
العولمة تنهار.. استعدوا لصعود اليمين العالمي
العولمة تنهار.. استعدوا لصعود اليمين العالمي
قبل الحرب العالمية الأولى، كانت العولمة في أوجها. فقد سمح التقدّم التكنولوجي، مثل السفن البخارية والتلجراف، بانتقال الناس والبضائع والأخبار عبر الحدود بسرعة غير مسبوقة. وازدهرت الهجرة. يتذكّر الاقتصادي «جون ماينارد كينز» كيف أن «سكان لندن كان بإمكانهم أن يطلبوا عبر الهاتف منتجات من كافة أنحاء العالم، وبالكميات التي يرونها مناسبة، وكان بإمكانهم أن يتوقعوا وصولها في وقت مبكر إلى باب منزلهم».
كان كثيرون يعتقدون أن هذا النوع من العالمية أمر لا رجعة فيه، وأن ترابط الاقتصاد العالمي سيضمن السلام والازدهار. وقال كينز إنّه كان عصراً يرى فيه ذلك اللندني أن «مشاريع وسياسات العسكرة والإمبريالية، والصراعات العرقية والثقافية، والاحتكارات، والقيود، والإقصاء لم تكن أكثر من تسلية في صحيفته اليومية».
وفي نهاية القرن العشرين، شهد العالم ثاني تسارع كبير في العولمة. انهارت الشيوعية، وتوسّع الاتحاد الأوروبي. وانضمت الصين إلى النظام التجاري العالمي. وازدهرت الهجرة مجدداً.
لكن كلا اللحظتين من ذروة العولمة انهارتا بطرق مفصلية حددت مصير أجيال كاملة. ففي عام 1913، شكّلت قيمة السلع المصدّرة 14% من الاقتصاد العالمي. وبحلول عام 1933، وبعد صدمة الحرب العالمية الأولى والكساد الكبير، انخفضت هذه النسبة إلى 6%، ولم تتعافى حتى السبعينيات. وقد أسهم رد الفعل العنيف في صعود الحركات الاستبدادية والفاشية اليمينية التي وعدت بالسيطرة على قوى العولمة أو عكس مسارها. وانتهى الأمر في حرب عالمية كارثية.
وفي عصرنا الحالي، شكّلت جائحة كوفيد حدثاً شبيهاً بالحرب العالمية الأولى، فقد قتلت ملايين الأشخاص وعطّلت التجارة والهجرة العالمية. وبالاقتران مع تداعيات الأزمة المالية في عام 2008، ساعدت في صعود الشعبويين المناهضين للعولمة إلى سدة الحكم حول العالم. وقد صوّتت أميركا مجدداً لدونالد ترامب. وها هي الحواجز، المالية والمادية، تتصاعد، وتُتوّج بأسلوب استعراضي من خلال خطة ترامب لعزل أميركا عن العالم عبر تعريفات جمركية لم نشهدها منذ قرن.
والآن ماذا؟ تشير دروس التاريخ إلى عدة احتمالات، معظمها سيئة. فقد تطول لحظتنا الحالية المناهضة للعولمة. وما زالت التوجهات المعادية لليبرالية حية وقوية. وكما في ثلاثينيات القرن الماضي، يتم تحميل الأقليات مسؤولية أزمات العولمة وتصويرهم كرموز لأخطائها. فبدلاً من اتهام عرقية محددة حينها، يتم اليوم استهداف المهاجرين. وتشير سياسة ترامب تجاه أوكرانيا إلى أننا نتقدم بسرعة عبر أحداث ثلاثينيات القرن العشرين، وقد وصلنا بالفعل إلى عام 1938 - وهو العام الذي قرّر فيه القادة الغربيون في ميونيخ السماح لهتلر بتفكيك واحدة من آخر الديمقراطيات الباقية في أوروبا، وهي تشيكوسلوفاكيا. وبعد أقل من عام، أجبر هتلر رئيس ما تبقّى من تشيكوسلوفاكيا على قبول احتلال كامل لبلاده.
هناك مجال للجدل حول مدى معارضة ترامب وغيره من قادة اليمين للعولمة بشكل كامل. فهم يتعاونون مع بعضهم بعضاً بالتأكيد. وكما أشار كوين سلوبوديان (أستاذ التاريخ الدولي بجامعة بوسطن)، لا تزال رؤوس الأموال تتدفق عبر الحدود بسهولة نسبية. وقد جادلت جنيفر ميتلستادت (أستاذة التاريخ بجامعة روتجرز) بأن ترامب قد يُنظر إليه بشكل أفضل على أنه «سيادي» وليس معادياً للعولمة، يسعى إلى فرض القوة الأميركية على المؤسسات الدولية. وهذا يشير إلى أن قادة لا يسعون للعزلة، بل إلى العولمة بشروطهم الخاصة.
ولكن من غير الممكن إنكار أن التجارة الحرة وحرية تنقّل الأشخاص، وهما ظاهرتان جعلتا أميركا غنية وقوية، أصبحتا تحت هجوم سياسي مكثف ومطوّل، وأن الاستياء من العولمة كان قوة حاسمة في صعود اليمين العالمي. إن أصداء الثلث الأول من القرن العشرين عالية وواضحة. فماذا يمكن أن نتعلم من الانهيار الأول للعولمة عن لحظتنا الراهنة؟ هل سيتطلب الأمر حرباً عالمية ثالثة لتصحيح المسار؟ أم أن هناك احتمالات أخرى، أقل شؤماً؟
أدى صعود العولمة في أواخر القرن 19، تماماً كما هو الحال في نظيرها المعاصر، إلى خلق رابحين وخاسرين بشكل واضح. فحتى لو حصل المهاجرون أنفسهم على أجور أعلى، فإن عمالاً آخرين كثيرين فقدوا وظائفهم أو دخلهم بسبب المنافسة مع الوافدين الجدد. وبينما استفادت الاقتصادات الصناعية من العمالة المهاجرة الرخيصة، فإن الدول التي كانت تصدر مواطنيها كانت قلقة من فقدان أفضل عقولها وأكفأ قواها العاملة. وقد تكون الواردات الأرخص مفيدة للمستهلكين، لكنها أضرت بالعديد من المنتجين المحليين. حتى لو جادل بعض الاقتصاديين بأن التجارة الحرة والهجرة أفادت جميع الاقتصادات على المستوى الكلي، فإن تلك الفوائد لم توزَّع بالتساوي.
وقد اصطدمت هذه الاضطرابات بصعود السياسة الشعبية. مما عنى أن الأشخاص المتضررين من العولمة أصبح بإمكانهم التعبير عن سخطهم في صناديق الاقتراع أو في الشوارع. وللأحزاب السياسية والساسة، كانت هناك أصوات يمكن كسبها من خلال الحملات ضد قوى العولمة، مثل معيار الذهب، التجارة الحرة، والمهاجرين.
وقد أدت صدمتان إضافيتان إلى تصاعد المشاعر المناهضة للعولمة. أولاهما كانت الحرب، التي أوقفت الهجرة عبر الأطلسي تقريباً وأعاقت التجارة بشكل كبير. أصبحت الاعتمادية على الواردات نقطة ضعف – استغلها الحلفاء بحماس.
ومن 2010 إلى 2020، تضاعف إنتاج النفط المحلي في الولايات المتحدة أكثر من مرتين، إذ دعمت تقنية التكسير الهيدروليكي السعي نحو الاستقلال في مجال الطاقة. وفي عامي 2015 و2016، دفعت أزمة اللاجئين العالمية العديد من الحكومات الأوروبية إلى اتخاذ تدابير لا إنسانية لردع وصد المهاجرين من الشرق الأوسط وأفريقيا. وقد حقق ترامب، والبريكست، والأنظمة الشعبوية في العالم نجاحاً كبيراً قبل ما يقارب العقد من الزمن من خلال خطابات مناهضة للهجرة.
سعت السياسات التي هدفت إلى تحقيق التوظيف الكامل، وزيادة الاستهلاك، وتوسيع دولة الرفاه، إلى مساعدة الشعوب على تجاوز الصدمات الاقتصادية، وإنشاء شبكة أمان اجتماعي، والتصدي لعدم المساواة المحلية (من دون الإضرار بالديمقراطية). وقد تم تقويض العديد من هذه السياسات بفعل الحرب الباردة، لكنها ساعدت في الحفاظ على فترة من الاستقرار والنمو النسبي بين عامي 1950 و1970.
ثم جاء مزيج من تراجع التصنيع وصعود النيوليبرالية في أواخر القرن العشرين - وهي حزمة من الأفكار تدور حول التجارة الحرة، وتحرير حركة رؤوس الأموال عبر الحدود، والشركات متعددة الجنسيات، وسلاسل التوريد العالمية - ليعزز من العولمة مجدداً. وقد أدى ذلك إلى زيادة التفاوت وفي الوقت نفسه إلى تفكيك شبكات الأمان الدولية التي تم إنشاؤها بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت النتيجة متوقعة: عودة صعود اليمين المتطرف المعادي للهجرة في كل من الولايات المتحدة وأوروبا.
من الدروس المستخلصة من الحقبة الأولى لمناهضة العولمة أن أي محاولة لإيقاف العولمة ستولّد أشكالاً جديدة منها.
ومن النماذج المعاصرة لما بعد الحرب العالمية الثانية قد يكون: إعادة هيكلة نظام التجارة الدولية المعطّل، وزيادة الإنفاق الاجتماعي في الولايات المتحدة، خاصة للتعامل مع ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية ورعاية الأطفال والإسكان، والهجرة المبنية على المهارات، وخفض تكاليف التدريب المهني والتعليم العالي.
نأمل ألا نحتاج إلى حرب عالمية ثالثة للوصول إلى هذا الهدف. ونأمل ألا نجد أنفسنا في عالم أكثر انقساماً، وعزلة، واغتراباً عن بعضنا بعضاً.
تارة زهرة*
*أستاذة التاريخ في جامعة شيكاغو
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


سبوتنيك بالعربية
منذ 29 دقائق
- سبوتنيك بالعربية
خبير أمريكي: ترامب لديه طريقتان فقط لحل أزمة أوكرانيا
خبير أمريكي: ترامب لديه طريقتان فقط لحل أزمة أوكرانيا خبير أمريكي: ترامب لديه طريقتان فقط لحل أزمة أوكرانيا سبوتنيك عربي أكد الأستاذ بجامعة شيكاغو جون ميرشايمر، أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليس لديه سوى خيارين لحل الصراع الأوكراني بعد محادثة مع الزعيم الروسي فلاديمير بوتين. 23.05.2025, سبوتنيك عربي 2025-05-23T05:04+0000 2025-05-23T05:04+0000 2025-05-23T05:12+0000 الولايات المتحدة الأمريكية العالم روسيا وقال على قناة " Judging Freedom": "أمامه (ترامب) طريقان. عليه إما قبول مطالب روسيا أو الانسحاب (من الحوار مع موسكو - المحرر)".وبحسب قوله، فإن ترامب سيتخلى عن محاولات دعم الأوكرانيين من أجل تجنب أن يصبح "جو بايدن رقم اثنين"، ومن المرجح أن ينسحب من عملية التفاوض، تاركا للأوروبيين التعامل مع الصراع بمفردهم.وفي وقت سابق، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إن روسيا لن تنخدع بمن يقترحون أولا الاتفاق على وقف إطلاق النار في أوكرانيا ثم الانتقال إلى التسوية. وكما ذكر الوزير، فإن الغرب خدع موسكو بالفعل في عام 2014، عندما نفذ انقلابا في الجمهورية ما بعد السوفييتية، بعد اتفاق تسوية بين سلطات كييف والمعارضة. وبعد ذلك تم انتهاك اتفاقيات مينسك، واعترف الساسة الأوروبيون في وقت لاحق بأن هذه الاتفاقيات كانت مطلوبة فقط من أجل كسب الوقت لكييف.في عام 2022، وقعت روسيا وأوكرانيا بالأحرف الأولى على مبادئ التسوية التي اقترحتها كييف في المفاوضات في إسطنبول، لكن الغرب منع رئيس نظام كييف، زيلينسكي، من التوقيع على اتفاقية بناءً عليها.أجرى بوتين وترامب محادثة هاتفية، يوم الاثنين، شملت مناقشات بشأن حل الصراع في أوكرانيا. وبحسب الزعيم الروسي، فإن المحادثة استمرت أكثر من ساعتين. وأكد الرئيس أيضا أن موسكو مستعدة للعمل مع الجانب الأوكراني بشأن مذكرة بشأن معاهدة سلام مستقبلية محتملة. بدوره، أكد رئيس البيت الأبيض، بعد المحادثة، أنه لن يفرض عقوبات جديدة على روسيا، لأن هناك فرصة لحل الصراع في أوكرانيا.ترامب يصف استبعاد روسيا من مجموعة الثماني بـ"الخطأ" الولايات المتحدة الأمريكية سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 2025 سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 الأخبار ar_EG سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 1920 1080 true 1920 1440 true 1920 1920 true سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 سبوتنيك عربي الولايات المتحدة الأمريكية, العالم, روسيا

