
تقاسم مفضوح للأدوار بين واشنطن وتل أبيب في سوريا
عريب الرنتاوي
كاتب ومحلل سياسي أردني
فرضيتان يتعين على كل ذي عقل راجح، وضمير حيّ، أن يهجُرهما، في المدى المنظور: الأولى؛ أن إسرائيل تريد سلامًا مع العرب، حتى وإن كان من ضمن معادلة 'سلام مقابل سلام' المرذولة.. والثانية؛ أن الولايات المتحدة وإسرائيل، لا تقرآن من الصفحة ذاتها، وأن التعويل ممكن على تباين مواقفهما وأولوياتهما، وأنه يمكن الاستنجاد بالأولى لكبح جماح الثانية.
حقيقتان، تكشفت عنهما الحروب والمعارك المتناسلة في الإقليم الأكبر، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تكرستا في غزة ولبنان بداية، قبل أن يُعاد تأكيدهما في حرب الاثني عشر يومًا على إيران، وصولًا لاستباحة سوريا أرضًا وجوًا وشعبًا وهويةً قومية، فما الذي نعنيه بذلك؟ ولنبدأ من الفصل السوري الأخير.
رسميًا، أظهرت الولايات المتحدة حماسة مفاجئة في مسلسل انفتاحاتها متعدد الحلقات على النظام الانتقالي في دمشق.
وقال رئيسها في الرئيس السوري أحمد الشرع، ما لم يقله فيه، أقرب حلفائه وأصدقائه إليه. رفعت العقوبات عن سوريا وعن 'هيئة تحرير الشام'، في خطوة لم تحظَ بها منظمة التحرير بعد أوسلو، وبالرغم من أوسلو ومندرجاته.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فما لم يقله ترامب، توسع في شرحه صديقه الأكثر وعيًا بخبايا المنطقة وتاريخها، توماس بارّاك، رجل الأعمال المُحمّل بحقائب ثلاث: (سفير في أنقرة، مسؤول عن الملفين السوري واللبناني)، فقال ما قال في 'هجاء' سايكس- بيكو، وأثار حنين القوميين العرب والقوميين السوريين الاجتماعيين بخاصة، عند استحضاره زمن 'بلاد الشام'، وتلويحه بالعودة إليه، إن استمر لبنان على تردده ومراوحته في موضوع نزع سلاح حزب الله، مقترحًا تلزيمه لـ'سوريا الجديدة'، التي بدا في حديثه عنها، أنها تحظى بمكانة مركزية في الإستراتيجية الأميركية الجديدة للمنطقة والشرق الأوسط الجديد.
وبدا لوهلة، أن واشنطن نجحت في لجم تل أبيب، ودفعها للأخذ بمقاربتها حيال 'سوريا ما بعد الثامن من ديسمبر/كانون الأول'.. خفَت حديث جدعون ساعر عن 'حلف الأقليات'، وتراجعت التهديدات للنظام الجديد، الموسوم إسرائيليًا بـ'الإرهابي'، وبدأت الوفود الإسرائيلية تلاقي نظيراتها السورية في عواصم عدة، سرًا وعلانية، مباشرة، أو بصورة غير مباشرة، لتندلع التكهنات والتخمينات، حول طبيعة ومضامين الاتفاق الذي سينتهي إليه هذا المسار.
كل هذا الجدل، وما استبطن من فرضيات، تهاوى دفعة واحدة، وعلى نحو مروّع، وثبت أن إسرائيل ما زالت على إستراتيجيتها لتفتيت سوريا وتوزيعها على القبائل والمذاهب والطوائف والأقوام، وأن نهمها للاستيلاء على مزيد من الأراضي والقمم الإستراتيجية ومساقط المياه، لم يتأثر أو يتراجع نظير وعود السلام والتطبيع، وأن حوادث يمكن أن تظل في حدودها المحلية الضيقة، تُتخذ كسانحة لإخراج جميع هذه المخططات السوداء من الأدراج، كما حصل في السويداء.
كنا نظن، أن إسرائيل التي رفضت من قبل صيغة 'الأرض مقابل السلام' التي أجمع عليها 'العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر'، ما زالت متمسكة بمعادلة سبق لنتنياهو نفسه، أن طوّرها شخصيًا، ونافح عنها مرارًا وتكرارًا: 'السلام مقابل السلام'.
لم تطلب القيادة السورية الجديدة أكثر من إنفاذ هذه المعادلة، بعثت ما يكفي من رسائل 'حسن النية' وقبلت بصيغة 'أصعب' لاستعادة اتفاق 1974، كل ذلك لم يجدِ نفعًا، مع حكومة اليمين الفاشي.
كل تلك الوعود والنوايا ورسائل الطمأنينة، لم تنفع مع المهجوسين بالغيتو والجدران 'وكراهية الأغيار'، فتكشفوا دفعة واحدة عن معادلة جديدة، ناظمة لعلاقاتهم، لا مع سوريا وحدها، بل مع العرب وجوارهم الإقليمي كذلك: 'السلام مقابل الاستسلام'.. 'السلام مقابل الخنوع' دون قيد أو شرط.
عند هذه المحطة من تطور المشهد الإسرائيلي- السوري، شخصت أنظار مراقبين إلى واشنطن- رئيسها وموفدها بشكل خاص- لترصد مفاعيل 'اختلاف وجهات النظر'، وتقيس 'تباين الأولويات'.. هؤلاء كانت خيبتهم كبيرة، بل وكبيرة جدًا.. إسرائيل تدمر عشرات المواقع السيادية في قلب دمشق، وعلى مبعدة أمتار من مكاتب الرئيس الذي قال فيه ترامب إنه 'شاب، طيب وشجاع وقوي'، وتنذر بتحويل سوريا إلى جحيم لا يطاق، وتسعى في خلق الأرضية المناسبة لتأليب السوريين على بعضهم البعض، وتأليبهم على حكمهم الجديد، توطئة لاستحداث الخراب والتفتيت والتقسيم، ولتدشين 'حرب المئة عام' بين الطوائف والمذاهب والأقوام المُشكّلة للإقليم.
