
من سربرنيتسا إلى غزة.. هل تغير شيء في ضمير العالم؟
واليوم، بينما يحيي العالم الذكرى الثلاثين لتلك المجزرة، وبينما لا يزال كثير من ذوي الضحايا ينقبون في التربة بحثاً عن رفات أحبائهم ليقيموا لهم قبراً، يُبث على الهواء مباشرة إبادة أخرى، أو بالأحرى نسخة موسعة من ذات الجريمة. حيث حصار خانق، وتجويع ممنهج، وقصف لا يتوقف، ومقابر جماعية تُفتح تحت أنقاض البيوت المهدمة. ما يقرب من 200 ألف فلسطيني بين قتيل وجريح، ومليونا إنسان مشرّد.
ما يربط سربرنيتسا بغزة ليس مجرد تشابه في المآلات، بل تطابق المنطق الذي مهّد للإبادة: شعبٌ يقاوم يطالب بحقه في الوجود، فيُواجه بآلة عسكرية مدعومة بصمت دولي وتواطؤ عسكري وسياسي فج، لتكون النتيجة واحدة—الإبادة الجماعية. تتبدل الجغرافيا، لكن الوحشية تبقى ثابتة، وتتطور أدواتها لتزداد فتكاً بأجساد المستضعفين. في الحالتين، تغيب العدالة، وتُمحى القيم، وتُمنح الجريمة متسعاً لتكتمل بلا مساءلة، تحت غطاء قانوني مشوه، وشرعية دولية متآكلة، في عالم إما يبرر الجريمة، أو—في أفضل الأحوال—يشيح بوجهه عنها.
"سربرنيتسا" ذاكرة إبادة تلاحق أوروبا
كانت جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية تضم تركيبة سكانية متنوعة – من صرب وكروات وبوسنيين مسلمين وألبان وسلوفينيين – تحت نظام شيوعي مرن نسبياً بقيادة جوزيب بروز تيتو.
لكن مع وفاته عام 1980، تصاعدت النزعات القومية والانفصالية، وبلغت ذروتها بصعود سلوبودان ميلوشيفيتش على رأس الحزب الشيوعي في جمهورية صربيا، الذي انتهج سياسة قومية تُنادي بهيمنة صربيا على بقايا يوغوسلافيا وتلتهم باقي الفيدرالية المجاورة (كوسوفو، وفويفودينا، والجبل الأسود، والبوسنة)، بما عُرف بـ"صربيا الكبرى". ما أشعل سلسلة الحروب اليوغوسلافية التي امتدت حتى عام 1999. وفي هذا السياق، حذّر الرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش في أغسطس/آب 1991 من أن "ميلوشيفيتش يريد البوسنة كلها".
هذا التوجه أثار مخاوف الجمهوريات الأخرى، فبادرت كل من سلوفينيا وكرواتيا، ثم البوسنة، إلى إعلان الاستقلال. في البوسنة، تم إجراء استفتاء في 29 فبراير/شباط 1992 بدعوة أوروبية، صوّت فيه مسلمو وكروات البوسنة، الذين شكّلوا أكثر من 60% من السكان، لصالح الاستقلال. في المقابل، قاطعت القيادة الصربية هذا الاستفتاء ومنعت إقامته في مناطق نفوذها، ما مهّد لبداية الحرب.
فبعد إعلان البوسنة والهرسك استقلالها رسمياً عن جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية في الأول من مارس/آذار 1992، وسرعان ما تبعه اعتراف دولي من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بدأت ميليشيات صرب البوسنة بالتحرك على الأرض.
وخلال تلك الأيام القليلة التي تلت الاستفتاء، نصبت الميليشيات حواجز على الطرقات – على غرار ما فعلته في حرب كرواتيا – وبنهاية الشهر، كانت قد سيطرت على مساحات واسعة من البلاد.
في السادس من أبريل/نيسان من العام نفسه، بدأ حصار سراييفو، وسقطت مدن عدة تحت سيطرة الصرب، لتبدأ معها سلسلة المجازر التي استهدفت مسلمي البوسنة بشكل ممنهج. ومع توسع سيطرة القوات الصربية لتشمل أكثر من نصف مساحة البلاد، اقترنت هذه السيطرة بمذابح وعمليات تطهير عرقي، خاصة في شرق البوسنة ومحيط مدينة سربرنيتسا.
تُظهر لقطات من الفيلم الوثائقي " ضباب سربرنيتسا" ملامح الحياة تحت الحصار بين عامي 1993 و1995: منازل مهدّمة، طرق خالية، ومدافع لا تتوقف عن القصف، تخترق بصوتها المدوّي سكون القرى المحاصرة.
في شهادته، يروي الجندي السابق "أحمد أوستيتشك" أن قرية هوجمت من قبل ثلاثة ألوية جاءت جميعها من مدن صربية، وتمكنت تلك الألوية من السيطرة على 250 كيلومتراً مربعاً، واضطر المقاومون من البوسنة إلى التراجع إلى التلال، حينها أصبحت سربرنيتسا ملاذاً للمسلمين الهاربين من المناطق التي وقعت تحت سيطرة الصرب، وارتفع عددهم إلى أربعين ألف نسمة.
مع تصاعد أعداد النازحين والضحايا داخل سربرنيتسا، تحوّلت إلى بقعة مكتظة بالمحاصَرين والأموات، ما دفع الأمم المتحدة إلى إصدار القرار رقم 819، الذي أعلن سربرنيتسا "منطقة آمنة منزوعة السلاح" تحت حماية قوات حفظ السلام الدولية. استجابت القوات البوسنية للقرار ونزعت سلاحها رغم الحصار الخانق، في خطوة وُصفت لاحقاً بأنها تفاحة مسمومة قدّمتها الأمم المتحدة للبوسنيين.
فعلى الأرض، لم يلتزم الصرب بأي من بنود القرار. واصلوا القصف اليومي واستهداف المدنيين، بينما كانت قوات الأمم المتحدة منتشرة داخل البلدة، ولم تُشكّل تلك الحماية الأممية حاجزاً حقيقياً أمام العدوان، بل ربما تحوّلت إلى غطاء على المجزرة، فقد أوكلت الأمم المتحدة مهمة حماية المدنيين العزّل إلى كتيبة هولندية صغيرة، عُرفت باسم "الخفافيش الهولندية". وقد وُجهت اتهامات مباشرة للكتيبة الهولندية بتسليم أكثر من 350 مسلماً بوسنياً إلى القوات الصربية.
وقد قضت المحكمة العليا في هولندا لاحقاً بعد عقود من المجزرة، في يوليو/تموز 2019، بمسؤولية هولندا الجزئية عن مقتل 350 رجلاً وفَتىً بوسنياً، معتبرة أن الجنود الهولنديين ساهموا في تسليمهم إلى الموت. على إثر ذلك، شكّلت الحكومة الهولندية لجنة خبراء لتحديد تعويضات مالية لأهالي الضحايا، في اعتراف متأخر لم يُغيّر شيئاً من فداحة الجريمة.
وجاء أبرز اعتراف رسمي بالتقاعس الدولي على لسان وزيرة الدفاع الهولندية كاجسا أولونغرن في عام 2022، حيث أقرت بأن المجتمع الدولي أخفق في حماية سكان سربرنيتسا، مؤكدة أن هولندا تتحمّل جزءاً من المسؤولية السياسية، نظراً لأن الكتيبة الهولندية التابعة لقوات حفظ السلام كانت المكلّفة بحماية المدنيين هناك.
فوفق الأهالي، كان أكثر من 25 ألف شخص قد لجأوا إلى قاعدة الأمم المتحدة التي تمركزت في مصنع للبطاريات في بوتوتشاري، وبعد أن وافقت الأمم المتحدة وقوات حفظ السلام على ضرورة نقل اللاجئين، طالبت هولندا بفصل الرجال عن النساء والأطفال، ما سهّل عملية قتلهم بدم بارد.