البوابة
منذ ساعة واحدة
- البوابة
فاينانشال تايمز: ترامب يهدد الاتحاد الأوروبي برسوم إضافية ما لم تُخفض التعريفات الجمركية
ذكرت صحيفة فاينانشال تايمز أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حث الاتحاد الأوروبي على خفض التعريفات الجمركية المفروضة على المنتجات الأمريكية، ملوحًا بفرض رسوم إضافية على السلع الأوروبية في حال عدم الاستجابة. ترامب يعلن بدء تطبيق تعريفات جمركية جديدة تشمل معظم واردات الدول بدءًا من 5 أبريل وفي وقت سابق، أعلن ترامب أن الولايات المتحدة ستبدأ اعتبارًا من 5 أبريل فرض تعريفة جمركية "أساسية" بنسبة 10% على جميع الواردات، في خطوة تشمل عددًا من الدول بينها المملكة المتحدة، الأرجنتين، أستراليا، البرازيل. وستفرض رسوم أعلى على دول وصفها ترامب بأنها "الأكثر مخالفة"، من بينها الصين التي ستواجه تعريفة تبلغ 54% على وارداتها (تشمل التعريفة الحالية البالغة 20%)، إلى جانب 49% على المنتجات القادمة من كمبوديا، و46% على الواردات الفيتنامية. أما السلع الأوروبية، فستخضع لتعريفة بنسبة 20%، تدخل حيز التنفيذ في 9 أبريل. وأشار ترامب إلى أن كندا والمكسيك ستُستثنيان من أي رسوم جديدة في هذه المرحلة، بينما أكد البيت الأبيض أن الإطار الجمركي المعلن سيُطبق كما هو مخطط له. ولا تزال هناك تساؤلات حول كيفية تداخل هذه الرسوم الجديدة مع التعريفات القائمة على قطاعات مثل الصلب والألمنيوم والسيارات، ما يثير غموضًا حول الأثر الفعلي على التجارة العالمية وسلاسل التوريد.


سكاي نيوز عربية
منذ ساعة واحدة
- سكاي نيوز عربية
إيران تعتبر عقوبات أميركا الجديدة تقويضا لفرص الدبلوماسية
أعلنت وزارة الخارجية الأميركية ، الخميس، أنها فرضت عقوبات على قطاع البناء والتشييد في إيران ، بالإضافة إلى 10 مواد صناعية ذات تطبيقات عسكرية. وردا على ذلك قال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي إن "العقوبات الأميركية الجديدة على طهران تلقي بمزيد من الشكوك على استعداد واشنطن للانخراط في الدبلوماسية". ووصف بقائي العقوبات بأنها "غير قانونية وعدائية ضد الشعب الإيراني". وأضاف: "إن هذا التصرف مستفز بقدر ما هو غير قانوني وغير إنساني. فالعقوبات متعددة الطبقات والإجراءات القسرية التي تفرضها الولايات المتحدة على إيران صُممت بعناية لحرمان كل مواطن إيراني من حقوقه الإنسانية الأساسية". واختتم بقائي تصريحاته قائلا إن "هذه العقوبات، التي أُعلنت عشية الجولة الخامسة من المحادثات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة، تُلقي بمزيد من الشكوك على جدية واشنطن واستعدادها الحقيقي للانخراط في الدبلوماسية". ويتوجه المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف إلى روما ، الجمعة، لعقد جولة جديدة من المحادثات مع وفد إيراني بشأن برنامج طهران النووي، وستكون هذه هي الجولة الخامسة من المحادثات. وفي الوقت نفسه، ناقش الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المفاوضات مع إيران خلال اتصال هاتفي، الخميس، في أعقاب مقتل اثنين من موظفي السفارة الإسرائيلية في واشنطن. وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولاين ليفيت للصحفيين خلال تقديم تفاصيل مكالمة ترامب ونتنياهو إن الرئيس الأميركي يعتقد أن المفاوضات مع إيران "تسير في الاتجاه الصحيح".