
عندما تلتقي القوة بالحكمة: قراءة تحليلية في النص القرآني
إن اقتران اسمَي الله ﴿العزيز الحكيم﴾ [الحشر: 24] في فواصل آيات التنزيل هو كشف رباني عن طبيعة هذا الكتاب العظيم وخصائصه الفريدة؛ فالقرآن عزيز في مقامه، قوي في تأثيره، غالب في حُجته، ممتنع في حفظه؛ وهو في الوقت نفسه حكيم في تشريعه، مُتقَن في نظامه، محكَم في بنائه، مُبدع في ترتيبه، وهذا التناغم العجيب بين العزة والحكمة في القرآن يُمثل إعجازاً فريداً لا نظير له في كل ما أنتجته البشرية من آداب وعلوم وحِكم.
وإذا كانت الفواصل القرآنية هي المفاتيح الذهبية التي تفتح كنوز المعاني، وتكشف أسرار التوجيه الرباني، فإن اقتران ﴿العزيز الحكيم﴾ في خواتيم آيات التنزيل يُشكل معماراً من معامر الإعجاز القرآني يستحق التأمل والتدبر، فكل مرة يُختتم فيها الحديث عن تنزيل القرآن بهذين الاسمين الجليلين، تتفتح أمام القارئ آفاق جديدة من الفهم والوعي بعظمة هذا الكتاب المبين.
مفاتيح المفردات
اسم الله ﴿العزيز﴾ يحمل في جوهره معاني القوة والغَلبة والمَنعة والشرف والعُلو، فهو سبحانه عزيز لا يُقهر، ولا يُغلب، ولا يمتنع عليه شيء، واسم الله ﴿الحكيم﴾ يدل على كمال الحكمة في الخلق والأمر، والإتقان في الصُنع والتدبير، ووضع الأشياء في مواضعها المناسبة بأكمل وجه.
ولكن اقتران هذين الاسمين في سياق تنزيل القرآن يضيف دلالات فريدة لا تتحقق بذكر أحدهما منفرداً، فالعزة وحدها قد توحي بالقوة المجردة، والحكمة وحدها قد توحي بالعلم النظري، ولكن اقترانهما يُقدم صورة متكاملة لطبيعة القرآن: قوة موجهة بالحكمة، وحكمة مدعومة بالقوة، عزة لا تطغى، وحكمة لا تضعف، فإن اقتران العزة بالحكمة في صفات الله وفي خصائص كتابه يحقق التوازن المعجِز بين القدرة والعدالة، بين القوة والرحمة، بين الهيبة والجمال، فلا تكون عزة بلا حكمة فتصير جبروتاً، ولا حكمة بلا عزة فتصير ضعفاً.
وهذا المعنى الإضافي الذي يحققه الاقتران ينعكس بوضوح على طبيعة القرآن الكريم، فهو كتاب يجمع بين قوة التأثير التي تخترق أقسى القلوب إن أرادت أن تفقه، وبين حكمة التوجيه التي تناسب كل زمان ومكان وحال.
المواضع والسياقات
يظهر اقتران ﴿العزيز الحكيم﴾ في فواصل آيات التنزيل في مواضع محددة بدقة إلهية متناهية، تأتي في سياقات تحتاج تحديداً إلى هذا التوازن بين القوة والحكمة، أبرزها:
الموضع الأول: ﴿تنزيل الكتاب من اللَّه العزيز الحكيم﴾ [الزمر: 1]، يأتي هذا الاقتران في مُفتتح سورة الزُمر التي تُركز على قضية العبادة الخالصة لله وحده، وبطلان عبادة الأوثان والوسطاء، ومقاومة الشرك والكفر، وهذا يحتاج إلى عزة تقهر الباطل، وحكمة تُرشد إلى الحق دون إفراط ولا تفريط.