لا تنديد ولا إدانة، حتى على المستوى الشفهي المفرغ من أي مضمون، لا تحميل مسؤولية لإسرائيل من أي نوع، لا إنذارات بوقف استباحاتها لسوريا الجديدة التي تعهد الرئيس بمساعدتها لتساعد نفسها.. كل ما في الأمر، 'سوء فهم وتفاهم'، وتصريحات معبّرة عن 'التفاؤل' بقرب التوصل لوقف إطلاق النار، تمامًا مثلما فعلوا في غزة، طوال عامين كاملين من حرب التطويق والتجويع، والترويع، والتطهير، والإبادة.موقف واشنطن من العدوان الإسرائيلي الأخير على سوريا، يشرح بالنار والقذائف والصواريخ، ما ظلّ مبهمًا في تصريحات توماس بارّاك حول 'سايكس-بيكو' و'بلاد الشام'. تصريحاته الأخيرة أكدت على هذا النهج حيث قال إن الحكومة السورية يجب أن تتحمل المسؤولية ويجب أن تتم محاسبتها وأن أميركا لا تمتلك نفوذًا على قرارات إسرائيل.
الرجل ضاق ذرعًا بخرائط ما بعد الحرب العالمية الأولى، والدول الوطنية 'المصنّعة' التي نشأت في إثرها، ولكنه بالطبع، ليس من أنصار 'الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة'، ولا هو من أتباع 'الهلال الخصيب ونجمته القبرصية' لأنطون سعادة، إنه يعيد إنتاج خرائط أسلافه من المحافظين الجدد الأشد تطرفًا، الذين دعموا فكرة إعادة رسم خرائط المنطقة، وترسيم حدودها، على خطوط الدم بين الطوائف والأقوام والمذاهب.
بهذا المعنى، يبدو الرجل 'محقًا' في هجائه لسايكس- بيكو الذي أنتج 'دول الفسيفساء' القومية والعرقية، واستحضار 'بلاد الشام'، ومنح سوريا مكانة مركزية فيها.
لكن السؤال الذي لم يشغل بالنا كثيرًا: عن أي سوريا يتحدث الرجل؟ نعرف الآن أن أعين الرجل متسمّرة نحو دولة سورية سنيّة، تكون مركزًا لحواضر سنيّة ممتدة من حوض الرافدين إلى شرق المتوسط، أما بقية المناطق والطوائف، فتلكم أجرام تدور في هذا الفلك، أو تنفصل عنه، الأمر متروك لتطورات السياسة والميدان.
'مركزية سوريا الجديدة' في تصور بارّاك وصحبه، نابعة من قدرتها على أن تكون دولة حاجزة 'Buffer State'، بين قوتين إقليميتين كبيرتين، تحظيان بـ 'إرث إمبراطوري'، طامعتين وتدخليتين، ولا تحتفظان بودّ ظاهر حيال إسرائيل.
مركزية الدولة السنيّة، العابرة للحدود، تخدم هدفًا آخر: دفع بقية الطوائف والأقوام، للبحث عن مستقبلاتها البديلة، وتشكيل أحزمة من الدويلات والإمارات، التي لا وظيفة لها سوى حماية إسرائيل والاستقواء بها.
بارّاك، لم يطور نظريته، أو يتبنى نظريات غيره، من فراغ. من الناحية الفكرية والإستراتيجية، الرجل ينهل من إرث مديد لمدرسة في التفكير الأميركي اليميني المحافظ.
ومن الناحية العملية، فإنه يرى حراكًا عميقًا ممتدًا في الإقليم منذ سنوات، يعيد تعريف مفاهيم الولاء والانتماء، يستبدل ما هو 'عمودي' منها كالولاء للدولة مثلًا، إلى ما هو 'أفقي'، عابر لحدود الدول، ويجمع منتسبي الأعراق والأديان والطوائف حتى وهم موزعون على عدة دول، بعضهم إلى بعض.
أمرٌ كهذا، يقع في صميم الحلم الصهيوني، ويحتل مكانة إستراتيجية في تل أبيب، أما واشنطن، فلن تمانع إن عمل 'أزعر الحيّ' على تسريع ولادة هذه الكائنات الشوهاء، وهي إن اختلفت مع تل أبيب، فربما يتعلق الخلاف بـ'المعدلات والسرعات'.
نتنياهو الذي لا يفهم سوى خيار 'القوة' و'البلطجة' يستعجل الولادة، ويسابق الزمن لتسجيل مكاسب في رصيده الشخصي، وليس لديه إلى جانب خيار القوة، أي أفق سياسي، أو 'أدوات ناعمة'. فيما ترغب واشنطن في الوصول إلى الهدف ذاته، ولكن بتدرج أكبر، وباستخدام الدبلوماسية وسلاح العقوبات، للحفاظ على بعض من ترابط مع حلفائها من عرب وأتراك.
واشنطن، وفي توزيع مفضوح للأدوار مع تل أبيب، سواء كان متفقًا عليه أو من باب 'تحصيل الحاصل'، تجهد لقطف ثمار البلطجة الإسرائيلية، بعد توفير الحماية وكل عناصر القوة والاقتدار، وبعد قليل من 'العتب' و'التلاوم'.
