالية التي حظيت بإجماع اللجنة، علماً بأنني أعلمته على الهاتف أيضاً بأنني أرسلت إليه صورة عن المحضر مع ملخص لتضمين خطابه ما يلي: • مراجعة الدستور مع إجراء تعديلات على بعض مواده. • مناقشة قانون جديد للأحزاب.• مناقشة قانون للإعلام. • مناقشة المادة الثامنة من الدستور.
ألقى الرئيس بالفعل خطابه في مدرج جامعة دمشق في 20 يونيو/ حزيران 2011، وذكر فيه مطالب اللجنة السياسية المشار إليها، غير أنه أوردها في نهاية خطابه ولم يعطها الأولوية التي تستحقّ في هذا الظرف الحسّاس. تحدّث عملياً عن إمكانية تعديل الدستور وحتى إمكانية صياغة دستور جديد للبلاد. لكن بعض وسائل إعلام المعارضة ركّزت حينها على عبارة الجراثيم الغامضة التي لصقها بشكل غير مباشر بالمعارضين، فتركها للمعارضة لتتهكّم وتشرحها بما يتناسب مع أهدافها.
بعد اللقاء مع الرئيس، عقدت هيئة الحوار الوطني برئاستي عدة اجتماعات مكثفة ودورية لوضع خطط عمل من أجل تحقيق الغاية المتوخّاة من إنشائها. لكن الرئيس عبّر لي مباشرة ولأعضاء آخرين في اللجنة عن انزعاجه من نشر أخبار اجتماعات الهيئة في وسائل الإعلام، فأوقفت ذلك، لأن موضوع الدعاية ليس من أولويات اهتماماتي، ولم يخطُر ببالي أن الرئيس كان يرى فيها مساساً بدوره في ظرفٍ يجب أن نشرك الشعب بالخطوات التي قطعها الحوار الوطني في سورية. أصبح دور أعضاء الهيئة مكرّساً فقط من أجل التحضير للقاء تشاوري يمهد لحوار وطني شامل في مؤتمر جامع برئاسة الرئيس، وسوف يُعقد قريباً في قصر المؤتمرات بدمشق.
مهما يكن من أمر، فإن الفترة المتاحة أمامنا، وهي أقل من شهر، كانت ضيقة لعقد لقاء تشاوري يمهد للقاء الحوار الوطني، لا سيما بوجود لقاءات لبعض الشخصيات السورية المعارضة في الداخل، مثل اللقاء في فندق سميراميس في 27 يونيو 2011، أي قبل انعقاد مؤتمر الحوار الوطني في مجمع صحارى بأسبوعين، وإعلان بعض المبادرات الأخرى.
كانت المعارضة السورية في الخارج أشدّ انتقاداً لهيئة الحوار الوطني من معارضة الداخل، حيث اعتبرتها صنيعة النظام، بل طالبت بعض قادتها برفض أي حوار، أو ربما أنها تصرّفت حينها كأن الحزب الحاكم انتهى أو في طريقه إلى النهاية القريبة.
اجتماع لمعارضين سوريين في "مؤتمر التغيير في سوريا" في أنطاليا في تركيا (2/6/2011 فراتس رس)
اتّخذنا في هيئة الحوار الوطني من القيادة السياسية مرجعية، انطلاقاً من القناعة بأن حزب البعث يمثل شريحة مهمّة تجاوز عدد المسجلين في صفوفه آنذاك مليوني عضو داخل سورية. لهذا، اقترحت الهيئة على القيادة أن يمثل الحزب بثلث في الحوار الوطني، أما الثلثان الآخران فسيكون ثلث للمستقلين وثلث للمعارضة بالتساوي. وافقت القيادة بالإجماع على هذا الاقتراح، ولقي، في الوقت ذاته، الترحيب من أعضاء الهيئة؛ لأن تشكيلتها، من حيث ميول أعضائها السياسية التي وافق عليها الرئيس عند إصدار قرار الهيئة، تكاد تعكس صورةً مشابهةً لهذه الصيغة.
كانت الخطوة الثانية عقد لقاءات مع الشخصيات المعارضة المعروفة في الداخل السوري، مثل حسن عبد العظيم، وعارف دليلة، والطيب تيزيني، ورجاء الناصر، ومحمد حبش، وقدري جميل، وميشيل كيلو، وحسين العودات، ولؤي حسين، وحبيب عيسى، وغيرهم. هذه الشخصيات المعارضة المهمة كانت قد عبرت عن مواقفها بوضوح في منتصف مارس/ آذار 2011 بوسائل شتى، وقبل ذلك عبر وسائل الإعلام. كان الهاجس المشترك لهؤلاء المعارضين، كما تبيّن لي خلال لقاءاتي معهم، يتمحور حول مصداقية النظام ومدى وفائه بتعهداته. حاولت من جانبي شرح الأمر بقولي: "إننا في النظام وأنتم في المعارضة سنندم جميعاً في المستقبل إذا لم نشارك لإنجاح الحوار الوطني".
تلخّصت الخطوة الثالثة بتوجيه هيئة الحوار الوطني عدة دعوات إلى من هم في الخارج والداخل. بلغ عدد المدعوين إلى اللقاء التشاوري رجالاً ونساءً أكثر من مئتي شخصية، وهم الذين سيعقدون أولى لقاءاتهم في العاشر من يوليو/ تموز بدمشق، إلا أن عدم تلبيتهم الدعوة لا يحتاج إلى توضيح؛ فالأسباب ما زالت موجودة حينها: استمرار إطلاق النار على المتظاهرين، والاعتقال عند الوصول إلى سورية، أو مراجعة أحد فروع الأمن من دون سبب وجيه. كنتُ أعرف مسبقاً أن معظم معارضة الخارج لن تغامر بالحضور، حتى لو كانت جنحتهم مخالفة سير، إلا بتدخّل شخصي من رئيس الجمهورية.
في اجتماع دوري للقيادة القُطرية برئاسة الأمين القطري المساعد للحزب محمد سعيد بخيتان، طرحت مجدداً ما استجد من أمور ذات صلة بالمراحل التي قطعها التحضير لمؤتمر الحوار أو اللقاء، وضرورة أن تسمي القيادة من سيشارك فيه؛ لأن الفترة المتبقية على انعقاده غدت محدودة، ثم إنني شخصياً أردت التأكّد مرة أخرى من موافقة أو تحفظ كل عضو في القيادة، إزاء انعقاده، وأيضاً من تمثيل الحزب بثلث الحضور؛ لأن الشكوك بدأت تساورني جراء تمتمات من داخل الحلقة الأمنية، كان أكثرها دلالة من اللواء محمد ناصيف خير بيك، وهو من أبرز الشخصيات الأمنية سنوات والمقرّب من آل الأسد، وكان قد عُيّن قبيل تقاعده معاوناً لي نائب رئيس، حيث عبر في حديث مع مدير مكتبي عن الامتعاض من فكرة اللقاء المذكور وما قد ينتج منه من توصياتٍ غير مرغوبة. لكنني شعرت بالاطمئنان لأن الإجماع متوفر، حيث ذهب بعض أعضاء القيادة القطرية إلى حد القول إن الثلث من المستقلين سيكون أقرب إلى أفكار "البعث" منه إلى أفكار المعارضة.
كنت أعرف مسبقاً أن المعارضة في الخارج لن تشارك في المؤتمر لأن أسماءهم لا تزال في قوائم الممنوعين من دخول سورية
وعد بخيتان أنه سيوافينا بأسماء الحزبيين المقترحة خلال يومين. وفعلاً، تم تزويد هيئة الحوار بهذه الأسماء. أما المعارضة، خصوصاً معارضة الخارج، فقد اعتذر بعضها للهيئة هاتفياً أو خطّياً، بمن فيهم برهان غليون وسمير العيطة ورامي عبد الرحمن، في حين بقي آخرون متردّدين حتى اليوم الأخير من افتتاح أعمال اللقاء التشاوري، مثل هيثم مناع الذي كان أخوه معتقلاً وسبباً مباشراً في عدم حضوره. ولم يكن التأجيل متاحاً لإقناع المتردّدين من المعارضة، لأنه سيعطي إشارة سلبية إلى احتمال فشل الحوار الوطني. بلغ عدد المدعوين 213، حضر من بينهم 187، واعتذر عن عدم الحضور 26 مدعواً. وكان واضحاً أن بعض من اعتذر في الداخل قد أعرب عن رأيه صراحةً بأنه لا يمكن أن يشارك في المؤتمر ووالده معتقل، أو في ظل استمرار العمليات الأمنية. والرئيس هو فعلاً مفتاح المدعوين من الخارج، ومن بينهم الممنوعون وأسماؤهم في المطار وعلى الحدود؛ لأن الصلاحيات لا تنقصه.
كنتُ أعرفُ مسبقاً أن المعارضة في الخارج لن تغامر بالحضور للمشاركة في هذا المؤتمر؛ لأن أسماءهم كانت لا تزال على قوائم الممنوعين من دخول سورية. وعلى الرغم من معرفة أعلى السلطات التنفيذية، وفي مقدّمتهم رئيس الجمهورية، بأسماء جميع المدعوين، لكن لم يجر، مع الأسف، أي مسعى لطمأنتهم.
