logo
السلطة الفلسطينية ونظرية "الضفدع المغلي"

السلطة الفلسطينية ونظرية "الضفدع المغلي"

الجزيرة٢٧-٠٧-٢٠٢٥
صوّت الكنيست الإسرائيلي قبل أيام- 23 يوليو/ تموز 2025- على فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وأعاد التأكيد على رفضه قيام أي شكل من أشكال الكيانية السياسية الفلسطينية ما بين النهر والبحر.
وتُعتبر هذه المرة الأولى منذ اتفاق أوسلو 1993 التي يُقدِم فيها الكنيست الإسرائيلي على إجراءات ذات طبيعة قانونية لضم أراضٍ من الضفة الغربية، وهو ما يمكن اعتباره إعادة التأكيد على التجاوز الرسمي، وليس فقط العملي، لاتفاقية أوسلو.
لكن هذه الخطوة ليست وحيدة، وإنما تأتي في سياق سياسة طويلة الأمد ومستمرة منذ زمن طويل لتغيير الواقع على الأرض في الضفة الغربية، وقد ازدادت وتيرة هذه الإجراءات عمليًّا مع تولي هذه الحكومة الفاشية المكونة من اليمين واليمين المتطرف الفاشي، سدة الحكم.
ما يحتاج التوقف عنده وتسليط الضوء عليه هو سلوك السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، قيادةً ومؤسسات، تجاه الواقع الذي يفرضه الاحتلال.
هذا السلوك يُذكّر بما يُعرف شعبيًّا بنظرية "الضفدع المغلي"، حيث لا يدرك الضفدع الموجود في إناء الماء، أو يحاول إنكار، التغيير التدريجي الذي يحدث في درجة حرارة الماء الذي يحيط به، إذ يستمر الضفدع في التأقلم مع التغير في درجة الحرارة إلى أن تصل درجة الغليان التي لا يحتملها، مما يؤدي إلى وفاة الضفدع لعجزه عن القفز من الإناء لانهيار قواه؛ بسبب درجة الحرارة العالية. ولو كان قد استشعر خطر ارتفاع درجة الحرارة منذ البداية، لربما قفز من الماء ونجا بنفسه.
ما تسمّيه القيادة الفلسطينية في رام الله "سياسة سحب الذرائع" لا يتجاوز إيهام النفس بإمكانية النجاة عبر التأقلم مع التغيير الذي يحدث باستمرار.
إن سلسلة الإجراءات التي اتخذتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ستُفضي بالضرورة إلى تقويض، ليس فقط الحلّ السياسي وحل الدولتين، بل أيضًا القضاء على السلطة الفلسطينية، والمؤسسات السياسية الفلسطينية التي يعتقد البعض أنها ماتت وقتلها الاحتلال منذ زمن، لكنه لا يريد دفنها، كي يتلهى بها الفلسطينيون وبعض المجتمع الدولي، وليستمروا في خداع الذات.
تعاني القيادة السياسية الفلسطينية، بمستوياتها المختلفة، من جملة من الإشكاليات التي قادت إلى الضعف العام في الدور والأداء، وفي ذات الوقت سهّلت المهمة على حكومة الاحتلال لتطبيق سياساتها الاحتلالية المتطرفة وفرض الوقائع على الأرض.
فالشيخوخة هي السمة الأساسية للمؤسسة السياسية؛ قادتها السياسيون في غالبيتهم في خريف أعمارهم، والمؤسسات لم تُجدد شرعيتها أو تشكيلها منذ عقود طويلة، وبعضها لا تعلم القيادات السياسية وكوادر الفصائل، فضلًا عن الشعب الفلسطيني، عدد أعضائها أو أشخاصهم.
وإذا ما قررت القيادة العليا تغييرًا في موقع قيادي أو استحداث موقع جديد في "النظام السياسي"، يكون بناءً على طلب أطراف خارجية أو على أمل استجلاب دعم مادي من جهة ما، ولا يُعبر بحال عن تطوير أو تغيير حقيقي، فقد ظهر حجم الإملاءات الخارجية جليًّا في أكثر من تغيير في الفترة الأخيرة.
قادت الشيخوخة المؤسساتية والقيادية إلى عجز عن القيام بالحد الأدنى من واجباتها الإدارية والوظيفية، فضلًا عن الواجبات السياسية والوطنية، وصولًا إلى عدم القدرة على تسديد رواتب الموظفين وتقليص الدوام في مؤسسات السلطة إلى الحد الأدنى، وارتباك عام في أداء المؤسسات الوطنية ومؤسسات القطاع الخاص، مما جعل الوضع الإداري والمؤسساتي الفلسطيني على حافة الانهيار الكامل.
ولعل أخطر ما نتج عن هذه الحالة القيادية هو العجز الكبير عن التفاعل مع القضايا الوطنية الكبيرة والملحّة، فلا تكاد تلمح موقفًا جادًّا أو حضورًا للقيادة السياسية تجاه الإبادة الجماعية والتدمير والتجويع الذي يتعرض له قطاع غزة. وممارسات الاحتلال والمستوطنين في الضفة الغربية تؤكد الغياب السياسي والميداني للسلطة ومؤسساتها المختلفة.
ولعل هذا الأداء قد ساهم في تزايد التهميش السياسي الإقليمي والدولي للقيادة الفلسطينية حتى في القضايا المرتبطة بالقضية الفلسطينية وتطوراتها، وقد بات مألوفًا أن يُناقش الملف الفلسطيني في لقاءات إقليمية ودولية بمعزل عن الفلسطينيين.
