
أوجلان... نهاية بطل صنع التاريخ وهزّ عرش تركيا
تُعدّ المسألة الكردية في تركيا من أهمّ المسائل التي واجهتها الحكومات التركية المتتالية منذ تأسيس الجمهورية عام 1923، إلى درجة أنها باتت مشكلة مزمنة خلال العقود الماضية ولا سيما منذ العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، ومن ثمّ فإنّ حلّ المسألة الكردية يتطلّب إحياءً ثقافياً، اقتصادياً واجتماعياً يُعيد لهذه الجماعة مكانتها الطبيعية في الدولة التركية، كما في سوريا والعراق وإيران.
إنّ هذه الحلول، وإن كانت معقّدة ومتداخلة، تظلّ مفتوحة لإطفاء نيران الصراع وبناء جسور السلام، وعلى مدار التاريخ الحديث كانت ثمّة محاولات لحلّ المسألة الكردية إلا أنها باءت بالفشل، من قبيل ذلك نجد محاولة الرئيس التركي الراحل توغورت أوزال (1927 – 1993) في بداية التسعينيات الذي أدرك أنّ الحلّ العسكري لن يُقدّم مخرجاً حقيقياً؛ لذا طرح خيارات سلام جذرية تضمّنت إعادة النظر في الوضع الإقليمي للمناطق الكردية بما في ذلك (كردستان العراق) إلّا أنّ الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وكذلك "إسرائيل" لم ترحّب بهذا الخيار وكان لا بدّ من إزاحة أوزال (ويقال قتله) في تلك الفترة لتستمر معاناة شعوب المنطقة.
اليوم، وبعد نصف قرن من المواجهة والصراع، أعلن عبد الله أوجلان، مؤسس حزب العمال الكردستاني (PKK)، حلّ حزبه وإنهاء الكفاح المسلّح في خطوة ستكون لها تداعيات متناقضة بين المؤمنين بخطه وتوجّهاته وأحلامه، ولا سيما أنّ الرغبة في التغيير نحو الأفضل، إن تمّت بحماسة لا تراعي الواقع الموضوعي وتوازنات القوى، محلياً وإقليمياً ودولياً، ستؤدّي إلى رؤية مضادة، ما قد يفضي إلى اصطدام يُطيح بحلم التغيير، رغم أنّ الأفكار السياسية لزعيم الحزب التاريخي شهدت تطوّراً ملحوظاً على مرّ السنين، حيث انتقل من الطرح الانفصالي الصريح إلى تبنّي مفهوم "الكونفدرالية الديمقراطية"، وهو نموذج يركّز على تحقيق حكم ذاتي ديمقراطي ضمن حدود الدول القائمة، بدلاً من السعي للانفصال.
لا شكّ أنّ هذا التحوّل الأيديولوجي العميق قد تغلغل في صفوف قيادات من الحزب وأثّر على توجّهاتها الاستراتيجية، وساهم في تراجع منطق الحرب والقتال لديها لصالح رؤى سياسية بديلة، فهل هناك أزمة قيادة داخل حزب العمال؟ وهل أنّ تعدّد أدواره أفرز قيادات ميدانية جديدة، كنتيجة طبيعية لتوسّع دوره في المنطقة؟
وكان الحزب قد بدأ يطرح نفسه كمنظّمة إقليمية وليست تركية في العقد الأخير، ولذلك جاءت دعوة أوجلان كمحاولة لبلورة فكر ونشاط الحزب ضمن السياقات التركية، وإطفاء الأدوار الإقليمية لدول الجوار، التي لم تكن من أهداف الحزب الرئيسية.
يثير إعلان أوجلان، الذي أكده مؤتمر حزبه، الثاني عشر، الذي عقد في الفترة ما بين 5 و7 أيار/مايو، تساؤلات حول دلالاته ومدى تأثيره على المشهد السياسي والأمني في تركيا ومحيطها، خصوصاً أنه جاء بعد تحوّلات في المنطقة والعالم، ما أدّى إلى فقدان أوجلان إمكانية استمرار واستثمار نشاط الكفاح المسلّح. بالتوازي، أصبح المناخ الدولي، خصوصاً في حقبة ما بعد "الحرب على الإرهاب"، أقلّ تسامحاً بشكل عامّ مع الحركات المسلحة غير الحكومية، مما سيزيد من عزلة الـ (PKK).