أذكر أنني بوصفي وزيراً للخارجية منذ سنوات، وبتوجيه من الرئيس نفسه، أرسلتُ تعميماً إلى جميع سفاراتنا في الخارج لحل موضوع وثائق الممنوعين من العودة وإصدار جوازات سفر لهم. اتّصلت بالرئيس مستوضحاً أسباب عدم تنفيذ الجهات المعنية للتعميم، فتحجّج أنه جرى إخباره للتو من رئيس الهيئة المركزية للرقابة بأن هناك أضابير بأسماء أكثر من ثلاثمئة ألف لا يمكن تسويتها بالسرعة المطلوبة.سور
مشاركون في الاجتماع التشاوري للحوار الوطني، السوري، في دمشق (10/7/2011 فرانس برس)
اللقاء التشاوري للحوار الوطني
سهرتُ حتى ساعة متأخّرة من الليل لمراجعة الكلمة التي سألقيها في صباح الجلسة الافتتاحية. لم أشعُر بحجم المسؤولية مثلما شعرتُ بها حينها، إزاء كل حرف وعبارة وتداعياتها ومعناها القريب والبعيد، كأنني ما كتبت خطاباتي سابقاً أكثر من عقدين في الأمم المتحدة وفي محافل دولية عديدة. لكن للكلام هنا عن سورية الداخل بالذات وقع آخر، لأنني منذ الأيام الأولى لأحداث ما أطلق عليه "الربيع العربي"، وخلافاً لتوقعات كثيرين، كنتُ أشعر بأن نهاية الأحداث ليست قريبة، وأن الطريق الذي سوف نسلكه بإرادتنا مليء بالحفر والمزالق، ولا أريد ألبتة أن يشعر الآخرون، خصوماً أم أصدقاء، بأنني متشائم إلى هذا الحد. كنتُ أصف الوضع في سورية، عندما يسألني أحد الضيوف، بالمعقّد والمركّب. وكررت هذا الوصف في كلماتي في مناقشة البيان الأخير للمؤتمر وأمام الجميع.
بدأت الجلسة الافتتاحية صباح 10 يوليو/ تموز 2011 بكلمة مقتضبة ألقاها الدكتور منير الحمش، عبّر فيها عن أهداف المؤتمر وأهميته الاجتماعية والاقتصادية في إخراج البلاد من أزمتها، ثم أعطاني الكلمة لافتتاح المؤتمر. أكّدتُ في كلمتي أن هدف هذا الحوار، في نهاية المطاف، هو الوصول إلى الدولة التعدّدية الديمقراطية، وأنه لا ينطلق في أجواء مريحة، لأن خطط الآخرين استندت إلى كمٍّ من الأخطاء الذاتية التي كنّا نرميها تحت السجادة دونما تفكير عميق في قادم الأيام، وشرحت أن هناك مطالب محقة تتعلق بحياة الناس المعيشية وأمانهم وكرامتهم لا يجوز أن نهملها، وأن هذا الحوار ليس منّة من أحد على أحد.
أوضحتُ أن معاقبة مواطنين سوريين يحملون رأياً مختلفاً بمنعهم من السفر أو من العودة إلى الوطن سيقودهم حتماً إلى طلب الحماية من دولٍ أخرى. وقلتُ، من جانب آخر، مخاطباً من يرفضون الحوار من المعارضة، إن الحروب الكبرى والصغرى والأزمات الوطنية لم تنته إلا بالحوار. وعبّرتُ عن أمل جميع المواطنين بأن يفي الرئيس بشّار الأسد بما وعد به الشعب السوري، مذكّراً بخطابه على مدرّج جامعة دمشق في 20 حزيران/ يونيو 2011. ورفضتُ في كلمتي أي تدخّل خارجي، وطالبت أن تكف بعض الدول عن صبّ النفط على النار.
ثم فُتح المجال لمداخلات المشاركين في اللقاء، ومناقشة ما ورد في جدول الأعمال من بنود ومشاريع قوانين، كان في مقدمتها مشروع قانون الأحزاب والانتخابات وقانون الإعلام، وتوصية بتشكيل لجنة قانونية – سياسية لمراجعة الدستور. كان ذلك كله قد ورد في كلمة الرئيس على مدرج جامعة دمشق. طالب مشاركون كثيرون بتشكيل لجنة لإصلاح القضاء، فأدرج هذا الموضوع مع المواضيع الأخرى. كل من طلب الكلام تحدّث، وبعضهم طلب المداخلة أكثر من مرّة. كما أتيحت الفرصة لإدارة جلسات اللقاء التشاوري لعدد من المشاركين رجالاً ونساءً، شبّاناً وشابات.
لا أشكّ في أن الرئيس هو من أمر بقطع البث التلفزيوني بعد الجلسة الافتتاحية لأنه وحده يملك صلاحية الأمر بقطع البث
انقطاع البثّ التلفزيوني
انعقد اللقاء على مدى ثلاثة أيام في إحدى صالات منتجع صحارى. وتصدّرت الصالة يافطة كتب عليها "مؤتمر الحوار الوطني: اللقاء التشاوري 10-12 تموز". وفي أعلاها "الحوار الوطني: ضمان لمستقبل سورية".
بدأت الجلسة الأولى في العاشرة صباحاً. وفي مساء اليوم الذي سبق افتتاح اللقاء، أي في 9 يوليو، اتصلت بالرئيس لإبلاغه بالترتيبات المتخذة، وقلت له إن مجرياته ستبثّ على الهواء مباشرة. فاستغرب فكرة النقل التلفزيوني! وتساءل إن كان ذلك ضرورياً. كان جوابي: توجد مصلحة وطنية، خاصة في هذه الظروف كي يطلع الرأي العام السوري على وجود حوار بين السوريين بموافقة الدولة نفسها. لم يكن الرئيس مرتاحاً لفكرة النقل التلفزيوني المباشر، لكن بعد مناقشة طويلة معه وافق مشترطاً أن يكون البث لجلسة الافتتاح فقط. أعرف أن الرئيس ينام مبكّراً، فآثرت ألا أطيل الكلام عليه حتى لا تتأثر ساعة نومه البيولوجية.
أبلغني عديدون ممن تابعوا اللقاء التشاوري للحوار الوطني بالانزعاج الشديد، لأن انقطاع البث التلفزيوني بعد جلسة الافتتاح لم يكن مفهوماً؛ إذ لا يتصوّر الناس أن الرئيس هو الذي أمر بقطع الإرسال التلفزيوني. ليس لدي شك في أنه هو الذي أمر بذلك، لأنه وحده يملك صلاحية الأمر بقطع البثّ عن هذا النوع من اللقاءات، حيث كان يشرف بشكل مباشر على تفاصيل قطاع الإعلام بعد رفضه أن يتولى تلك المسؤولية أي طرف آخر في السلطة. جرت العادة على التأكيد أن كل الأفعال السلبية لا يمكن أن تصدُر عن السيد الرئيس، بل يمكن أن تصدُر عن وزير الإعلام، أو عن المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، أو عن المسؤولين في المكتب الصحافي للقصر، أو عن ادّعاء خطأ تقني مزعوم، لكن الرئيس لا يصدر أمراً كهذا فهو معصوم عن الخطأ!
الطيب تيزيني يتحدّث إلى الصحافة بعد حضوره الاجتماع التشاوري للحوار الوطني في دمشق (10/7/2011 فرانس برس)
المادّة الثامنة في الدستور
بعد انعقاد اليوم الأول من اللقاء التشاوري، هاتفني الرئيس بشّار الأسد مساءً مستفسراً إن كنّا سنناقش في اليوم التالي المادة الثامنة من الدستور التي تنصّ على أن "حزب البعث العربي الاشتراكي هو القائد في الدولة والمجتمع" أجبته بأن كثيرين في اللقاء لا شك في أنهم سيطرحون المادة الثامنة، ولكن كل ما سيصدر عن اللقاء توصيات لا يمكن اعتمادها إلا بمراسيم تشريعية تحظى بتوقيع السيد الرئيس، وأن المادة الثامنة وردت نصّاً في الدستور، ومن ثمّ، فإن إلغاءها يتطلب النظر في إلغاء بعض مواد الدستور أو تعديلها.
في السابعة من صباح اليوم الثاني للقاء، اتصل الرئيس بي ثانية حول الموضوع نفسه وطلب مني بإصرار ألا أقبل طرح المادة الثامنة. قلت له لا أستطيع؛ لأن اللقاء له صفة مؤتمر، وهو سيّد نفسه مثل كل المؤتمرات، وفي أي حال، ليس لدى المؤتمر سلطة تشريعية تسمح له باتخاذ قرارات، وذكّرته بكلمته قبل ثلاثة أسابيع فقط، وإشارته فيها إلى إمكانية مناقشة تعديل الدستور أو صياغة دستور جديد.
قبيل بدء الاجتماع بقليل، وبعد هاتف الرئيس، طلب صفوان قدسي رؤيتي على انفراد ليبلغني بأنه يطلعني بسرّية مطلقة أن محمد دعبول (أبو سليم)، مدير مكتب الرئيس، طلب منه ألا يوافق على مناقشة المادة الثامنة مطلقاً عند طرحها خلال المناقشات، بأمر من الرئيس. وكان قد أبلغني قبل ذلك بقليل الدكتور هيثم سطايحي انزعاج الرئيس من طرح المادة الثامنة، وألحّ عليّ أن أتصل بالرئيس ثانية قبل بدء الجلسة. اتصلتُ بالرئيس، وقلتُ له إن جميع ما تتخذه هيئة الحوار من قراراتٍ لا تعتبر نافذة إلا بمصادقة منه وتوقيعه عليها.