هذا "الموت السريري" وكل مؤشرات العجز والضعف تأتي في مرحلة غليان في كل أوضاع وملفات القضية الفلسطينية، وسلوك السلطة يعيد التذكير مرة أخرى بالضفدع الذي استقر في الماء المغلي، فكيف يمكن للسلطة وقيادتها ألا تُدرك الطبيعة القاتلة لسياسات الاحتلال وإجراءاته على الأرض؟
من الوقائع الكثيرة التي كان ينبغي أن ترفع درجة حرارة البيئة السياسية الفلسطينية وتشعل الضوء الأحمر، وتدعو إلى البحث عن حلول جذرية وإستراتيجية للواقع القائم، وليس الانتظار إلى حين العجز عن القيام بأي فعل تحت عنوان سحب الذرائع والتعاطي مع الواقع القائم:
أولًا: تضخم الاستيطان والزيادة الكبيرة في عدد المستوطنات والبؤر الاستيطانية، حيث بلغت مؤخرًا ما يقارب 180 مستوطنة و215 بؤرة استيطانية مرشحة للتحوّل إلى مستوطنات، والشروع في بناء عشرات آلاف الوحدات السكنية الجديدة، واستمرار مصادرة مساحات كبيرة من الأراضي وشقّ الطرق بأنواعها المختلفة.
يُضاف إلى ذلك الخطط الحكومية لمضاعفة عدد المستوطنين في الضفة، حيث تعمل الحكومة الحالية على توطين مليون مستوطن إضافي، مما قد يرفع عدد المستوطنين خلال سنوات إلى مليونَي مستوطن، ما يعني أنّ عدد المستوطنين الصهاينة والمواطنين الفلسطينيين في الضفة سيكون مُتقاربًا.
ثانيًا: سلسلة الإجراءات القانونية والإدارية التي اتخذتها حكومة تل أبيب، والتي تهدف إلى تعزيز السيطرة القانونية على الضفة الغربية، حيث تم إلغاء سلطة الإدارة المدنية على المستوطنات، وإلغاء تصنيف منطقة B ونقل الصلاحيات الإدارية فيها، بالإضافة إلى الأمنية، إلى سلطات الاحتلال.
وتوسيع صلاحيات "المنسق" ليصبح هو الحاكم الفعلي للضفة الغربية ويتواصل معه المواطنون مباشرة في كل شؤونهم، وإلغاء كل إجراءات ومعاملات مسح الأراضي وتصنيفها (الطابو) التي قامت بها السلطة، وتحويل المسؤولية عن هذا الملف إلى حكومة الاحتلال، وغير ذلك الكثير من الإجراءات التي تُعزز حضور الاحتلال المباشر وتُقوّض عمل السلطة الفلسطينية على محدوديته.
ثالثًا: حسم النقاش الداخلي الصهيوني تجاه حل الدولتين وفكرة إقامة أي كيان سياسي فلسطيني، وذلك عبر التصويت مرتين في الكنيست: واحدة وبأغلبية ساحقة برفض إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يوليو/ حزيران.
والثانية تُؤكد على "حق الكيان" في فرض سيادته على كامل التراب الفلسطيني بما فيه الضفة الغربية، وتدعو الحكومة إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة لفرض السيادة عليها، ما يعني انتهاء مقاربة أوسلو السياسية تمامًا، وانتفاء وجود أي طرف إسرائيلي، ذي شأن، يمكن أن يكون شريكًا في مسار سياسي أو تسوية سياسية.
رابعًا: الخنق الاقتصادي الذي يُمارسه الاحتلال بحق السلطة، ووضعها في خانة العجز الاقتصادي، إلى الحد الذي لا تستطيع معه أن تلتزم برواتب موظفيها، فضلًا عن القيام بأي مشاريع اقتصادية أو تنموية.
حيث تحتجز إسرائيل ما يعادل 2.7 مليار دولار من أموال السلطة، وتُغرق السوق والمؤسسات المالية بعملة الشيكل دون السماح باستبدالها بعملات أجنبية، مما تسبب في أزمات اقتصادية متعددة الأوجه.
خامسًا: تهشيم الصورة الوطنية للسلطة الفلسطينية عبر إرغامها على مجموعة من الخطوات التي يمكن أن تُصنّف أنها غير وطنية، وتحظى برفض الأغلبية العظمى من الشعب الفلسطيني، مثل وقف رواتب الأسرى وأسر الشهداء، والقبول بتغيير المناهج الفلسطينية التي تحتوي على ثوابت ومفاهيم وطنية يرفضها الاحتلال، وتكثيف ما يُعرف بالتنسيق الأمني وملاحقة المقاومين في الضفة، وصولًا إلى العمل الميداني المشترك كما حدث في جنين وطولكرم.
ونظرًا لتزامن كل ذلك مع التراجع الكبير في الدور الوطني بكل تفاصيله للسلطة، وتنامي عجزها أمام غطرسة الاحتلال وجرائمه، فقد أصبحت مكانة السلطة وطنيًّا على المحك.
سادسًا: المسّ بالمقدسات والقيم العليا للشعب الفلسطيني. وعلى رأس هذه القيم الإنسان الفلسطيني، حيث أوغل الاحتلال في دماء الفلسطينيين وارتكب خلال العامين المنصرمين إبادة جماعية لا تتوقف حتى اللحظة، ونكّل بعشرات الآلاف منهم في السجون مستخدمًا وسائل قمع وتعذيب لم يعرفها الفلسطيني من قبل.
كما أنه تجاوز كل الحدود في التعاطي مع المقدسات، وبالذات المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي.