واشنطن في عقلها الباطن والظاهر، تدرك تمام الإدراك، أن إسرائيل تقوم بوظيفة جرافة 'الدي-9' التي اشتهرت في غزة، في تعبيد الطرق لأحلامها الإستراتيجية، فلا ينخدعن أحدٌ بحكاية الخلافات بين نتنياهو وترامب، أو بين تل أبيب وواشنطن، فذلك تقاسم مفضوح للأدوار.
من منظور واشنطن، وبقدر أقل تل أبيب، فإن تشكيل الشرق الأوسط الجديد، هو سلسلة متصلة من التهدئات والتسويات التي تفصل بين جولة وأخرى من جولات الحرب والمواجهة مع الخصوم، جميع الخصوم، والطريق إليه مفروش بسلسلة من الحروب والمعارك بين الحروب، ولا بأس بهذا المعنى، من انخراط واشنطن في وساطات ومفاوضات، وسيظل قادتها ورسلها يعبرون عن تفاؤلهم بقرب الوصول إلى تهدئة هنا أو اتفاق لوقف النار هناك، وقد تمتد حبال التخدير والخداع لأسابيع وأشهر، ولسنوات إن اقتضى الأمر، ما دامت النتيجة في مصلحة إسرائيل، وما دامت المكاسب تتعاظم مع كل تقدم تحرزه دبابة الميركافا.
في هذا السياق، أُبرمت اتفاقات في غزة ولبنان، بوساطة أميركية نشطة: ويتكوف في غزة، وهوكشتاين في لبنان.. اتفاقات وُجدت لكي تُنتهك، ومن قبل إسرائيل حصرًا، وبدعم والتزام من واشنطن، وبتبنٍّ كامل للرواية والرؤية الإسرائيليتين.
وقد يُخرق وقف النار مع إيران في أي لحظة، وستنبري واشنطن منافحة عن إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها، وستُبرم اتفاقات أخرى، على الجبهات ذاتها، أو على جبهات أخرى، وسيتم خرقها جميعًا، وستظل واشنطن على تبريرها للرواية الإسرائيلية، وسيظل وسطاؤها على تفاؤلهم بقرب التوصل إلى اتفاقات وتفاهمات جديدة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


إيطاليا تلغراف
منذ يوم واحد
- إيطاليا تلغراف
الدعوة لانتخاب مجلس وطني فلسطيني: لماذا وُلدت ميتة؟
إيطاليا تلغراف د. محسن محمد صالح كاتب وباحث فلسطيني بالرغم من أن إعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني (الهيئة التشريعية العليا لمنظمة التحرير الفلسطينية) تمثل مطلبًا فلسطينيًا عامًا وملحًّا، فإن دعوة الرئيس محمود عباس لانتخابه وُلدت ميتة!! وكان عباس قد أصدر قرارًا في 19 يوليو/ تموز 2025 (بناءً على قرار اللجنة التنفيذية للمنظمة قبل ذلك بيومين) بإجراء انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني قبل نهاية 2025، وفي موعد يُحدّده عباس نفسه. وتضمَّن القرار أن يكون عدد أعضاء المجلس 350 عضوًا، ثلثاهم من الضفة الغربية وقطاع غزة. غير أنه اشترط للعضوية الالتزام ببرنامج منظمة التحرير والتزاماتها الدولية والشرعية الدولية، أي اتفاقات أوسلو وكل ما ينبني عليها من استحقاقات بما في ذلك الاعتراف بـ'إسرائيل'، والتنازل عن معظم فلسطين التاريخية، ونبذ المقاومة المسلحة والالتزام فقط بالوسائل السلمية. وفوق ذلك، فقد جعل عباس تشكيل اللجنة التحضيرية تحت هيمنته (هيمنة فتح). وقد أثار القرار غضب الفصائل والقوى الشعبية الفلسطينية والرموز والمستقلين، وخصوصًا فصائل المقاومة المعارضة لاتفاقات أوسلو، والمعترضة على 'عقلية التفرد' التي ينتهجها عباس وقيادة فتح، والمطالبين بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس تمثيلية حقيقية. تعميق المأزق الفلسطيني يعلم الجميع خطورة التحديات الوجودية التي تواجهها قضية فلسطين في أيامنا هذه، وتعرضها للشطب والإلغاء مع تصاعد مشاريع الضم والتهجير الإسرائيلية، وتجاهل الاحتلال الإسرائيلي اتفاقات أوسلو، وكل القرارات الدولية ومشاريع التسوية. ويعلم الجميع الحالة المتردية التي وصلت إليها منظمة التحرير، حيث صارت أقرب إلى دائرة من دوائر سلطة رام الله؛ في الوقت الذي تعاني فيه من أزمة في القيادة، وفي البنى المؤسسية وانعدام فاعليتها، ومن أزمة في تفريغ محتواها النضالي، ومن هيمنة فصيل يحتكر السلطة ويغلق أبواب الإصلاح، ومن فقدان للرؤية والبوصلة وإدارة الأولويات، ومن تهميش للخارج الفلسطيني… وغيرها. غير أن عباس وفريقه وضعوا مسمارًا جديدًا في نعش 'المشروع الوطني الفلسطيني' من خلال هكذا دعوة للانتخابات، حيث بدت أقرب إلى إعادة ترتيب سيطرة 'البيت الفتحاوي' على منظمة التحرير، وليس ترتيب البيت الفلسطيني نفسه. حيث يُلاحظ على القرار: 1- أنه جاء مخالفًا لكافة التوافقات الفلسطينية التي وقعتها فتح وحماس على مدى العشرين سنة الماضية، بما في ذلك القاهرة 