ومناسبة الفاصلة كذلك أن القرآن الكريم الذي يدعو إلى عبادة الله وحده، هو تنزيل من ﴿العزيز﴾ الذي لا يُقهر ولا يُغلب، فكيف يُعقل أن يدعو العباد إلى عبادة من هو أضعف منهم؟! وهو أيضاً تنزيل من ﴿الحكيم﴾ الذي يضع الأشياء في مواضعها، فالعبادة لله الرب الخالق وحده لا المخلوق، وهذا الافتتاح بتنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم يؤسس لكل ما سيأتي بعده من أحكام وتوجيهات، فهذه التوجيهات ليست آراء بشرية قابلة للنقاش والجدل، بل هي أحكام من العزيز الذي لا رادّ لحكمه، والحكيم الذي لا عيب في تشريعه.
الموضع الثاني: ﴿وهو العزيز الحكيم﴾ [الحشر: 24] في ختام آيات الأسماء الحُسنى، يأتي هذا الاقتران في سياق فريد حيث تُذكر مجموعة كبيرة من أسماء الله الحُسنى، ثم يُختتم الحديث بـ ﴿له الأسماء الحسنىٰ يسبِّح له ما في السَّماوات والأرض وهو العزيز الحكيم﴾، وهنا تتجلى مناسبة الفاصلة بوضوح، فكل هذه الأسماء الحُسنى وكل هذا التسبيح الكوني ينبع من عزة الله المطلقة وحكمته البالغة، كما أن السياق البعيد في سورة الحشر عن إجلاء بني النضير وما تضمنه من حكمة بالغة في التعامل مع الخائنين، وعزة ظاهرة في إنفاذ العدالة.
تُحفز فاصلة ﴿العزيز الحكيم﴾ المؤمن على التمسك بالقرآن والدفاع عنه، لأنه يُدرك أن ما يحمله بين يديه ليس مجرد كتاب، بل هو سلاح "عزيز" قادر على هزيمة أعداء الحق، ومنهاج "حكيم" قادر على الهداية للتي هي أقوم وبناء الحضارة الربانية
جواهر الفواصل ومناسباتها
لعل أحد أسرار اختيار اقتران ﴿العزيز الحكيم﴾ في فواصل آيات التنزيل يكمن في أن القرآن الكريم يستخدم في تأثيره وانتشاره وقبوله هذين العنصرين الأساسيين: القوة والحكمة، فالقوة وحدها قد تُكره الناس على الإذعان الظاهري دون الاقتناع القلبي، والحكمة وحدها قد تُقنع العقول دون أن تملك القدرة على تغيير الواقع، أما القرآن فهو كتاب "عزيز" يملك قوة التأثير والتغيير، و"حكيم" يملك عُمق المعنى وصحة التوجيه.
فهو عزيز في مقاومته لكل محاولات التحريف والتبديل، عزيز في انتصاره على كل الفلسفات والمذاهب المنحرفة، عزيز في قدرته على اختراق أعتى القلوب وأقساها، وهو في الوقت نفسه حكيم في تدرجه في الهداية، حكيم في تنوع أسلوبه حسب المخاطبين، حكيم في توازنه بين الرحمة والعدالة.
وهذا يُفسر سر نجاح القرآن في تحقيق ما عجزت عنه كل الكتب والفلسفات الأخرى، فهو لم يكن مجرد نظريات جميلة تُعجب العقول دون أن تُغير الواقع، ولم يكن مجرد قوة جامحة تُكره الناس دون أن تُقنعهم، بل كان مزيجاً مُعجِزاً من العزة والحكمة، مما مكنه من تغيير مسار التاريخ البشري تغييراً جذرياً في فترة زمنية قصيرة.
ربط القلب بالله
تعمل فاصلة ﴿العزيز الحكيم﴾ على ربط قلب المؤمن بالله من خلال تذكيره بأن هذا القرآن الذي يتلوه ويتدبره ليس كلاماً عادياً، بل هو كلام العزيز الذي لا يُقهر، والحكيم الذي لا يخطئ، وهذا اليقين يُولِّد في قلب المؤمن ثقة مطلقة بما جاء في هذا الكتاب، وتسليماً كاملاً لتوجيهاته وهداياته، وطمأنينة عميقة بأن من اتبع هذا الكتاب فلن يضل أبداً.
إعلان
في الوقت نفسه، تُحفز فاصلة ﴿العزيز الحكيم﴾ المؤمن على التمسك بالقرآن والدفاع عنه، لأنه يُدرك أن ما يحمله بين يديه ليس مجرد كتاب، بل هو سلاح "عزيز" قادر على هزيمة أعداء الحق، ومنهاج "حكيم" قادر على الهداية للتي هي أقوم وبناء الحضارة الربانية.
التناسب والتكامل
يُحقق اقتران ﴿العزيز الحكيم﴾ تكاملاً معنوياً بديعاً، حيث يُكمل كل اسم الآخر ويغطي جانباً لا يغطيه الآخر، فالعزة توفر القوة اللازمة للتأثير والانتشار، والحكمة توفر الصواب والعدالة اللازمين للقبول والإقناع، وهكذا يصير القرآن كتاباً لا نقص فيه، لا من جهة القوة ولا من جهة الحكمة.
فهناك تلازم طبيعي بين العزة والحكمة في الصفات الإلهية، فالله جل وعلا لا يكون عزيزاً بقوة عمياء، بل بعزة موجهة بالحكمة، ولا يكون حكيماً بحكمة ضعيفة عاجزة، بل بحكمة مدعومة بالعزة، وهذا التلازم ينعكس على القرآن، فهو يجمع بين العزة والحكمة بطريقة طبيعية متناغمة.
الإيقاع الصوتي
يُحقق اقتران ﴿العزيز الحكيم﴾ إيقاعاً صوتياً جميلاً، يساعد على الحفظ والترتيل والتأثر، فالعزة تنتهي بصوت الزاي القوي الذي يناسب معنى القوة، والحكمة تنتهي بصوت الميم بعد المد بالياء، الذي يناسب معنى التأمل والتفكر، فجمال الفواصل القرآنية لا يكمن فقط في معانيها العميقة، بل أيضاً في إيقاعها العذب الذي يجعل تلاوته أحب إلى الأسماع من أجمل الألحان.
تصحيح المفاهيم
يصحح اقتران ﴿العزيز الحكيم﴾ في آيات التنزيل مفهوم العلاقة بين القوة والحكمة في الفكر البشري؛ فكثير من الناس يتصورون أن القوة تتناقض مع الحكمة، وأن القوي لا يحتاج إلى الحكمة، وأن الحكيم لا يحتاج إلى القوة، ولكن القرآن يقدم نموذجاً مختلفاً تماماً، حيث العزة والحكمة تتكاملان وتتضافران لتحقيق أعظم التأثير وأبلغ النتائج.
وهذا المفهوم يعمّق توحيد الأسماء والصفات، فالمؤمن يدرك أن الله تعالى ليس قوة قاهرة فقط، ولا حكمة نظرية مجردة، حاشاه جل في علاه، بل هو سبحانه "عزيز حكيم" يجمع بين كمال القدرة وكمال الحكمة، وهذا يُولّد في قلب المؤمن خشية من عزة الله، ومحبة وثقة في حكمته، وتسليماً مطلقاً لأمره ونهيه.
فمن فهم اقتران العزة بالحكمة في صفات الله وفي خصائص كتابه، فقد فهم سر الإسلام وجوهر التوحيد، لأنه أدرك أن الله لا يأمر إلا بما هو حكيم، ولا يحكم إلا بما هو عادل، ولا يُشرع إلا ما فيه مصلحة العباد.
تأثير الاقتران في القلب والروح
يُحدث تدبر اقتران ﴿العزيز الحكيم﴾ في النفس المؤمنة تأثيرات روحية عميقة متنوعة، منها:
فمن جهة، يولّد شعوراً بالعزة والكرامة لأن المؤمن يدرك أنه يحمل كتاب العزيز، وأن هذا يجعله في موقع القوة لا الضعف، في موقع العزة لا الذل، {ولِلَّه العِزَّة ولرسوله وللمؤمنين ولكنَّ المنافقين لا يعلمون} [المنافقون: 8].
ومن جهة أخرى، يولّد شعورا بالطمأنينة والثقة لأن المؤمن يدرك أن ما يتبعه هو منهاج الحكيم، وأن هذا يضمن له الصواب في كل خطواته {فمنِ اتَّبع هُداي فلا يَضِلُّ ولا يشقى} [طه: 123] ويضمن له الخشوع الدائم وحياة القلب.
ويولّد هذا الاقتران في النفس نوعاً خاصاً من الخشوع، وهو خشوع العزة لا خشوع الذل، خشوع المُحبّ المُعجب بجمال محبوبه وعظمته، لا خشوع الخائف المرتعب من جبروت ظالم، وهذا النوع من الخشوع يجعل العبادة متعة ولذة، لا تكليفاً وعبئاً.
ويحيي تدبر هذا الاقتران القلب بطريقة خاصة، فالقلب يشعر بأنه متصل بمصدر القوة المطلقة والحكمة المطلقة، وهذا يُزيل عنه كل مشاعر الضعف والحيرة والقلق، ويصبح القلب مثل النهر الذي يستمد ماءه من منبع لا ينضب، فهو دائم الجريان، دائم العطاء، دائم النشاط.
التربية السلوكية
يُربي اقتران ﴿العزيز الحكيم﴾ في المؤمن سلوكاً متوازناً يجمع بين القوة والحكمة، فهو لا يكون ضعيفاً متهاوناً أمام الباطل بحُجة الحكمة، ولا يكون عنيفاً متسرعاً في مواجهة الخطأ بحُجة القوة، بل يجمع بين حزم العزيز ورِفق الحكيم في عبوديته لله.
إعلان
ويُعلّم هذا الاقتران المؤمن كيف يتعامل مع ربه بأدب يناسب عزته وحكمته، فهو لا يتجرأ على معصيته لأنه يدرك عزته، ولا ييأس من رحمته لأنه يدرك حكمته، وفي دعائه يجمع بين الإلحاح الذي يناسب عزة المدعو، والأدب الذي يناسب حكمته. وفي علاقاته مع الآخرين يطبّق المؤمن هذا الاقتران في تعامله مع الناس، فهو عزيز لا يقبل الذل ولا يرضى بالهوان، وحكيم لا يؤذي أحداً بغير حق، ولا يتعامل مع أحد بجهل، وهذا يجعله محبوباً محترماً بين الناس، قوياً في الحق، رحيماً بالخلق.
يحتل اقتران ﴿العزيز الحكيم﴾ موقعاً متميزاً في المنظومة الشاملة لأسماء الله الحُسنى، فهو يمثّل التوازن المعجِز بين صفات الجلال وصفات الجمال، فالعزة من صفات الجلال التي توجب المهابة والإجلال، والحكمة من صفات الجمال التي توجب المحبة والإعجاب
من حِكَم الاختيار
من الملاحظات أن اسم الله ﴿العزيز﴾ يقترن في القرآن بأسماء مختلفة حسب السياق: فهو يقترن بـ ﴿الحكيم﴾ في آيات التنزيل، وبـ ﴿العليم﴾ في آيات الخلق والتدبير، وبـ ﴿الرَّحيم﴾ في آيات العفو والمغفرة، وهذا يكشف عن دقة متناهية في اختيار الأسماء المقترنة بحسب ما يناسب كل سياق.
فاقتران ﴿العزيز﴾ بـ ﴿الحكيم﴾ في سياق التنزيل يناسب طبيعة القرآن الذي يحتاج إلى قوة لينتشر ويؤثر، وإلى حكمة ليُقنع ويُرشد، أما اقترانه بـ ﴿العليم﴾ فيُناسب سياق الخلق والتدبير، الذي يحتاج إلى قدرة وعلم، واقترانه بـ ﴿الرَّحيم﴾ يُناسب سياق العفو والمغفرة الذي يُظهر عزة الله في قدرته على العقوبة، ورحمته في اختياره للعفو. فإن تنويع الاقترانات في الأسماء الحُسنى يكشف عن بلاغة معجزة في اختيار كل اسم لما يناسبه من السياقات، بحيث يحقق كل اقتران معنى فريداً لا يحققه غيره.
وفي جميع المواضع التي يقترن فيها ﴿العزيز﴾ بـ ﴿الحكيم﴾ في آيات التنزيل، نجد أن ﴿العزيز﴾ يأتي مُقدما على ﴿الحكيم﴾، وهذا له حكمة بلاغية عميقة، فتقديم ﴿العزيز﴾ يُشير إلى أن القرآن أولاً كتاب قوة وتأثير، وثانياً كتاب حكمة وإرشاد، وهذا يناسب طبيعة الدعوة الإسلامية التي بدأت باختراق القلوب بقوة التأثير، ثم رسّخت مواقعها بحكمة التوجيه. ومن جهة أخرى، فإن تقديم ﴿العزيز﴾ يُذكّر بأن القرآن ليس مجرد كتاب فلسفة وحكمة نظرية، بل هو كتاب قوة وتغيير وبناء، ودستور ودليل وهداية للعالمين، وهذا ما يُميزه عن كل الكتب الفلسفية والحِكمية الأخرى، التي قد تحمل حكمة ولكنها تفتقر إلى القوة اللازمة للتطبيق والتأثير.
ومن الملاحظات الدقيقة أن القرآن يستخدم صيغاً مختلفة لأسماء الله الحُسنى حسب السياق؛ ففي آيات التنزيل نجد ﴿العزيز الحكيم﴾ بصيغة الصفة المُشبهة المعرفة بـ"الـ"، وفي مواضع أخرى نجد ﴿عزيز حكيم﴾ بصيغة النكرة، وكل صيغة لها دلالتها الخاصة التي تناسب سياقها، فصيغة ﴿العزيز الحكيم﴾ بالألف واللام تفيد معنى الحصر والتعريف، وكأنها تقول: هو العزيز الحقيقي الوحيد، والحكيم الحقيقي الوحيد، وهذا يناسب سياق إثبات أن القرآن من عند الله وحده لا شريك له.
ويحتل اقتران ﴿العزيز الحكيم﴾ موقعاً متميزاً في المنظومة الشاملة لأسماء الله الحُسنى، فهو يمثّل التوازن المعجِز بين صفات الجلال وصفات الجمال، فالعزة من صفات الجلال التي توجب المهابة والإجلال، والحكمة من صفات الجمال التي توجب المحبة والإعجاب، واجتماعهما يحقق الكمال في العبودية: خشية من عزة الله، ومحبة لحكمته.
تعلمنا أن الإيمان بالقرآن لا يكتمل إلا بالإيمان بأنه كتاب العزيز الحكيم، وأن هذا الإيمان يولّد في النفس ثقة مطلقة بصحة ما جاء فيه، وتسليماً كاملاً لتوجيهاته، ويقيناً راسخاً بأن من اتبعه فلن يضل أبداً
وهكذا نصل إلى ختام هذه الرحلة التأملية في رحاب اقتران اسمي ﴿العزيز الحكيم﴾ في فواصل آيات التنزيل، وقد كشفت لنا هذه الدراسة عن كنوز من المعاني ودُرر من الحِكم، تؤكد أن القرآن الكريم معجزة متجددة في كل تفصيلة من تفاصيله، حتى في اختيار الفواصل وترتيب الأسماء.
لقد رأينا كيف أن اقتران ﴿العزيز الحكيم﴾ ليس مجرد صيغة جميلة لختم الآيات، بل هو توصيف دقيق لطبيعة القرآن الفريدة، التي تجمع بين قوة التأثير وعُمق الحكمة، بين عزة المقام وجمال البيان، بين سلطان الحُجة وروعة الأسلوب. ورأينا كيف أن هذا الاقتران يحقق التوازن المعجِز الذي افتقرت إليه كل الكتب والفلسفات الأخرى، فهي إما قوة بلا حكمة فتصير جبروتاً، وإما حكمة بلا قوة فتصير عجزاً.
وتعلمنا أن الإيمان بالقرآن لا يكتمل إلا بالإيمان بأنه كتاب العزيز الحكيم، وأن هذا الإيمان يولّد في النفس ثقة مطلقة بصحة ما جاء فيه، وتسليماً كاملاً لتوجيهاته، ويقيناً راسخاً بأن من اتبعه فلن يضل أبداً، واكتشفنا أن تدبر هذا الاقتران يُحدث نقلة نوعية في العلاقة مع القرآن، فالمؤمن لا يعود ينظر إليه كمجرد كتاب للقراءة، بل كسلاح عزيز لمواجهة تحديات الحياة، وكمنهاج حكيم لبناء النهضة الحضارية، وتعلمنا كيف نُطبق توازن العزة والحكمة في حياتنا اليومية، فنكون أعزاء في الحق لا نقبل الذل ولا نرضى بالهوان، وحُكماء في التعامل لا نؤذي أحداً بغير حق ولا نتصرف بجهل.
وفي ختام هذه الدراسة، أدعو نفسي وكل مُحب للقرآن وطالب للحكمة إلى مواصلة التدبر في فواصل القرآن وأسماء الله الحُسنى الواردة فيها، فإن في كل فاصلة كنزاً من كنوز المعرفة، وفي كل اقتران سراً من أسرار الحكمة، والباب مفتوح لاستكشاف اقترانات الأسماء الحُسنى في فواصل القرآن، كاقتران "الغفور الرحيم" و"السميع العليم" و"العلي العظيم"، فإن في كل اقتران عالماً من الأسرار والحِكم، ينتظر من يكشف كنوزه ويُضيء دُرره.
نسأل الله تعالى العزيز الحكيم أن يعيننا على تطبيق هذه المعاني في عبادتنا وسلوكنا، ليكون كل فرد منا قرآنا يمشي على الأرض، كما وصفت عائشة رضي الله عنها خُلق رسول الله ﷺ.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العرب القطرية
منذ 13 ساعات
- العرب القطرية
«الأوقاف» تصدر العدد 15 من سلسلة الأبحاث والرسائل العلمية
الدوحة- قنا أصدرت إدارة البحوث والدراسات الإسلامية بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الإصدار الخامس عشر من سلسلة «الأبحاث والرسائل العلمية» المخصصة للباحثين القطريين، في مجلدين يقاربان ألف صفحة، أعدته الباحثة القطرية حصة بنت أحمد الكواري بعنوان «ما صح من أخبار في سيرة النبي المختار صلى الله عليه وسلم». وأوضحت وزارة الأوقاف في بيان أمس أن هذا العمل يعد إضافة علمية جديدة ضمن إصدارات الإدارة، ويعكس اهتمام الوزارة بالسيرة النبوية الشريفة وموضوعاتها، وحرصها على التحقق من صحة الأخبار الواردة فيها، بما يعزز أثرها في المجتمع، ويوثق جهود الباحثين القطريين في خدمة العلوم الشرعية. وأشار الشيخ الدكتور أحمد بن محمد بن غانم آل ثاني، مدير إدارة البحوث والدراسات الإسلامية، إلى أن الإصدار يأتي ضمن السلسلة المخصصة لدعم الباحثين القطريين، في إطار دور الوزارة البارز في طباعة الأبحاث الشرعية ونشرها، امتدادًا لإسهام دولة قطر التاريخي في خدمة العلم الشرعي وصناعة العلماء والباحثين. وأضاف أن الإصدار يمثل محاولة متميزة لعرض السيرة النبوية عبر التثبت من أسانيدها وانتقاء ما صح منها، لما للسيرة من أهمية بالغة في فهم الإسلام وتاريخ التشريع، وتطبيقه على واقع المجتمع الإسلامي الأول، بوصفها النموذج الأكمل للاقتداء والتربية، مشددًا على أن السيرة النبوية «ليست مجرد قصة تُروى، بل هي منهج حياة يربي المسلم نفسه وأبناءه ومجتمعه عليه». من جانبها، بينت الباحثة حصة بنت أحمد الكواري أن دراسة السيرة النبوية عبادة وقربة إلى الله، ووسيلة لزيادة الإيمان ونيل المحبة والمغفرة، ومعين على فهم الكتاب والسنة والتعرف على الصحابة الكرام وأثر تطبيق الدين في حياتهم، إضافة إلى كونها دليلًا لمعرفة الحق من الباطل وصحة الأعمال من فسادها. واعتمدت الكواري في عملها على منهج أكاديمي يسرد الوقائع وفق ترتيبها الزمني قدر المستطاع، مع بيان الفوائد والعبر، والتنبيه على القصص غير الثابتة، وشرح الألفاظ الغريبة، وإيراد مقتطفات شعرية في بعض الفصول، فضلًا عن تزويد الكتاب بفهارس علمية تسهل على الباحثين والقراء الاطلاع والاستفادة.


العرب القطرية
منذ 13 ساعات
- العرب القطرية
«الأوقاف» تدعم القيم الإسلامية بين الجاليات بلغتهم الأصلية
الدوحة- قنا نظم مركز الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود الثقافي الإسلامي بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية سلسلة محاضرات دعوية للجاليات المسلمة الناطقة بغير اللغة العربية، وذلك في إطار برامجه المنتظمة لنشر الوعي الديني وتعزيز القيم الإسلامية بين مختلف الجاليات في الدولة، وشهدت الفعاليات مشاركة واسعة وتفاعلا لافتا. وأقيمت بمسجد الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني بمنطقة اللؤلؤة، محاضرة باللغة الإنجليزية حضرها أكثر من 80 شخصا من أبناء الجالية، وتناول الداعية خلالها موضوع «حسن الظن بالله»، مؤكدا أن هذا الخلق من أعظم أبواب الرجاء، إذ يدفع المسلم إلى العمل الصالح طمعا في رحمة الله، دون أن يغتر أو يتواكل، بل يجمع بين الرجاء والعمل والاعتماد على عفو الله. وفي قاعة المحاضرات بمقر المركز، أقيمت محاضرتان، الأولى للجالية الإثيوبية الناطقة بالأمهرية، قدمها الداعية وهيب كورتو بعنوان: «محبة النبي صلى الله عليه وسلم»، حيث أكد فيها على أن حب النبي واجب شرعي وقلبي، يتجلى في اتباع سنته والاقتداء بأخلاقه، وأنه عليه الصلاة والسلام بذل الغالي والنفيس لهداية البشرية، لافتا إلى أن محبتنا له تكون باتباعه في السلوك والقول والعمل. أما المحاضرة الثانية، فقد كانت موجهة للجالية الناطقة بالأوردو، وجاءت بعنوان: «العلاقة مع الله أساس السعادة»، وحضرها نحو 150 شخصا من أبناء الجالية، وقدمها الداعية عبدالغفور العمري، حيث تناول خلالها أهمية العبادة الصادقة، والذكر، والتقرب إلى الله كطريق لتحقيق الطمأنينة النفسية والاستقرار الروحي، مشيرا إلى أن الإنسان لا يبلغ السعادة الحقيقية إلا بقوة الصلة بخالقه، وأن تحقيق الغاية من الوجود هو مفتاح الاطمئنان. وقد أكد القائمون على المركز استمرار هذه اللقاءات ضمن خطة دعوية تشمل مساجد ومراكز مختلفة، بهدف الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من الجاليات، وربطهم بالقيم الإسلامية الأصيلة وتعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية، بأساليب مبسطة تراعي التنوع الثقافي واللغوي. ويأتي تنظيم هذه المحاضرات في إطار حرص المركز على خدمة الجاليات المسلمة بلغاتهم الأصلية، وتوفير منابر دعوية وتربوية تصل إليهم بيسر، وتلبي احتياجاتهم الدينية والثقافية، كما يعكس هذا التوجه اهتمام وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بنشر قيم الإسلام وتعزيز التواصل مع مختلف فئات المجتمع.