سابعًا: العمل على تقويض دور الأمم المتحدة في القضية الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص في الأراضي المحتلة، فقد خاض الاحتلال حربًا حقيقية على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا"، ومارس التضييق على نشاطاتها في الضفة الغربية وقطاع غزة، وحاول المسّ بسمعتها المهنية، في محاولة منه، وبمساندة الولايات المتحدة الأميركية، لإنهاء دور الوكالة باعتبارها أداة أممية شاهدة على أحد أهم ملفات القضية الفلسطينية وعنوان عدالتها، ألا وهي قضية اللاجئين.
كما عمد، وفي ذات السياق، إلى تدمير ممنهج للمخيمات ومحاولة تفريغها من سكانها متذرعًا بالمقاومة، فأقدم على تدمير مخيمَي جنين وطولكرم، وشرد عددًا كبيرًا من سكانهما.
كل هذه الإجراءات وغيرها، تجري أمام ناظري العالم دون أن يُحرّك أحد ساكنًا، والأهم أنها تجري أمام أعين السلطة الفلسطينية، وهذا يجعل المراقب يعتقد أن القيادة السياسية الفلسطينية والسلطة الفلسطينية إما أنها تخدع نفسها، وتمني ذاتها بالسلامة المستندة إلى نزع الذرائع والتعايش مع الواقع كما هو، مهما بلغ من السوء، أو أنها لا تُدرك الواقع ولا تعلم ما يدور حولها، وحينها تكون المصيبة أعظم.
لا بد من تحسس حرارة البيئة المحيطة، والتعامل الجاد مع الواقع بما فيه من تعقيد وصعوبات، وبالذات بعد حرب الإبادة على قطاع غزة، والتوجه فورًا إلى مكونات الشعب الفلسطيني المختلفة، السياسية منها والمجتمعية، لصياغة خطة وطنية مسؤولة وجادة تواجه هذا الواقع، وتفتح فرصة أمام الشعب الفلسطيني لمواجهة هذه التحديات موحدًا.
وهو شعب مُجرّب وصاحب مراس وخبرة، ولا يحتاج إلا إلى قيادة مؤمنة وقادرة، ما سيساهم في وقوف من بقي من أشقاء وأصدقاء للشعب الفلسطيني معه وخلفه لمواجهة هذا العدو المتغطرس والفاشي، لأن الانتظار لن ينفع أحدًا ولا يخدم إلا الاحتلال وسياساته.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

إعلام إسرائيلي: اتصالات مع دول عدة لمحاولة تهجير الفلسطينيين من غزة
إعلام إسرائيلي: اتصالات مع دول عدة لمحاولة تهجير الفلسطينيين من غزة

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

إعلام إسرائيلي: اتصالات مع دول عدة لمحاولة تهجير الفلسطينيين من غزة

قالت القناة الـ12 الإسرائيلية إن تل أبيب تُجري اتصالات مع 4 دول إضافة إلى إقليم أرض الصومال، لمحاولة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إليها، الأمر الذي يواجه رفضا عربيا وإسلاميا ودوليا واسعا لانتهاكه القانون الدولي والإنساني. وزعمت القناة في تقرير نشر أمس الأربعاء أن هناك تقدما في المباحثات بهذا الشأن مع إندونيسيا وإقليم أرض الصومال (لا يتمتع باعتراف رسمي منذ إعلانه الانفصال عن الصومال عام 1991). وذكرت أن الدول التي تُجري إسرائيل اتصالات معها هي إندونيسيا وليبيا وأوغندا، وجنوب السودان وإقليم أرض الصومال. ونقلت القناة عن مصدر إسرائيلي -لم تذكر اسمه- زعمه أن بعض الدول تبدي انفتاحا أكبر من ذي قبل لاستيعاب الفلسطينيين المهجرين من قطاع غزة. وأشارت إلى أنه لم يتم التوصل إلى اتفاق بعد مع أي من هذه الدول، في حين لم يصدر تعقيب بهذا الشأن من الدول المذكورة سوى جنوب السودان التي نفت الأمر. وأول أمس الثلاثاء، ذكرت وكالة أسوشيتد برس الأميركية في تقرير نقلا عن 6 مصادر وصفتها بالمطلعة أن إسرائيل تبحث مع جنوب السودان إمكانية تهجير فلسطينيين من غزة إليها. وغداة نشر التقرير قالت وسائل إعلام إسرائيلية بينها قناة "آي 24" إن شارين هاسكل نائبة وزير الخارجية الإسرائيلي ستبدأ زيارة إلى دولة جنوب السودان الأربعاء، وذلك على خلفية تقارير تتحدث عن إجراء مباحثات مع جوبا لتهجير فلسطينيين من قطاع غزة إليها. من جهتها، قالت صحيفة جيروزاليم بوست أول أمس الثلاثاء إن وفدا إسرائيليا يخطط لزيارة جنوب السودان، لبحث إمكانية إقامة مخيمات تمهيدا لتهجير فلسطينيين من غزة. نفي من جنوب السودان في المقابل، نفت وزارة خارجية جنوب السودان أمس الأربعاء مزاعم إجراء حكومة جوبا مناقشات مع إسرائيل بشأن توطين مواطنين فلسطينيين من غزة في أراضيها. وقالت الخارجية في بيان إنها تنفي بشكل قاطع التقارير الإعلامية الأخيرة التي تزعم أن حكومة جمهورية جنوب السودان تُجري مناقشات مع دولة إسرائيل بشأن توطين مواطنين فلسطينيين من غزة في جنوب السودان. وأضاف البيان أن هذه المزاعم لا أساس لها من الصحة، ولا تعكس الموقف الرسمي أو سياسة حكومة جمهورية جنوب السودان. وفي منتصف مايو/أيار الماضي نفت السفارة الأميركية في العاصمة الليبية طرابلس الأنباء التي أفادت بأن الإدارة الأميركية تعكف على خطة لنقل الفلسطينيين من قطاع غزة إلى ليبيا. وقالت السفارة الأميركية في منشور على منصة إكس"التقرير بشأن خطط مزعومة لنقل سكان غزة إلى ليبيا عار عن الصحة". وتتمسك إسرائيل بمخطط أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في وقت سابق لتهجير فلسطينيي غزة قسريا، لكنه يواجه رفضا فلسطينيا وعربيا وإسلاميا ودوليا واسعا لانتهاكه القانون الدولي والإنساني. وبدعم أميركي، ترتكب إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إبادة جماعية في غزة تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري، متجاهلة النداءات الدولية كافة وأوامر محكمة العدل الدولية بوقفها. وخلّفت الإبادة الإسرائيلية 61 ألفا و722 شهيدا و154 ألفا و525 مصابا من فلسطينيا -معظمهم أطفال ونساء- وما يزيد على 9 آلاف مفقود ومئات آلاف النازحين، ومجاعة أزهقت أرواح 235 شخصا، بينهم 106 أطفال.

أنس الشريف ضد نيويورك تايمز.. القاتل فقط هو من يملك الحقيقة
أنس الشريف ضد نيويورك تايمز.. القاتل فقط هو من يملك الحقيقة

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

أنس الشريف ضد نيويورك تايمز.. القاتل فقط هو من يملك الحقيقة

في مساء الأحد العاشر من أغسطس/آب الجاري، قصف الطيران الإسرائيلي خيمة للصحفيين في باحة مستشفى الشفاء في مدينة غزة. استهدف الصاروخ أنس الشريف ، الصحفي الفلسطيني الذي لم يتم عامه التاسع والعشرين بعد، ومعه زملاؤه صحفيو الجزيرة ومصوروها الشباب محمد قريقع ومحمد نوفل ومؤمن عليوة وإبراهيم ظاهر فقتلهم جميعا في جريمة حرب مركّبة. لم تحاول إسرائيل إخفاء جريمتها ولم تموّه كما فعلت في أول الحرب مع قصف المستشفيات والصحفيين، ففي خلال أقل من ساعة كانت حسابات الجيش بالعبرية والإنجليزية تنشر متفاخرة نجاح عملية اغتيال أنس الشريف. كانت العملية جريمة اغتيال مع سبق الإصرار والترصد، وتمت بعد حملة تحريضية ضد الشريف، استمرت أشهرا قادتها حسابات إسرائيل ومؤيديها على مواقع التواصل الاجتماعي. كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة مساء في لندن، ولم تزل بعد حوالي الرابعة عصرا في الساحل الشرقي الأميركي. ومع ذلك، توالت الأخبار العاجلة والإدانات من مؤسسات الدفاع عن الصحفيين، وبعض الجهات الأممية، وبعض وكالات الأنباء العالمية في كل العالم. فأنس ورفاقه لم يكونوا أول الصحفيين الشهداء، والطريقة التي أعلنت بها إسرائيل جريمتها ترجح أنه مع استمرار حرب الإبادة لن يكونوا آخرهم. كانت معظم التغطيات الغربية متساهلة مع ادعاءات إسرائيل، لكنها مع ذلك نقلت الخبر بشيء من الدقة وبسرعة معقولة. فمؤسسات مثل رويترز، وأسوشيتد برس، وفرانس 24، ويورو نيوز والغارديان قدمت الخبر على حقيقته: إسرائيل قتلت صحفيين عاملين، في مقر إعلامي معروف لإسرائيل، وداخل مستشفى! يمكن القول إن معظم هذه المنصات الإعلامية بدأت تغطياتها بفقرات تجيب على أسئلة الصحافة الأساسية: ما الجريمة؟ ومن الجاني؟ ومن الضحية؟ وأين تمت؟ ولماذا يهمّ الأمر؟ تحدثت بعض المنصات الأخرى، مثل صحيفة الغارديان، عن القانون الدولي، وحق الصحفيين في الحماية، ووصفت الغضب العالمي، وفي افتتاحيتها لاحقا حذرت من أن "إسرائيل تبيد الشهود". كصحفي أعتمد في عملي على متابعة المصادر الأجنبية، أستخدم اشتراكا مدفوعا لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية، ومن ضمن الخدمات التي أستخدمها باستمرار هي خدمة الأخبار العاجلة والتي تصل إلى هاتفي بمجرد نشر خبر جديد مهم في القضايا التي أهتم بها. خدمة مفيدة، لكنها مع نيويورك تايمز كانت دليل إدانة، واستثناء للمثل السائر: أن تاتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا. فبعد 24 ساعة تقريبا، وفي مساء الاثنين، أرسل تطبيق نيويورك تايمز إشعارا بعنوان "مقتل خمسة من صحفيي الجزيرة في غارة إسرائيلية، حسب الشبكة". دعنا من التأخر المقصود في إرسال "الخبر العاجل"، لكن الطريقة التي كُتب بها الخبر وغيره من المتابعات التي غطت بها نيويورك تايمز جريمة مقتل أنس الشريف ورفاقه تجعلنا نشير بأصابع الاتهام إلى سياسات الجريدة الأميركية الأوسع انتشارا، لا التساؤل بشأن نواياها كما فعل الكثيرون لسنوات طويلة، وخصوصا منذ بدء الحرب الإسرائيلية الحالية في غزة والإقليم. خلاف هذا الخبر، تحدثت نيويورك تايمز عن الجريمة بالفعل، لكن في إطار أبعد ما يكون عن المهنية، أو عن حق الصحفيين في العمل الآمن والحصانة في الحروب. في البداية، قدمت نيويورك تايمز الخبر لا باعتباره جريمة قتل لصحفي، بل كأزمة دبلوماسية محتملة بين الدوحة وتل أبيب! ففي أحد العناوين، قالت التايمز "تصاعد التوتر بين إسرائيل وقطر بعد مقتل صحفيين من الجزيرة على يد إسرائيل"، لتضع التداعيات السياسية في صدارة العنوان، لتجعل فعل القتل، قتل الصحفيين في المستشفى(!)