
جيل الحرمان
اختيار مصطلح «الجيل المحروم» في عنوان الكتاب ليس اعتباطياً، فهو يعكس ما يمكن وصفه بـ»الحرمان الهيكلي»، أي ذلك النمط من الإقصاء الذي لا يرتبط بظرف سياسي أو اقتصادي مؤقت، بل ببنية عميقة تعيد إنتاج نفسها باستمرار. هذا الجيل، الذي حمل قبل عقد شعارات الحرية والعدالة والكرامة، واعتقد أنه يقف على أعتاب مرحلة جديدة من الحريات والديمقراطية، يجد نفسه اليوم أمام واقع أكثر انسداداً وقسوة.
انتهى الربيع العربي، بالنسبة لغالبية هؤلاء الشباب، إلى إحباط مضاعف: الإخفاق في تحقيق الأهداف الكبرى، وتفاقم الأزمات التي كانوا يسعون لحلها. ثم جاءت جائحة كورونا لتعمق هذا الإحباط، فتوقفت عجلة الاقتصاد، ارتفعت نسب البطالة، وتقلصت فرص العمل، وتزايدت مؤشرات الفقر. هكذا تحولت حالة عدم اليقين، التي رصدتها المسوح الأولى لمشروع إيبرت قبل خمسة أعوام، إلى شعور ثابت بالانسداد والخوف من المستقبل.
في هذا السياق، يكتسب التحليل المقدم في ضوء نظرية ديفيد هارفي أهمية خاصة. فوفق هارفي، لا يُقاس الحرمان بغياب الموارد نفسها، بل بوجود «حواجز هيكلية» تمنع الأفراد من الوصول إليها، حتى وإن كانت موجودة. هذه الحواجز قد تكون قوانين غير عادلة، أو سياسات اقتصادية منحازة، أو شبكات مصالح مغلقة تحتكر الموارد. وفي الحالة العربية، تتجسد هذه البنية في منظومة معقدة من الإقصاء: سوق عمل محدود ومتركز في قطاعات مشبعة أو محتكرة، أنظمة تعليمية لا توفر المهارات المطلوبة، فرص سياسية شبه مغلقة أمام المشاركة الحقيقية، إضافة إلى غياب شبكات حماية اجتماعية فعّالة. النتيجة: جيل محاصر، ليس لأنه يفتقر إلى الطموح أو الكفاءة، بل لأنه يواجه منظومة تمنعه من ترجمة قدراته إلى واقع.
هذه الفجوة بين الحلم والخيال من جهة، والضغوط الواقعية من جهة أخرى، تزداد قسوة، إذا أخذنا بعين الاعتبار مفهوم أمارتيا سن للتنمية كقدرة على الفعل والاختيار. الشباب العربي، وفق ما تكشفه بيانات التقرير، يفتقد اليوم إلى هذه القدرة، فهو ليس حراً في أن يختار نمط حياته أو مستقبله، بل مضطر للتكيف مع خيارات ضيقة يفرضها الواقع.
الأخطر أن عدداً متزايداً من الشباب بدأ يفقد إيمانه بالديمقراطية كطريق للحل، ويميل إلى تفضيل نموذج «الرجل القوي» الذي يعد بالاستقرار السريع، حتى لو جاء على حساب الحريات. لكن هذه المعادلة خطيرة، إذ إن غياب الحريات والعدالة الاجتماعية وفرص العمل هو نفسه ما يولد عدم الاستقرار، ويقود إلى انفجار الغضب الاجتماعي.
التقرير، الذي شمل أراء 12 ألف شاب عربي في 12 دولة ومجتمع عربي، يحذر من أن الجيل المحروم، إذا تُرك لمصيره، سيبحث عن مخارج خارج النظام القائم: الهجرة غير النظامية عبر «قوارب الموت»، الانخراط في جماعات متطرفة، أو الانسحاب إلى عوالم المخدرات والإدمان. هذه ليست فرضيات نظرية، بل اتجاهات أكدتها بيانات المسح، إذ تتقاطع حالة الإحباط مع الشعور بالاغتراب عن المجتمع، وفقدان الثقة بالمؤسسات.
صحيح أن الدول والمجتمعات العربية ليست متشابهة تماماً في حجم هذه الأزمة وحدّتها، لكن كل بلد تقريباً لديه قصته الخاصة لجيل يشعر أن حقوقه الأساسية قد صودرت، وأنه يعيش في بيئة تمنعه من تحقيق ذاته. الفروق في التفاصيل لا تلغي وجود خطر بنيوي مشترك، يتجاوز الحدود، ويهدد استقرار المنطقة على المدى البعيد.
إننا أمام واقع أخطر مما سبق الربيع العربي نفسه، ليس فقط بسبب تآكل الثقة أو تعمق الأزمات، بل لأننا نتعامل مع جيل كامل يشعر أنه محطم ومعلّق، وأن مستقبله قد صودر قبل أن يبدأ. وإذا لم يكن هذا الواقع كافياً لإيقاظ من بيده القرار، فإن ما ينتظرنا قد يكون أشد من كل ما وصفه التقرير..
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


رؤيا نيوز
منذ 4 ساعات
- رؤيا نيوز
شركات التقنية الكبرى على خطوط القتال
الخدمات السحابية التي تتصل بها هواتفنا وتعتمد عليها أجهزتنا الإلكترونية المختلفة، والتي تخزن البيانات والملفات الشخصية والمؤسسية، وتعالجها بالذكاء الاصطناعي وبغيره، وتتحكم بنا بقدر ما نتيجة لذلك، هي ذاتها الأدوات الأهم والأحدث في عالم التجسس والحروب، ليس فقط على المستوى التجاري، بل والمستوى الإستراتيجي والعسكري وصارت تلعب دوراً في العمليات التكتيكية من الملاحقة والاستهداف إلى اتخاذ القرار بالقتل. ما كشفته صحيفة «الغارديان» البريطانية وشركاء إعلاميون عن حدود العلاقة بين وحدة 8200 -الذراع الاستخبارية الأشهر في الجيش الإسرائيلي- وشركة مايكروسوفت قدّم جديدا في المدى الذي بلغه التعاون بين شركات المعلومات الكبرى والجيوش الباطشة، وعرض مثالاً للحدّ الذي تلعبه هذه التقنيات في المراقبة والتخزين السحابي غير المحدود ونماذج الذكاء الاصطناعي. كشف التقرير أن الجيش الإسرائيلي يخزّن ما يصل إلى «مليون مكالمة في الساعة» على خوادم مايكروسوفت ويعالجها ضمن مشروع ضخم، يحفظ أرشيفاً صوتياً لمكالمات الفلسطينيين، ويغذي آلة الاستهداف وقرارات القتل في غزة والضفة، وبالشراكة بين مايكروسوفت و»Open AI» لا يعود التخزين السحابي مجرد خدمة 'محايدة'، بل بنية تحتية قتالية قادرة من خلال الذكاء الاصطناعي على توجيه النيران وتحويل أنفاس الناس إلى مؤشرات للإعدام، وفي كل خطأ أو «هلوسة» في معالجة الصوت العربي وهو كثير، تتسع الهوة الأخلاقية، وتزداد ضبابية الحدود بين المدني والعسكري، لتضع شركات التقنية الكبرى في قلب أسئلة بقايا الضمير، وأطلال القانون. وإذا كان التحقيق قد خصّ مايكروسوفت في بحثه، فإن الشركاء الآخرين من – عمالقة الحوسبة السحابية جوجل وأمازون – لهم أيضاً مشروعهم المشهور «نيمبوس»، والذي يوفّر بنية سحابيّة متقدمة للحكومة والجيش في إسرائيل، وكان مثار احتجاجات داخلية وحقوقية واسعة، مما يطرح أسئلةً على البشرية: كيف يمكن أن نتعامل مع ظاهرة تسخير الشركات المدنية أدواتها لأهداف قتالية واستخبارية؟ لندرك أننا لسنا بإزاء «حوسبة سحابية» بقدر ما نحن أمام إعادة هندسة للفضاء المدني برمته، حيث تتضافر المنصات السحابية مع الذكاء الاصطناعي التوليدي، وتُنسج علاقات شراكة بين الجيوش، والتقنيات الفتّاكة، والثروات الهائلة ليصبح السؤال مركباً: كيف يمكن أن نضمن المدى الذي بلغته أو تسعى أن تبلغه هذه الإمكانات الهائلة في حياتنا ومماتنا؟ في كارثة غزّة هنالك مواقف مستترة اتخذت، وأعمال مورست في الخفاء، ظهر منها إلى العلن الكثير، وبقي الكثير بانتظار الكشف والإعلان، كبرت الأسئلة الصغيرة، وتحققت والهواجس ، ولعل من أبرز أمثلتها الانكشاف التقني والمعلوماتي : فالإمكانات التقنية باتت عنصراً استراتيجياً في علاقات الدول، في السلم كما في الحرب مثل: جمع البيانات وحفظها ومعالجتها، وتخزينها سحابيّا، ووضع ضوابط وحواجز للوصول إليها: وهذه جميعها تشكل أدوات سيادية جديدة، تتحكّم بها شركات ليست من الأرحام، ولا تُنتخب لكنها تُؤثر، وتفاوضها حكومات تعرف أن «الحياد» صار شيئاً من الرفاهية. لذلك يتحتم على الدول اليوم قبل الغد مراجعة القوانين التي تنظم هذه العملية، والتعامل مع أمن المعلومات كقضية أمن قومي وإلا فإنها سوف تجد أن هذه البيانات الخطيرة قد أضحت سلعة يتاجر بها.


الرأي
منذ 4 ساعات
- الرأي
التلهوني: 9 آلاف مستفيد من العقوبات البديلة
لجنة مختصة تنظر في طلبات 1300 شخص منحت التعديلات الأخيرة على قانون العقوبات في الأردن أملاً جديدًا لآلاف المحكومين وذويهم، ممن وجدوا في العقوبات البديلة وسيلة للخروج من دائرة السجن والعودة إلى المجتمع بكرامة. إيمان، والدة أحد النزلاء في مركز إصلاح وتأهيل، لم تكن تتوقع أن ترى ابنها خارج القضبان قبل انتهاء محكوميته، لكنها سارعت بتقديم التماس للجنة المختصة فور سماعها عن التعديلات الجديدة. وبعد دراسة القضية، وافق القاضي المختص على استبدال عقوبة السجن البالغة ثلاث سنوات بعقوبة بديلة، ما مثل بارقة أمل للعائلة. محمد أبو ناصر، والد أحد المحكومين، لم يتمالك مشاعره عندما علم أن ابنه سيؤدي خدمة مجتمعية بدلاً من قضاء عقوبته في السجن. ووصف القرار بأنه «عتق من مرارة السجن»، خصوصًا وأن المحكوم كان شابًا في العشرين من عمره وصدر بحقه حكم للمرة الأولى. وأكد وزير العدل الدكتور بسام التلهوني، لـ"الرأي» أن العقوبات البديلة أصبحت مسارًا فعليًا للتخفيف من الاكتظاظ في مراكز الإصلاح والتأهيل، وكشف أن عدد المستفيدين منها حتى الآن تجاوز 9014 محكومًا، فيما ينتظر نحو 1300 آخرين نتائج النظر في طلباتهم من قبل اللجنة المختصة. وأشار إلى أن الوزارة، منذ بدء تطبيق القانون المعدل في 6 حزيران الماضي، تعاملت مع أكثر من 10312 ملفًا، في ظل جهود كبيرة تبذلها الكوادر القضائية والإدارية. وقال إن القانون المعدل لعام 2025 فتح المجال أمام استبدال العقوبات السالبة للحرية بمجموعة من البدائل كالخدمة المجتمعية والإقامة الجبرية والمراقبة الإلكترونية وبرامج العلاج من الإدمان، إلى جانب المنع من ارتياد مناطق معينة. وأضاف أن تطبق هذه العقوبات على الجنح وبعض الجنايات التي لا تتجاوز عقوبتها ثلاث سنوات، بشرط عدم تكرار الجريمة وموافقة المحكوم وتوفر تقرير اجتماعي مفصل يقيّم حالته. وأشار إلى أن وزارة العدل تقود تحولًا رقميًا واسعًا في التعامل مع ملفات المحكومين والعقوبات البديلة، بهدف تحسين بيئة العدالة ومراعاة الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين. وتشرف مديرية العقوبات المجتمعية على تنفيذ الأحكام بالتعاون مع جهات معتمدة، وتتم متابعة مدى التزام المحكومين بها. وفي حال الإخلال بالشروط، يعاد المحكوم إلى المحكمة لتنفيذ العقوبة الأصلية. التعديلات الجديدة تهدف إلى تحقيق العدالة التصالحية وتخفيف العبء عن الدولة ماليًا واجتماعيًا، إضافة إلى حماية المحكومين من الاحتكاك المباشر بمرتكبي الجرائم الخطيرة داخل مراكز الإصلاح. وتؤكد الجهات المختصة أن هذه العقوبات ليست عشوائية، بل تخضع لشروط قانونية واضحة ومتابعة دقيقة لضمان تحقيق أهدافها الإصلاحية والمجتمعية.


رؤيا نيوز
منذ 4 ساعات
- رؤيا نيوز
التحديث السياسي؛ تقدم أم انكسار؟
تمرّ الأحزاب السياسية (الأردنية) اليوم بمنعطف حاسم؛ إمّا أن تقود نفسها إلى مرحلة جديدة من التجذير والتطوير وتوسيع الدور، أو أن تتراجع وتدخل في نفق الانتكاس، كما حدث مع موجات حزبية سابقة، بخاصة تلك التي عرفها المشهد الحزبي في منتصف التسعينيات، ثم في مراحل لاحقة. منذ انطلاق مسار التحديث السياسي قبل أربعة أعوام، برعاية وضمانات ملكية واضحة، لم تتوقف بعض الأصوات – من بين «الحكماء» أو المراقبين – عن نعي التجربة الحزبية، ونسج الأعذار والمبررات للتحلل من استحقاقاتها، وكأنّ المشروع منذ بدايته كان مغامرة غير محسوبة. هذه القراءة السريعة والمتحاملة، تتجاهل أن ما نعيشه اليوم على الأرض هو حراك حزبي واسع وإصرار من عدد معتبر من الأحزاب على المضي قدماً، لا بل الدخول في مراجعات جدية لمسارها، وتصحيح أخطائها، وإعادة ترتيب بيتها الداخلي. لإنصاف التجربة، لا بد من الاعتراف أن المرحلة الماضية كانت قصيرة واستثنائية، جاءت في ظل ظروف سياسية وإقليمية ضاغطة: من متطلبات تصويب الأوضاع القانونية للأحزاب، مروراً باندلاع الحرب على غزة وما تبعها من توترات إقليمية، وصولاً إلى استحقاق الانتخابات النيابية الذي وُضعت أمامه الأحزاب فجأة، من دون أن تمتلك بعد الأدوات والمهارات اللازمة للاشتباك السياسي العميق مع الشارع. في تلك البيئة، لم يكن منطقياً أن نتوقع أداءً مثالياً أو قدرة فورية على التأثير الشعبي. تلك المرحلة – بما لها وما عليها – من المفترض أن تُقرأ كمرحلة تأسيسية، تليها اليوم مرحلة ثانية عنوانها المأسسة وتصويب المسار، وبالفعل بدأت بعض الأحزاب القوية والفاعلة مراجعة أنظمتها الداخلية، وتطوير برامجها، وتنشيط فروعها، وتوسيع دائرة المشاركة الشبابية والنسوية. هذا التحول – رغم أنه ما يزال في بداياته – يحمل مؤشرات مشجعة على إمكانية بناء حياة حزبية أكثر رسوخاً في السنوات المقبلة. في هذا السياق تقوم الهيئة المستقلة للانتخاب بدور محوري، إذ لا تكتفي بالإشراف على الانتخابات وتطبيق القوانين والأنظمة على الأحازب السياسية، بل باتت شريكاً في مساعدة الأحزاب على تطوير قدراتها وتجاوز العقبات الإدارية والتنظيمية، بخاصة أن هذه الأحزاب أمام استحقاقات قادمة كبيرة ومهمة، لعلّ أهمها انتخابات الإدارة المحلية، ومن الجيّد (هنا) أن وزير الإدارة المحلية الحالي، وليد المصري، هو نفسه رئيس لجنة الإدارة المحلية في لجنة تحديث المنظومة السياسية، ومن المفترض أن يعكس نتائج ومخرجات تلك اللجنة على التعديلات المقترحة على القانون، بما يعزز مسار التحديث السياسي ويدفعه إلى الأمام، وما نأمله أن يكون هنالك دور رئيس للأحزاب السياسية في التعديلات على القانون. لا مندوحة من التذكير هنا أنّ التجارب الحزبية في العالم لا تظهر فجأة وتصبح قوية، فهي تمرّ بمراحل نمو وتطور وانتكاسة وتكيّف حتى تصل إلى ما وصلت إليه، وأغلب الأحزاب العريقة في العالم أخذت عشرات السنين من العمل والتجربة والممارسة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، فأن نطلب من أحزاب محدودة المدة الزمنية وبلا مرجعية سابقة ولا تجربة حزبية وسياسية لأغلب أعضائها، أن تصبح قوية بين ليلة وضحاها هذا غير ممكن من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى لكل تجربة شروطها وسياقاتها ولا توجد نظرية واحدة واضحة يمكن إسقاطها على تجربة أخرى لاستنساخها، وبالتالي لا غنى عن «التعلم عبر الممارسة»، لكن الشرط الرئيس أن يبقى هنالك قرار صلب في دعم هذا المسار وعدم التخلي عنه! الأمر يتطلب أيضاً دفعة سياسية ومعنوية وإعلامية واضحة من «مطبخ القرار»، بما يؤكد على أن مشروع التحديث السياسي ماضٍ إلى الأمام، وأن الحديث عن «إغلاق الطابق» أو طي الملف لا أساس له. تماماً كما جرى مع لجنة التحديث الاقتصادي التي عادت واجتمعت في الديوان لمراجعة لمراجعة التوصيات والتأكيد على التزام الدولة بها، فمن الضروري أن تكون هناك رسالة سياسية موازية تدعم وتعزز مسار التحديث السياسي وعموده الفقري: العمل الحزبي.