لكن، ما الذي يدفع حزباً مسلحاً ضارب الجذور، ومتمرّساً في حرب العصابات لعقود طويلة، إلى اتخاذ قرار جذري كهذا بحلّ نفسه وإلقاء السلاح؟ وماذا كان دور زعيمه التاريخي أوجلان في ذلك؟ وهل يستطيع رجل سجين فعلاً أن يصنع تاريخ المنطقة من جديد؟
لا يُعدّ حلّ حزب العمال الكردستاني مجرّد نهاية لمرحلة الكفاح المسلّح، بل هو شرخ في فكرة "كردستان" السياسية نفسها. فالمركز الرمزي سيتلاشى، وتبقى الفروع تبحث عن معنى جديد لوجودها، في عالم تتغيّر فيه التحالفات السياسية وأحلام البشر. وقد أدرك أوجلان بعينه المراقبة أنّ خريطة القوى على الأرض تغيّرت سياسياً وثقافياً، وهو بهذه الحال يكون حلّ هذا الشكل من التنظيمات والانتقال الى الشكل السياسي والثقافي مخرجاً لمأزق عدم القدرة على "المناورة" وانعدام أفق الأهداف.
إنّ قرار حزب العمال الكردستاني بحلّ نفسه وإلقاء السلاح لا يتوقّف عند حدود العلاقة مع الدولة التركية، بل يحمل تداعيات عميقة على خارطة الكيانات الكردية الأخرى، خاصة في سوريا والعراق. فالحزب، رغم كلّ ما مرّ به، ظلّ يمثّل العمود الفقري لفكرة "كردستان الواحدة" العابرة للحدود، وكان مصدر إلهام تنظيمي وعقائدي، وحتى حامياً عسكرياً لبعض الكيانات الموازية.
وليس سراً أنّ قرار الحزب بإلقاء السلاح سيحمل تداعيات عميقة على خارطة "الكيانات الكردية" التي تتأثّر بفكر أوجلان، خاصة في سوريا والعراق. 11 نيسان 11:48
31 آذار 12:29
ففي سوريا، قد تجد "الإدارة الذاتية" الكردية في شمال شرق البلاد نفسها أكثر عزلة من أي وقت مضى، وقد تضطر إلى إعادة تعريف نفسها سياسياً، إما بالتقرّب من النظام السوري، أو بمحاولة تقديم نفسها كشريك محلي في معركة بناء الدولة والاستقرار وليس كحركة انفصالية. وفي كلتا الحالتين، ستزداد الضغوط التركية والأميركية عليها لتغيير خطابها وتركيبتها وإعطائها بعض الامتيازات.
أما في العراق، فقد رحّب "إقليم كردستان" بقرار حزب العمال، حلّ نفسه وإلقاء السلاح، فيما لا يُعرف كيف ستتصرّف المجموعة التابعة للحزب في الجبال العصية على الجيش التركي الذي أقام 80 قاعدة عسكرية في شمال العراق، ولكنّ انسحاب حزب العمال من المعادلة سيفضي إلى إعادة رسم التوازنات داخل "البيت الكردي" في شمال العراق. فالحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني، الذي لطالما كان على خصومة مع " PKK" الذي يسيطر مقاتلوه على جبال قنديل (بالقرب من الحدود الإيرانية العراقية)، وجبال سنجار (بالقرب من الحدود السورية العراقية)، سيجد فرصة لتعزيز هيمنته السياسية والأمنية، خاصة في المناطق الحدودية، التركية، الإيرانية والسورية.
لكن هذه الهيمنة قد لا تمرّ من دون مقاومة داخلية، في ظلّ وجود قوى مدنية وقبلية مناوئة للبرزاني وهي تخشى ترك مصير القضية الكردية بيد جهة واحدة مرتبطة بعلاقات وثيقة مع أنقرة.