2005، و2011، و2017، و2021، والجزائر 2022، ولقاءات موسكو وبكين في الفترة 2019- 2024، والتي نصَّت على إصلاح أو إعادة بناء منظمة التحرير وتشكيل مجلس وطني فلسطيني جديد بمشاركة كافة الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك حماس والجهاد الإسلامي، على أسس تشاركية ديمقراطية وبما يضمن تمثيلًا حقيقيًا، وبالانتخاب حيثما أمكن، وبالتوافق عندما يتعذر ذلك؛ وعبر لجنة تحضيرية موحدة. كما تحدثت عدة توافقات عن تشكيل 'إطار قيادي مؤقت' يدير المرحلة إلى حين تشكيل مجلس وطني جديد. 2- أنه يُخرج حماس والجهاد وقوى المقاومة الرافضة لأوسلو من حق المشاركة والانتخاب، لأنه يشترط الالتزام باتفاقات أوسلو وما يترتب عليها من التزامات. وهي قوى تمثل تيارًا واسعًا في الشعب الفلسطيني. وهو قرار يتعارض مع الميثاق الوطني الفلسطيني (دستور المنظمة)، الذي يعدّ كل الفلسطينيين أعضاء طبيعيين في المنظمة، على اختلاف اتجاهاتهم السياسية والأيديولوجية. 3- أنه يستأثر بالهيمنة على اللجنة التحضيرية، ولا يضمن شراكة حقيقية للقوى الفلسطينية الفاعلة فيها، ويطعن بشفافية الانتخابات. 4- أنه يتجاهل الإطار القيادي المؤقت، ويفرض هيمنة عباس وفتح على الإجراءات، ويُسهّل 'هندسة النتائج' مسبقًا. 5- أنه يُعمّق الانقسام الفلسطيني بتجاهل القوى الفاعلة على الأرض، ويُعيد إنتاج حالة 'مزورة' للإرادة الشعبية الفلسطينية. 6- أنه يعطي فرصة مثالية للأعداء والخصوم لاستكمال مخططات شطب القضية الفلسطينية. فإذا كانت قيادة المنظمة ستعيد إنتاج منظومتها الفاسدة الضعيفة المستبدة، المتجاهلة لشعبها، فليس غريبًا أن تُولد هذه الدعوة للانتخابات 'ميتة'!! قراءة كارثية للواقع تعاني قيادة المنظمة من قراءة كارثية للواقع، وبالتالي تنفيذ سياسات تصبّ في إضعاف المشروع الوطني الفلسطيني. إذ تجد نفسك أمام قيادة متنفذة تظن أن لديها ترف الوقت للمناورة والالتفاف على التوافقات الفلسطينية، مع تجاهل عميق لخطورة المرحلة، والإصرار على عقلية التفرد والاستئثار؛ في وقت نحن فيه بأمسّ الحاجة لاستنفار وتوحيد كل القوى الفلسطينية في الداخل والخارج، وإعادة بناء منظمة التحرير ومؤسساتها بشكل قوي وفعال. هكذا قيادة تُشعرك أنها ليست فقط خارج الشرعية الحقيقية، بل خارج البيئة الشعبية وهمومها وأولوياتها، بل خارج حركة التاريخ!! وهي قيادة تهرب من أخذ شرعيتها من قواعدها الشعبية، وضمن المعادلة الوطنية، إلى الاتكاء على عكازات خارجية عربية ودولية تدعم بقاءها في السلطة، بسبب توافقها مع مسارات التسوية ومحاربتها خط المقاومة، وبُعدها عن 'الإسلام السياسي'، وقابليتها لتقديم المزيد من التنازلات. وعلى سبيل المثال: 1- تتجاهل قيادة المنظمة (قيادة السلطة وقيادة فتح) أن الاحتلال الإسرائيلي تجاوز اتفاقات أوسلو، وأن الحكومة الإسرائيلية المتطرفة تُنفذ خطة 'الحسم' القاضية بضم القدس وباقي الضفة الغربية، وتفكيك السلطة الفلسطينية إلى كانتونات. وكان آخر الإجراءات تصويت الكنيست 23 يوليو/ تموز 2025 على مشروع قانون بتطبيق السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية؛ تمهيدًا لضمها بأغلبية 71 صوتًا مقابل 13 صوتًا فقط. ومع ذلك، تتابع قيادة السلطة 'التزاماتها' ودورها الوظيفي في خدمة الاحتلال، من خلال ملاحقة المقاومة، والتعاون الأمني مع الاحتلال في إخضاع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية. 2- تتجاهل قيادة المنظمة الاستحقاقات الكبرى التي فرضتها معركة طوفان الأقصى، والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وما صاحبه من مجازر بشعة وتدمير للمدارس والمستشفيات والجامعات والمساجد والكنائس والبنى التحتية، ومن حصار وتجويع.. وتشغل نفسها بالمماحكات مع حماس وقوى المقاومة. وكان من النماذج البئيسة دعم أجهزتها الأمنية (من خلال بهاء بعلوشة وفايز أبو هنود) ظاهرة مليشيا العميل ياسر أبو شباب 'القوات الشعبية' التي تعمل تحت إشراف عسكري إسرائيلي، وتقوم بنهب المساعدات المقدمة لأبناء القطاع، وتهاجم قوى المقاومة. وفي الوقت نفسه، تشغل قيادة السلطة نفسها، ليس بمواجهة الاحتلال، وإنما في تقديم نفسها بديلًا مقبولًا للإسرائيليين والأميركان، يُلبي اشتراطاتهم ومعاييرهم ليحل مكان حماس. 3- شكّلت القيادة الفلسطينية حكومة جديدة لسلطة رام الله بقيادة محمد مصطفى (31 مارس/ آذار 2024) في