العرب القطرية
منذ يوم واحد
- العرب القطرية
سليمان عليه السلام ... التمكين المؤيَّد بالوحي والعلم والحكمة
-A A A+ سليمان عليه السلام ... التمكين المؤيَّد بالوحي والعلم والحكمة تسلم سليمان عليه السلام قيادة الدولة القوية التي أسست على الإيمان والتوحيد وتقوى الله تعالى، لقد أوتي سليمان عليه السلام الملك الواسع والسلطان العظيم، بحيث لم يؤت أحد مثلما أوتي، ولكنه أعطى قبل ذلك عطاء أعظم وأكرم، هيأه لأن يكون شخصية فريدة متميزة في التاريخ، لقد أعطي النبوة، ومُنح العلم وأوتي الحكمة، وذلك مثلما أعطي أبوه من قبل، قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) [النمل: 16،15]. إن سليمان عليه السلام لم يرث عن أبيه مالاً أو دارًا أو عقارًا، وإنما ورث عنه العلم والحكمة وورث النبوة والحكم، وأعطاه الله تعالى نعمًا وهبات خاصة به لم يعطها أحدًا بعده فقد سأل الله عزَّ وجل أن يخصه بعطاء لا يصل إليه أحد، وقال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [ص:35]، يعني: أعطني ملكًا لا يكون لأحد من البشر من بعدي مثله . وإننا ونحن نمضي مع ما يحكيه القرآن عن سليمان عليه السلام، فإننا نعيش مع أنصع الصفحات المشرقة من عصور بني إسرائيل الذهبية أيام كانوا على الدين الصحيح. يحدثنا القرآن أنه عليه السلام أقام مملكته على أسس من الإيمان بالله والإسلام له، ولهذا اعتبر سليمان مُلكه مفخرة عن ملك بلقيس ليس لامتداده وسعته وتفوقه فحسب، ولكن لأن ملك سليمان قام على العلم وأسس على الإيمان فقال: (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ) [النمل: 43،42]. وإننا لنلمح من خلال القرآن أن دولة سليمان عليه السلام كانت مفعمة بالحيوية، مائجة بالحركة، وكان عليه السلام قائمًا بواجب العبودية إلى جانب القيام بمهام الملك ومسؤوليات الحكام وإعمار الدنيا بطاعة الله، حتى دانت له الأرض جميعًا، وجاء على المعمورة وقت لم يكن فيها لسليمان ندٌّ منازع في الحكم والملك ولا شبيه مماثل في العلم والحكمة. لقد تحدثت الآيات الكريمة عن صفات وأحوال سليمان الحكيم، فهي صفات وأحوال تحكي مواقف حاكم مسؤول عن إدارة شؤون الأرض، لما عليها من مخلوقات، فهل كانت هذه المسؤوليات الهائلة التي تكاد تتصور في عصرنا، هل كانت عقبة أمام سليمان في سلوك المنهاج القيم للحكم، والطريق الناجح في الإدارة ؟ بالقطع لا. بل كان عليه السلام يدير هذه المملكة الشاسعة أحسن ما يدير الفرد شؤونه مع أسرته في بيته الصغير. ومن خلال هذا السياق القرآني لسيرة سيدنا سليمان عليه السلام نستخلص دروسًا وعبرًا في كيفية المحافظة على دولة الإيمان، وما وظائفها في الحياة، وما هي وسائل قوتها. إن قصة سليمان عليه السلام وردت في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع، في سورة النمل وص وسبأ، وكانت الآيات الكريمة في سورة النمل تتحدث عن حلقة من حلقات حياة سليمان عليه السلام؛ حلقة قصته مع الهدهد وملكة سبأ، يمهد لها السياق القرآني بما يعلنه سليمان على الناس من تعليم الله له منطق الطير، وإعطائه من كل شيء، وشكره لله على فضله المبين.