، كجملة استطرادية ثانوية. يتسق هذا الاختيار التحريري المتعمد مع مذكرة داخلية مسربة نشرها موقع ذي إنترسبت تأمر فيها المؤسسة صحفييها ومحرريها بتجنب استخدام أي مصطلحات واضحة، مثل "إبادة جماعية"، أو "تطهير عرقي"، أو "الأراضي المحتلة"، بل وحتى الحذر من استخدام كلمات مثل "مخيمات اللاجئين"، وأخيرا، وليس آخرا: "فلسطين". فإذا كانت غرفة الأخبار تقوض بشكل منهجي استخدام المصطلحات الوصفية الصحيحة، فمن الطبيعي أن تأتي تغطية مقتل صحفيين فلسطينيين مركزة على الروايات الرسمية والاعتبارات الجيوسياسية، بدلا من إدانة سياق الاحتلال أو الارتكاز على قوانين حرية الصحافة وحقوق الإنسان. لكن العنوان لم يكن الدليل الوحيد على الانحياز الصارخ للاحتلال، حتى ضد أبناء المهنة؛ فبنية الخبر تظهر ما يمكن تسميته بإزاحة السردية، فمن المرجح أن تدّعي إدارة تحرير نيويورك تايمز أنها قدمت مساحة لعرض موقف الجزيرة، أو عمل أنس الشريف ورفاقه، أو الرواية الفلسطينية بشكل ما، لكن الأمر أعمق من ذلك. ففي السطور الأولى من الخبر، تذكر الصحيفة مزاعم الجيش الإسرائيلي بأن أنس الشريف "إرهابي يتبع الجناح المسلح لحركة حماس"، قبل أن تعرض أي خلفية قانونية حول حماية الصحفيين، أو ذكر أي إدانة دولية من التي نُشرت قبل ساعات طويلة من نشر التقرير. بهذا الترتيب، تمنح نيويورك تايمز الرواية الإسرائيلية موقع الانطلاق، وتهمش رواية الضحايا، لتبدو -حتى مع ذكرها- كدفاع لاحق لا باعتبارها الإطار الأصلي للجريمة والحدث. وفي غالب تغطيتها، تغيب المصادر الرقابية المستقلة مثل تعليقات لجنة حماية الصحفيين، أو "مراسلون بلا حدود"، وهو ما يخرج الحدث من سياقه الحقوقي ويترك المجال مفتوحا أمام القارئ لاعتبار الجريمة جزءا من نزاع سياسي أو أمني بين دولتين، أو قوتين على قدم المساواة، لا باعتباره انتهاكا صارخا للقانون الدولي الإنساني. فضلا عن ذلك، ابتعدت معظم صياغات الأفعال عن ذكر الفاعل، فلا يُقال "قتلت إسرائيل"، بل تستخدم تراكيب مبنية للمجهول وعبارات مخففة مثل "قُتلوا في غارة"، أو "استهداف". ورغم ما في هذا الأسلوب اللغوي من إيحاء بالحياد، يتحول -مع اعتراف الجيش الإسرائيلي بنفسه عن مسؤوليته- إلى إغماض عن الحقيقة، ومع اختلال القوة فهو يؤدي إلى طمس المسؤولية المباشرة لإسرائيل عن جريمة بهذا الحجم. وقد وثقت العديد من دراسات تحليل الخطاب كيف تستخدم مؤسسات صحفية كبرى، مثل "بي بي سي"، و"واشنطن بوست"، و"وول ستريت جورنال"، وبالطبع نيويورك تايمز هذه الألفاظ كنمط لضمان عدم إغضاب إسرائيل وحلفائها وداعميها، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة. ليصبح التقرير الصحفي تواطؤًا مع القاتل أو ما يشبه التواطؤ. وبالنظر إلى سياق الإبادة، فإن هذه الصياغة لا يقتصر أثرها على خبر جريمة مقتل الصحفيين فحسب، بل ترسخ تصورا عاما لدى الجمهور الواسع لنيويورك تايمز وغيرها أن جرائم مثل قتل الصحفيين الفلسطينيين يمكن النظر إليها باعتبارها حدثا قابلا للنقاش، أو محل شك، لا انتهاكا صريحا للقوانين الدولية وحقوق الإنسان. "ما يجب أن تعرفه عن الجزيرة" لم تنته التغطية المريبة لنيويورك تايمز عند حد نقل رواية الاحتلال بشأن الشهيد الصحفي أنس الشريف والاعتماد عليها، بل ذهبت لما هو أبعد من ذلك. ففي أحد أبرز التقارير التي قُرئت في نيويورك تايمز في إطار تغطية جريمة الاغتيال كان العنوان: "ما الذي يجب معرفته عن قناة الجزيرة، المؤسسة الإعلامية التي استهدفتها إسرائيل"، والذي يقدم مثالا محرجا على كيف يمكن للإطار الخبري أن يحرف المسؤولية بعيدا عن الجاني ليزرع الشك في رواية الضحية، بل وتجريده من شرعيته وإنسانيته! يمثل هذا البناء السردي نموذجا مثاليا لمعرفة الطريقة التي تعمل بها صحيفة نيويورك تايمز في تغطية الإبادة في إسرائيل، فمن ضمن النقاط التي يمكن ملاحظتها بوضوح: إعادة توجيه القصة بعيدا عن الحدث نفسه نعم، ظهر خبر اغتيال أنس الشريف والزملاء الصحفيين في المقدمة، لكن محرر الصحيفة سرعان ما يدفنه تحت ركام من الجدليات المرتبطة بشبكة الجزيرة، لينتقل تركيز القارئ بشكل مباشر من جريمة القتل -واضحة المعالم- إلى الاتهامات الموجهة للشبكة، والتي تمتلئ بالإثارة وانعدام اليقين الذي يحفز القراءة كما نرى في تغطيات الصحف الصفراء ومجلات الأرصفة. إعطاء الأولوية لمزاعم إسرائيل لا تفكر الصحيفة في عرض بروفايل لقصة شاب من جيل زد، وُلد في مخيم للاجئين، وعاش في مساحة تناهز مساحة حي من أحياء نيويورك، وعاصر انتفاضة وحروبا عدة، وفقد من رفاقه أكثر ممن بقي منهم، لينتهي به المطاف صحفيا شديد النباهة والشجاعة والحضور ولتقتله إسرائيل قبل أن يتم عقده الثالث. بدلا من ذلك، تتحدث الصحيفة عن الوثائق التي قدمتها إسرائيل وتدّعي فيها انتماءه إلى كتائب القسام أو اعتباره إرهابيا. ولا تنسى الصحيفة التذكير بحيادها من خلال القول إنها "لم تتحقق بشكل مستقل" من صحة الوثائق المقدمة. مذنب لأنه يعمل في شبكة مشاغبة، أو تأكيد الذنب بالارتباط! في تقريرها، تسرد نيويورك تايمز بشكل مطول محاولات حظر قناة الجزيرة أو انتقادها من قبل حكومات أخرى، وهو ما يهيئ القارئ للنظر إلى الشبكة، وبالتالي لكل المتعاونين معها، من خلال عدسة أمنية بدلا من الحقيقة المباشرة في أنهم مدنيون، صحفيون مهنيون، يحميهم القانون الدولي، وتتحمل مسؤولية قتلهم إسرائيل بلا مواربة. يجسد هذا التسلسل التحريري ما يصفه إدوارد سعيد في مقاله المنشور عام 1984 "الإذن بالسرد"، فقبل أن يُسمح للأصوات الفلسطينية بالكلام، وقبل أن تقص حكاياتها، يجب أن تمر من خلال روايات خصومها. عمليا، وصحفيا، يعكس هذا الشكل من التحرير عبء الإثبات، إذ يدعو القارئ للتساؤل عما إذا كان الضحايا يستحقون مصيرهم، بدلا من التساؤل عما إذا كان الاغتيال انتهاكا للقانون. ففي التقرير، تقول نيويورك تايمز "أثارت قناة الجزيرة، التي قالت إن خمسة من صحفييها قُتلوا في غارة إسرائيلية، غضب حكومات … تتهمها بأنها تعطي منبرا للإرهابيين". في جملة شديدة الرداءة، تجعل الموضوع هو المؤسسة لا جريمة الاغتيال، وتحول التركيز من الضحايا إلى منتقدي الشبكة من الحكومات الشريكة للولايات المتحدة والتي تُكثر الصحيفة من نشر التقارير الإيجابية حولها. مرة أخرى، لم تشر الصحيفة إلى القانون الدولي الذي يحمي الصحفيين، ولا إلى تصريحات المنظمات الحقوقية والإدانات الدولية، ولم تذكر أن الحادثة تمثل حلقة في سلسلة بدأتها إسرائيل في غزة لتجعل من العام الجاري أكثر الأعوام دموية بالنسبة للصحفيين على الإطلاق. بهذا يصبح حدث مقتل الصحفيين خيطا واحدا ضمن نسيج متداخل من الاتهامات إيابا وذهابا، ليخرج القارئ بانطباعات تبتعد عن الحقيقة المباشرة. وللمقارنة السريعة، يكفي النظر إلى صياغة جريدة بريطانية عريقة مثل الغارديان، والتي عنونت خبرها الأول "صحفي بارز في الجزيرة تقتله غارة إسرائيلية في غزة"، وفي مقدمة الخبر تقول: "أنس الشريف قُتل في غارة إسرائيلية قتلت أيضا أربعة من زملائه". في تغطية الغارديان يبدو واضحا استخدام المبني للمعلوم، ووضع الضحايا في المركز، وذكر الجاني، والتركيز على مهنة الضحية ما يقدم الجريمة على حقيقتها كانتهاك مباشر لحرية الصحافة والتعبير والحق في الحياة. أما في اليوم التالي، فقد نشرت الصحيفة تقريرا بعنوان "الصحفيون الفلسطينيون يُقتلون، والأجانب يُمنعون، في حرب إسرائيل على السردية في غزة". وفي البداية تقول الصحيفة بشكل مباشر "تقتل إسرائيل الصحفيين الفلسطينيين في غزة بينما ترفض السماح للمراسلين الأجانب بدخول القطاع"، وتستمر على هذا المنوال في فضح الإستراتيجية الإسرائيلية في التعتيم على الإبادة المستمرة منذ 22 شهرا. الحق في السرد لا يوهب، بل يُنتزع عودة إلى إدوارد سعيد، الذي كتب مطولا عن تعامل الإعلام الغربي مع قضية فلسطين ومع المسلمين. في كتابيه، الاستشراق، والذي نُشر لأول مرة عام 1978، و "تغطية الإسلام"، الذي نُشر بعده بسنوات قليلة، يتحدث سعيد عن أن الإعلام الغربي في مجمله لا يكتفي بعرض ما يراه واقعا عندما يتعلق الأمر بالمسلمين، بل يشارك فعليا في صنعه. ويكون المنتج النهائي متسقا تماما مع السرديات الإمبريالية، وهو ما يراه أداة هيمنة شديدة القوة. هذه الطريقة في السرد والهيمنة تحذف بشكل متعمد كل سياق يرتبط بالتاريخ الاستعماري والاعتداءات الخارجية، وبالتالي يظهر رد الفعل الذي تقدمه حركات المقاومة، سواء دينية أو غيرها، باعتباره تعديا غير مبرر، وإرهابا بلا سبب. بالنسبة للإعلام الغربي في مجمله، بحسب سعيد، يقدَّم المسلمون والعرب في صورة تهديد، أو مشكلة تحتاج للتعامل معها. والأمر نفسه أكده في مقالته "الإذن بالسرد" التي وصف فيها كيف يُحرم الفلسطينيون من الحق في حكاية قصتهم إلا ضمن الإطار الذي يجيزه أصحاب الهيمنة والنفوذ. وهذا بالضبط ما نراه الآن في تغطية نيويورك تايمز، عندما تقدم السردية الحكومية، بغض النظر عن كونها سردية احتلال مدان دوليا، على حساب القضايا الأخلاقية شديدة الوضوح والحدية. لم يكن اغتيال أنس الشريف وصحفيي الجزيرة في غزة سوى اختبار صارخ لقدرة الإعلام الغربي على الالتزام بمعاييره. وقد فشلت النيويورك تايمز في الالتزام بتلك المعايير، فلم تفعل أكثر من إعادة إنتاج سردية الاحتلال عبر منصة أقوى. إن ما حذّر منه إدوارد سعيد قبل عقود يتجسد اليوم بوضوح: الفلسطينيون لا يُسمح لهم بالسرد إلا عبر قوالب أعدّها المتنفذون والاحتلال. إن من شأن هذا الانحراف عن المهمة الصحفية ألا يشوه واقع ما يحدث في غزة فحسب، بل تقويض سلامة وحماية الصحفيين في كل مكان. لأن صاحب القوة عندما لا يمنح "الإذن بالسرد"، فهو يعني أن كل ناقل لسردية أخرى سيكون هدفا مستباحا للقتل. ما كان يقوله أنس الشريف عن غزة كانت ضد ما تقوله نيويورك تايمز عن غزة. كان أنس الشريف يقف ضد نيويورك تايمز حين حكى قصة شعبه بلا إذن بالسرد، وهذه بالتحديد كانت جريمته.

إسرائيل والحرب على الحقيقة.. إبادة ممنهجة للصحفيين في غزة
إسرائيل والحرب على الحقيقة.. إبادة ممنهجة للصحفيين في غزة

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

إسرائيل والحرب على الحقيقة.. إبادة ممنهجة للصحفيين في غزة

دفع الصحفيون الفلسطينيون -على مدى 22 شهرا من حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة – ثمنا باهظا من حياتهم وأمنهم وصحتهم واستقرارهم؛ إذ تعرّضوا لشتى أصناف الجرائم والانتهاكات، التي وثّقتها منظمات حقوقية تُعنى بحماية الصحفيين، في محاولة لإسكات أصواتهم وحجب التغطية عن فصول الإبادة. وبلغ عدد الصحفيين الذين اغتالهم الجيش الإسرائيلي حتى اليوم 238 صحفيا، لذلك أصبح أفراد الجماعة الصحفية الفلسطينية في غزة يتحسبون استهدافهم في أي لحظة قد تبطش فيها آلة الإبادة بمكان وجودهم، سواء كانوا في خيام الصحفيين بالمراكز الصحية والمستشفيات، أو أثناء زيارة خاطفة لأسرهم في مخيمات النزوح و التهجير القسري. وهكذا صار الصحفي يعتقد أن اسمه ربما يكون "التالي" في قائمة الشهداء إثر القصف الذي قد يستهدفه أينما كان، حتى لو كان يتلقى العلاج في المستشفى، مثل الصحفي حسن إصليح ، الذي اغتاله الجيش الإسرائيلي بطائرة مسيّرة أثناء تلقيه العلاج بقسم الحروق في مجمع ناصر الطبي بخان يونس. ولعل هذا ما يُفسّر لجوء الصحفي إلى كتابة وصيته قبل لحظة استشهاده؛ إذ يكون مُتحسّبا لـ"اليوم التالي" من الإبادة، مثل مراسل الجزيرة أنس الشريف. ونشر مركز الجزيرة للدراسات ورقة بعنوان " الإمعان الإسرائيلي في إبادة الجماعة الصحفية الفلسطينية بقطاع غزة"، للباحث محمد الراجي، المشرف على برنامج الدراسات الإعلامية بالمركز، ومدير تحرير مجلة الجزيرة لدراسات الاتصال والإعلام، حاولت الإجابة عن الأسئلة التالية: لماذا تُمْعِن إسرائيل في إبادة الجماعة الصحفية الفلسطينية في قطاع غزة؟ ومن الذي يمنحها "رخصة بالقتل" الواسع والممنهج للصحفيين الفلسطينيين؟ ولماذا يكون صحفيو قناة الجزيرة بؤرة الإبادة المتوحشة للسياسة الإسرائيلية تجاه قطاع غزة؟ توثيق وتأريخ للإبادة المتوحشة رغم أن الصور التي تصل للعالم لا تمثل سوى 10% من حجم المأساة اليومية، فإن الجهد التوثيقي للصحفيين الفلسطينيين كان حاسما في كشف المجازر والجرائم التي حاولت إسرائيل إخفاءها. هذا التوثيق يتجاوز العمل الإخباري اللحظي، إذ يهدف إلى أرشفة الأدلة لتكون مرجعا قانونيا وتاريخيا بعد الحرب، ولتدحض الرواية الإسرائيلية أمام المحاكم الدولية، كما حدث في دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية. كما يسهم الجهد التوثيقي لفظائع الإبادة الجماعية في تزويد منظمات الإغاثة بالمعلومات عن الوضع الإنساني. وأسهم كذلك في تحريك الرأي العام الدولي في مختلف بقاع الأرض مطالبا بوقف جرائم الاحتلال الإسرائيلي. كما دفع عددا من الدول الغربية إلى تغيير مواقفها تجاه ما يجري في غزة. إسرائيل تخسر معركة الرواية وكان لجهود الصحفيين في غزة أكبر الأثر في تراجع تأثير الدعاية الإسرائيلية، خصوصا بعد انتشار صور المجاعة والدمار، ما أجبر بعض وسائل الإعلام الغربية على الاعتراف بفظاعة الوضع في غزة. هذا التحول الإعلامي والدبلوماسي شكّل خسارة كبيرة لإسرائيل، التي وجدت في استهداف الصحفيين، خصوصا العاملين في الجزيرة، وسيلة لإسكات الشهود وكبح تدفق الصور والأخبار التي تضر بصورتها. اجتثاث الشهود اغتيال الصحفيين الفلسطينيين ليس جديدا في سياسة إسرائيل، بل هو نهج متكرر في محطات الصراع، مثل اغتيال مراسلة الجزيرة شيرين أبو عاقلة عام 2022 لمنع توثيق جرائم الاحتلال في جنين. خلال حرب غزة، استهدفت إسرائيل بشكل متكرر صحفيي الجزيرة ، ومنهم: إصابة مدير مكتب الجزيرة في غزة وائل الدحدوح واستشهاد المصور سامر أبو دقة في 15 ديسمبر/كانون الأول 2023. اغتيال مراسل الجزيرة حمزة الدحدوح والصحفي مصطفى ثريا أثناء تصوير مشاهد الدمار في 7 يناير/كانون الثاني 2024. اغتيال مراسل الجزيرة إسماعيل الغول والمصور رامي الريفي في 31 يوليو/تموز 2024. اغتيال حسن إصليح في 13 مايو/أيار 2025. وقبل أيام، وبعد حوالي 22 شهرا من الحرب على القطاع، اغتالت إسرائيل الطاقم الصحفي للجزيرة الذي كان يوجد في خيمة أمام مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة ، وهما المراسلان أنس الشريف، و محمد قريقع ، والمصوران إبراهيم ظاهر ومحمد نوفل. وقبل الاغتيال، ظل أنس الشريف يتلقى تهديدات من الجيش الإسرائيلي تُحذّره من الاستمرار في التغطية بعد استشهاد والده وتدمير منزله. وقد شنّ الإعلام الإسرائيلي أيضا حملة إعلامية مُمنهجة يقودها الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، للتحريض على الشريف واتهامه بالانتماء لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في محاولة لتبرير النية المبيّتة للاغتيال، وإسكات صوته وإخراجه من التغطية المستمرة التي تقوم بها قناة الجزيرة للإبادة الجماعية. هدف مزدوج.. التصفية ومنع التغطية ترتبط هذه الاغتيالات بسعي إسرائيل للسيطرة على غزة وتحقيق أهدافها في القضاء على حماس وفرض التهجير القسري، مع منع أي تصوير أو تغطية تكشف حقيقة ما يجري. شبكة الجزيرة تحديدًا أصبحت هدفًا بارزًا نظرًا لتأثيرها العالمي المتنامي، ما ضاعف من خشية إسرائيل من قوة روايتها. ولم تكتف إسرائيل بالاغتيالات، بل أصدرت قرارات بإغلاق مكاتب الجزيرة في القدس (مايو/أيار 2024) ورام الله (سبتمبر/أيلول 2024)، ومنعت تغطيتها في الضفة الغربية والجبهة اللبنانية، في محاولة لاجتثاث القناة من المشهد الإعلامي. "رخصة بالقتل" يُشير هذا الإمعان في إبادة الجماعة الصحفية الفلسطينية إلى حقيقة واضحة تتمثَّل في "رخصة القتل" التي قدَّمتها القوى الكبرى للاحتلال الإسرائيلي، من خلال الدعم العسكري والمالي والسياسي والدبلوماسي والإعلامي، خاصة الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية، وهو ما جعل إسرائيل تفلت من المحاسبة والعقاب على جرائم الحرب، و الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها في قطاع غزة. إعلان وقد ذكر هذه الحقيقة الأكاديمي الفرنسي باسكال بونيفاس في كتابه "رخصة بالقتل.. غزة بين الإبادة الجماعية والإنكار والهاسبارا" (2025)، مشيرا إلى أن هذا الدعم يمنح إسرائيل الغطاء لارتكاب إبادة جماعية وعقاب جماعي بحق الفلسطينيين، في تحدٍّ صريح للقانون الدولي.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store