يروي محمد هوزديكهودجيتش، الذي فقد 76 فرداً من أقاربه في مجزرة سربرنيتسا، تفاصيل مريرة عن اللحظات التي سبقت الإبادة. يقول إن الجنود الصرب، بعضهم كان يرتدي زيّ قوات الأمم المتحدة، أقاموا نقاط تفتيش أمام مجمّع بوتوتشاري، حيث كان آلاف النازحين البوسنيين قد لجأوا ظناً أن المكان يخضع لحماية دولية. "كانوا يفرزون الناس كأننا في مراكز فرز نازية، يحدّدون من يُبقى ومن يُؤخذ". وقد تمكّن محمد من الهرب بصحبة أخيه من مجمّع بوتوتشاري، ومن الغد ارتُكبت المجزرة ولم يسلم أحد من الذكور، حتى ذوي الإعاقة منهم.
ففي 11 يوليو/تموز 1995، اجتاحت قوات صرب البوسنة سربرنيتسا، و باشرت بفصل الرجال والصبية عن النساء والأطفال، تمهيداً لتنفيذ واحدة من أفظع المجازر الجماعية في التاريخ الحديث. خلال أيام، تحوّلت البلدة التي أعلنتها الأمم المتحدة "منطقة آمنة" إلى مسرح لعملية إبادة واسعة النطاق، راح ضحيتها أكثر من 8,000 بوسني.
وبحلول عام 2006، تم اكتشاف 42 مقبرة جماعية في محيط المدينة، بينما تشير تقديرات أخرى إلى وجود 22 مقبرة إضافية تضم رفات نحو 2,070 جثة. ولا يزال أكثر من 7,000 ضحية مجهولي الهوية.
وتحكي الصحافية البوسنية، عذرا عمربزيتش، أنّ البوشناق البوسنيين كانوا مذنبين في عيون صرب البوسنة لأنهم كانوا مسلمين فقط. "فمنذ تلك الإبادة، عُرفت سربرنيتسا بأنها المدينة الأكثر حزناً في البوسنة. بدأ كل شيء في 11 يوليو/تموز عندما دخل راتكو ملاديتش، المعروف باسم الجزار الصربي، إلى مدينة سربرنيتسا، التي أعلنتها الأمم المتحدة منطقة آمنة، مع جنوده المسلحين قائلاً: لقد حان الوقت أخيراً للانتقام من الأتراك في هذه المنطقة".
وتضيف عذرا أن آلاف النساء تعرّضن للاغتصاب، بينما فُصل الأطفال عن أمهاتهم، وأُجبر الرجال الأسرى على التعرّض للإهانات الجسدية والنفسية. "أجبِروا على ترديد أناشيد قومية صربية، وارتكاب فظائع ضد بعضهم البعض، بما في ذلك الحفر بأيديهم لمقابر جماعية دفنوا فيها أحبّاءهم"، كما قالت، مشيرة إلى أن الإذلال كان جزءاً لا يتجزأ من آلية القتل الجماعي.
خلّفت الحرب التي استمرت من عام 1992 إلى عام 1995 في البوسنة حوالي 100 ألف قتيل، وتسببت في طرد أكثر من مليوني شخص من منازلهم.
ووفقاً لوكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، كان ما يزال هناك 98,324 نازحاً داخلياً نهاية عام 2015، منهم 7,000 شخص في ملاجئ مؤقتة أو جماعية.
تقول برانكا أنتيكستاوبر، مديرة منظمة Women's Power، وهي منظمة تقدم الدعم النفسي للاجئين البوسنيين: "لم توضع أبداً استراتيجية واضحة لعودة اللاجئين البوسنيين إلى قراهم التي دمّرتها الحرب".
من صمت سربرنيتسا إلى تواطؤ غزة: عندما تنسى الإبادة تتكرّر
بعد أكثر من ربع قرن على مجزرة سربرنيتسا، وبينما تُرتكب إبادة جديدة في غزة على مرأى ومسمع من العالم، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيار/مايو 2024 قرارًا، باعتبار يوم 11 تموز/يوليو يومًا دوليًا للتفكر في الإبادة الجماعية التي وقعت في سربرنيتسا عام 1995.
لكن أي جدوى لهذا التفكّر إذا كانت الإبادة تتكرّر بذات الآليات، وذات الصمت، وذات العجز؟
فالعالم الذي أدان مذبحة الأمس، هو نفسه من يغضّ الطرف اليوم عن مذبحة أوسع، ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين في غزة، تحت حماية سياسية وعسكرية واضحة من القوى الكبرى.
الإبادة تتكرّر.. حين تصبح العدالة صورية
يُذكر أن القائد الصربي راتكو ملاديتش ، المسؤول الأول عن مذبحة البوسنة، الذي حمل لقب "جزار البلقان"، عاش طليقاً 16 عاماً رغم اتهامه رسمياً من المحكمة الدولية بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية. حيث تنقّل بحرّية بين صربيا وروسيا، قبل أن يُلقى القبض عليه عام 2011، وقد استمرت محاكمته أكثر من 530 يوماً، وأدين في 2017 بعشر تهم، أبرزها الإبادة، وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة.
أما رادوفان كراديتش، القائد الصربي الآخر والذي كان وراء مشروع التطهير العرقي، فظلّ متوارياً 13 عاماً قبل أن يُعتقل ويُحاكم على مدار خمس سنوات، وانتهى الأمر في 2016 بحكم بالسجن لمدة 40 عاماً.
لكن رغم الأحكام، لا تزال جراح البوسنيين مفتوحة: مفقودون بلا أثر، أطفال وُلدوا من اغتصاب جماعي، ونساء رحلن من الدنيا دون أن ينلن حق العدالة.
واليوم، وفي ظل مشهد أكثر فجاجة، تستمر إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، مدعومة علناً من الولايات المتحدة، ومتجاهلة النداءات الأممية وأوامر المؤسسات الدولية بوقف الحرب. فخلّفت إلى الآن أكثر من 194 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم من الأطفال والنساء، وأكثر من 10 آلاف مفقود، ومئات الآلاف من النازحين، في جريمة تُنفّذ بغطاء دبلوماسي، وصمت عالمي.
فبرغم صدور مذكرتَي اعتقال دوليتين من المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، لا يزال الاثنان طليقَين. نتنياهو، الذي لا يتوقف عن التهديد بالمزيد من القتل، يُستقبل رسمياً في واشنطن، ويعتلي منبر الكونغرس الأميركي، بينما تتدفّق شحنات السلاح الأميركي بلا انقطاع نحو آلة الحرب الإسرائيلية.
وفي الوقت ذاته، يفرض هو وجيشه حصاراً خانقاً على مليوني إنسان في غزة، يمنع عنهم الطعام والماء والدواء، في سياسة تجويع جماعي تُنفّذ على مرأى من العالم، وتُشرّعها صفقات السلاح والدعم السياسي.
ليس ذلك فحسب، بل تتصدّر الدول الغربية مشهد قمع الأصوات المعارضة للإبادة، وحجب من يطالبون بوقفها. ففي خطوة أكثر فجاجة، أدرجت وزارة الخارجية الأميركية فرنشيسكا ألبانيز، المقررة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، على قائمة العقوبات، لا لشيء سوى لأنها دعت إلى محاسبة الولايات المتحدة وإسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية على جرائم تُرتكب جهاراً في غزة.
المجتمع الدولي، مرة أخرى، يقف عاجزاً؛ فمجلس الأمن شلّته الفيتوهات، والأمم المتحدة لا تملك أكثر من التصريحات والتحذيرات، بينما وفّرت دول كبرى الغطاء الدبلوماسي والسياسي للاحتلال لارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية دون خوف من الحساب.
ولو أُقيم ميزان العدالة الدولية فعلاً في سربرنيتسا، لما تجرأ نتنياهو على ارتكاب فظائع غزة اليوم. لكن حين يُؤمَن الجناة من العقاب، يُسرفون في القتل، ويُسيئون الأدب مع الإنسانية.
إذ يقول الأكاديمي مدحت تشاوسيفيتش، أستاذ بجامعة طوزلا في البوسنة: إن سربرنيتسا شهدت إبادة جماعية قبل 30 عاماً، وإنها حدثت أمام أعين الأمم المتحدة.
ويُوضح أن سربرنيتسا لا تزال مكاناً يعاني من الألم، مؤكداً أن النساء اللواتي قُتل أطفالهن وأزواجهن سيرحلن عن هذا العالم دون أن يحصلن على حقوقهن.
ويتابع: "بعد سربرنيتسا، نشهد اليوم إبادة جماعية في مكان آخر من العالم، في غزة، إذ يُقتل الناس في غزة لمجرد اختلاف أسمائهم وديانتهم، تماماً كما حدث للبوشناق. وهذا أيضاً وصمة عار ستقض مضجع الحضارة الإنسانية".
وتقول الصحفية البوسنية عذرا عمربزيتش: "الاحتلال الإسرائيلي يرتكب مجزرة جديدة بمباركة أغلب الدول الغربية، هذه المرة بإصرار على أن تكون أشدّ وأعمق، لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم إلى الأبد".
التشابه بين سربرنيتسا وغزة لم يعد مجرد تقاطع تاريخي، بل يكاد يكون تطابقاً كاملاً في البنية والمآلات. كلاهما وصمة عار في جبين العالم، ولعل تحذير الرئيس الراحل علي عزت بيغوفيتش لا يزال يصدح بالمعنى: "لا تنسوا الإبادات الجماعية.. فإنها تتكرّر عند نسيانها".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


بوست عربي
منذ 18 ساعات
- بوست عربي
من سربرنيتسا إلى غزة.. هل تغير شيء في ضمير العالم؟
أحياناً يبدو التاريخ وكأنه شاعر مجنون، يعيد كتابة مآسيه، لا ليحسّن المعنى، بل ليكرر ويعظم الألم. قبل ثلاثين عاماً، في يوليو/تموز 1995، ارتُكبت في مدينة "سربرنيتسا" واحدة من أبشع جرائم الإبادة في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية. أُبيد أكثر من 8,000 مسلم بوسني بدم بارد، في جريمة تطهير عرقي، وقعت في قلب القارة التي نصّبت نفسها حاميةً للتحضر، ومدافعة عن القيم الإنسانية، لكنها اختارت الصمت—و التواطؤ المقنع—حين دُفن الضحايا جماعياً تحت أعين قوات حفظ السلام الدولية. واليوم، بينما يحيي العالم الذكرى الثلاثين لتلك المجزرة، وبينما لا يزال كثير من ذوي الضحايا ينقبون في التربة بحثاً عن رفات أحبائهم ليقيموا لهم قبراً، يُبث على الهواء مباشرة إبادة أخرى، أو بالأحرى نسخة موسعة من ذات الجريمة. حيث حصار خانق، وتجويع ممنهج، وقصف لا يتوقف، ومقابر جماعية تُفتح تحت أنقاض البيوت المهدمة. ما يقرب من 200 ألف فلسطيني بين قتيل وجريح، ومليونا إنسان مشرّد. ما يربط سربرنيتسا بغزة ليس مجرد تشابه في المآلات، بل تطابق المنطق الذي مهّد للإبادة: شعبٌ يقاوم يطالب بحقه في الوجود، فيُواجه بآلة عسكرية مدعومة بصمت دولي وتواطؤ عسكري وسياسي فج، لتكون النتيجة واحدة—الإبادة الجماعية. تتبدل الجغرافيا، لكن الوحشية تبقى ثابتة، وتتطور أدواتها لتزداد فتكاً بأجساد المستضعفين. في الحالتين، تغيب العدالة، وتُمحى القيم، وتُمنح الجريمة متسعاً لتكتمل بلا مساءلة، تحت غطاء قانوني مشوه، وشرعية دولية متآكلة، في عالم إما يبرر الجريمة، أو—في أفضل الأحوال—يشيح بوجهه عنها. "سربرنيتسا" ذاكرة إبادة تلاحق أوروبا كانت جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية تضم تركيبة سكانية متنوعة – من صرب وكروات وبوسنيين مسلمين وألبان وسلوفينيين – تحت نظام شيوعي مرن نسبياً بقيادة جوزيب بروز تيتو. لكن مع وفاته عام 1980، تصاعدت النزعات القومية والانفصالية، وبلغت ذروتها بصعود سلوبودان ميلوشيفيتش على رأس الحزب الشيوعي في جمهورية صربيا، الذي انتهج سياسة قومية تُنادي بهيمنة صربيا على بقايا يوغوسلافيا وتلتهم باقي الفيدرالية المجاورة (كوسوفو، وفويفودينا، والجبل الأسود، والبوسنة)، بما عُرف بـ"صربيا الكبرى". ما أشعل سلسلة الحروب اليوغوسلافية التي امتدت حتى عام 1999. وفي هذا السياق، حذّر الرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش في أغسطس/آب 1991 من أن "ميلوشيفيتش يريد البوسنة كلها". هذا التوجه أثار مخاوف الجمهوريات الأخرى، فبادرت كل من سلوفينيا وكرواتيا، ثم البوسنة، إلى إعلان الاستقلال. في البوسنة، تم إجراء استفتاء في 29 فبراير/شباط 1992 بدعوة أوروبية، صوّت فيه مسلمو وكروات البوسنة، الذين شكّلوا أكثر من 60% من السكان، لصالح الاستقلال. في المقابل، قاطعت القيادة الصربية هذا الاستفتاء ومنعت إقامته في مناطق نفوذها، ما مهّد لبداية الحرب. فبعد إعلان البوسنة والهرسك استقلالها رسمياً عن جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية في الأول من مارس/آذار 1992، وسرعان ما تبعه اعتراف دولي من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بدأت ميليشيات صرب البوسنة بالتحرك على الأرض. وخلال تلك الأيام القليلة التي تلت الاستفتاء، نصبت الميليشيات حواجز على الطرقات – على غرار ما فعلته في حرب كرواتيا – وبنهاية الشهر، كانت قد سيطرت على مساحات واسعة من البلاد. في السادس من أبريل/نيسان من العام نفسه، بدأ حصار سراييفو، وسقطت مدن عدة تحت سيطرة الصرب، لتبدأ معها سلسلة المجازر التي استهدفت مسلمي البوسنة بشكل ممنهج. ومع توسع سيطرة القوات الصربية لتشمل أكثر من نصف مساحة البلاد، اقترنت هذه السيطرة بمذابح وعمليات تطهير عرقي، خاصة في شرق البوسنة ومحيط مدينة سربرنيتسا. تُظهر لقطات من الفيلم الوثائقي " ضباب سربرنيتسا" ملامح الحياة تحت الحصار بين عامي 1993 و1995: منازل مهدّمة، طرق خالية، ومدافع لا تتوقف عن القصف، تخترق بصوتها المدوّي سكون القرى المحاصرة. في شهادته، يروي الجندي السابق "أحمد أوستيتشك" أن قرية هوجمت من قبل ثلاثة ألوية جاءت جميعها من مدن صربية، وتمكنت تلك الألوية من السيطرة على 250 كيلومتراً مربعاً، واضطر المقاومون من البوسنة إلى التراجع إلى التلال، حينها أصبحت سربرنيتسا ملاذاً للمسلمين الهاربين من المناطق التي وقعت تحت سيطرة الصرب، وارتفع عددهم إلى أربعين ألف نسمة. مع تصاعد أعداد النازحين والضحايا داخل سربرنيتسا، تحوّلت إلى بقعة مكتظة بالمحاصَرين والأموات، ما دفع الأمم المتحدة إلى إصدار القرار رقم 819، الذي أعلن سربرنيتسا "منطقة آمنة منزوعة السلاح" تحت حماية قوات حفظ السلام الدولية. استجابت القوات البوسنية للقرار ونزعت سلاحها رغم الحصار الخانق، في خطوة وُصفت لاحقاً بأنها تفاحة مسمومة قدّمتها الأمم المتحدة للبوسنيين. فعلى الأرض، لم يلتزم الصرب بأي من بنود القرار. واصلوا القصف اليومي واستهداف المدنيين، بينما كانت قوات الأمم المتحدة منتشرة داخل البلدة، ولم تُشكّل تلك الحماية الأممية حاجزاً حقيقياً أمام العدوان، بل ربما تحوّلت إلى غطاء على المجزرة، فقد أوكلت الأمم المتحدة مهمة حماية المدنيين العزّل إلى كتيبة هولندية صغيرة، عُرفت باسم "الخفافيش الهولندية". وقد وُجهت اتهامات مباشرة للكتيبة الهولندية بتسليم أكثر من 350 مسلماً بوسنياً إلى القوات الصربية. وقد قضت المحكمة العليا في هولندا لاحقاً بعد عقود من المجزرة، في يوليو/تموز 2019، بمسؤولية هولندا الجزئية عن مقتل 350 رجلاً وفَتىً بوسنياً، معتبرة أن الجنود الهولنديين ساهموا في تسليمهم إلى الموت. على إثر ذلك، شكّلت الحكومة الهولندية لجنة خبراء لتحديد تعويضات مالية لأهالي الضحايا، في اعتراف متأخر لم يُغيّر شيئاً من فداحة الجريمة. وجاء أبرز اعتراف رسمي بالتقاعس الدولي على لسان وزيرة الدفاع الهولندية كاجسا أولونغرن في عام 2022، حيث أقرت بأن المجتمع الدولي أخفق في حماية سكان سربرنيتسا، مؤكدة أن هولندا تتحمّل جزءاً من المسؤولية السياسية، نظراً لأن الكتيبة الهولندية التابعة لقوات حفظ السلام كانت المكلّفة بحماية المدنيين هناك. فوفق الأهالي، كان أكثر من 25 ألف شخص قد لجأوا إلى قاعدة الأمم المتحدة التي تمركزت في مصنع للبطاريات في بوتوتشاري، وبعد أن وافقت الأمم المتحدة وقوات حفظ السلام على ضرورة نقل اللاجئين، طالبت هولندا بفصل الرجال عن النساء والأطفال، ما سهّل عملية قتلهم بدم بارد. يروي محمد هوزديكهودجيتش، الذي فقد 76 فرداً من أقاربه في مجزرة سربرنيتسا، تفاصيل مريرة عن اللحظات التي سبقت الإبادة. يقول إن الجنود الصرب، بعضهم كان يرتدي زيّ قوات الأمم المتحدة، أقاموا نقاط تفتيش أمام مجمّع بوتوتشاري، حيث كان آلاف النازحين البوسنيين قد لجأوا ظناً أن المكان يخضع لحماية دولية. "كانوا يفرزون الناس كأننا في مراكز فرز نازية، يحدّدون من يُبقى ومن يُؤخذ". وقد تمكّن محمد من الهرب بصحبة أخيه من مجمّع بوتوتشاري، ومن الغد ارتُكبت المجزرة ولم يسلم أحد من الذكور، حتى ذوي الإعاقة منهم. ففي 11 يوليو/تموز 1995، اجتاحت قوات صرب البوسنة سربرنيتسا، و باشرت بفصل الرجال والصبية عن النساء والأطفال، تمهيداً لتنفيذ واحدة من أفظع المجازر الجماعية في التاريخ الحديث. خلال أيام، تحوّلت البلدة التي أعلنتها الأمم المتحدة "منطقة آمنة" إلى مسرح لعملية إبادة واسعة النطاق، راح ضحيتها أكثر من 8,000 بوسني. وبحلول عام 2006، تم اكتشاف 42 مقبرة جماعية في محيط المدينة، بينما تشير تقديرات أخرى إلى وجود 22 مقبرة إضافية تضم رفات نحو 2,070 جثة. ولا يزال أكثر من 7,000 ضحية مجهولي الهوية. وتحكي الصحافية البوسنية، عذرا عمربزيتش، أنّ البوشناق البوسنيين كانوا مذنبين في عيون صرب البوسنة لأنهم كانوا مسلمين فقط. "فمنذ تلك الإبادة، عُرفت سربرنيتسا بأنها المدينة الأكثر حزناً في البوسنة. بدأ كل شيء في 11 يوليو/تموز عندما دخل راتكو ملاديتش، المعروف باسم الجزار الصربي، إلى مدينة سربرنيتسا، التي أعلنتها الأمم المتحدة منطقة آمنة، مع جنوده المسلحين قائلاً: لقد حان الوقت أخيراً للانتقام من الأتراك في هذه المنطقة". وتضيف عذرا أن آلاف النساء تعرّضن للاغتصاب، بينما فُصل الأطفال عن أمهاتهم، وأُجبر الرجال الأسرى على التعرّض للإهانات الجسدية والنفسية. "أجبِروا على ترديد أناشيد قومية صربية، وارتكاب فظائع ضد بعضهم البعض، بما في ذلك الحفر بأيديهم لمقابر جماعية دفنوا فيها أحبّاءهم"، كما قالت، مشيرة إلى أن الإذلال كان جزءاً لا يتجزأ من آلية القتل الجماعي. خلّفت الحرب التي استمرت من عام 1992 إلى عام 1995 في البوسنة حوالي 100 ألف قتيل، وتسببت في طرد أكثر من مليوني شخص من منازلهم. ووفقاً لوكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، كان ما يزال هناك 98,324 نازحاً داخلياً نهاية عام 2015، منهم 7,000 شخص في ملاجئ مؤقتة أو جماعية. تقول برانكا أنتيكستاوبر، مديرة منظمة Women's Power، وهي منظمة تقدم الدعم النفسي للاجئين البوسنيين: "لم توضع أبداً استراتيجية واضحة لعودة اللاجئين البوسنيين إلى قراهم التي دمّرتها الحرب". من صمت سربرنيتسا إلى تواطؤ غزة: عندما تنسى الإبادة تتكرّر بعد أكثر من ربع قرن على مجزرة سربرنيتسا، وبينما تُرتكب إبادة جديدة في غزة على مرأى ومسمع من العالم، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيار/مايو 2024 قرارًا، باعتبار يوم 11 تموز/يوليو يومًا دوليًا للتفكر في الإبادة الجماعية التي وقعت في سربرنيتسا عام 1995. لكن أي جدوى لهذا التفكّر إذا كانت الإبادة تتكرّر بذات الآليات، وذات الصمت، وذات العجز؟ فالعالم الذي أدان مذبحة الأمس، هو نفسه من يغضّ الطرف اليوم عن مذبحة أوسع، ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين في غزة، تحت حماية سياسية وعسكرية واضحة من القوى الكبرى. الإبادة تتكرّر.. حين تصبح العدالة صورية يُذكر أن القائد الصربي راتكو ملاديتش ، المسؤول الأول عن مذبحة البوسنة، الذي حمل لقب "جزار البلقان"، عاش طليقاً 16 عاماً رغم اتهامه رسمياً من المحكمة الدولية بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية. حيث تنقّل بحرّية بين صربيا وروسيا، قبل أن يُلقى القبض عليه عام 2011، وقد استمرت محاكمته أكثر من 530 يوماً، وأدين في 2017 بعشر تهم، أبرزها الإبادة، وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. أما رادوفان كراديتش، القائد الصربي الآخر والذي كان وراء مشروع التطهير العرقي، فظلّ متوارياً 13 عاماً قبل أن يُعتقل ويُحاكم على مدار خمس سنوات، وانتهى الأمر في 2016 بحكم بالسجن لمدة 40 عاماً. لكن رغم الأحكام، لا تزال جراح البوسنيين مفتوحة: مفقودون بلا أثر، أطفال وُلدوا من اغتصاب جماعي، ونساء رحلن من الدنيا دون أن ينلن حق العدالة. واليوم، وفي ظل مشهد أكثر فجاجة، تستمر إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، مدعومة علناً من الولايات المتحدة، ومتجاهلة النداءات الأممية وأوامر المؤسسات الدولية بوقف الحرب. فخلّفت إلى الآن أكثر من 194 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم من الأطفال والنساء، وأكثر من 10 آلاف مفقود، ومئات الآلاف من النازحين، في جريمة تُنفّذ بغطاء دبلوماسي، وصمت عالمي. فبرغم صدور مذكرتَي اعتقال دوليتين من المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، لا يزال الاثنان طليقَين. نتنياهو، الذي لا يتوقف عن التهديد بالمزيد من القتل، يُستقبل رسمياً في واشنطن، ويعتلي منبر الكونغرس الأميركي، بينما تتدفّق شحنات السلاح الأميركي بلا انقطاع نحو آلة الحرب الإسرائيلية. وفي الوقت ذاته، يفرض هو وجيشه حصاراً خانقاً على مليوني إنسان في غزة، يمنع عنهم الطعام والماء والدواء، في سياسة تجويع جماعي تُنفّذ على مرأى من العالم، وتُشرّعها صفقات السلاح والدعم السياسي. ليس ذلك فحسب، بل تتصدّر الدول الغربية مشهد قمع الأصوات المعارضة للإبادة، وحجب من يطالبون بوقفها. ففي خطوة أكثر فجاجة، أدرجت وزارة الخارجية الأميركية فرنشيسكا ألبانيز، المقررة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، على قائمة العقوبات، لا لشيء سوى لأنها دعت إلى محاسبة الولايات المتحدة وإسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية على جرائم تُرتكب جهاراً في غزة. المجتمع الدولي، مرة أخرى، يقف عاجزاً؛ فمجلس الأمن شلّته الفيتوهات، والأمم المتحدة لا تملك أكثر من التصريحات والتحذيرات، بينما وفّرت دول كبرى الغطاء الدبلوماسي والسياسي للاحتلال لارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية دون خوف من الحساب. ولو أُقيم ميزان العدالة الدولية فعلاً في سربرنيتسا، لما تجرأ نتنياهو على ارتكاب فظائع غزة اليوم. لكن حين يُؤمَن الجناة من العقاب، يُسرفون في القتل، ويُسيئون الأدب مع الإنسانية. إذ يقول الأكاديمي مدحت تشاوسيفيتش، أستاذ بجامعة طوزلا في البوسنة: إن سربرنيتسا شهدت إبادة جماعية قبل 30 عاماً، وإنها حدثت أمام أعين الأمم المتحدة. ويُوضح أن سربرنيتسا لا تزال مكاناً يعاني من الألم، مؤكداً أن النساء اللواتي قُتل أطفالهن وأزواجهن سيرحلن عن هذا العالم دون أن يحصلن على حقوقهن. ويتابع: "بعد سربرنيتسا، نشهد اليوم إبادة جماعية في مكان آخر من العالم، في غزة، إذ يُقتل الناس في غزة لمجرد اختلاف أسمائهم وديانتهم، تماماً كما حدث للبوشناق. وهذا أيضاً وصمة عار ستقض مضجع الحضارة الإنسانية". وتقول الصحفية البوسنية عذرا عمربزيتش: "الاحتلال الإسرائيلي يرتكب مجزرة جديدة بمباركة أغلب الدول الغربية، هذه المرة بإصرار على أن تكون أشدّ وأعمق، لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم إلى الأبد". التشابه بين سربرنيتسا وغزة لم يعد مجرد تقاطع تاريخي، بل يكاد يكون تطابقاً كاملاً في البنية والمآلات. كلاهما وصمة عار في جبين العالم، ولعل تحذير الرئيس الراحل علي عزت بيغوفيتش لا يزال يصدح بالمعنى: "لا تنسوا الإبادات الجماعية.. فإنها تتكرّر عند نسيانها".


بوست عربي
منذ 6 أيام
- بوست عربي
ترامب يهدد بمعاقبة دول 'بريكس'.. لماذا تثير المجموعة الاقتصادية النامية القلق الأمريكي؟
هدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية إضافية بنسبة 10% على أي دولة تنضم إلى ما أسماها "السياسات المناهضة لأمريكا" التي تنتهجها مجموعة البريكس الاقتصادية ٬ والتي بدأ زعماؤها قمة في البرازيل يوم الأحد 7 يوليو/تموز 2025. وسبق أن شن ترامب هجوماً على دول بريكس في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وقال الرئيس الأمريكي حينها إن بعض الأعضاء الكتلة يتحركون لتقليص الدور المركزي للدولار الأميركي في التجارة الدولية. وقال ترامب إن أي دولة تحاول استبدال الدولار "ستقول وداعا للبيع في الاقتصاد الأمريكي الرائع"٬ على حد تعبيره. وبرز دور مجموعة بريكس في انتقاد النظام الدولي، وخاصة سياسات التهميش التي تتبعها المؤسسات الدولية الناشئة بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تجاه دول الجنوب العالمي (مصطلح مقصود به الدول النامية). ويرى أعضاء بريكس أن التعاون الاقتصادي فيما بينهم، ومع باقي دول الجنوب العالمي، يمكن أن يساهم في الحد من نفوذ الولايات المتحدة، وحلفائها الغربيين، الاقتصادي والمالي العالمي، الأمر الذي من شأنه أن يخلق ساحة تنافس اقتصادي أكثر تكافؤاً. كيف تلقي أزمة الرسوم الجمركية بظلالها على مجموعة البريكس؟ تلقي أزمة الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على عشرات الدول من الحلفاء والشركاء الاقتصاديين للولايات المتحدة٬ بظلالها على الانقسامات في المعسكر الغربي٬ فيما تحفز دول الجنوب العالمي للبحث عن بدائل. وحذرت مجموعة البريكس في بيان مشترك صدر بعد افتتاح قمتها في ريو دي جانيرو٬ من أن ارتفاع الرسوم الجمركية يهدد التجارة العالمية، مواصلة انتقاداتها لسياسات ترامب الجمركية . وبعد ساعات، لوح ترامب بأنه سيعاقب الدول التي تسعى للانضمام إلى المجموعة. وقال في منشور على موقع " تروث سوشيال": "أي دولة تنضم إلى سياسات مجموعة البريكس المعادية لأمريكا ستُفرض عليها رسوم جمركية إضافية بنسبة 10%. لن تكون هناك أي استثناءات لهذه السياسة. شكرًا لاهتمامكم بهذا الأمر!". ولم يوضح ترامب أو يتوسع في ماهية "السياسات المعادية لأميركا" في منشوره. وجاء التهديد بعد أن قال الرئيس الأمريكي إن صفقات التعريفات الجمركية التي طال انتظارها والرسائل التي تناقش تلك التحركات مع الدول الأخرى سيتم الإعلان عنها يوم الاثنين. وتسعى إدارة ترامب إلى الانتهاء من عشرات الصفقات التجارية مع مجموعة واسعة من البلدان قبل الموعد النهائي الذي حدده في 9 من يوليو/تموز لفرض "رسوم جمركية انتقامية" كبيرة. حتى الآن، لم يعلن ترامب عن صفقات إلا مع ثلاث دول: المملكة المتحدة ، والصين ، وفيتنام. تُجري بعض دول مجموعة البريكس مفاوضات مباشرة مع إدارة ترامب، وخاصةً الهند فيما يتعلق بالوصول لاتفاق حول الرسوم الجمركية. ومن غير الواضح ما إذا كان تهديد ترامب الجديد سيؤثر على تلك المحادثات. وفي كلمته الافتتاحية للقمة في وقت سابق، أجرى الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا مقارنة بين حركة عدم الانحياز خلال الحرب الباردة، وهي مجموعة من الدول النامية التي قاومت الانضمام إلى أي من جانبي النظام العالمي المستقطب. وقال لولا لقادة دول البريكس: "إن مجموعة البريكس هي وريثة حركة عدم الانحياز. ومع تعرض التعددية للهجوم، أصبحت استقلاليتنا تحت السيطرة مرة أخرى". وأشار لولا دا سيلفا في تصريحات أدلى بها يوم السبت أمام قادة الأعمال إلى أن دول مجموعة البريكس تمثل الآن أكثر من نصف سكان العالم و40% من الناتج الاقتصادي العالمي، محذراً من تزايد الحمائية. وقد أضاف توسع الكتلة ثقلاً دبلوماسياً للتجمع، الذي يطمح إلى التحدث باسم الدول النامية في جميع أنحاء الجنوب العالمي، مما عزز الدعوات لإصلاح المؤسسات العالمية مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي. وقال لولا في تصريحاته التي سلطت الضوء على فشل الحروب التي تقودها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط: "إذا كانت الحوكمة الدولية لا تعكس الواقع المتعدد الأقطاب الجديد في القرن الحادي والعشرين، فإن الأمر متروك لمجموعة البريكس للمساعدة في تحديثها". في السياق٬ قرر الرئيس الصيني شي جين هذا العام٬ ولأول مرة، إرسال رئيس وزرائه بدلاً منه٬ فيما يحضر الرئيس الروسي فلاديمير بوتن القمة عبر الإنترنت بسبب مذكرة توقيف صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحقه على خلفية حربه في أوكرانيا. وردّت وزارة الخارجية الصينية على تصريحات ترامب٬ مؤكدةً معارضتها لاستخدام الرسوم الجمركية كأداة لإكراه الآخرين والضغط عليهم. وصرح المتحدث باسم الوزارة، ماو نينغ، للصحفيين، بأن استخدام الرسوم الجمركية لا يخدم أحدًا، وفقًا لرويترز. فيما نُقل عن المتحدث باسم وزارة التجارة في جنوب أفريقيا، كاميل علي، قوله لرويترز: "ما زلنا ننتظر اتصالاً رسمياً من الولايات المتحدة بشأن اتفاقيتنا التجارية، لكن محادثاتنا تبقى بناءة ومثمرة. وكما أكدنا سابقاً، لسنا مناهضين لأمريكا". كما نفى المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، اليوم الاثنين، أن تكون مجموعة البريكس تعمل على تقويض الدول الأخرى. وقال بيسكوف: "لقد رأينا بالفعل تصريحات مماثلة للرئيس ترامب، ولكن من المهم جدًا الإشارة هنا إلى أن تفرد مجموعة مثل البريكس يكمن في كونها مجموعة دول تتشارك في مناهج مشتركة ورؤية عالمية مشتركة حول كيفية التعاون بناءً على مصالحها الخاصة٬ ولم يكن هذا التعاون داخل البريكس، ولن يكون، موجهًا ضد أي دولة ثالثة"٬ بحسب تعبيره. لماذا يثير توسع "بريكس" غضب ترامب؟ منذ تأسيسها عام 2009 كان يُنظر إلى مجموعة البريكس (BRICS) على نطاق واسع على أنها تُشكل تحديًا لديناميكية القوة العالمية أحادية القطب، التي تُعتبر فيها الولايات المتحدة القوة العظمى الرائدة. في المقابل، سعى أعضاء البريكس إلى بناء قوة متعددة الأقطاب، تقود فيها دول مختلفة جهود التعاون العالمي٬ كما تقول مجلة " Time" الأمريكية. لكن بعض الخبراء يزعمون أن موقع الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى البارزة قد انتهى وأن التحول إلى قوة متعددة الأقطاب بدأ بالفعل. وتقول مجموعة البريكس إنها مسؤولة عن 24% من التبادلات التجارية العالمية وتمثل نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وعلى مدار السنوات الماضية٬ عززت دول مجموعة البريكس جهودها بشأن الكيفية التي تريد من خلالها تشكيل القوة والتجارة العالمية في المستقبل. ومن المتوقع بحلول عام 2050 أن تنافس اقتصادات هذه الدول، اقتصاد أغنى الدول في العالم حالياً، حسب مجموعة غولدمان ساكس البنكية العالمية، كما تسعى هذه الدول لتشكيل حلف أو نادٍ سياسي فيما بينها مستقبلاً. وهناك عدد من المكونات التركيبات المالية والاقتصادية في البنية المالية لبريكس، أهمها بنك التنمية الجديد (NDB) ومقره شنغهاي، ليكون إطاراً للدول الأعضاء لتوفير الحماية ضد ضغوط السيولة العالمية. وفي الوقت الذي تعاني فيه منتديات تقودها الاقتصادات الكبرى على رأسها أمريكا٬ مثل مجموعة السبع و مجموعة العشرين٬ من الانقسامات بين بين واشنطن دول أوروبية٬ بسبب نهج "أميركا أولاً" المثير للاضطراب الذي ينتهجه الرئيس الأميركي، تقدم مجموعة البريكس الاقتصادية -التي تقودها الصين وروسيا- نفسها باعتبارها ملاذا للدبلوماسية المتعددة الأقطاب في خضم الصراعات العنيفة والحروب التجارية حول العالم٬ وهي لا تزال تتوسع وتضم لاعبين جدد. ويثير توسع مجموعة البريكس القلق الأمريكي بسبب ضمها دولاً تمتلك أسرع نمو اقتصادي في العالم. ولا شك أن الحديث عن خلق كيان اقتصادي بديل وربما خلق عملة موحدة تهز عرش الدولار٬ يثير إشكالية كبيرة لدى الأمريكيين. طرح الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا فكرة عملة البريكس عام 2023، لكنها لم تكن محور اهتمام المجموعة، التي تسعى بدلاً من ذلك إلى تعزيز التجارة والتمويل بعملاتها المحلية. هدّد ترامب في وقت سابق من هذا العام بفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على الدول الأعضاء "التي تبدو معادية" إذا أيدت عملة مشتركة. ويقول موقع أسباب للشؤون الاستراتيجية إنه من غير المرجح أن تصل مجموعة بريكس إلى عملة مشتركة في المدى القريب، لأن ذلك يستلزم أن يكون الأعضاء متوافقين بشكل كامل على الصعيد الجيوسياسي، كما يتطلب تنفيذ الدول الأعضاء تعديلات هيكلية وإصلاحات مالية كبيرة وجوهرية، وتخطي عقبات أساسية تشمل تحقيق تقارب الاقتصاد الكلي، والاتفاق على آلية لسعر الصرف، وإنشاء نظام فعال للدفع والمقاصة المتعددة الأطراف، وإنشاء أسواق مالية مستقرة ومرنة. كل هذه متطلبات تبدو بعيدة المنال في العقد الجاري، خاصة أن بنك التنمية الجديد في شنغهاي، والذي يضم أعضاء بريكس الخمس، مع بنغلاديش ومصر والإمارات، لا يزال يصدر القروض في أغلب الأحيان بالدولار الأمريكي أو اليورو، الأمر الذي يقلل التوقعات حول جدية دعوة أعضاء بريكس إلى السعي للحد من هيمنة الدولار قريباً. دخول لاعبين جدد مثل السعودية سيغير من المعادلة جمعت مجموعة البريكس الأصلية قادة البرازيل وروسيا والهند والصين في قمتها الأولى عام 2009. ثم انضمت جنوب أفريقيا لاحقًا، وفي العام الماضي ضمت مصر وإثيوبيا وإندونيسيا وإيران والإمارات العربية المتحدة كأعضاء. وأرجأت المملكة العربية السعودية الانضمام رسمياً للمجموعة بعدما رحبت بها المجموعة العام الماضي، وفقًا لمصادر لرويترز، بينما أبدت 30 دولة أخرى اهتمامها بالمشاركة في البريكس، إما كأعضاء كاملين أو شركاء. وسيعني انضمام السعودية للمجموعة أن تحالف بريكس مجتمِعاً سيمتلك 43% من الإنتاج العالمي للنفط٬ بحسب تحليل لشركة Statisa. كما أن منظمة أوبك تسيطر على 38% من الخام العالمي؛ ولذلك فإن الآثار السياسية لـ"توسع بريكس" تبدو واضحة وجلية لدى الأمريكيين. وتعد السعودية أكبر مصدر للنفط، وتتجاوز صادراتها غير النفطية 70 مليار دولار، كما أن إيران والإمارات لديهما احتياطات نفطية هائلة ومن كبار المنتجين للنفط في العالم، ولديها آفاق كبيرة لزيادة الإنتاج. من جهة أخرى، تواجه مجموعة بريكس نفسها تحديات جوهرية، على الرغم من توسع عضويتها. فبينما يتيح هذا التوسع تعزيز موارد المجموعة الاقتصادية والسياسية، إلا أن تباين المصالح والأهداف بين أعضائها يظل عقبة رئيسية أمام تبني أجندة موحدة. وفي الوقت الذي تدفع فيه دول مثل روسيا والصين وإيران نحو استخدام بريكس كمنصة لمواجهة الهيمنة الغربية، تفضل دول أخرى مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا التركيز على قضايا دولية أقل تصادمية مثل تغير المناخ والتنمية المستدامة. هذا التباين في الأولويات يضعف قدرة المجموعة على تحقيق توافق سياسي ويثير تساؤلات حول إمكانيتها كمنافس جيوسياسي فعّال للتكتلات الغربية الكبرى، مثل مجموعة السبع. في هذا السياق، يشير موقع " أسباب" للدراسات الجيوسياسية٬ إن توسع عضوية مجموعة بريكس يزيد ظاهريا من قدراتها السياسية ومواردها الاقتصادية بما في ذلك حجم الاستثمارات والقدرات المالية، ويساهم في تعزيز ثقل المجموعة في مواجهة تكتلات كبيرة مثل مجموعة السبع، كما يعرقل جهود الغرب في حصار دول مثل روسيا وإيران اقتصاديا. ولكن في ذات الوقت يزيد توسيع المجموعة من هشاشتها لتباين أهداف ومصالح الدول الأعضاء٬ بحسب "أسباب". فالهند تتنافس مع الصين، وبينما لدى الصين وروسيا وإيران مشكلات عميقة مع الدول الغربية، فإن الهند والإمارات ومصر لديهم علاقات استراتيجية مع واشنطن والدول الأوروبية، كما تتصادم مصر مع إثيوبيا في ملفات سد النهضة والقرن الأفريقي. أي إن توسع المجموعة يضعف القدرة على التوافق، وهو ما دفع مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، جيك سوليفان، للقول إن بلاده لا تنظر إلى بريكس كمنافس جيوسياسي٬ لكن يبدو أن لدى الإدارة الأمريكية رأي آخر٬ بعد تهديدات ترامب الأخيرة لدول المجموعة.


بوست عربي
٣١-٠٥-٢٠٢٥
- بوست عربي
زيارة ترامب إلى الخليج: شراكات منفصلة لا تؤسس بالضرورة لمركز جيوسياسي دولي
لا تؤسس جولة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الأخيرة إلى الخليج، والتي شملت السعودية وقطر والإمارات، لحقبة "إعادة الاندماج الأمريكي في الشرق الأوسط"، بل على العكس، أكدت أن أمريكا لا تخطط للعودة إلى المنطقة بوصفها ضامناً، بل كمزاول أعمال يبحث عن صفقات سريعة، ويقيس قيمة الشراكة بعدد الوظائف لا بدرجة الولاء، دون الحديث عن ضمانات أو أحلاف جديدة. ووفق تقرير نشره موقع " أسباب" للدراسات الجيوسياسية، فقد أشارت الزيارة إلى رؤية واشنطن للخليج باعتباره "محطة مركزية" في النظام العالمي الجديد القائم على التكنولوجيا والمال. وأتاحت الصفقات الكبيرة التي عقدها ترامب مع الدول الثلاث ربط الاقتصاد الخليجي بالمنظومة الأمريكية، ما يقيّد من انفتاح دول الخليج على بكين وموسكو. في المقابل، فإن دول الخليج أكدت أنها تستثمر استراتيجياً في تعزيز الشراكة مع الولايات المتحدة، وتراهن على تطويرها كخيار دولي أساسي، لكن كشراكات منفصلة، وليس باعتبار الخليج مركزاً جيوسياسياً متكاملاً أو موحداً. وأضاف تقرير "أسباب" أن ترامب تجاهل زيارة تل أبيب خلال جولته الخليجية، وأرسل رسالة واضحة أن مصالح بلاده تقتضي منطقة أكثر استقراراً، وهو ما يتعارض مع رغبة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في مواصلة حرب غزة وشن هجوم عسكري على إيران وتقويض الحكم الجديد في سوريا. ومع هذا، لا ينبغي المبالغة في تقدير التباينات بين ترامب ونتنياهو، إذ تظل الولايات المتحدة حليف إسرائيل الموثوق، ويظل دعم الإدارة الأمريكية لإسرائيل لا يقبل الشك. في 13 مايو/أيار 2025، عاد ترامب إلى الشرق الأوسط رئيساً للولايات المتحدة في ولاية ثانية، وسط تحولات عالمية متسارعة، وصعود للتعددية القطبية، وتراجع نسبي في الثقة بالسياسات الأمريكية. وجاءت الزيارة تحت شعار التعاون الاقتصادي، وحملت في طياتها أبعاداً أعمق: إعادة صياغة موازين النفوذ الإقليمية، وتكريس نهج المعاملة التجارية، وتأكيد أولويات واشنطن الإقليمية. وهيمنت الصفقات الاقتصادية والعسكرية على الزيارة، بما يشمل استثمارات وتعاقدات سعودية بقيمة 600 مليار دولار، وفي الدوحة، بلغت قيمة الاستثمارات والتعاقدات 1.2 تريليون دولار، بينما التزمت الإمارات باستثمار 1.4 تريليون دولار على مدى العقد القادم، تركز على الذكاء الاصطناعي، أشباه الموصلات، والطاقة، والتصنيع. وعلى المستوى السياسي، شهدت الزيارة قرارات أبرزها رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، ولقاءً تاريخياً مع رئيسها أحمد الشرع. كما برزت دعوة ترامب لإيران للقبول بعرض أمريكي جديد بشأن برنامجها النووي، مع تحذيره من عواقب الرفض. الأرقام الرئيسية للصفقات مبالغ فيها، في ظل رغبة الجانبين في إظهار مدى تعاونهما، كما أن كثيراً من الاتفاقيات عبارة عن مذكرات تفاهم ما زالت غير ملزمة. ومع هذا، فإن هذه الخطط في مجملها تعكس توجهاً استراتيجياً أمريكياً واضحاً لتعزيز العلاقات الاقتصادية والتكنولوجية مع دول الخليج في مواجهة التنافس مع الصين وروسيا. ترامب رجل الصفقات منذ أن دخل ترامب المشهد السياسي، وهو يقدم نفسه كرجل صفقات لا كرجل مبادئ أو قيم ومعتقدات. وفي السياسة الخارجية، هذا يترجم إلى نهج براغماتي قائم على مبدأ المقابل المادي المباشر، وليس التحالفات طويلة الأمد. ولذا تختلف رؤية ترامب للعلاقات الدولية عن تقاليد السياسة الأمريكية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تنظر إلى العالم من خلال عدسة "الدور القيادي الأمريكي"، والشراكات المؤسسية المتعددة الأطراف، ونشر "القيم الأمريكية". فترامب يرى أن العالم سوق مفتوح، وأن الدول الأخرى زبائن محتملون. عاد ترامب إلى البيت الأبيض محملاً بوعود بإنهاء الحروب، وتركيز السياسة الخارجية على الصفقات بدلاً من الالتزامات طويلة الأجل. ويأتي الشرق الأوسط ضمن هذه المقاربة الترامبية: تأثير بلا احتلال، وتحالفات وظيفية لا مؤسساتية. وتجلى هذا المنطق في زيارة ترامب للخليج. فالمعارك التي تخوضها واشنطن لم تعد ترتكز إلى مفاهيم من نوعية الالتزام بالأمن الجماعي للخليج، بل ترتكز إلى الربح المباشر. ولذا، كانت الزيارة في الأساس صفقات استثمارية، تؤكد على نهج ترامب بأن "أمريكا قوية حين تتحالف مع من يملك المال والطموح، لا من يستهلك أمنها"، كما أنها تتيح ربط الاقتصاد الخليجي بالمنظومة الأمريكية، ما يقيّد من انفتاح دول الخليج على بكين وموسكو، ويثبت واشنطن كمصدر أول للثقل المالي والتكنولوجي. بدأت جولة ترامب من الرياض، في مواصلة لاتجاه بدأه في ولايته الأولى، حين اختار الرياض كمحطة لزيارته الخارجية الأولى عام 2017. وعلى الرغم من أن السعودية هذه المرة جاءت كمحطة ضمن جولة أوسع، فإن الرياض ظلّت محوراً لزيارة ترامب للمنطقة. وقد استُقبل ترامب بحفاوة بالغة، وشهدت الزيارة الإعلان عن اتفاقيات استثمارية بقيمة 600 مليار دولار، وبالأخص صفقات تسلّح وتعاون تكنولوجي بقيمة 142 مليار دولار، واستثمار 20 مليار دولار في مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية للطاقة في الولايات المتحدة، وصفقة محتملة لبناء مفاعلات نووية مدنية بإشراف أمريكي جزئي. وتسعى السعودية لبناء سياسة خارجية أكثر توازناً ومتعددة الأقطاب، لا تهمل موسكو أو بكين. ولذلك، فإن الرياض التي تنظر إلى العلاقة مع واشنطن باعتبارها ضمانة استراتيجية، فإنها أيضاً تسعى للاستفادة من فرصة التفاوض مع شريك لم يعد وحده في الساحة. ولذا جاء الرد السعودي فيما يخص التطبيع حذراً ومشروطاً: لا تطبيع دون مكاسب ملموسة للفلسطينيين، وضمانات أمنية حقيقية للسعودية. وعلى الرغم من تمسك الرياض بتطوير الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، إلا أنها تواصل بالتوازي تنويع علاقاتها الدولية، خاصة مع الصين وروسيا والهند. وأرسلت الزيارة رسالة واضحة حول موقع السعودية في استراتيجية ترامب في المنطقة، وربما على الصعيد الدولي أيضاً، إذ يراهن على المملكة في قيادة المنطقة العربية، وفي التأسيس لتوازن نفوذ إقليمي مع كل من تركيا وإسرائيل، وربما أيضاً إيران إذا توصل لاتفاق معها. وتؤكد مشاركة الرئيس التركي افتراضياً، وعقد المباحثات الجديدة مع روسيا في إسطنبول، أن ترامب يحتفظ لأنقرة بدور إقليمي واسع أيضاً. ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية تريد من حلفائها الثلاثة (تركيا والسعودية وإسرائيل) التفاهم حول سوريا وتحمل عبء مستقبلها دون صدام. وللمفارقة، فإن الرئيس السوري أيضاً يتبنى نفس النهج؛ إذ يسعى لشراكة استراتيجية مع السعودية يوازن بها شراكته الضرورية مع تركيا، وعقد تفاهمات شاملة مع تل أبيب تجنّب النظام الجديد الصدام معها. ويتضح من ذلك أن واشنطن تراهن على الرياض ليس اقتصادياً فحسب، بل استراتيجياً أيضاً. فبالنظر إلى تقلبات المنطقة، تبرز الحاجة إلى هيكل أمني جديد يُخفف العبء الذي تحملته واشنطن لما يقرب من قرن. قطر: شراكة متعددة الأبعاد كانت الدوحة ثاني محطات ترامب الخليجية، فزار قاعدة العديد العسكرية، كما شهد توقيع اتفاقيات اقتصادية وعسكرية ضخمة، وتعهدات بتبادل اقتصادي بين الولايات المتحدة وقطر بقيمة تصل إلى 1.2 تريليون دولار، ومن ضمنها اتفاقية لشراء 210 طائرات من طراز بوينغ بقيمة 96 مليار دولار، تُعد الأكبر في تاريخ الشركة، وصفقات دفاعية تشمل طائرات مسيّرة وأنظمة مضادة للطائرات بدون طيار بقيمة إجمالية تتجاوز 3 مليارات دولار، واستثمار 200 مليار دولار في مشاريع الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية التكنولوجية. وحرص ترامب على الإشارة إلى الدور القطري في التوسط بين واشنطن وطهران، مما أبرز أهمية دور الدوحة كشريك دبلوماسي يلعب دوراً حيوياً في القنوات الخلفية المعقدة، فهي وسيط رئيسي في ملف غزة، ولديها علاقات مرنة مع إيران وروسيا وأفغانستان ولبنان وسوريا. وبالنسبة للدوحة، فإن رغبة الإدارة الأمريكية في احتواء أزمات المنطقة تمثل فرصة؛ إذ ستكون الحاجة لجهود الوساطة ضرورية ومستمرة، مما يزيد من فرص قطر لتعزيز نفوذها الدبلوماسي، ومواصلة العمل عن قرب مع الولايات المتحدة. الإمارات: البيانات بدلاً من النفط في الإمارات، لا تدور الشراكة مع واشنطن حول الأمن مقابل النفط، بل تُبنى على تفاعل معقد بين التموضع الاقتصادي والانخراط التكنولوجي والأدوار الأمنية. فالإمارات لا تسعى إلى قيادة إقليمية بالمفهوم التقليدي، بل إلى تميز وظيفي يمنحها موقعاً لا يمكن تجاوزه في خرائط واشنطن الجديدة. وتقدم أبوظبي لترامب نموذجاً براغماتياً، تتقاطع فيه المصالح بهدوء. فالإمارات في هذا السياق لا تمثل عبئاً جيوسياسياً، بل أصلاً قابلاً للتداول: دولة صغيرة بحجمها، لكنها كبيرة بوظيفتها في المنظومة. ومنذ سنوات، تقوم استراتيجية أبوظبي على بناء شبكات لوجستية وإعلامية ومالية تتجاوز حجم الدولة، مما يجعلها شريكاً مثالياً لإدارة ترامب، التي تقدّر الكفاءة والموارد والانضباط السياسي. ولذا، لم تركز زيارة ترامب على زيادة التمركز العسكري الأمريكي في الإمارات، بل على تعزيز البنية التحتية للتعاون، خاصة الذكاء الاصطناعي، أمن الموانئ، إدارة سلاسل الإمداد. وضمن هذا السياق، أعلن الرئيس الإماراتي أن بلاده ستستثمر 1.4 تريليون دولار في الولايات المتحدة خلال السنوات العشر المقبلة، تشمل شراكة لبناء أكبر مركز بيانات للذكاء الاصطناعي خارج الولايات المتحدة في أبوظبي، لتعزيز قدرات الذكاء الاصطناعي بقدرة 5 جيجاوات. وهو ما يبرهن أن القواعد العسكرية التقليدية لم تعد وحدها محور العلاقة. كذلك برز ملف العلاقات مع إسرائيل خلال الزيارة باعتباره نموذجاً لنجاح السياسة الأمريكية في ولاية ترامب الأولى. وبدا أن إدارة ترامب تنظر إلى الإمارات كحجر زاوية في مساعيها لتوسيع اتفاقات إبراهام، لا بوصفها مجرد طرف موقّع، بل كحاضنة قادرة على تقديم تغطية ناعمة لدول عربية أخرى قد تدخل لاحقاً في حلبة التطبيع. ورغم جاذبية العلاقة مع إدارة ترامب، فإن السياسة الأمريكية مؤخراً تفتقر إلى الاتساق المؤسسي، وقد يجرّ هذا الإمارات إلى مواقف مفاجئة لا تتسق مع سلوكها الحذر. فبحكم موقعها كمحور لوجستي، تحرص الإمارات على التعاون مع الصين في مشاريع كبرى كالموانئ والسكك الحديدية والطاقة، لكنها في الوقت نفسه ستتعرض لضغوط أمريكية مستمرة لفك الارتباط التقني مع بكين. هذا التوازن مرهق، ويجعل من الشراكة مع واشنطن عبئاً في بعض الأحيان، خاصة وأن الولايات المتحدة لم تتجاوب حتى الآن مع مساعي الإمارات للتوصل إلى اتفاق شراكة دفاعية ملزمة مع الولايات المتحدة.