ترى أنقرة في حلّ PKK انتصاراً أمنياً واستراتيجياً، تبقى المسؤولية الأهم في كيفية إدارة المرحلة التالية. وأشارت الوكالة الأميركية إلى أنّ إنهاء الصراع مع PKK يحرّر طاقات وقدرات تركية نحو التوسّع الجيوسياسي. ولكنّ المسألة الجوهرية تكمن في ما إذا كانت الدولة التركية ستتعامل مع هذه اللحظة بمنطق التصعيد وتصفية الحساب، أم أنها ستتبنّى سياسة اندماجية قائمة على الاعتراف بالحقوق الثقافية والسياسية للمواطنين الكرد ضمن إطار الدولة التركية الواحدة. فإذا لم تُترجم هذه الخطوة إلى إصلاحات حقيقية، فإنّ خطر ظهور امتدادات جديدة للتنظيم، ولو بصيغ غير عسكرية، سيظل قائماً.
وعلى مرّ التاريخ، شكّلت المسألة الكردية في تركيا صخرة تطلّ على أفق التوترات والصراعات، حيث تتشابك خيوط السياسة والهوية والثقافة في نسيج معقّد. وعلى أنقرة الإيمان بأنّ الآخر (الكرد) عنصر أساسي في فهم وتشكيل الهوية، حيث تقوم الجماعة بتشكيل أدوارها وقيمها ومنهج حياتها قياساً ومقارنة بالشريك الآخر كجزء من منهجية التفاعل البيني التي لا تحمل معاني سلبية. خصوصاً أنّ الحلول المطروحة للمسألة الكردية لم تعد مجرّد مسارات سياسية جافة، بل هي شعلة من الأمل الذي يُضيء طريق "الحلم" للمواطن الكردي. إنها دعوة إلى بناء جسور جديدة للمواطنة.
وفي هذا الخصوص يشير زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK) إلى أنّ "الثقافة الكردية قد تعرّضت بكلّ مكوّناتها المادية والمعنوية لإنكار تامّ وحظْر مطلق، وبُذلت الجهود لإتمام الإبادة الثقافية بسياسات الصهر اللامحدود، ولم تُتَح الفرصة للكرد، حتى لفتح روضة أطفال واحدة يُحيون فيها وجودهم الثقافي، فالثقافة الكردية بكلّ مقوّماتها اعتُبرت خارج القانون، وهذا لا مثيل له بتاتاً على وجه البسيطة". (راجع عبد الله أوجلان، مانفستو الحضارة الديمقراطية، القضية الكردية، صفحة 190).
وقد أكد عضو اللجنة التنفيذية لحزب العمال "دوران كالكان" رؤية زعيمه بالقول: "لولا حزب العمال الكردستاني، لما بقي حتى اسم الكرد"، وعلّق بإيجاز على المرحلة الحالية قائلاً: "لقد تجاوز الحزب كونه حزباً، وبات أكبر من كونه حركة تحرّر وحركة مقاومة، فقد أصبح ثقافة شعب ولغته وتاريخه وأسلوب حياته وهويته، ووصل إلى هيكلية تمثّل ماضيه ومستقبله، وهناك واقع قائم لحزب العمال الكردستاني بحيث أصبح شعبياً ومجتمعياً". (وكالة فرات للأنباء (ANF) 23 نوفمبر 2024).
إنّ المسألة الكردية ليست مجرّد صراع على الأرض أو السيادة، بل هي قصة حلم جماعي بالعدالة والمواطنة والاعتراف بوجودهم، وقد تجسّدت معاناة الكرد في مقاومة الاستبداد والقمع في عهدي البعث في بغداد (العراق) ودمشق (سوريا)، وها هي اليوم تفتح آفاقاً جديدة من الأمل لحلول تسعى إلى تحقيق توازن بين الحقوق الوطنية والاستقرار الإقليمي والتعايش السلمي.
ولكن قبل الخوض في غمار تلك الحلول لا بدّ أن نعرف كيف نشأت المسألة الكردية في تركيا ومتى؟ وما هي العوامل التي دفعت لتأسيس حزب العمال الكردستاني؟ ثم ما هي عناصر الحلول المطروحة لحلّها والتي طرحها زعيم الحزب أوجلان وصولاً إلى جعل كرد تركيا شركاء في العمارة التركية وليس مجرّد نواطير في البناء. ويأتي كلّ ذلك في ضوء إعادة التشكيل الحالي للجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط بعد انتفاضات ما يسمّى بـ "الربيع العربي"، مما يشكّل تحدّياً للدول التي يقطنها الكرد: تركيا، إيران، العراق وسوريا.
يُمكن القول إنّ المنطق البراغماتي النفعي كان الموجّه الرئيسي للتغيير الحالي في السياسة التركية تجاه القضية الكردية وليس المنطق الديمقراطي الذي يقوم على استيعاب مكوّنات المجتمع كافة، ومع ذلك، لا يُمكن الحكم مبكراً على مبادرة بالنجاح أو الفشل؛ نظراً إلى أنّ معالجة القضايا المتجذّرة في المجتمع على غرار القضية الكردية بالنسبة لتركيا لا يتخذ طابعاً فورياً وإنما غالباً ما يمرّ بمراحل تفاوضية مطوّلة؛ تبدأ بإقناع الأطراف قبول التفاوض، ويليها طرح كلّ طرف تصوّراته للمعالجة وتوقّعاته ومطالبه، انتهاءً بالتوافق على تفاهمات مقبولة ومرضية لكلّ أطراف العملية التفاوضية التي بالمناسبة يدور جانب كبير منها خلف الأبواب المغلقة، ومع ما يبدو إنّ العملية الحالية يقف وراءها جهاز الدولة كاستجابة لمتغيّرات إقليمية وداخلية ضاغطة فإنه ينبغي ترقّب مخرجاتها.
إنّ الواقعية السياسية مبدأ لا يمكن تجاوزه في أيّ حركة ثورية، تريد أن تشارك في بناء مستقبل بلدها، فالعقائد المتعارضة قديمة، لكنّ الحماسة لفرضها ظلت مدخلاً قديماً أيضاً للتصادم والحروب المدمّرة، وإنّ قبول تعدّد الجماعات والأفكار، يعني تحصيناً للمجتمع، وليس تهديداً له كما يتوهّم بعض أنظمة المنطقة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الميادين
منذ ساعة واحدة
- الميادين
السويداء: مجموعة من عائلة قرقوط تعتدي على المحافظ وتطالب بالإفراج عن سجناء
أفادت صحيفة الوطن السورية، اليوم الأربعاء، باعتداء مجموعة خارجة على القانون، على محافظ السويداء مصطفى بكور، في مبنى المحافظة بالسويداء. وأشارت الصحيفة إلى أنّ المجموعة اتصلت بالنائب العام في دمشق وطالبته بإخراج سجناء، ووافق على ذلك. وفي السياق، أوضح مصدر في السويداء للميادين أنّ المجموعة التي دخلت مبنى المحافظة "هم أفراد من عائلة قرقوط، بحيث دخلوا للمطالبة بالإفراج عن أقرباء لهم". اليوم 15:53 20 أيار وأضاف المصدر للميادين أنّ الحديث مع محافظ السويداء "تطور الى سجال وصراخ، ما أدّى إلى تدخل أشخاص من المحافظة لحل الخلاف الحاصل". ونفى المصدر استخدام السلاح، مؤكّداً أنّ "ما يُروّج عن احتجاز المحافظ لا صحة لها". في غضون ذلك، دعت مشيخة عقل طائفة الموحدين في السويداء جميع الفصائل والمجموعات الأهلية إلى ضرورة التعاون مع الضابطة العدلية وأجهزة الشرطة. كما حذّرت مشيخة عقل طائفة الموحدين في السويداء من أي اعتداء على هذه المؤسسات، أو على أفرادها المكلفين بمهامهم القانونية.


الميادين
منذ ساعة واحدة
- الميادين
لماذا انتخابات لبنان البلدية 2025 مهمّة؟
لماذا انتخابات لبنان البلدية 2025 مهمّة؟ منذ الثامن من 8 أيار/مايو 2016، لم تجر أيُ انتخابات بلدية أو اختيارية في لبنان تسع سنوات منَ التمديدِ والفراغ… انتهَت مع الانتخابات البلدية والاختيارية 2025.. "ولكن" لماذا هذه الدورة الانتخابية أهم من مجرّد اختيار مجالسِ بلدية؟


الميادين
منذ 2 ساعات
- الميادين
سوريا: مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسن: هناك مخاطر حقيقية متمثلة في تجدد الصراع وزيادة الانقسام في البلاد
سوريا: مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسن: هناك مخاطر حقيقية متمثلة في تجدد الصراع وزيادة الانقسام في البلاد