غمرة طوفان الأقصى، وبشكل منفرد إقصائي، في الوقت الذي كانت الحاجة فيه ماسة للتوافق الفلسطيني. وهكذا، فوفق هذه القراءة الكارثية القاصرة على المصلحة الذاتية الضيقة الآنية، تسهم السلطة في مساعدة الاحتلال الإسرائيلي في حفر قبرها (بل وقبر قضية فلسطين) بنفسها!! هروب إلى الأمام يبدو قرار الدعوة لانتخابات المجلس الوطني في مضمونه هروبًا من استحقاقات الواقع الفلسطيني، ومن الخريطة الانتخابية التي تعكس الوزن الحقيقي للفصائل والقوى الفلسطينية. فعلى مدى العامين الماضيين، أظهرت استطلاعات الرأي تفوقًا كبيرًا لحركة حماس وتراجعًا واضحًا لحركة فتح، مع مطالبة أغلبية فلسطينية ساحقة تبلغ 85- 90% باستقالة الرئيس عباس، وتوقع هزيمة ساحقة له أمام أي من مرشحي حماس أو أمام مروان البرغوثي. وبالتالي، فإن الذهاب إلى هذا الاستحقاق جاء استجابة لترتيبات فتحاوية داخلية، ولضغوط خارجية، ليتّسق تركيب المجلس الجديد واللجنة التنفيذية التي ينتخبها، مع مرحلة ما بعد الرئيس عباس، الذي بلغ أكثر من تسعين عامًا (مواليد فبراير/ شباط 1935)، ومع ما قد يترتب على معركة طوفان الأقصى من التزامات، يسعى الأميركان والمطبعون العرب لإيجاد جهة فلسطينية لإنفاذها. وكان من اللافت للنظر أن الدعوة للانتخابات تعطي ثلثي المقاعد للداخل الفلسطيني المتمثل بالضفة والقطاع، بخلاف التوافق الفلسطيني على المناصفة بين الداخل والخارج. وهذا ليس فقط مؤشرًا على تهميش الخارج الفلسطيني الذي تزيد أعداده عن نصف العدد الكلي للفلسطينيين (بينما تمثل الضفة والقطاع نحو 37% من الشعب الفلسطيني)، وإنما هو تكريس لبيئة صناعة القرار الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي؛ وهو الذي حرصت منظمة التحرير منذ حرب 1967 وحتى اتفاقات أوسلو 1993 على تجنبه، حيث لم تكن أصوات الداخل الفلسطيني تُحتسب ضمن النصاب. أولويات المرحلة في ضوء المخاطر الوجودية التي تشهدها قضية فلسطين، فإن مسألة ترتيب البيت الفلسطيني، بما في ذلك التوافق على قيادة مؤقتة، تشرف على انتخابات جديدة، تؤدي إلى تشكيل مجلس وطني جديد على قاعدة المحافظة على الثوابت، أصبحت 'واجب الوقت'، ولا يجوز أن تظل لعبة للمناورة وللتذاكي والابتزاز. ولذا، لا بد من التوافق الفلسطيني الذي يقطع الطريق على التدخل الخارجي فيما يتعلق باليوم التالي لإدارة قطاع غزة، وبتنفيذ برنامج عمل مستعجل لمواجهة مخاطر تهويد المسجد الأقصى والقدس، ومخاطر الضم والتهجير في الضفة الغربية وقطاع غزة. كما أن وقف التنسيق الأمني، والتوقف عن مطاردة المقاومة، والإصرار على المحافظة على سلاح المقاومة، وفك الحصار عن قطاع غزة، وكسر الإرادة الإسرائيلية من خلال إرادة فلسطينية أقوى، كلها من متطلبات المرحلة واستحقاقات إنهاء العدوان على الشعب الفلسطيني، ودحر الاحتلال الإسرائيلي. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
منذ 6 أيام
- إيطاليا تلغراف
تقاسم مفضوح للأدوار بين واشنطن وتل أبيب في سوريا
إيطاليا تلغراف عريب الرنتاوي كاتب ومحلل سياسي أردني فرضيتان يتعين على كل ذي عقل راجح، وضمير حيّ، أن يهجُرهما، في المدى المنظور: الأولى؛ أن إسرائيل تريد سلامًا مع العرب، حتى وإن كان من ضمن معادلة 'سلام مقابل سلام' المرذولة.. والثانية؛ أن الولايات المتحدة وإسرائيل، لا تقرآن من الصفحة ذاتها، وأن التعويل ممكن على تباين مواقفهما وأولوياتهما، وأنه يمكن الاستنجاد بالأولى لكبح جماح الثانية. حقيقتان، تكشفت عنهما الحروب والمعارك المتناسلة في الإقليم الأكبر، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تكرستا في غزة ولبنان بداية، قبل أن يُعاد تأكيدهما في حرب الاثني عشر يومًا على إيران، وصولًا لاستباحة سوريا أرضًا وجوًا وشعبًا وهويةً قومية، فما الذي نعنيه بذلك؟ ولنبدأ من الفصل السوري الأخير. رسميًا، أظهرت الولايات المتحدة حماسة مفاجئة في مسلسل انفتاحاتها متعدد الحلقات على النظام الانتقالي في دمشق. وقال رئيسها في الرئيس السوري أحمد الشرع، ما لم يقله فيه، أقرب حلفائه وأصدقائه إليه. رفعت العقوبات عن سوريا وعن 'هيئة تحرير الشام'، في خطوة لم تحظَ بها منظمة التحرير بعد أوسلو، وبالرغم من أوسلو ومندرجاته. لم يقف الأمر عند هذا الحد، فما لم يقله ترامب، توسع في شرحه صديقه الأكثر وعيًا بخبايا المنطقة وتاريخها، توماس بارّاك، رجل الأعمال المُحمّل بحقائب ثلاث: (سفير في أنقرة، مسؤول عن الملفين السوري واللبناني)، فقال ما قال في 'هجاء' سايكس- بيكو، وأثار حنين القوميين العرب والقوميين السوريين الاجتماعيين بخاصة، عند استحضاره زمن 'بلاد الشام'، وتلويحه بالعودة إليه، إن استمر لبنان على تردده ومراوحته في موضوع نزع سلاح حزب الله، مقترحًا تلزيمه لـ'سوريا الجديدة'، التي بدا في حديثه عنها، أنها تحظى بمكانة مركزية في الإستراتيجية الأميركية الجديدة للمنطقة والشرق الأوسط الجديد. وبدا لوهلة، أن واشنطن نجحت في لجم تل أبيب، ودفعها للأخذ بمقاربتها حيال 'سوريا ما بعد الثامن من ديسمبر/كانون الأول'.. خفَت حديث جدعون ساعر عن 'حلف الأقليات'، وتراجعت التهديدات للنظام الجديد، الموسوم إسرائيليًا بـ'الإرهابي'، وبدأت الوفود الإسرائيلية تلاقي نظيراتها السورية في عواصم عدة، سرًا وعلانية، مباشرة، أو بصورة غير مباشرة، لتندلع التكهنات والتخمينات، حول طبيعة ومضامين الاتفاق الذي سينتهي إليه هذا المسار. كل هذا الجدل، وما استبطن من فرضيات، تهاوى دفعة واحدة، وعلى نحو مروّع، وثبت أن إسرائيل ما زالت على إستراتيجيتها لتفتيت سوريا وتوزيعها على القبائل والمذاهب والطوائف والأقوام، وأن نهمها للاستيلاء على مزيد من الأراضي والقمم الإستراتيجية ومساقط المياه، لم يتأثر أو يتراجع نظير وعود السلام والتطبيع، وأن حوادث يمكن أن تظل في حدودها المحلية الضيقة، تُتخذ كسانحة لإخراج جميع هذه المخططات السوداء من الأدراج، كما حصل في السويداء. كنا نظن، أن إسرائيل التي رفضت من قبل صيغة 'الأرض مقابل السلام' التي أجمع عليها 'العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر'، ما زالت متمسكة بمعادلة سبق لنتنياهو نفسه، أن طوّرها شخصيًا، ونافح عنها مرارًا وتكرارًا: 'السلام مقابل السلام'. لم تطلب القيادة السورية الجديدة أكثر من إنفاذ هذه المعادلة، بعثت ما يكفي من رسائل 'حسن النية' وقبلت بصيغة 'أصعب' لاستعادة اتفاق 1974، كل ذلك لم يجدِ نفعًا، مع حكومة اليمين الفاشي. كل تلك الوعود والنوايا ورسائل الطمأنينة، لم تنفع مع المهجوسين بالغيتو والجدران 'وكراهية الأغيار'، فتكشفوا دفعة واحدة عن معادلة جديدة، ناظمة لعلاقاتهم، لا مع سوريا وحدها، بل مع العرب وجوارهم الإقليمي كذلك: 'السلام مقابل الاستسلام'.. 'السلام مقابل الخنوع' دون قيد أو شرط. عند هذه المحطة من تطور المشهد الإسرائيلي- السوري، شخصت أنظار مراقبين إلى واشنطن- رئيسها وموفدها بشكل خاص- لترصد مفاعيل 'اختلاف وجهات النظر'، وتقيس 'تباين الأولويات'.. هؤلاء كانت خيبتهم كبيرة، بل وكبيرة جدًا.. إسرائيل تدمر عشرات المواقع السيادية في قلب دمشق، وعلى مبعدة أمتار من مكاتب الرئيس الذي قال فيه ترامب إنه 'شاب، طيب وشجاع وقوي'، وتنذر بتحويل سوريا إلى جحيم لا يطاق، وتسعى في خلق الأرضية المناسبة لتأليب السوريين على بعضهم البعض، وتأليبهم على حكمهم الجديد، توطئة لاستحداث الخراب والتفتيت والتقسيم، ولتدشين 'حرب المئة عام' بين الطوائف والمذاهب والأقوام المُشكّلة للإقليم. لا تنديد ولا إدانة، حتى على المستوى الشفهي المفرغ من أي مضمون، لا تحميل مسؤولية لإسرائيل من أي نوع، لا إنذارات بوقف استباحاتها لسوريا الجديدة التي تعهد الرئيس بمساعدتها لتساعد نفسها.. كل ما في الأمر، 'سوء فهم وتفاهم'، وتصريحات معبّرة عن 'التفاؤل' بقرب التوصل لوقف إطلاق النار، تمامًا مثلما فعلوا في غزة، طوال عامين كاملين من حرب التطويق والتجويع، والترويع، والتطهير، والإبادة.موقف واشنطن من العدوان الإسرائيلي الأخير على سوريا، يشرح بالنار والقذائف والصواريخ، ما ظلّ مبهمًا في تصريحات توماس بارّاك حول 'سايكس-بيكو' و'بلاد الشام'. تصريحاته الأخيرة أكدت على هذا النهج حيث قال إن الحكومة السورية يجب أن تتحمل المسؤولية ويجب أن تتم محاسبتها وأن أميركا لا تمتلك نفوذًا على قرارات إسرائيل. الرجل ضاق ذرعًا بخرائط ما بعد الحرب العالمية الأولى، والدول الوطنية 'المصنّعة' التي نشأت في إثرها، ولكنه بالطبع، ليس من أنصار 'الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة'، ولا هو من أتباع 'الهلال الخصيب ونجمته القبرصية' لأنطون سعادة، إنه يعيد إنتاج خرائط أسلافه من المحافظين الجدد الأشد تطرفًا، الذين دعموا فكرة إعادة رسم خرائط المنطقة، وترسيم حدودها، على خطوط الدم بين الطوائف والأقوام والمذاهب. بهذا المعنى، يبدو الرجل 'محقًا' في هجائه لسايكس- بيكو الذي أنتج 'دول الفسيفساء' القومية والعرقية، واستحضار 'بلاد الشام'، ومنح سوريا مكانة مركزية فيها. لكن السؤال الذي لم يشغل بالنا كثيرًا: عن أي سوريا يتحدث الرجل؟ نعرف الآن أن أعين الرجل متسمّرة نحو دولة سورية سنيّة، تكون مركزًا لحواضر سنيّة ممتدة من حوض الرافدين إلى شرق المتوسط، أما بقية المناطق والطوائف، فتلكم أجرام تدور في هذا الفلك، أو تنفصل عنه، الأمر متروك لتطورات السياسة والميدان. 'مركزية سوريا الجديدة' في تصور بارّاك وصحبه، نابعة من قدرتها على أن تكون دولة حاجزة 'Buffer State'، بين قوتين إقليميتين كبيرتين، تحظيان بـ 'إرث إمبراطوري'، طامعتين وتدخليتين، ولا تحتفظان بودّ ظاهر حيال إسرائيل. مركزية الدولة السنيّة، العابرة للحدود، تخدم هدفًا آخر: دفع بقية الطوائف والأقوام، للبحث عن مستقبلاتها البديلة، وتشكيل أحزمة من الدويلات والإمارات، التي لا وظيفة لها سوى حماية إسرائيل والاستقواء بها. بارّاك، لم يطور نظريته، أو يتبنى نظريات غيره، من فراغ. من الناحية الفكرية والإستراتيجية، الرجل ينهل من إرث مديد لمدرسة في التفكير الأميركي اليميني المحافظ. ومن الناحية العملية، فإنه يرى حراكًا عميقًا ممتدًا في الإقليم منذ سنوات، يعيد تعريف مفاهيم الولاء والانتماء، يستبدل ما هو 'عمودي' منها كالولاء للدولة مثلًا، إلى ما هو 'أفقي'، عابر لحدود الدول، ويجمع منتسبي الأعراق والأديان والطوائف حتى وهم موزعون على عدة دول، بعضهم إلى بعض. أمرٌ كهذا، يقع في صميم الحلم الصهيوني، ويحتل مكانة إستراتيجية في تل أبيب، أما واشنطن، فلن تمانع إن عمل 'أزعر الحيّ' على تسريع ولادة هذه الكائنات الشوهاء، وهي إن اختلفت مع تل أبيب، فربما يتعلق الخلاف بـ'المعدلات والسرعات'. نتنياهو الذي لا يفهم سوى خيار 'القوة' و'البلطجة' يستعجل الولادة، ويسابق الزمن لتسجيل مكاسب في رصيده الشخصي، وليس لديه إلى جانب خيار القوة، أي أفق سياسي، أو 'أدوات ناعمة'. فيما ترغب واشنطن في الوصول إلى الهدف ذاته، ولكن بتدرج أكبر، وباستخدام الدبلوماسية وسلاح العقوبات، للحفاظ على بعض من ترابط مع حلفائها من عرب وأتراك. واشنطن، وفي توزيع مفضوح للأدوار مع تل أبيب، سواء كان متفقًا عليه أو من باب 'تحصيل الحاصل'، تجهد لقطف ثمار البلطجة الإسرائيلية، بعد توفير الحماية وكل عناصر القوة والاقتدار، وبعد قليل من 'العتب' و'التلاوم'. واشنطن في عقلها الباطن والظاهر، تدرك تمام الإدراك، أن إسرائيل تقوم بوظيفة جرافة 'الدي-9' التي اشتهرت في غزة، في تعبيد الطرق لأحلامها الإستراتيجية، فلا ينخدعن أحدٌ بحكاية الخلافات بين نتنياهو وترامب، أو بين تل أبيب وواشنطن، فذلك تقاسم مفضوح للأدوار. من منظور واشنطن، وبقدر أقل تل أبيب، فإن تشكيل الشرق الأوسط الجديد، هو سلسلة متصلة من التهدئات والتسويات التي تفصل بين جولة وأخرى من جولات الحرب والمواجهة مع الخصوم، جميع الخصوم، والطريق إليه مفروش بسلسلة من الحروب والمعارك بين الحروب، ولا بأس بهذا المعنى، من انخراط واشنطن في وساطات ومفاوضات، وسيظل قادتها ورسلها يعبرون عن تفاؤلهم بقرب الوصول إلى تهدئة هنا أو اتفاق لوقف النار هناك، وقد تمتد حبال التخدير والخداع لأسابيع وأشهر، ولسنوات إن اقتضى الأمر، ما دامت النتيجة في مصلحة إسرائيل، وما دامت المكاسب تتعاظم مع كل تقدم تحرزه دبابة الميركافا. في هذا السياق، أُبرمت اتفاقات في غزة ولبنان، بوساطة أميركية نشطة: ويتكوف في غزة، وهوكشتاين في لبنان.. اتفاقات وُجدت لكي تُنتهك، ومن قبل إسرائيل حصرًا، وبدعم والتزام من واشنطن، وبتبنٍّ كامل للرواية والرؤية الإسرائيليتين. وقد يُخرق وقف النار مع إيران في أي لحظة، وستنبري واشنطن منافحة عن إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها، وستُبرم اتفاقات أخرى، على الجبهات ذاتها، أو على جبهات أخرى، وسيتم خرقها جميعًا، وستظل واشنطن على تبريرها للرواية الإسرائيلية، وسيظل وسطاؤها على تفاؤلهم بقرب التوصل إلى اتفاقات وتفاهمات جديدة. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
منذ 7 أيام
- إيطاليا تلغراف
"نظام تل أبيب" الإقليمي الجديد