عقدتُ اجتماعاً لأعضاء الهيئة أخبرتهم مضمون الاتصال بالسيّد الرئيس، وأكّدت أن لا أحد منا يريد إفشال المؤتمر لأن كل الإصلاحات لا معنى لها بوجود المادة الثامنة في الدستور، وأنه لا علاقة لذلك بمطالب المعارضة، لأنها كانت بالفعل مطالب حزبية منذ انعقاد المؤتمر القُطري العاشر للحزب في عام 2005، الذي أكّد أهمية إصدار قانون جديد للأحزاب يضمن المشاركة الوطنية في الحياة السياسية، وإلغاء قانون الطوارئ، وإصدار قانونٍ جديد للإعلام، ولكن لم ينفذ أي مطلبٍ أو توصيةٍ منها خلال السنوات الست المنصرمة. وأضفتُ أن عدم مناقشة المادة الثامنة يعني استمرار احتكارنا الحياة السياسية في سورية، ويتناقض هذا الاحتكار مع تشكيل هيئة الحوار نفسها.
كانت هذه هي آرائي قبل انعقاد المؤتمر وإبّان التحضير له، وبعد نهاية أعماله، فلقد كرّرتُ هذه المعاني خلال اجتماعات القيادة القُطرية والقومية والجبهة الوطنية التقدمية. ولن أستطرد هنا إلا لضرورة بيان ذلك. ففي اجتماع نادر عقد في مطلع الأحداث مع جميع رؤساء الأجهزة الأمنية بحضور أعضاء القيادة القُطرية، لفتُّ الانتباه إلى المخاطر التي تنتظرنا في مواجهة الأزمة. تحدّثت في هذا الاجتماع عما جرى في شرق أوروبا من تغيرات مذهلة قبل عقدين، لا سيما في رومانيا، حيث أعدم الرئيس الروماني وزوجته بصورة بشعة، كما تطرّقتُ إلى عمليات التهريب والفساد المستشري ومنها تهريب الأسلحة، خاصة على الحدود الشمالية والشرقية من البلاد في ظل فساد الأجهزة الأمنية والشرطية، وأكّدت أن خطرها اليوم أشدّ من أي وقت مضى.
اتصل الرئيس بي وطلب مني بإصرار ألا أقبل طرح المادة الثامنة من الدستور للحوار في المؤتمر
أظهر اللواء جميل حسن مدير المخابرات الجوية - التي ذاع بطشها على كل لسان - توتّراً ونرفزةً في أثناء كلمتي، وقدّرت أن نرفزته بسبب ما فهمه من أنني أعرّض بالمؤسسة الأمنية. حين انتهى الاجتماع، اختلى بمحمد سعيد بخيتان. وبعد عدة شهور من هذه الحادثة، تأكّدت من انزعاجه عندما كلفت مدير مكتبي بالاتصال به في محاولة لإطلاق سراح بعض من أقاربي الشبان من المتظاهرين الذين جرى اعتقالهم في درعا من فرع المخابرات الجوية، فكان ردّه لمدير مكتبي: "قل لأبي مضر إننا مؤسسة غير فاسدة على عكس ما ادّعى سابقاً، لذلك فنحن لا نقبل الواسطة"، وأبقاهم في السجن.
أتيحت الفرصة في المؤتمر لجميع من طلب الكلام، شبّاناً وشابات، نقابات عمال وفلاحين وطلبة، فنانين ومهندسين وأطباء ومحامين، ومن مختلف أطياف المجتمع السوري، وإن كانت المناقشات لم تخلُ، في بعض الأحيان، من المشاحنات والخلافات ووجهات النظر الحادّة والمتعارضة. لكن الحوار كان شاملاً باستيعابه لمختلف الأفكار، لا مكان فيه للملل، ولم يسجل أي تبرّم رغم انقضاء ثلاثة أيام طويلة من العمل، بل جاء معبراً عن "جوع للحوار"، بحسب ما ورد على لسان أحد المشاركين فيه.
كان من بين هذه المداخلات المهمّة في اللقاء التشاوري تلك التي قيلت من دون نقل مباشر على الهواء: من حنين نمر ومحمد حبش وعمر أوسي وقدري جميل وإلياس نجمة وحنان قصّاب حسن وإلياس زحلاوي وعباس النوري ونجوى قصّاب حسن وبثينة شعبان وعبد الرحمن العطار وغسان طيارة ودريد لحام وحسن م. يوسف وعزّوز شعبان وغيرهم، خاصة من شبان وشابات كان لمشاركتهم الأثر الكبير في إغناء المؤتمر من الجيل الذي يشكل النواة في المجتمعات العربية.
دريد لحام مشاركاً في الاجتماع التشاوري للحوار الوطني في دمشق (10/7/2011 فرانس برس)
بعد انتهاء الحوار في اللجان الفرعية، والانتقال إلى تشكيل لجنةٍ لصياغة البيان الختامي، صارحتُ المؤتمر بأن "هناك من لا يريد التغيير أبداً"، وأن "هناك من يريد أن يقلب كل شيء رأساً على عقب"، ووصفتُها بوجهات نظر من الجانبين، ثم أعدتُ وصفها بأنها وجهات نظر متعارضة وحادّة، وبعضها يتطلع إلى سقفٍ عالٍ. ودعوتُ إلى الخروج من الاستقطاب برؤيةٍ تفتح الطريق أمام انعقاد مؤتمر وطني شامل مفوض باتخاذ القرارات. وأن هيئة الحوار لن تنتهي هنا، بل ستواصل اتصالاتها واجتماعاتها مع الشخصيات الوطنية والمعارضة وبناء توافقات تسمح بإنجاح المؤتمر الشامل.
شُكلت لجنة لصياغة بيان ختامي حول أعمال المؤتمر ممن يرغب في ذلك من أعضاء اللقاء التشاوري، على ألا يتجاوز عدد المشاركين فيها العشرين. كان التنافس شديداً على المشاركة في اللجنة التي استغرقت أعمالها ساعات طويلة. وساهمت هيئة الحوار الوطني في المساعدة البنّاءة على حسم بعض الجدل الحادّ بين أعضاء لجنة الصياغة. بادرتُ لحسم الجدل حول المادّة الثامنة بكتابة صيغة حولها لم يعترض عليها أحد. كلفت هيئة الحوار الدكتور إبراهيم درّاجي بإلقاء البيان الختامي للمؤتمر، حيث حظي كل بندٍ فيه بتغطية إعلامية واسعة وتعليقات سياسية يصعب حصرها هنا. ولا بد من التنويه بالجهود التي بذلتها لجنة الصياغة بصبر وبصيرة ساعات مضنية وطويلة سادها شعور عالٍ بالمسؤولية الوطنية.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشادة بالمداخلة الشجاعة للمفكر المعارض الطيب تيزيني الذي دعا فيها إلى تفكيك الدولة الأمنية في إطار رؤية وطنية، وبالمداخلات القيّمة الأخرى التي حُرم المواطنون من متابعتها عبر الشاشات لانقطاع نقلها المباشر على الهواء، إلا أنها موثقة باعتبارها جزءاً من تاريخ سورية في الأشهر الأولى من الأحداث التي شغلت العالم في عام 2011.
منى واصف وبسام كوسا في الاجتماع التشاوري في دمشق (10/7/2011 فرانس برس)
البيان الختامي
جاء في البيان الختامي "بعد الترحّم على شهداء الوطن" تحديد القواسم المشتركة للمؤتمرين، وبلغ عددها 18 قاسماً مشتركاً، بدأت بأن "الحوار هو الطريق الوحيد الذي يوصل البلاد إلى إنهاء الأزمة"، وأكدت "ضرورة الإفراج الفوري عن جميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي"، و"الموقوفين في الأحداث الأخيرة ما لم تثبُت إدانتهم أمام السلطات القضائية"، والتوصية بـ "إنشاء مجلس أعلى لحقوق الإنسان"، والتوجّه نحو "إقامة دولة الحق والقانون والعدالة والمواطنة والتعدّدية الوطنية"، و"أن المعارضة الوطنية جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني السوري" و"رفض التدخل الخارجي"، وتأكيد "تحرير الجولان"، و"على الثوابت الوطنية والقومية المتصلة بالصراع العربي الصهيوني، وتحرير الأراضي العربية المحتلة، وضمان الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني". وأقرّ المؤتمرون "تشكيل لجان تعد قانون الأحزاب وقانون الانتخابات، وقانون الإعلام"، و"إنشاء لجنة قانونية سياسية لمراجعة الدستور بمواده كافة"، "بما في ذلك المادة الثامنة". قال لي المعارض ميشيل كيلو الذي كان في دمشق عندما اعتذر عن المشاركة في اللقاء التشاوري: "لو كنتُ أتوقّع صدور مثل هذا البيان الختامي لكنتُ شاركتُ في المؤتمر، أنا لا أطلب أكثر من ذلك لبلدي".
تأكدت من انزعاج جميل حسن مني حين كلفت مدير مكتبي بالاتصال به في محاولة لإطلاق سراح بعض أقاربي الشبان الذين اعتقلتهم المخابرات الجوية بدرعا، فكان رده له: "قل لأبي مضر إننا مؤسسة غير فاسدة على عكس ما ادعى سابقاً، لذلك فنحن لا نقبل الواسطة"، وأبقاهم في السجن
الحوار مع هيئة التنسيق
كان البيان الختامي للقاء التشاوري قد أكّد أن انعقاده هو تمهيد "لانعقاد مؤتمر الحوار الوطني مشدداً على إبقاء الاتصالات مع الأطراف والشخصيات الاجتماعية والقوى السياسية السورية في داخل الوطن وخارجه كافةً". وبالفعل، أجرت هيئة الحوار الوطني اتصالاتٍ بدأتها مع هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديمقراطي، التي أعلن تشكيلها في 25 يونيو 2011، وجرى الاجتماع الأول بالفعل في 30 يوليو 2011 مع الأستاذ حسن عبد العظيم الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي المعارض، والناطق الرسمي للتجمّع الوطني الديمقراطي، ورئيس هيئة التنسيق الوطنية، وحضر مندوبون عن أحزاب في التجمّع الوطني الديمقراطي، وفي الحركة الوطنية الديمقراطية، وتجمّع اليسار الماركسي، وعدد من الشخصيات والقوى الوطنية والديمقراطية. وأكد الاجتماع ما جاء في البيان، مثيراً السؤال "عن أسباب عدم تبني توصيات اللقاء التشاوري حتى الآن من السلطة السياسية". وجرى التفاهم على بحث المقترحات حول التنسيق بين الهيئتين، الحوار الوطني وهيئة التنسيق، في اجتماعات كل منهما، والعودة إلى الاجتماع. لكن الهجوم على اللقاء التشاوري قد أخذ يشتد، مما أحبط ذلك.
مشاركون في الاجتماع التشاوري للحوار الوطني في دمشق (10/7/2011 فرانس برس)
الهجوم الرئاسي على اللقاء التشاوري
جرت محاولات عديدة للتشويش على المؤتمر ومحاولة إفشاله في أثناء انعقاده وبعده، منها على سبيل المثال: زيارة السفير الأميركي الجديد روبرت فورد غداة افتتاح المؤتمر إلى مدينة حماة، التي تصادف أن خرجت عن بكرة أبيها في مظاهرة سلمية، وليس للترحيب بالسفير الذي لا يعرف معظم أهل حماة شكله؛ لأن تقديم أوراق اعتماده لم يمر عليه سوى أسابيع قليلة.
أمر الرئيس بإدخال عدد من الدبابات إلى مدينة حماة تحسّباً من النتائج. قلتُ للرئيس إن ما جرى في حماة من مظاهرات سلمية كان في الإمكان اعتباره بمنزلة قدوة يمكن تطبيقها في مدن سورية أخرى. فقال منزعجاً لقد استقبلوا السفير الأميركي بالزهور! قلت له، هل سكّان حماة الذين خرجوا بمئات الألوف يحملون جميعهم الزهور؟ علق غاضباً: ومن قال إنهم كانوا بمئات الآلاف، إذ لم يتجاوز عددهم ثمانين ألفاً!
كانت زيارة السفير إلى حماة حركة انتهازية منه، مع أن زيارته لا تحتاج إلى موافقة رسمية من وزارة الخارجية السورية، تطبيقاً لمبدأ المعاملة بالمثل للسفير السوري عماد مصطفى الذي اعتاد أن يتنقل بحرية داخل الولايات المتحدة. وصارت زيارته القصة الأهم عند أصحاب السلطة، وليس المظاهرة الأكبر في تاريخ هذه المدينة التي أحدثت ضجّة كبيرة لم تشهد المدينة مثيلاً لها.
جاء التشويش الثاني عندما وصلت باصات نزل منها عشراتُ الشبّيحة المعروفون بولائهم للسلطة في الصباح الباكر من 11 يوليو 2011 إلى محيط السفارتين الأميركية والفرنسية بدمشق، خلال انعقاد مؤتمر الحوار الوطني، ربما لإعطاء الانطباع أن للقاء الحوار ارتباطات غربية. استفسرتُ من اللواء هشام الاختيار هاتفياً عن سبب مرابطة هؤلاء الشبّان في محيط السفارتين الأميركية والفرنسية، فنفى علمه بمن أرسلهم، وأعلمني أن أحد الشبان قتل أمام السفارة الفرنسية وهو يحاول اقتحام سورها. لكن ما حدث بعدها محاولة نسف توصيات مؤتمر الحوار بتوقيف نحو 1600 شخص في حي الميدان، ما كان له أثر سلبي داخل سورية وخارجها؛ إذ نقلت الصور التي جرى بثّها من أمام السفارتين، فضلاً عن الاعتداء على بعض المواطنين في الشارع كأن شيئاً لم يتغيّر، بل ستكون هناك عـودة إلى الوراء وخيمة العواقب.
دعا الرئيس إلى نقل الحوار إلى المحافظات السورية بترتيبات رسمية، ,كانت التوجيهات لهم حينها بالتمسك بثوابت السلطة؛ ألا تقل مدة الرئاسة عن سبع سنوات وألا يجري تداول للسلطة في أي دستور جديد، وضرورة تجنب الانتقادات الجارحة التي تنال من مقام الرئاسة
جاء التشويش الثالث من داخل البيت الرسمي. فقبل ساعة من قراءة نص البيان الختامي، اقتربت الدكتورة بثينة شعبان من مقعدي، وتقدّمت بمقترح جديد بعد أن تم التصويت النهائي على نص البيان الختامي. تضمّن المقترح إدخال فقرةٍ جديدةٍ على نص البيان تتعلق بدور المرأة في المجتمع، قلت لها إن هذه المعاني متضمّنة في البيان الختامي الذي يخاطب الجميع رجالاً ونساء، وفي كل الأحوال كان عليها أن تتقدّم به سابقاً للجنة الصياغة. لكنها أصرّت، فرفضتُ مقترحها الذي سيفتح باب النقاش مرّة أخرى. الأمر الذي يعني إهدار كل ما بذلته لجنة الصياغة من جهد ساعات طويلة مع احتمال تمديد اللقاء التشاوري يوماً رابعاً، وهي تعرف ذلك. اكتشفتُ نيتها الحقيقية المبيتة من وراء اقتراحها، وكنتُ أتصوّر سابقاً أنها في مقدّمة من يريد إنجاح مؤتمر الحوار الوطني. وانسحبت وغادرَت القاعة معلنةً لي استقالتها، فقلتُ لها إن الاستقالة يجب أن تقدّم للرئيس بشّار الأسد الذي عيّنها.
المستشارة الإعلامية للرئيس بشار الأسد بثينة شعبان (يسار) وإبراهيم درّاجي في الاجتماع التشاوري لهيئة الحوار الوطني في دمشق (10/7/2011 فرانس برس)
حصل التشويش الرابع والأخطر بهدف إلغاء نتائج اللقاء التشاوري، حيث صدرت توجيهات من رئيس الجمهورية بغاية السرّية (لم تصل إلى علمي إلا بعد مدّة) بطلب التنديد على نطاق رسمي بالبيان الختامي بذريعة أنه تجاهل مكاسب الشعب السوري. أخبرني عبد السلام حجاب مدير مكتبي الصحافي أن رئيس اتحاد الفلاحين هلال الهلال انتقد نتائج اللقاء التشاوري، وأن رئيس الاتحاد الوطني لطلبة سورية عمار ساعاتي الذي أمضى قرابة عقدين رئيساً للاتحاد، أصدر تصريحاً كما أجرى مقابلة صحافية أيضاً هاجم فيها اللقاء التشاوري، علماً أنه شارك في المؤتمر وأجرى مداخلات متكرّرة في النقاش العام، ولم يسجل تحفظه على البيان الختامي. قلت لعبد السلام حجاب متهكماً، لا شك أن حرية التعبير بدأت تشقّ طريقها في سورية، لأن نص البيان الختامي للمؤتمر بالذات كان هدفه تحقيق مكاسب إضافية للشعب السوري وليس إلغاء أي مكسبٍ منها. ولكن عندما تأكدت لاحقاً ممن كان وراء الهجوم على البيان الختامي، في إطار حملة منظّمة في غاية السرية لإلغاء نتائج المؤتمر، أصبتُ بخيبة أمل كبيرة؛ لأنني لم أتخيّل حينها أن مستوى المراوغة حول ما يجري في بلدنا قد هبط إلى هذه الدرجة لدى أعلى قيادة في البلاد.
حلّلتُ لاحقاً بأن الاثنين تحرّكا بموجب تعليمات خفيّة لإعطاء الانطباع بأن هذا الرفض لنتائج المؤتمر يأتي من القاعدة الشعبية للسلطة، فلاحين وطلبة، وليس بالضرورة من الرأس. وجرى تعميم وصف المؤتمر بـ "المؤتمر التآمري". وقد كوفئ الرجلان لاحقاً بتعيينهما عضويين في القيادة القُطرية التي جاءت بعد عزل القيادة التي كانت قائمة في عام 2013.
لم يجرِ حديث بيني وبين الرئيس أو القيادة عن مخرجات الحوار الوطني، فكما يقول المثل السوري "المكتوب يظهر من عنوانه"؛ أي إن ما جرى من محاولات لإجهاضه كافية للدلالة على نيات المستقبل
لقد أُفشِل رسمياً وبصورة متعمّدة أول حوار سوري - سوري عندما كان عدد المتظاهرين المعارضين لا يتجاوز بضع مئات، وعندما لم يكن هناك سوى بضعة آلاف ممن اضطرّوا إلى اللجوء إلى تركيا، حيث أعادهم في اليوم التالي عبد الرحمن العطار الذي شارك في المؤتمر بصفته مدير الهلال الأحمر السوري، فأوقفت الأجهزة الأمنية عدداً منهم في طريق العودة للتحقيق معهم بحسب ما قال العطار.
تبيّن بعد محاولة إفشال اللقاء التشاوري أن طريق اللقاءات الشخصية التي أجراها الرئيس الأسد بناءً على طلبه مع شخصيات وطنية مختارة، راوح عددها ما بين 30 و 50 من كل محافظة سورية في القصر الجمهوري بترتيب من السلطات الأمنية والحزبية، لم تسفر عن تحوّل مهم في مسار المطالب الشعبية، ليس بسبب وجود عيب في الشخصيات المنتقاة، بل ربما لمست هذه النخب لطف الرئيس معها، فبادلته اللطفَ بأفضل ما لديها، لكنّ كثيراً منها لم يتحوّل إلى داعية له، كما كان يأمل في مواجهة ما اعتبره الرئيس في أحاديثه المتكرّرة معارضة إرهابية، هدفها إحداث فتنة في سورية، فاعتبر ذلك تأييداً لنهجه.
كان الرئيس الغارق في حبّ الذات، لا يستطيع سماع سوى كلمات المديح التي لا بد من أن تقال له في هذه المناسبات من مواطنيه، من دون أن يقرأ ما بين السطور في ما قاله القادمون من مختلف المحافظات للاطّلاع على جوانب تخفى عليه وعلى الكثيرين منا حول الأحداث السورية وتداعياتها.
بعد ذلك، دعا الرئيس إلى نقل الحوار إلى المحافظات السورية بترتيباتٍ رسمية، شارك فيها المحافظون وأمناء فروع الحزب. كانت التوجيهات لهم حينها بالتمسّك بثوابت السلطة، وهي ألا تقل مدة الرئاسة عن سبع سنوات وألا يجري تداول للسلطة في أي دستور جديد، وضرورة تجنّب الانتقادات الجارحة التي يمكن أن تنال من مقام الرئاسة.
لم يجرِ حديث بيني وبين الرئيس أو القيادة عن مخرجات الحوار الوطني، فكما يقول المثل السوري "المكتوب يظهر من عنوانه"؛ أي إن ما جرى من محاولات لإجهاضه كافية للدلالة على نيّات المستقبل.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 3 ساعات
- العربي الجديد
"فيسبوك" في سورية... الخوارزميات لا تلتقط الكراهية
مساء يوم الجمعة 24 يناير/كانون الثاني 2025، انتشرت على صفحات "فيسبوك" شائعةٌ حول عودة ماهر الأسد ، شقيق بشار الأسد ، إلى سورية. ترافقت هذه الشائعة بعدد آخر من الأكاذيب حول دعم روسي لهذه العودة، وتنسيق مع السعودية بغرض الاستيلاء على السلطة في سورية. تبين خلال 48 ساعة، أنه لا أساس نهائياً لأي من هذه الأخبار، لكن حالة من التوتر والحذر والتحفز، كانت خُلقت وتعزّزت وتراكمت تدريجياً. لم يمض وقت طويل حتى تحولت "الفوضى الافتراضية" على "فيسبوك"، إلى فوضى فعلية على الأرض، وقودها الناس والحجارة. بدأت الفوضى باعتداءات وقعت على حواجز ودوريات الأمن العام، موقعةً عدداً كبيراً من الضحايا تجاوز الـ100 خلال أيام قليلة، وتبعتها انتهاكات ومجازر ارتكبتها فصائل أودت بحياة 1676 ضحية مسجلة في الساحل السوري ، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، والتي ما تزال لجنة التحقيق التي شكلها الرئيس السوري أحمد الشرع تحقق فيها، ولم تعلن نتائجها حتى اللحظة، ومُدّد عملها ثلاثة أشهر إضافية. خلال مرحلة التوتر القصوى التي عاشها الساحل السوري في الأسبوعين الأولين من مارس/آذار الماضي، انتشر على "فيسبوك" كم هائل من الفيديوهات والصوتيات والصور حول الجرائم، جزء منها ينقل تلك الجرائم فعلاً بما فيها عمليات التحريض والشحن الطائفي، وجزء آخر يعود إلى فترات زمنية سابقة، وأحياناً إلى أماكن خارج سورية، رُوّجتْ على أنها حديثة. محاولة الربط بين الفوضى الواقعية التي جرت على الأرض السورية، والفوضى الإلكترونية على "فيسبوك"، ليس من باب "نظرية المؤامرة"، أو من باب القول إن المعركة الافتراضية تحولت إلى معركة واقعية من دون وجود أسس واقعية عديدة لتلك المعركة؛ ولكنها محاولة لقراءة دور "فيسبوك" في ما جرى. "لا أستطيع أن أتخيل حجم البارانويا التي ستصيبنا لو بدلاً من صوت الشكوى المبتذلة التي اعتدناها [على فيسبوك]، فجأة... ملأ آذاننا صمت مريب". بهذه الجملة، يختم محمد أنديل واحدة من حلقات برنامجه "أخ كبير"، بعنوان "فيمَ تفكر؟" (نُشرت عام 2019)، ويعالج فيها دور وسائل التواصل الاجتماعي عموماً، و"فيسبوك" خصوصاً، في الثورة المصرية، وفي تطور الأوضاع اللاحقة في مصر، والتي يكشف فيها بسخرية (وجدية أيضاً)، كيفية تحول "فيسبوك" من أداة للتمرد ولتلاقي الراغبين في التغيير مع انطلاق ثورات الربيع العربي، إلى جزء من أدوات الرقابة والقمع والتأطير، إلى جزء من النظام العام الحاكم، محلياً ودولياً. ورغم أن ما طرحه أنديل وغيره في ذلك التاريخ، ما يزال صحيحاً إلى هذا الحد أو ذاك، لكن المثال السوري، خاصة خلال الأشهر القليلة الماضية بعد سقوط الأسد، يشير إلى أن الأدوار التي يمكن أن يلعبها "فيسبوك" أكبر وأخطر بمراحل. نركز على "فيسبوك" ضمن المثال السوري، لأنه موقع التواصل الاجتماعي الأكثر انتشاراً بين السوريين، وفقاً لموقع فإن استخدام السوريين لمنصات التواصل الاجتماعي في مارس/آذار 2025، توزع كالآتي: 83.15% "فيسبوك"، و9.87% "إنستغرام"، و4.49% "يوتيوب"، و1.72% "إكس". ومن المعلوم أن "إنستغرام" بات ملكية لشركة ميتا العملاقة نفسها التي تملك "فيسبوك"، ومن غير المستغرب تالياً أن يستخدم خوارزميات مشابهة لتلك المستخدمة في "فيسبوك"، ما يعني أن ما يزيد عن 93% من استخدام السوريين لوسائل التواصل الاجتماعي، يخضع لخوارزميات مالك واحد هو "ميتا". تربط العديد من الدراسات الحديثة بين الخوارزميات التي يطبقها "فيسبوك" وبين ارتفاع مستوى السلبية وخطاب الكراهية والتحريض على العنف ضمن المنصة. في دراسة أجرتها جامعة كولومبيا الأميركية عام 2023، تمت معاينة مثال ميانمار، وأُثبت أن خوارزميات "فيسبوك" أسهمت في تأجيج عمليات التحريض والعنف. تتضمن الخوارزميات مجموعة من المعايير والتفضيلات التي تعزز من ظهور منشورات معينة وتقلل من ظهور أخرى. بين المعايير المعروفة، مستوى التفاعل، خاصة عبر التعليقات. المشكلة التي يخلقها هذا المعيار، هي أنه يدفع إلى الأعلى وآلياً كل المنشورات المثيرة للجدل وذات الطابع الحاد والاستقطابي والعنيف والتحريضي أيضاً، لأن هذا النوع من المنشورات يحوز عادة تفاعلاً كبيراً. لا تقف المشكلة عند حدود منشورات "الرأي" إنْ جازت التسمية، التي تتضمن آراء عنيفة وحادة، بل تتعداها لتشمل الأخبار الزائفة التي يمكنها أن تثير القلق والرعب، خاصة في حالات الاقتتال الأهلي الداخلي، وحالات الاحتقان الطائفي والديني والقومي، ما يمكن أن ينتج جرائم حقيقية على أرض الواقع، بوصفها ردة فعل على جرائم مزيفة تم تداولها بكثافة على وسائل التواصل الاجتماعي. بين الآليات الأخرى المعروفة ضمن خوارزميات "فيسبوك"، وتساهم في تعزيز الاستقطاب، الآلية المسماة "فلتر الفقاعة" (Bubble Filter). باختصار، تحبس الخوارزميات كلَّ مستخدم لـ"فيسبوك" ضمن فقاعة معينة على أساس تحليلها لمنشوراته واهتماماته وآرائه، فيعيش ضمن حلقة معزولة نسبياً مليئة بالآراء المشابهة لرأيه، ما يعزز من اعتقاده بصحة آرائه ورفضه للآراء الأخرى، بل الوصول إلى حد اعتبارها غير موجودة أساساً. هذه الآلية تسمى أيضاً غرفة الصدى (Echo Chamber)، إذ يسمع المستخدم صدى آرائه نفسها، عبر منشورات لآخرين تتطابق مع رأيه، يختارها "فيسبوك" ليظهرها أمامه على الصفحة الرئيسية. إعلام وحريات التحديثات الحية الغموض الإعلامي في سورية... من يوثق المجازر؟ محاولة البحث عن كيفية تأثير الخوارزميات التي يعتمدها "فيسبوك" على طبيعة التفاعل وطبيعة المنشورات الرائجة، قد يوقع الإنسان في وهم مفاده أن الخوارزمية التي يصنعها بالأساس مهندسون بشريون، تصبح هي نفسها المتحكم المطلق الصلاحية بعد وضعها في التطبيق. المقارنة بين المثال الفلسطيني والسوري، تكفي لدحض هذا الوهم؛ حين كان الأمر متعلقاً بالجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين واللبنانيين، فإن "فيسبوك" كان جاهزاً لتشغيل الخوارزمية لتتحسس أي منشور يتناول الموضوع، سواء كان كتابة أم فيديو أم صورة، ويقيّمه سريعاً، وفي حال كان "مخالفاً للمعايير"، أي معادياً لإسرائيل، يُقيّد وصوله أو يُحذف، ويُعاقب صاحب الحساب ضمن سلسلة من العقوبات المتصاعدة التي قد تصل إلى إلغاء الحساب نهائياً. في الحالة السورية، خاصة خلال فترة المجازر في الساحل السوري في شهر مارس الماضي، سمح "فيسبوك" بنشر فيديوهات تتضمن مشاهد قتل دموية وتعذيب وإذلال وخطابات طائفية وخطابات كراهية وتحريض. باختصار، فقد سمحت المنصة الزرقاء بنشر محتوى يتضمن كل أنواع المخالفات المفترضة في "معايير مجتمع فيسبوك"، وأغمضت الخوارزمية عينيها تماماً، ولم تتدخل بأي شكل من الأشكال في منع نشر خطابات الكراهية، بل بقيت الآليات الترويجية ضمن الخوارزمية فعالةً بالطريقة المعتادة نفسها؛ أي إن "فيسبوك" لم يكتف بعدم منع فيديوهات العنف الدموي في الساحل السوري مثلاً، بل سمح بترويجها وانتشارها نتيجةً للتفاعل العالي معها. بدأت صفحات سورية كثيرة في الأسابيع الأخيرة، بإغلاق إمكانية التعليق على منشوراتها، رغم أن هذا الأمر يضر كثيراً بمدى رواج ووصول منشورات تلك الصفحات. ولكن هذا الأمر جاء تعبيراً عن أن الاستقطاب والتخوين ولغة الكراهية التي تسود في التعليقات قد وصلت إلى حدود لا تطاق، وإلى حدود يصبح فيها من يفتح منشوراته للتعليق مسؤولاً أمام ضميره وأمام أبناء بلده عن المساهمة في تأجيج الكراهية، فضلاً عن التدخلات الإسرائيلية الإلكترونية المكشوفة وغير المكشوفة، التي تنشط كثيراً في الدفع نحو تحريض السوريين بعضهم ضد بعض على أسس طائفية ودينية وقومية. بناء على ذلك كله، يمكن، من دون تردد كبير، أن نصنف "فيسبوك" بوصفه واحداً من أخطر أعداء السوريين، بمختلف انتماءاتهم ومشاربهم وآرائهم السياسية والفكرية.


العربي الجديد
منذ 3 أيام
- العربي الجديد
رفع العقوبات الاقتصادية الأوروبية عن سورية: خطوة لدعم التعافي وجذب الاستثمارات
تتطلع سورية إلى دعم دولي وإقليمي لمساعدتها في معالجة تداعيات 24 سنة من حكم الرئيس المخلوع بشار الأسد (2000-2024). ومنذ الإطاحة بنظام الأسد، تطالب الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، برفع تلك العقوبات، لأنها تعرقل جهود إعادة الإعمار وجذب الاستثمارات. واليوم الثلاثاء، أعطت دول الاتحاد الأوروبي الثلاثاء الضوء الأخضر لرفع كل العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية في محاولة لدعم تعافي الاقتصاد السوري. وأشارت المصادر وفقا لوكالة "فرانس برس" الى أن سفراء الدول الـ27 الأعضاء في التكتل القاري توصلوا الى اتفاق مبدئي بهذا الشأن، ومن المتوقع أن يكشف عنه وزراء خارجيتها رسميا في وقت لاحق اليوم. وقالت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس قبيل الاجتماع اليوم الثلاثاء، إنها تأمل أن يتمكن وزراء خارجية التكتل المجتمعين اليوم، في بروكسل من التوصل إلى اتفاق بشأن رفع العقوبات الاقتصادية عن سورية. وذكر مسؤولون أن الوزراء يدرسون قرارا سياسيا لرفع العقوبات الاقتصادية، والإبقاء في الوقت نفسه على العقوبات المرتبطة بنظام بشار الأسد وفرض إجراءات ضد انتهاكات حقوق الإنسان. وأضافت "من الجلي أننا نريد (توافر) الوظائف وسبل المعيشة لشعب (سورية)، كي يصبح بلدا أكثر استقرار". وفرض الاتحاد الأوروبي أولى عقوباته على النظام السوري في مايو/أيار 2011، عقب اندلاع الثورة السورية، مستهدفًا شخصيات بارزة من الدائرة المقربة من بشار الأسد، متهمة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وقد شملت العقوبات حظر السفر وتجميد الأصول المالية. كما شملت العقوبات إجراءات قطاعية طالت قلب الشبكة المالية للنظام، منها حظر استيراد النفط الخام ومشتقاته من سوريا، ومنع تصدير معدات ذات استخدام مزدوج (مدني وعسكري)، إضافة إلى قيود على تمويل مشاريع البنية التحتية. اقتصاد عربي التحديثات الحية إعادة إعمار سورية بـ400 مليار دولار: أميركا تستعد لاقتناص الفرص وفي 24 فبراير/ شباط الماضي، أعلن الاتحاد الأوروبي قراره تعليق بعض العقوبات المرتبطة بقطاعات مثل البنوك والطاقة والنقل، مع التأكيد على مراقبة الوضع الميداني في سورية وتقييم إمكانية تعليق المزيد من العقوبات في المستقبل. دول اخرى في الطريق لرفع العقوبات عن سورية كما تتجه اليابان إلى رفع العقوبات الاقتصادية عن سورية، وأكدت صحيفة الاقتصاد اليابانية السبت الماضي، أن "الحكومة سترفع العقوبات عن سورية في نهاية مايو/ أيار الجاري تماشياً مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي". وقال وزير الخارجية الياباني تاكيشي إيوايا، السبت، إن بلاده تدرس رفع العقوبات عن سورية، وذلك بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفع إدارته للعقوبات المفروضة على دمشق. وأضاف تاكيشي في مؤتمر صحفي بطوكيو، أن بلاده "ستراقب عن كثب المناقشات في المجتمع الدولي وتتخذ القرار المناسب بشأن رفع العقوبات عن سورية". وأعلن البنك الدولي الجمعة، تسوية المتأخرات المالية المستحقة على سورية، والبالغة قيمتها 15.5 مليون دولار لتصبح مؤهلة للحصول على تمويلات جديدة. وذلك بعد يوم من بحث وزير المالية السوري محمد يُسر برنية، مع وفد من البنك سبل التعاون في إعادة تأهيل القطاعات ذات الأولوية في البلاد. وفي 27 أبريل/ نيسان الماضي، أعلنت وزارتا المالية في السعودية وقطر سداد متأخرات سوريا لدى مجموعة البنك الدولي، والتي تبلغ نحو 15 مليون دولار، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء السعودية الرسمية "واس" حينها. وقبيل قرار ترامب، كانت المؤسسات المالية الدولية لا تستطيع تقديم الدعم المالي لسوريا، في ظل العقوبات المفروضة على دمشق. والثلاثاء الماضي، أعلن ترامب خلال زيارة رسمية إلى السعودية، رفع إدارته للعقوبات المفروضة على سورية، ما اعتبرته أوساط أوروبية تطورا قد يدفع نحو مراجعة أوسع للعقوبات الغربية. وعلى خلفية انتهاكات نظام الأسد ومجازره في قمع الثورة بسورية منذ 2011، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول أخرى بينها بريطانيا عقوبات على هذا البلد العربي، شملت تجميد أصول، ووقف التحويلات المالية، والحرمان من التكنولوجيا، وحظر التعامل مع نظامه. والخميس، قالت وزارة الخزانة الأميركية إنها تعمل مع وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي لتنفيذ توجيهات الرئيس ترامب بشأن رفع العقوبات عن سوريا. وأضافت في منشور على حسابها بمنصة إكس: "نتطلع إلى تطبيق التصاريح اللازمة التي ستكون حاسمة لجلب استثمارات جديدة إلى سورية". و رجحت وزارة الخزانة أن "إجراءاتها قد تساعد في إعادة بناء الاقتصاد والقطاع المالي والبنية التحتية في سورية، ويمكن أن تضع البلاد على طريق مستقبل مشرق ومزدهر ومستقر". اقتصاد عربي التحديثات الحية المستفيدون من رفع العقوبات عن سورية وأكد وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني السبت الماضي، أن إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفع العقوبات التي فرضت على سورية، هو خطوة مهمة في طريق التعافي الوطني وإعادة الإعمار، ويعكس جهدا دبلوماسيا عربيا صادقا أثمر نتائج ملموسة. ولفت الشيباني في كلمة بلاده أمام القمة العربية الـ34 المنعقدة في العاصمة العراقية بغداد، إلى أن رفع العقوبات ليس نهاية المطاف، بل هو بداية طريق يأمل أن يكون معبدا بالتعاون الحقيقي، وتكامل الجهود العربية لتحقيق التنمية. وناقش الرئيس السوري أحمد الشرع مع وزراء ومديري هيئات أول من أمس الأحد، مشروع تعديل قانون الاستثمار، في وقت تسعى فيه البلاد للتعافي من تداعيات عهد الرئيس المخلوع بشار الأسد. وأوضحت وكالة الأنباء السورية-سانا-أن اللقاء هدف "لمناقشة مشروع صياغة قانون الاستثمار وتعديلاته، بما يسهم في تعزيز بيئة الأعمال، ويواكب متطلبات المرحلة المقبلة والانفتاح الاقتصادي الواسع الذي تشهده سورية". (فرانس برس، العربي الجديد)


العربي الجديد
منذ 3 أيام
- العربي الجديد
أمّا وقد رفعت العقوبات... هل تلتقط سورية الفرصة؟
في تحوّل غير مسبوق على المستويين السياسي والجيوسياسي، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الرياض، يوم 14 مايو/ أيار الجاري، عن رفع العقوبات المفروضة على سورية، في خطوة جاءت بعد أكثر من عام من التحرّكات الدبلوماسية المعقّدة. هذا الإعلان ضوء أخضر لبداية مرحلة جديدة في المنطقة. من المهم، لفهم هذا التحوّل أن نتجاوز مجرّد التوصيف السياسي للقرار ونتعمّق في فلسفة هذا التحوّل الجيوسياسي. رفع العقوبات عن سورية في جوهره تعبير عن تغير عميق في العقل السياسي الدولي، الذي يتحرّك بعيداً عن القوى الصلبة مثل العقوبات والضغط العسكري، لصالح معادلاتٍ أكثر تعقيداً تتعلق بالتفاهمات السياسية والتوازنات الاقتصادية. ولكن ماذا يعني ذلك؟ يجب أن نتذكّر أن التحولات السياسية الكبرى على مستوى العالم غالباً ما تكون نتاج تفاعل عدة عوامل، كالانتقال من الهيمنة الأحادية إلى التعدّدية القطبية، نمو الانقسامات الداخلية في القوى العظمى، وتأثيرات القوة الناعمة التي تطغى اليوم على القوة الصلبة. يتوازى هذا التحول في الموقف الأميركي تجاه سورية مع تطور الفكر الاستراتيجي الذي يتجه نحو البحث عن حلول غير تقليدية للصراعات الدولية، ويؤسّس لحالة انكماش في السياسة الخارجية الأميركية وعدم الاستطالات الزائدة والمبالغ بها طوال العقود السابقة وأن الهيمنة الأميركية والتحكم في الاقتصاد العالمي عبر طبع مزيد من أوراق الدولار لم تعد تجدي نفعاً، فهناك أكثر من 40% من التجارة العالمية خارج سيطرة الدولار. وعليه، لا بديل عن سياسات التحالفات الاقتصادية والإقليمية. الواقع الجيوسياسي الجديد: من الجمود إلى التحوّل إنّ لحظة سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024، ليست مجرد نهاية لحقبة سياسية، بل هي انهيار لإرث طويل من العنف البنيوي والاستعصاء السياسي، الذي تمكّن بفعل تحالفات دولية وإقليمية، وشرعيات متآكلة، وأساليب قمع ممنهجة. ومع هذا السقوط، لا ينفتح فقط أفق سياسي جديد، بل يتبدّى سؤال فلسفي عميق: هل كان النظام الاستبدادي صنيعة الداخل وحده؟ أم نتاج منظومة دولية تواطأت بالصمت تارة، وبالعقوبات تارّة أخرى، من دون أن تقدّم بديلاً إنسانياً حقيقياً؟ تُظهر التجربة السورية، كما كتب أمارتيا سن في تحليله العقوبات ومخرجاتها، أن الجوع والقمع لا ينتجان فقط عن الأنظمة الشمولية، بل أحياناً عن سياسات دولية "غير مبالية أخلاقياً"، حيث العقوبات تُفرض باسم القيم، لكنها تصيب المواطن لا النظام، وتعمّق هشاشة المجتمع بدل تغييره. وإن رفع العقوبات، كما أُعلن عنه في "الرياض"، يُقدّم لنا ليس فقط فرصة سياسية، بل اختباراً أخلاقياً وفلسفياً للفاعلين الدوليين والإقليميين: هل هو اعتراف ضمني بفشل سياسة العزلة والضغط القصوى؟ هل بات يُنظر إلى سورية كـ 'كيان يجب احتواؤه" لا "كخصم يجب تجويعه"؟ وهل أضحى الانفتاح والتكامل الاقتصادي هما الأداتان البديلتان عن الهيمنة والاحتلال العسكري؟ السياق الجديد الذي ترسمه قوى إقليمية كالسعودية وتركيا بشكل رئيس، وقطر والامارات ثانياً، والذي يجد صداه في تصريحات إدارة أميركية تبحث عن "توازن ذكي" بدل الصدام، يعكس ما يمكن وصفه "التحول من صراع الإرادات إلى هندسة الشرعيات". أي أن التحوّل الحقيقي لا يكمن في تغيير الوجوه، بل في إعادة صياغة العلاقة بين الداخل والخارج، بين السيادة والانفتاح، وبين المصالح الوطنية والحسابات الجيوسياسية. لكن هذا الانفتاح لن يكون بلا ثمن. التحدّي الأكبر أمام الحكومة السورية الجديدة ليس فقط في إعادة الإعمار المادي، بل في إعادة إنتاج عقد اجتماعي جديد، يستعيد ثقة الناس في الدولة كمؤسسة، لا أداة قمع. وهنا، تصبح الأسئلة أكثر تعقيداً. هل يستطيع النظام الجديد أن يبني دولة لا ترتكز على الولاء الأمني، بل على الكفاءة والمساءلة؟ هل سيكون رفع العقوبات منصّة للإصلاح العميق، أم مجرد "هدنة" تُستخدم لإعادة إنتاج السلطة بصيغة ناعمة؟ وهل نحن أمام لحظة تحوّل حقيقي، أم إعادة تموضع في بنية جيوسياسية تتغير باستمرار؟ في ضوء التحوّلات الكبرى في السياسة الدولية تجاه سورية، تأتي التحولات الخليجية جزءاً من مشهد إعادة تشكيل المعادلات الإقليمية في الشرق الأوسط النهج الترامبي جاء القرار الأميركي جزءاً من سعي مستمر إلى إعادة صياغة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، حيث بدأ الرئيس ترامب في تبنّي نهج بعيد عن التدخل العسكري المباشر، مع تعزيز الأدوات الدبلوماسية والاستراتيجية. هذا التغيير لا يعكس فقط مصلحة أميركية ضيقة، بل يعبر عن تقييم أعمق لدور الولايات المتحدة في النظام الدولي الجديد الذي يتسم بتعدّد مراكز القوى، حيث يتطلب الوضع الدولي اليوم تبني سياسات مرنة ومتوازنة. ومن خلال هذا التحول، يمكن فهم التوجه الأميركي تجاه سورية، ورفع العقوبات كجزء من هذا التحوّل، يعكس نقلة فلسفية عميقة في التفكير السياسي الأميركي، من سياسة العصا العسكرية إلى سياسة الجذب والتكييف السياسي. وهذا يضع القوى الإقليمية، خاصة في الخليج وبلاد الشام، أمام واقع جديد يتطلب إعادة تعريف التحالفات والأدوار بعيداً عن منطق الحرب، بل نحو منطق التأثير السياسي والاقتصادي. والتكامل بدل التناذر، ولعل ذلك يمكن فهمه من خلال خطة الاتفاقات الابراهيمية التي يجري تداولها في هذا السياق. التحوّلات الخليجية: إعادة صياغة المعادلات الإقليمية في ضوء التحولات الكبرى في السياسة الدولية تجاه سورية، تأتي التحولات الخليجية جزءاً من مشهد إعادة تشكيل المعادلات الإقليمية في الشرق الأوسط، فالدول الخليجية لم تعد تكتفي بدور المموّل أو الوسيط، بل بدأت تلعب أدواراً أكثر استقلالية واستراتيجية ترتكز على ثلاثة محاور رئيسية: الأمن الإقليمي، التوازن مع القوى الكبرى، وإعادة تموضع سياسي واقتصادي في مرحلة ما بعد الصراعات. السؤال الذي يطرحه التحوّل في السياسة الأميركية هو: كيف تتفاعل القوى الإقليمية الكبرى مع هذه التغيرات؟ دور الدول الخليجية، في هذا السياق يتجاوز التحولات السياسية، ليحمل أبعاداً فلسفية تتطلب التأمل العميق. ففي نهاية المطاف، تتشكل السياسات الخليجية بناء على قدرة هذه الدول على "الحفاظ على الاستقرار"، وهو مفهوم يُحاكي القوة التقليدية التي اعتمدت على هيمنة عسكرية وسياسية مباشرة، لكن مع انفتاح تدريجي نحو تفاعلات سياسية جديدة. هذا التوجّه يكشف عن استعداد هذه الدول لتبني سياسات أكثر مرونة وتعدّدية، ما يعكس تحولاً في العقلية السياسية الإقليمية، ويعطي فرصة لسياسات صفر المشكلات أن تكون الحاكم في نهاية المطاف. تتجاوز علاقة دول الخليج مع سورية كونها مجرد علاقة بين دول متجاورة، فهي جزء من مشروع طويل الأمد يهدف إلى تشكيل نوع جديد من التحالفات القابلة للتكيّف مع المتغيّرات المستمرّة في المنطقة. لا يقتصر هذا المشروع على مواجهة إيران فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى محاولة إعادة صياغة النظام الإقليمي ككل. مثّل رفع العقوبات عن سورية فرصة تاريخية نادرة، لكن استثمار هذه اللحظة لا يكون بالخطاب العاطفي أو الانتظار السلبي، بل بقراءة دقيقة للواقع الجديد الذي فُرض (أو صِيغ) بفعل ضغوط اقتصادية خانقة وتبدّلات في خرائط التحالفات. وبالتالي، ليست أولى الخطوات المطلوبة الاستجابة المطلقة لشروط الخارج، بل إعادة تعريف الداخل السوري وفق متطلبات المرحلة، مع إدراك أن الانخراط في نظام دولي جديد لا يعني التنازل عن الثوابت، بل إدارة الشروط بما يخدم المصالح الوطنية. في هذا السياق، لا بد من توسيع هامش القرار السيادي من دون كسر الخطوط الحمراء الإقليمية، وهو ما يتطلّب من الإدارة السورية أن تكون فاعلاً لا مُداراً، وأن تقدّم نموذجاً سياسياً واقتصادياً جديداً يُقنع الداخل قبل الخارج، ويُشرك أطرافاً وطنية كانت مُقصاة لعقود، لا لأن ذلك شرط دولي، بل لأن المرحلة تتطلبه. كذلك، فإن التحوّل في الخطاب السياسي الخارجي لا يجب أن يُنظر إليه خيانةً لمحور أو تخلٍّ عن مبدأ، بل كإعادة تموضع ضمن واقع استراتيجي متغير، حيث لم تعد الشعارات تكفي لحماية الدولة، ولا البقاء في محور مغلق يحقّق المصلحة العليا. من هنا، ليس الانتقال من "المحور" إلى "التموضع" ضعفاً، بل هو إقرارٌ بأن قوة سورية اليوم تُبنى بالاقتصاد والعلاقات المتعدّدة، لا بالشعارات فقط. من أجل أن تتمكّن الحكومة السورية من الاستفادة الحقيقية من رفع العقوبات، يجب أن تُنفَّذ إصلاحات هيكلية جذرية في جميع مؤسسات الدولة داخلياً، المطلوب ليس فقط رفع القبضة الأمنية، بل إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، عبر سياسات اجتماعية واقتصادية تُعالج تدهور الحياة اليومية وتُعيد التوازن إلى العقد الاجتماعي الذي تهشّم. هذه ليست ترفاً سياسياً، بل شرطاً لبقاء الدولة واستقرارها في مرحلة ما بعد الحصار. وما يبدو اليوم كـ"شروط" دولية، يمكن تحويله إلى أوراق تفاوض ذكية تخدم الدولة ولا تُفككها، إذا ما أحسنت القيادة السورية صياغة المشهد القادم: بحكمة لا تبعية، وببراغماتية لا ارتباك. أحد الشروط التي فرضتها القوى الدولية لرفع العقوبات يتعلق بضرورة إجراء إصلاحات سياسية داخلية. وهذا يشمل الانفتاح على المعارضة السياسية وإعطاء فرص أوسع للمشاركة السياسية. يشير اشتراط القوى الدولية بإجراء إصلاحات سياسية داخلية – كشرط لرفع العقوبات – إلى تصادم بين منطقين: (منطق السيادة التقليدية: حيث ترفض الدولة أي تدخل خارجي في تحديد شكل النظام السياسي. منطق الحوكمة الدولية: الذي بات يربط بين التنمية الاقتصادية والاستقرار السياسي، ويضع شروطاً تتعلق بالديمقراطية، الشفافية، وحقوق الإنسان مقابل المساعدات أو رفع القيود. في هذا السياق، يصبح السؤال المطروح: هل الإصلاح السياسي قرار سيادي أم استجابة للإكراه الخارجي؟ من منظور علم الاجتماع السياسي، هذه العلاقة ليست ثنائية أو تناقضية بالضرورة، بل يمكن أن تكون جدلية؛ حيث قد تستفيد النخبة الحاكمة من الضغوط الخارجية لتمرير إصلاحات قد تكون مرغوبة داخلياً، ولكن يصعب فرضها لولا الضغط الخارجي. مع رفع العقوبات عن سورية، تبرز تساؤلاتٌ مهمّةٌ حول قدرة المؤسسات الحكومية السورية على الاستفادة من هذه الفرصة التاريخية. يفتح هذا القرار أمام سورية أبواباً جديدة لإعادة الإعمار والنمو الاقتصادي، ولكنه، في الوقت نفسه، يضع الإدارة السورية أمام اختبار حاسم. هل ستتمكّن هذه المؤسّسات المترهلة والتي تعاني من الفساد والتدهور الإداري من الاستفادة من هذا التحوّل؟ وهل يمكن لها أن تتكيف مع البيئة السياسية والاقتصادية الجديدة لتحقيق التقدم؟ يعكس رفع العقوبات عن سورية، بعد سنوات من الحصار، تحوّلاً جوهرياً في المعادلات السياسية والاقتصادية. لكن الحقيقة التي لا يمكن إغفالها أن المؤسّسات الحكومية السورية، التي عانت من ضعف الأداء الإداري والفني بسبب الحروب والعقوبات المستمرّة، والفساد الكبير التي تعاني منه، قد تجد نفسها أمام تحدّياتٍ ضخمة، فعديد من هذه المؤسّسات تفتقر إلى الكفاءات والقدرة على جذب الاستثمارات، كما تعاني من قلة الشفافية والمساءلة، ما يشكّل عائقاً كبيراً أمام تحفيز النمو الاقتصادي. من أجل أن تتمكّن الحكومة السورية من الاستفادة الحقيقية من رفع العقوبات، يجب أن تُنفَّذ إصلاحات هيكلية جذرية في جميع مؤسّسات الدولة، فالمؤسّسات الحكومية، التي تعاني من الترهل وضعف الأداء الإداري، بحاجة إلى تعزيز قدرتها على العمل المؤسسي الفعّال من خلال إدخال مفاهيم جديدة تركز على الفعالية والشفافية. لا يقتصر هذا التغيير على تعديل النظم الإدارية فحسب، بل يتطلب أيضاً إعادة هيكلة ثقافة العمل داخل هذه المؤسسات بحيث تصبح أكثر كفاءة ومرونة. أولاً، الانتقال إلى نموذج كفؤ ومرن من الضروري أن تنتقل الحكومة السورية من نموذج تقليدي يعتمد على البيروقراطية الثقيلة إلى نموذج حديث يتمتع بالكفاءة والمرونة في اتخاذ القرارات. تحتاج المؤسّسات التي ظلت أسيرة لهيكل إداري قديم تتسم بتعقيد الإجراءات تطوير أنظمة جديدة تسرّع اتخاذ القرارات وتسهّل تنفيذ السياسات بشكل أكثر فعالية. يتطلب ذلك تدريب الموظفين على كيفية التعامل مع التحديات المعاصرة وتحسين مهاراتهم الإدارية والفنية، ما يعزّز قدرة المؤسّسات على التفاعل بشكل أسرع مع الظروف المتغيرة. ثانياً، تعزيز الشفافية والمساءلة واحدة من أبرز العوامل التي تعيق فعالية الحكومة السورية غياب الشفافية والمساءلة. لتحقيق الإصلاح المنشود، على الحكومة أن تنفذ آليات لضمان الشفافية في جميع الإجراءات المالية والإدارية، وأن توفر آلية مستقلة لمراقبة العمليات الحكومية. في هذا السياق، يجب تطبيق سياسات تحارب الفساد وتعزز المساءلة على جميع المستويات، بدءاً من أعلى السلطات وصولاً إلى الوحدات المحلية. ثالثاً، سياسة حكم رشيدة لجذب الاستثمارات من دون وجود سياسة حكم رشيدة، سيكون من الصعب جذب الاستثمارات الأجنبية التي تعدّ أساساً لإعادة بناء الاقتصاد السوري. لذلك، يجب أن تتبنّى الحكومة السورية سياسات اقتصادية تستند إلى مبادئ الشفافية والعدالة في التعامل مع المستثمرين، مع التأكيد على حماية حقوق المستثمرين المحليين والدوليين. كما يجب أن تكون هناك ضمانات قانونية لتشجيع الاستثمارات طويلة الأجل، وتوفير بيئة قانونية مستقرة تحمي حقوق المستثمرين من أي تقلبات سياسية أو اقتصادية. ليس رفع العقوبات نهاية الصراع، بل اختبار لمدى قدرة الدولة السورية على التكيف، ولقدرتها على إعادة بناء شرعيتها الداخلية هبة سورية الجديدة ليس رفع العقوبات قراراً سياسياً فقط، بل هو أيضاً تحوّل في أخلاق السياسة، فالعقوبات، كما عرّاها أمارتيا سن، ليست مجرّد أدوات ضغط، بل هي أنظمة إنتاج للمعاناة. يحمل إعلان ترامب في الرياض عن رفع العقوبات في طيّاته ما يُشبه التحوّل الأنطولوجي في كيفية فهم الدول لمصادر القوة: من الإكراه إلى التعاون، من السيطرة إلى الحوافز، من الغلبة إلى التكيّف. وإن رفع العقوبات عن سورية لا يمكن قراءته فقط منحة دولية أو نتيجة لتغير المزاج السياسي في العواصم الغربية، بل ينبغي فهمه في سياق أوسع من التحولات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة والعالم، حيث تعيد القوى الكبرى ترتيب أولوياتها، وتُفسح المجال لسياسات أكثر براغماتية قائمة على تقليل الكلفة الأمنية والانخراط عبر أدوات الاقتصاد والدبلوماسية. من هذا المنطلق، ليس رفع العقوبات نهاية الصراع، بل اختبار لمدى قدرة الدولة السورية على التكيّف، ولقدرتها على إعادة بناء شرعيتها الداخلية بمقاييس جديدة تعتمد على الكفاءة، الشفافية، والتشاركية، بدلاً من السرديات الأيديولوجية التقليدية. والأهم أن هذا التحول لا يعني بالضرورة الخروج من محور والانخراط في آخر، بل استثمار اللحظة السياسية بحنكة، بما يضمن مصالح الشعب السوري أولاً، ويحفظ السيادة الوطنية دون أن يُغلق الأبواب أمام التفاهمات الإقليمية والدولية. إن اللحظة الراهنة هي لحظة مفصلية في التاريخ السوري الحديث: إما أن تُقرأ برؤية مستقبلية تُحوّل الضغط إلى فرصة، أو تُفهم بوصفها مجرّد هدنة مؤقتة سرعان ما تنقلب إذا لم تُدعّم بإصلاح داخلي حقيقي. فكما قال أحد المراقبين في The National Interest: "الأنظمة التي تنجو من العزلة لا تفوز فقط بالبقاء، بل بتجديد أدوات بقائها". والسؤال الآن ليس عما إذا كانت العقوبات قد رُفعت، بل هل ستُستثمر هذه الفرصة لصياغة سورية جديدة، أم تُهدر كما أُهدرت فرص تاريخية من قبل؟