إيطاليا تلغراف محمد أبو رمان أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع. لم تكن مشاهد الدم في شوارع السويداء، ولا أخبار الاشتباكات المروّعة بين قوات الأمن العام التابع للنظام السوري وفصائل محلية درزية، ثم التوتر العشائري مع مجموعات بدوية، مجرّد حوادث محلية أو انفجارات عارضة لحالة هشاشة أمنية؛ فما جرى يندرج في سياق أخطر وأعمق بكثير. القصف الإسرائيلي، الذي استهدف مبنى هيئة الأركان وقصر الشعب في دمشق كان رسالة واضحة أنّ إسرائيل لم تعد تكتفي بلعب دور 'المراقب القلق' أو الضارب الانتقائي، بل دخلت مرحلة جديدة: الهيمنة العسكرية والسياسية شبه المطلقة على المجال السوري، وربما في المنطقة. تتجاوز تصريحات بنيامين نتنياهو عن 'منطقة خالية من السلاح' في جنوب سورية البعد العسكري التكتيكي، لتصل إلى جوهر المشروع الإسرائيلي الجديد: فرض قواعد اشتباك إقليمية جديدة، تُديرها تل أبيب. الدلالة الأخرى في مشهد السويداء ليست غياب الدولة السورية فحسب، ولا حتى تفكّك السلطة المركزية أو عجزها عن ضبط الأمن، بل أيضاً الحضور الإسرائيلي الفجّ؛ العسكري والسياسي، والقبول الضمني من القوى الدولية به. لا البيت الأبيض أصدر بيانَ إدانةٍ، ولا الأمم المتحدة رفعت صوتها، ولا حتّى أوروبا أبدت قلقاً دبلوماسياً خجولاً. الصمت الدولي حيال القصف الإسرائيلي العنيف لقلب دمشق، وتحديداً لمواقع سيادية، لا يمكن تفسيره إلّا بوصفه رضى ضمنياً، إن لم يكن موافقة صريحة، على النموذج الإسرائيلي الجديد. يقوم ذلك النموذج، كما تشير أحداث السويداء، على معادلتَين مترابطتَين: أن إسرائيل صاحبة القرار النهائي في ملفات الإقليم الأمنية، من غزّة إلى جنوب لبنان، ومن السويداء إلى أربيل، وهي التي تمنح أو تحجب الموافقة على أي حل سياسي أو ميداني. وأنّ على الجوار العربي أن يتحوّل إلى فسيفساء من الكيانات الضعيفة، المتنازعة، والمجزّأة طائفياً وعرقياً، في مقابل 'الدولة اليهودية النقية' التي تطمح إليها حكومة اليمين الإسرائيلي. ليست السويداء، في هذا الإطار، سوى 'المختبر الأولي' لهذه الاستراتيجية، يريد نتنياهو تحويل الدروز إلى ورقة، على غرار ما يُراد للأكراد في الشمال والعلويين في الساحل. تفتيت الدولة السورية، كما كان الحال في العراق ولبنان، ليس مجرد نتيجة للضعف والفوضى، بل هدف إسرائيلي في حدّ ذاته، يوفر أرضية أخلاقية وسياسية لإسرائيل لتكريس نموذجها القومي – الديني، وربما تمهيداً لتهجير الفلسطينيين في أراضي 48 والضفة الغربية، تحت شعار 'لكل جماعة دولتها'. في ورشة مغلقة نظمها معهد السياسة والمجتمع قبل أيام، خلص خبراء أمنيون وسياسيون أردنيون إلى أن ما جرى في السويداء لا يمكن عزله عن سياق أوسع يشمل الحرب على غزّة، ومعركة الضفة الغربية، واستهداف حزب الله في لبنان، وضربات متفرّقة في العراق. ويؤشر ذلك كله إلى محاولة إعادة تشكيل خريطة النفوذ في المشرق العربي، وفقاً لرؤية إسرائيلية تقوم على مبدأ 'إضعاف الجميع، وتسيّد واحد'. في السياق الاستراتيجي، أيضاً، العرب خارج هذا المشهد، في السويداء وفي غزّة وفي لبنان، وكما كانت عليه الحال في الحرب الإيرانية الإسرائيلية. لم يعودوا طرفاً في موازين القوى، بل موضوعاً لها، وما أشبه ذلك بحالهم غداة الحرب العالمية الأولى. حتّى تركيا، تراجعت وتحجّم طموحها، وربما يكون مشروع اليمين الإسرائيلي في المدى المتوسط 'تحييد تركيا' أو إضعافها أيضاً، إن لم يكن عبر مواجهة مباشرة، فبوسائل ناعمة ومن الداخل. على جهةٍ أخرى، مهما قيل عن الخلافات التكتيكية بين نتنياهو وإدارات بايدن أو ترامب، لم تتغيّر الاستراتيجية. هنالك قبول أميركي عميق بتكريس إسرائيل قوةً إقليميةً ضابطة، ولا فيتو بعد على المشروع الإسرائيلي الجديد. الأحداث في السويداء، على الرغم من قسوتها، لم تغيّر شيئاً من هذا التواطؤ الصامت. نعم، ربما تنتهي الأزمة في السويداء بوساطة أميركية – تركية – أردنية، كما قال المبعوث الأميركي توماس برّاك، لكن النموذج الجديد الذي بدأ يتكرّس: إسرائيل بوصفها شرطياً (أو بلطجياً) في المنطقة لا أحد يقف في وجهها، وعدم السماح بأيّ قوى إقليمية جديدة، وإذا أردت أن تحل مشكلة أو مسألة داخلية في لبنان أو سورية أو ربما أماكن أخرى فإنّ 'تل أبيب' الجديدة على الطاولة وهي طرف وربما الطرف الأهم في تقرير مصير ليس الفلسطينيين فحسب بل الجوار بأكمله! الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف