logo
ترامب يهدد بمعاقبة دول 'بريكس'.. لماذا تثير المجموعة الاقتصادية النامية القلق الأمريكي؟

ترامب يهدد بمعاقبة دول 'بريكس'.. لماذا تثير المجموعة الاقتصادية النامية القلق الأمريكي؟

بوست عربيمنذ 6 أيام
هدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية إضافية بنسبة 10% على أي دولة تنضم إلى ما أسماها "السياسات المناهضة لأمريكا" التي تنتهجها مجموعة البريكس الاقتصادية ٬ والتي بدأ زعماؤها قمة في البرازيل يوم الأحد 7 يوليو/تموز 2025.
وسبق أن شن ترامب هجوماً على دول بريكس في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وقال الرئيس الأمريكي حينها إن بعض الأعضاء الكتلة يتحركون لتقليص الدور المركزي للدولار الأميركي في التجارة الدولية. وقال ترامب إن أي دولة تحاول استبدال الدولار "ستقول وداعا للبيع في الاقتصاد الأمريكي الرائع"٬ على حد تعبيره.
وبرز دور مجموعة بريكس في انتقاد النظام الدولي، وخاصة سياسات التهميش التي تتبعها المؤسسات الدولية الناشئة بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تجاه دول الجنوب العالمي (مصطلح مقصود به الدول النامية). ويرى أعضاء بريكس أن التعاون الاقتصادي فيما بينهم، ومع باقي دول الجنوب العالمي، يمكن أن يساهم في الحد من نفوذ الولايات المتحدة، وحلفائها الغربيين، الاقتصادي والمالي العالمي، الأمر الذي من شأنه أن يخلق ساحة تنافس اقتصادي أكثر تكافؤاً.
كيف تلقي أزمة الرسوم الجمركية بظلالها على مجموعة البريكس؟
تلقي أزمة الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على عشرات الدول من الحلفاء والشركاء الاقتصاديين للولايات المتحدة٬ بظلالها على الانقسامات في المعسكر الغربي٬ فيما تحفز دول الجنوب العالمي للبحث عن بدائل. وحذرت مجموعة البريكس في بيان مشترك صدر بعد افتتاح قمتها في ريو دي جانيرو٬ من أن ارتفاع الرسوم الجمركية يهدد التجارة العالمية، مواصلة انتقاداتها لسياسات ترامب الجمركية .
وبعد ساعات، لوح ترامب بأنه سيعاقب الدول التي تسعى للانضمام إلى المجموعة. وقال في منشور على موقع " تروث سوشيال": "أي دولة تنضم إلى سياسات مجموعة البريكس المعادية لأمريكا ستُفرض عليها رسوم جمركية إضافية بنسبة 10%. لن تكون هناك أي استثناءات لهذه السياسة. شكرًا لاهتمامكم بهذا الأمر!". ولم يوضح ترامب أو يتوسع في ماهية "السياسات المعادية لأميركا" في منشوره.
وجاء التهديد بعد أن قال الرئيس الأمريكي إن صفقات التعريفات الجمركية التي طال انتظارها والرسائل التي تناقش تلك التحركات مع الدول الأخرى سيتم الإعلان عنها يوم الاثنين. وتسعى إدارة ترامب إلى الانتهاء من عشرات الصفقات التجارية مع مجموعة واسعة من البلدان قبل الموعد النهائي الذي حدده في 9 من يوليو/تموز لفرض "رسوم جمركية انتقامية" كبيرة. حتى الآن، لم يعلن ترامب عن صفقات إلا مع ثلاث دول: المملكة المتحدة ، والصين ، وفيتنام.
تُجري بعض دول مجموعة البريكس مفاوضات مباشرة مع إدارة ترامب، وخاصةً الهند فيما يتعلق بالوصول لاتفاق حول الرسوم الجمركية. ومن غير الواضح ما إذا كان تهديد ترامب الجديد سيؤثر على تلك المحادثات.
وفي كلمته الافتتاحية للقمة في وقت سابق، أجرى الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا مقارنة بين حركة عدم الانحياز خلال الحرب الباردة، وهي مجموعة من الدول النامية التي قاومت الانضمام إلى أي من جانبي النظام العالمي المستقطب. وقال لولا لقادة دول البريكس: "إن مجموعة البريكس هي وريثة حركة عدم الانحياز. ومع تعرض التعددية للهجوم، أصبحت استقلاليتنا تحت السيطرة مرة أخرى".
وأشار لولا دا سيلفا في تصريحات أدلى بها يوم السبت أمام قادة الأعمال إلى أن دول مجموعة البريكس تمثل الآن أكثر من نصف سكان العالم و40% من الناتج الاقتصادي العالمي، محذراً من تزايد الحمائية.
وقد أضاف توسع الكتلة ثقلاً دبلوماسياً للتجمع، الذي يطمح إلى التحدث باسم الدول النامية في جميع أنحاء الجنوب العالمي، مما عزز الدعوات لإصلاح المؤسسات العالمية مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي.
وقال لولا في تصريحاته التي سلطت الضوء على فشل الحروب التي تقودها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط: "إذا كانت الحوكمة الدولية لا تعكس الواقع المتعدد الأقطاب الجديد في القرن الحادي والعشرين، فإن الأمر متروك لمجموعة البريكس للمساعدة في تحديثها".
في السياق٬ قرر الرئيس الصيني شي جين هذا العام٬ ولأول مرة، إرسال رئيس وزرائه بدلاً منه٬ فيما يحضر الرئيس الروسي فلاديمير بوتن القمة عبر الإنترنت بسبب مذكرة توقيف صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحقه على خلفية حربه في أوكرانيا.
وردّت وزارة الخارجية الصينية على تصريحات ترامب٬ مؤكدةً معارضتها لاستخدام الرسوم الجمركية كأداة لإكراه الآخرين والضغط عليهم. وصرح المتحدث باسم الوزارة، ماو نينغ، للصحفيين، بأن استخدام الرسوم الجمركية لا يخدم أحدًا، وفقًا لرويترز. فيما نُقل عن المتحدث باسم وزارة التجارة في جنوب أفريقيا، كاميل علي، قوله لرويترز: "ما زلنا ننتظر اتصالاً رسمياً من الولايات المتحدة بشأن اتفاقيتنا التجارية، لكن محادثاتنا تبقى بناءة ومثمرة. وكما أكدنا سابقاً، لسنا مناهضين لأمريكا".
كما نفى المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، اليوم الاثنين، أن تكون مجموعة البريكس تعمل على تقويض الدول الأخرى. وقال بيسكوف: "لقد رأينا بالفعل تصريحات مماثلة للرئيس ترامب، ولكن من المهم جدًا الإشارة هنا إلى أن تفرد مجموعة مثل البريكس يكمن في كونها مجموعة دول تتشارك في مناهج مشتركة ورؤية عالمية مشتركة حول كيفية التعاون بناءً على مصالحها الخاصة٬ ولم يكن هذا التعاون داخل البريكس، ولن يكون، موجهًا ضد أي دولة ثالثة"٬ بحسب تعبيره.
لماذا يثير توسع "بريكس" غضب ترامب؟
منذ تأسيسها عام 2009 كان يُنظر إلى مجموعة البريكس (BRICS) على نطاق واسع على أنها تُشكل تحديًا لديناميكية القوة العالمية أحادية القطب، التي تُعتبر فيها الولايات المتحدة القوة العظمى الرائدة. في المقابل، سعى أعضاء البريكس إلى بناء قوة متعددة الأقطاب، تقود فيها دول مختلفة جهود التعاون العالمي٬ كما تقول مجلة " Time" الأمريكية. لكن بعض الخبراء يزعمون أن موقع الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى البارزة قد انتهى وأن التحول إلى قوة متعددة الأقطاب بدأ بالفعل.
وتقول مجموعة البريكس إنها مسؤولة عن 24% من التبادلات التجارية العالمية وتمثل نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وعلى مدار السنوات الماضية٬ عززت دول مجموعة البريكس جهودها بشأن الكيفية التي تريد من خلالها تشكيل القوة والتجارة العالمية في المستقبل.
ومن المتوقع بحلول عام 2050 أن تنافس اقتصادات هذه الدول، اقتصاد أغنى الدول في العالم حالياً، حسب مجموعة غولدمان ساكس البنكية العالمية، كما تسعى هذه الدول لتشكيل حلف أو نادٍ سياسي فيما بينها مستقبلاً. وهناك عدد من المكونات التركيبات المالية والاقتصادية في البنية المالية لبريكس، أهمها بنك التنمية الجديد (NDB) ومقره شنغهاي، ليكون إطاراً للدول الأعضاء لتوفير الحماية ضد ضغوط السيولة العالمية.
وفي الوقت الذي تعاني فيه منتديات تقودها الاقتصادات الكبرى على رأسها أمريكا٬ مثل مجموعة السبع و مجموعة العشرين٬ من الانقسامات بين بين واشنطن دول أوروبية٬ بسبب نهج "أميركا أولاً" المثير للاضطراب الذي ينتهجه الرئيس الأميركي، تقدم مجموعة البريكس الاقتصادية -التي تقودها الصين وروسيا- نفسها باعتبارها ملاذا للدبلوماسية المتعددة الأقطاب في خضم الصراعات العنيفة والحروب التجارية حول العالم٬ وهي لا تزال تتوسع وتضم لاعبين جدد.
ويثير توسع مجموعة البريكس القلق الأمريكي بسبب ضمها دولاً تمتلك أسرع نمو اقتصادي في العالم. ولا شك أن الحديث عن خلق كيان اقتصادي بديل وربما خلق عملة موحدة تهز عرش الدولار٬ يثير إشكالية كبيرة لدى الأمريكيين.
طرح الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا فكرة عملة البريكس عام 2023، لكنها لم تكن محور اهتمام المجموعة، التي تسعى بدلاً من ذلك إلى تعزيز التجارة والتمويل بعملاتها المحلية. هدّد ترامب في وقت سابق من هذا العام بفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على الدول الأعضاء "التي تبدو معادية" إذا أيدت عملة مشتركة.
ويقول موقع أسباب للشؤون الاستراتيجية إنه من غير المرجح أن تصل مجموعة بريكس إلى عملة مشتركة في المدى القريب، لأن ذلك يستلزم أن يكون الأعضاء متوافقين بشكل كامل على الصعيد الجيوسياسي، كما يتطلب تنفيذ الدول الأعضاء تعديلات هيكلية وإصلاحات مالية كبيرة وجوهرية، وتخطي عقبات أساسية تشمل تحقيق تقارب الاقتصاد الكلي، والاتفاق على آلية لسعر الصرف، وإنشاء نظام فعال للدفع والمقاصة المتعددة الأطراف، وإنشاء أسواق مالية مستقرة ومرنة. كل هذه متطلبات تبدو بعيدة المنال في العقد الجاري، خاصة أن بنك التنمية الجديد في شنغهاي، والذي يضم أعضاء بريكس الخمس، مع بنغلاديش ومصر والإمارات، لا يزال يصدر القروض في أغلب الأحيان بالدولار الأمريكي أو اليورو، الأمر الذي يقلل التوقعات حول جدية دعوة أعضاء بريكس إلى السعي للحد من هيمنة الدولار قريباً.
دخول لاعبين جدد مثل السعودية سيغير من المعادلة
جمعت مجموعة البريكس الأصلية قادة البرازيل وروسيا والهند والصين في قمتها الأولى عام 2009. ثم انضمت جنوب أفريقيا لاحقًا، وفي العام الماضي ضمت مصر وإثيوبيا وإندونيسيا وإيران والإمارات العربية المتحدة كأعضاء. وأرجأت المملكة العربية السعودية الانضمام رسمياً للمجموعة بعدما رحبت بها المجموعة العام الماضي، وفقًا لمصادر لرويترز، بينما أبدت 30 دولة أخرى اهتمامها بالمشاركة في البريكس، إما كأعضاء كاملين أو شركاء.
وسيعني انضمام السعودية للمجموعة أن تحالف بريكس مجتمِعاً سيمتلك 43% من الإنتاج العالمي للنفط٬ بحسب تحليل لشركة Statisa. كما أن منظمة أوبك تسيطر على 38% من الخام العالمي؛ ولذلك فإن الآثار السياسية لـ"توسع بريكس" تبدو واضحة وجلية لدى الأمريكيين.
وتعد السعودية أكبر مصدر للنفط، وتتجاوز صادراتها غير النفطية 70 مليار دولار، كما أن إيران والإمارات لديهما احتياطات نفطية هائلة ومن كبار المنتجين للنفط في العالم، ولديها آفاق كبيرة لزيادة الإنتاج.
من جهة أخرى، تواجه مجموعة بريكس نفسها تحديات جوهرية، على الرغم من توسع عضويتها. فبينما يتيح هذا التوسع تعزيز موارد المجموعة الاقتصادية والسياسية، إلا أن تباين المصالح والأهداف بين أعضائها يظل عقبة رئيسية أمام تبني أجندة موحدة.
وفي الوقت الذي تدفع فيه دول مثل روسيا والصين وإيران نحو استخدام بريكس كمنصة لمواجهة الهيمنة الغربية، تفضل دول أخرى مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا التركيز على قضايا دولية أقل تصادمية مثل تغير المناخ والتنمية المستدامة. هذا التباين في الأولويات يضعف قدرة المجموعة على تحقيق توافق سياسي ويثير تساؤلات حول إمكانيتها كمنافس جيوسياسي فعّال للتكتلات الغربية الكبرى، مثل مجموعة السبع.
في هذا السياق، يشير موقع " أسباب" للدراسات الجيوسياسية٬ إن توسع عضوية مجموعة بريكس يزيد ظاهريا من قدراتها السياسية ومواردها الاقتصادية بما في ذلك حجم الاستثمارات والقدرات المالية، ويساهم في تعزيز ثقل المجموعة في مواجهة تكتلات كبيرة مثل مجموعة السبع، كما يعرقل جهود الغرب في حصار دول مثل روسيا وإيران اقتصاديا.
ولكن في ذات الوقت يزيد توسيع المجموعة من هشاشتها لتباين أهداف ومصالح الدول الأعضاء٬ بحسب "أسباب". فالهند تتنافس مع الصين، وبينما لدى الصين وروسيا وإيران مشكلات عميقة مع الدول الغربية، فإن الهند والإمارات ومصر لديهم علاقات استراتيجية مع واشنطن والدول الأوروبية، كما تتصادم مصر مع إثيوبيا في ملفات سد النهضة والقرن الأفريقي. أي إن توسع المجموعة يضعف القدرة على التوافق، وهو ما دفع مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، جيك سوليفان، للقول إن بلاده لا تنظر إلى بريكس كمنافس جيوسياسي٬ لكن يبدو أن لدى الإدارة الأمريكية رأي آخر٬ بعد تهديدات ترامب الأخيرة لدول المجموعة.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

من سربرنيتسا إلى غزة.. هل تغير شيء في ضمير العالم؟
من سربرنيتسا إلى غزة.. هل تغير شيء في ضمير العالم؟

بوست عربي

timeمنذ 9 ساعات

  • بوست عربي

من سربرنيتسا إلى غزة.. هل تغير شيء في ضمير العالم؟

أحياناً يبدو التاريخ وكأنه شاعر مجنون، يعيد كتابة مآسيه، لا ليحسّن المعنى، بل ليكرر ويعظم الألم. قبل ثلاثين عاماً، في يوليو/تموز 1995، ارتُكبت في مدينة "سربرنيتسا" واحدة من أبشع جرائم الإبادة في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية. أُبيد أكثر من 8,000 مسلم بوسني بدم بارد، في جريمة تطهير عرقي، وقعت في قلب القارة التي نصّبت نفسها حاميةً للتحضر، ومدافعة عن القيم الإنسانية، لكنها اختارت الصمت—و التواطؤ المقنع—حين دُفن الضحايا جماعياً تحت أعين قوات حفظ السلام الدولية. واليوم، بينما يحيي العالم الذكرى الثلاثين لتلك المجزرة، وبينما لا يزال كثير من ذوي الضحايا ينقبون في التربة بحثاً عن رفات أحبائهم ليقيموا لهم قبراً، يُبث على الهواء مباشرة إبادة أخرى، أو بالأحرى نسخة موسعة من ذات الجريمة. حيث حصار خانق، وتجويع ممنهج، وقصف لا يتوقف، ومقابر جماعية تُفتح تحت أنقاض البيوت المهدمة. ما يقرب من 200 ألف فلسطيني بين قتيل وجريح، ومليونا إنسان مشرّد. ما يربط سربرنيتسا بغزة ليس مجرد تشابه في المآلات، بل تطابق المنطق الذي مهّد للإبادة: شعبٌ يقاوم يطالب بحقه في الوجود، فيُواجه بآلة عسكرية مدعومة بصمت دولي وتواطؤ عسكري وسياسي فج، لتكون النتيجة واحدة—الإبادة الجماعية. تتبدل الجغرافيا، لكن الوحشية تبقى ثابتة، وتتطور أدواتها لتزداد فتكاً بأجساد المستضعفين. في الحالتين، تغيب العدالة، وتُمحى القيم، وتُمنح الجريمة متسعاً لتكتمل بلا مساءلة، تحت غطاء قانوني مشوه، وشرعية دولية متآكلة، في عالم إما يبرر الجريمة، أو—في أفضل الأحوال—يشيح بوجهه عنها. "سربرنيتسا" ذاكرة إبادة تلاحق أوروبا كانت جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية تضم تركيبة سكانية متنوعة – من صرب وكروات وبوسنيين مسلمين وألبان وسلوفينيين – تحت نظام شيوعي مرن نسبياً بقيادة جوزيب بروز تيتو. لكن مع وفاته عام 1980، تصاعدت النزعات القومية والانفصالية، وبلغت ذروتها بصعود سلوبودان ميلوشيفيتش على رأس الحزب الشيوعي في جمهورية صربيا، الذي انتهج سياسة قومية تُنادي بهيمنة صربيا على بقايا يوغوسلافيا وتلتهم باقي الفيدرالية المجاورة (كوسوفو، وفويفودينا، والجبل الأسود، والبوسنة)، بما عُرف بـ"صربيا الكبرى". ما أشعل سلسلة الحروب اليوغوسلافية التي امتدت حتى عام 1999. وفي هذا السياق، حذّر الرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش في أغسطس/آب 1991 من أن "ميلوشيفيتش يريد البوسنة كلها". هذا التوجه أثار مخاوف الجمهوريات الأخرى، فبادرت كل من سلوفينيا وكرواتيا، ثم البوسنة، إلى إعلان الاستقلال. في البوسنة، تم إجراء استفتاء في 29 فبراير/شباط 1992 بدعوة أوروبية، صوّت فيه مسلمو وكروات البوسنة، الذين شكّلوا أكثر من 60% من السكان، لصالح الاستقلال. في المقابل، قاطعت القيادة الصربية هذا الاستفتاء ومنعت إقامته في مناطق نفوذها، ما مهّد لبداية الحرب. فبعد إعلان البوسنة والهرسك استقلالها رسمياً عن جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية في الأول من مارس/آذار 1992، وسرعان ما تبعه اعتراف دولي من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بدأت ميليشيات صرب البوسنة بالتحرك على الأرض. وخلال تلك الأيام القليلة التي تلت الاستفتاء، نصبت الميليشيات حواجز على الطرقات – على غرار ما فعلته في حرب كرواتيا – وبنهاية الشهر، كانت قد سيطرت على مساحات واسعة من البلاد. في السادس من أبريل/نيسان من العام نفسه، بدأ حصار سراييفو، وسقطت مدن عدة تحت سيطرة الصرب، لتبدأ معها سلسلة المجازر التي استهدفت مسلمي البوسنة بشكل ممنهج. ومع توسع سيطرة القوات الصربية لتشمل أكثر من نصف مساحة البلاد، اقترنت هذه السيطرة بمذابح وعمليات تطهير عرقي، خاصة في شرق البوسنة ومحيط مدينة سربرنيتسا. تُظهر لقطات من الفيلم الوثائقي " ضباب سربرنيتسا" ملامح الحياة تحت الحصار بين عامي 1993 و1995: منازل مهدّمة، طرق خالية، ومدافع لا تتوقف عن القصف، تخترق بصوتها المدوّي سكون القرى المحاصرة. في شهادته، يروي الجندي السابق "أحمد أوستيتشك" أن قرية هوجمت من قبل ثلاثة ألوية جاءت جميعها من مدن صربية، وتمكنت تلك الألوية من السيطرة على 250 كيلومتراً مربعاً، واضطر المقاومون من البوسنة إلى التراجع إلى التلال، حينها أصبحت سربرنيتسا ملاذاً للمسلمين الهاربين من المناطق التي وقعت تحت سيطرة الصرب، وارتفع عددهم إلى أربعين ألف نسمة. مع تصاعد أعداد النازحين والضحايا داخل سربرنيتسا، تحوّلت إلى بقعة مكتظة بالمحاصَرين والأموات، ما دفع الأمم المتحدة إلى إصدار القرار رقم 819، الذي أعلن سربرنيتسا "منطقة آمنة منزوعة السلاح" تحت حماية قوات حفظ السلام الدولية. استجابت القوات البوسنية للقرار ونزعت سلاحها رغم الحصار الخانق، في خطوة وُصفت لاحقاً بأنها تفاحة مسمومة قدّمتها الأمم المتحدة للبوسنيين. فعلى الأرض، لم يلتزم الصرب بأي من بنود القرار. واصلوا القصف اليومي واستهداف المدنيين، بينما كانت قوات الأمم المتحدة منتشرة داخل البلدة، ولم تُشكّل تلك الحماية الأممية حاجزاً حقيقياً أمام العدوان، بل ربما تحوّلت إلى غطاء على المجزرة، فقد أوكلت الأمم المتحدة مهمة حماية المدنيين العزّل إلى كتيبة هولندية صغيرة، عُرفت باسم "الخفافيش الهولندية". وقد وُجهت اتهامات مباشرة للكتيبة الهولندية بتسليم أكثر من 350 مسلماً بوسنياً إلى القوات الصربية. وقد قضت المحكمة العليا في هولندا لاحقاً بعد عقود من المجزرة، في يوليو/تموز 2019، بمسؤولية هولندا الجزئية عن مقتل 350 رجلاً وفَتىً بوسنياً، معتبرة أن الجنود الهولنديين ساهموا في تسليمهم إلى الموت. على إثر ذلك، شكّلت الحكومة الهولندية لجنة خبراء لتحديد تعويضات مالية لأهالي الضحايا، في اعتراف متأخر لم يُغيّر شيئاً من فداحة الجريمة. وجاء أبرز اعتراف رسمي بالتقاعس الدولي على لسان وزيرة الدفاع الهولندية كاجسا أولونغرن في عام 2022، حيث أقرت بأن المجتمع الدولي أخفق في حماية سكان سربرنيتسا، مؤكدة أن هولندا تتحمّل جزءاً من المسؤولية السياسية، نظراً لأن الكتيبة الهولندية التابعة لقوات حفظ السلام كانت المكلّفة بحماية المدنيين هناك. فوفق الأهالي، كان أكثر من 25 ألف شخص قد لجأوا إلى قاعدة الأمم المتحدة التي تمركزت في مصنع للبطاريات في بوتوتشاري، وبعد أن وافقت الأمم المتحدة وقوات حفظ السلام على ضرورة نقل اللاجئين، طالبت هولندا بفصل الرجال عن النساء والأطفال، ما سهّل عملية قتلهم بدم بارد. يروي محمد هوزديكهودجيتش، الذي فقد 76 فرداً من أقاربه في مجزرة سربرنيتسا، تفاصيل مريرة عن اللحظات التي سبقت الإبادة. يقول إن الجنود الصرب، بعضهم كان يرتدي زيّ قوات الأمم المتحدة، أقاموا نقاط تفتيش أمام مجمّع بوتوتشاري، حيث كان آلاف النازحين البوسنيين قد لجأوا ظناً أن المكان يخضع لحماية دولية. "كانوا يفرزون الناس كأننا في مراكز فرز نازية، يحدّدون من يُبقى ومن يُؤخذ". وقد تمكّن محمد من الهرب بصحبة أخيه من مجمّع بوتوتشاري، ومن الغد ارتُكبت المجزرة ولم يسلم أحد من الذكور، حتى ذوي الإعاقة منهم. ففي 11 يوليو/تموز 1995، اجتاحت قوات صرب البوسنة سربرنيتسا، و باشرت بفصل الرجال والصبية عن النساء والأطفال، تمهيداً لتنفيذ واحدة من أفظع المجازر الجماعية في التاريخ الحديث. خلال أيام، تحوّلت البلدة التي أعلنتها الأمم المتحدة "منطقة آمنة" إلى مسرح لعملية إبادة واسعة النطاق، راح ضحيتها أكثر من 8,000 بوسني. وبحلول عام 2006، تم اكتشاف 42 مقبرة جماعية في محيط المدينة، بينما تشير تقديرات أخرى إلى وجود 22 مقبرة إضافية تضم رفات نحو 2,070 جثة. ولا يزال أكثر من 7,000 ضحية مجهولي الهوية. وتحكي الصحافية البوسنية، عذرا عمربزيتش، أنّ البوشناق البوسنيين كانوا مذنبين في عيون صرب البوسنة لأنهم كانوا مسلمين فقط. "فمنذ تلك الإبادة، عُرفت سربرنيتسا بأنها المدينة الأكثر حزناً في البوسنة. بدأ كل شيء في 11 يوليو/تموز عندما دخل راتكو ملاديتش، المعروف باسم الجزار الصربي، إلى مدينة سربرنيتسا، التي أعلنتها الأمم المتحدة منطقة آمنة، مع جنوده المسلحين قائلاً: لقد حان الوقت أخيراً للانتقام من الأتراك في هذه المنطقة". وتضيف عذرا أن آلاف النساء تعرّضن للاغتصاب، بينما فُصل الأطفال عن أمهاتهم، وأُجبر الرجال الأسرى على التعرّض للإهانات الجسدية والنفسية. "أجبِروا على ترديد أناشيد قومية صربية، وارتكاب فظائع ضد بعضهم البعض، بما في ذلك الحفر بأيديهم لمقابر جماعية دفنوا فيها أحبّاءهم"، كما قالت، مشيرة إلى أن الإذلال كان جزءاً لا يتجزأ من آلية القتل الجماعي. خلّفت الحرب التي استمرت من عام 1992 إلى عام 1995 في البوسنة حوالي 100 ألف قتيل، وتسببت في طرد أكثر من مليوني شخص من منازلهم. ووفقاً لوكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، كان ما يزال هناك 98,324 نازحاً داخلياً نهاية عام 2015، منهم 7,000 شخص في ملاجئ مؤقتة أو جماعية. تقول برانكا أنتيكستاوبر، مديرة منظمة Women's Power، وهي منظمة تقدم الدعم النفسي للاجئين البوسنيين: "لم توضع أبداً استراتيجية واضحة لعودة اللاجئين البوسنيين إلى قراهم التي دمّرتها الحرب". من صمت سربرنيتسا إلى تواطؤ غزة: عندما تنسى الإبادة تتكرّر بعد أكثر من ربع قرن على مجزرة سربرنيتسا، وبينما تُرتكب إبادة جديدة في غزة على مرأى ومسمع من العالم، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيار/مايو 2024 قرارًا، باعتبار يوم 11 تموز/يوليو يومًا دوليًا للتفكر في الإبادة الجماعية التي وقعت في سربرنيتسا عام 1995. لكن أي جدوى لهذا التفكّر إذا كانت الإبادة تتكرّر بذات الآليات، وذات الصمت، وذات العجز؟ فالعالم الذي أدان مذبحة الأمس، هو نفسه من يغضّ الطرف اليوم عن مذبحة أوسع، ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين في غزة، تحت حماية سياسية وعسكرية واضحة من القوى الكبرى. الإبادة تتكرّر.. حين تصبح العدالة صورية يُذكر أن القائد الصربي راتكو ملاديتش ، المسؤول الأول عن مذبحة البوسنة، الذي حمل لقب "جزار البلقان"، عاش طليقاً 16 عاماً رغم اتهامه رسمياً من المحكمة الدولية بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية. حيث تنقّل بحرّية بين صربيا وروسيا، قبل أن يُلقى القبض عليه عام 2011، وقد استمرت محاكمته أكثر من 530 يوماً، وأدين في 2017 بعشر تهم، أبرزها الإبادة، وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. أما رادوفان كراديتش، القائد الصربي الآخر والذي كان وراء مشروع التطهير العرقي، فظلّ متوارياً 13 عاماً قبل أن يُعتقل ويُحاكم على مدار خمس سنوات، وانتهى الأمر في 2016 بحكم بالسجن لمدة 40 عاماً. لكن رغم الأحكام، لا تزال جراح البوسنيين مفتوحة: مفقودون بلا أثر، أطفال وُلدوا من اغتصاب جماعي، ونساء رحلن من الدنيا دون أن ينلن حق العدالة. واليوم، وفي ظل مشهد أكثر فجاجة، تستمر إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، مدعومة علناً من الولايات المتحدة، ومتجاهلة النداءات الأممية وأوامر المؤسسات الدولية بوقف الحرب. فخلّفت إلى الآن أكثر من 194 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم من الأطفال والنساء، وأكثر من 10 آلاف مفقود، ومئات الآلاف من النازحين، في جريمة تُنفّذ بغطاء دبلوماسي، وصمت عالمي. فبرغم صدور مذكرتَي اعتقال دوليتين من المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، لا يزال الاثنان طليقَين. نتنياهو، الذي لا يتوقف عن التهديد بالمزيد من القتل، يُستقبل رسمياً في واشنطن، ويعتلي منبر الكونغرس الأميركي، بينما تتدفّق شحنات السلاح الأميركي بلا انقطاع نحو آلة الحرب الإسرائيلية. وفي الوقت ذاته، يفرض هو وجيشه حصاراً خانقاً على مليوني إنسان في غزة، يمنع عنهم الطعام والماء والدواء، في سياسة تجويع جماعي تُنفّذ على مرأى من العالم، وتُشرّعها صفقات السلاح والدعم السياسي. ليس ذلك فحسب، بل تتصدّر الدول الغربية مشهد قمع الأصوات المعارضة للإبادة، وحجب من يطالبون بوقفها. ففي خطوة أكثر فجاجة، أدرجت وزارة الخارجية الأميركية فرنشيسكا ألبانيز، المقررة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، على قائمة العقوبات، لا لشيء سوى لأنها دعت إلى محاسبة الولايات المتحدة وإسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية على جرائم تُرتكب جهاراً في غزة. المجتمع الدولي، مرة أخرى، يقف عاجزاً؛ فمجلس الأمن شلّته الفيتوهات، والأمم المتحدة لا تملك أكثر من التصريحات والتحذيرات، بينما وفّرت دول كبرى الغطاء الدبلوماسي والسياسي للاحتلال لارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية دون خوف من الحساب. ولو أُقيم ميزان العدالة الدولية فعلاً في سربرنيتسا، لما تجرأ نتنياهو على ارتكاب فظائع غزة اليوم. لكن حين يُؤمَن الجناة من العقاب، يُسرفون في القتل، ويُسيئون الأدب مع الإنسانية. إذ يقول الأكاديمي مدحت تشاوسيفيتش، أستاذ بجامعة طوزلا في البوسنة: إن سربرنيتسا شهدت إبادة جماعية قبل 30 عاماً، وإنها حدثت أمام أعين الأمم المتحدة. ويُوضح أن سربرنيتسا لا تزال مكاناً يعاني من الألم، مؤكداً أن النساء اللواتي قُتل أطفالهن وأزواجهن سيرحلن عن هذا العالم دون أن يحصلن على حقوقهن. ويتابع: "بعد سربرنيتسا، نشهد اليوم إبادة جماعية في مكان آخر من العالم، في غزة، إذ يُقتل الناس في غزة لمجرد اختلاف أسمائهم وديانتهم، تماماً كما حدث للبوشناق. وهذا أيضاً وصمة عار ستقض مضجع الحضارة الإنسانية". وتقول الصحفية البوسنية عذرا عمربزيتش: "الاحتلال الإسرائيلي يرتكب مجزرة جديدة بمباركة أغلب الدول الغربية، هذه المرة بإصرار على أن تكون أشدّ وأعمق، لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم إلى الأبد". التشابه بين سربرنيتسا وغزة لم يعد مجرد تقاطع تاريخي، بل يكاد يكون تطابقاً كاملاً في البنية والمآلات. كلاهما وصمة عار في جبين العالم، ولعل تحذير الرئيس الراحل علي عزت بيغوفيتش لا يزال يصدح بالمعنى: "لا تنسوا الإبادات الجماعية.. فإنها تتكرّر عند نسيانها".

الحروب 'تكشف عورتها'.. لماذا لا تستطيع إسرائيل تحقيق الهيمنة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط؟
الحروب 'تكشف عورتها'.. لماذا لا تستطيع إسرائيل تحقيق الهيمنة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط؟

بوست عربي

timeمنذ 18 ساعات

  • بوست عربي

الحروب 'تكشف عورتها'.. لماذا لا تستطيع إسرائيل تحقيق الهيمنة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط؟

على الرغم من التفوق العسكري الذي مكنته لها الولايات المتحدة على مدار عشرات السنوات، فإن الحروب التي تخوضها إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كشفت هشاشتها، وأنها لم تتمكن من تحقيق الهيمنة الإقليمية، رغم أن عمرها كـ"دولة" بلغ 74 عاماً. ومنذ تأسيسها على أنقاض النكبة الفلسطينية عام 1948، تمكنت إسرائيل، بالاعتماد على تفوقها العسكري عبر الدعم الغربي، خاصة الأمريكي ، من ترسيخ نفوذ كبير في المنطقة، لكنه محصور بالنفوذ الأمني حتى الآن. فيما كشفت عملية "طوفان الأقصى"، وما تلاها من حرب على غزة، ومواجهة مع حزب الله في لبنان، وتصعيد كبير مع إيران على جولتين، أن إسرائيل دولة ما زالت غير قادرة على الاعتماد على نفسها، وتواجه طموحاتها لتصبح القوة المهيمنة في الشرق الأوسط عقبات هيكلية وسياسية واجتماعية تتجاوز قدراتها العسكرية. ومؤخراً، وبعد حرب استمرت 12 يوماً مع إيران، زعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن "إسرائيل" وضعت نفسها في مصاف القوى العالمية الكبرى. لكن المعطيات تذكر غير ذلك، ومن شواهدها تصريحات رؤساء الولايات المتحدة الذين يتفاخرون بـ"إنقاذ إسرائيل"، كاشفين عورة دولة الاحتلال التي تعتاش على المعونات العسكرية الأمريكية والغربية. وقبل أن يتحدث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تصريحاته الأخيرة بأنه "أنقذ إسرائيل" بعد حربها على إيران، فقد سبقه الرئيس السابق جو بايدن، بتبني "إنقاذ إسرائيل" بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. هل حققت إسرائيل الهيمنة الإقليمية؟ والهيمنة الإقليمية اصطلاح يُستخدم لوصف دولة ما لديها القدرة على التأثير في نطاق جغرافي أو إقليم محدد، وفي تعريف آخر: هي "دولة تنتمي إلى منطقة محددة جغرافياً، وتهيمن على هذه المنطقة من الناحية الاقتصادية والعسكرية، وقادرة على ممارسة الهيمنة الإقليمية في المنطقة وعلى الصعيد العالمي". يقول البروفيسور الأمريكي ستيفن والت ، إن القوى المهيمنة الإقليمية تتمتع بقوة هائلة مقارنة بجيرانها، لدرجة أنها لم تعد تواجه أي تهديدات أمنية كبيرة منهم، وليس لديها قلق من ظهور منافس حقيقي في أي وقت. وعلى سبيل المثال، أشار والت في مقال على مجلة "فورين بوليسي" إلى نموذج الولايات المتحدة في بداية القرن العشرين، حيث انسحبت القوى العظمى الأخرى من نصف الكرة الغربي، ولم يعد بإمكان أي دولة أو مجموعة في المنطقة أن تضاهي مزيج القوة الاقتصادية والإمكانات العسكرية الأمريكية. وباستثناء أزمة الصواريخ الكوبية، التي تضمنت قيام قوة خارجية (الاتحاد السوفيتي) بإرسال صواريخ نووية إلى نصف الكرة الغربي، لم تواجه الولايات المتحدة أي تحدٍ عسكري كبير من داخل نصف الكرة الغربي منذ أواخر القرن التاسع عشر. وقد سمح هذا الوضع المتميز لواشنطن بتركيز سياساتها الخارجية والدفاعية على أوراسيا، بهدف منع أي قوة أخرى من تحقيق وضع مماثل داخل أي منطقة ذات أهمية استراتيجية. لكن إسرائيل، كما يذكر البروفيسور الأمريكي، لا تستوفي هذا المعيار، مشيراً إلى التحدي الذي يشكله الحوثيون حتى الآن، وكذلك حركة حماس في قطاع غزة، رغم الدمار الهائل الذي ألحقه الجيش الإسرائيلي بالقطاع. ورغم عدم وجود دولة أو تحالف عربي يضاهي إسرائيل اليوم، فإن كلاً من تركيا وإيران تمتلكان قوات عسكرية ضخمة وعدداً سكانياً أكبر بكثير، ويمكن لكل منهما بناء دفاع قوي في حال نشوب حرب شاملة. ما هي أبرز الشواهد على أن إسرائيل ليست دولة ذات هيمنة إقليمية؟ أولاً: حدود قوتها العسكرية في عام 2024، زاد الإنفاق العسكري الإسرائيلي بنسبة 65% ليصل إلى 46.5 مليار دولار، بفعل الحروب التي تخوضها، لتكون هذه الكلفة الحربية هي الأكبر منذ حرب الأيام الستة عام 1967. ورغم هذا الإنفاق الضخم والمتزايد، فإن الهجمات التي شنتها إسرائيل على غزة ولبنان وإيران، لم تتمكن من إضعاف حركة حماس أو حزب الله، اللتين لا تزالان جماعتين تعملان كقوة صامدة ضد إسرائيل. وتشير مجلة " الدبلوماسية الحديثة" إلى أن هجمات يونيو/حزيران 2025 على إيران، على الرغم من تسببها في أضرار جسيمة، لم تتمكن من إيقاف البرنامج النووي الإيراني بالكامل. في هذا الإطار، يقول المحلل العسكري في صحيفة " هآرتس"، عاموس هارئيل، إن الصدمة التي أحدثتها الهجمات على المواقع والصواريخ، واغتيال كبار المسؤولين، ومقتل كبار العلماء النوويين في إيران، قد تدفع المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، إلى التخلي عن "الفتوى القديمة" التي كانت تحرم ظاهرياً إنتاج الأسلحة النووية، كما أن الخشية من هجمات جديدة قد تقابلها غريزة البقاء لدى النظام الإيراني، الذي قد يدرك حاجته إلى الأسلحة النووية للدفاع عن نفسه أكثر من ذي قبل. ورغم أن عقيدة القوة العسكرية الإسرائيلية قامت على ثلاث طبقات أساسية تنسب إلى ديفيد بن غوريون، وهي: الردع، والإنذار، و"النصر الحاسم"، بحسب معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي ، إلا أنها فشلت جميعها بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وبحسب مجلة "الدبلوماسية الحديثة"، فإن إخفاقات إسرائيل منذ 7 أكتوبر، تشير إلى أن القوة العسكرية الإسرائيلية، على الرغم من كونها مدمرة، لا يمكن أن تؤدي إلى هيمنة دائمة، حيث تستمر المقاومة الإقليمية ضدها. ثانياً: الاعتماد على الولايات المتحدة على الرغم من قوتها العسكرية، تعتمد إسرائيل اعتماداً كبيراً على دعم الولايات المتحدة وأوروبا. وتقول مجلة " فورين بوليسي"، إنه على مدى عقود، ورغم التقدم المطرد في التكنولوجيا العسكرية والتدريب وجمع المعلومات الاستخبارية، اعتمدت إسرائيل بشكل حاسم على تحالفها مع الولايات المتحدة في معظم نجاحها. وعندما سئل خبير العلاقات الدولية في جامعة حيفا، بنيامين ميلر ، عما إذا كانت إسرائيل قادرة على الاستغناء عن الدعم الأمريكي، أجاب بكلمة واحدة: "لا". وتتلقى إسرائيل 3.8 مليارات دولار سنوياً كمساعدات أمريكية عسكرية ، أما على الساحة الدولية، فإن الدعم السياسي غير متناهٍ في المؤسسات الأممية، وخاصة الأمم المتحدة. في هذا الإطار، يوضح ميلر أن الولايات المتحدة "إذا أوقفت دعمها في مجال التسلح، فستُشكّل هذه مشكلة كبيرة لإسرائيل". وبفضل حق النقض (الفيتو) الذي تتمتع به الولايات المتحدة في مجلس الأمن لصالح إسرائيل، أُحبطت عدة قرارات تتعلق بوقف إطلاق النار في غزة خلال الأشهر القليلة الماضية وحدها. وهذا الاعتماد يخلق ضعفاً استراتيجياً، فإذا انخفض الدعم الغربي، إما بسبب التغيرات في السياسات الداخلية الأمريكية أو الضغط العالمي لمحاسبة إسرائيل على انتهاكات حقوق الإنسان، فستفقد إسرائيل قدرتها على الحفاظ على وضعها الحالي، بحسب المجلة. ويشدد الخبير الأمريكي والت، أن القوة المهيمنة الإقليمية الحقيقية لا يتعين عليها الاعتماد على الآخرين للهيمنة على جوارها، وإسرائيل تفعل ذلك. كما تتطلب الهيمنة الإقليمية الحقيقية الاكتفاء الذاتي الاستراتيجي، وهو ما تفتقر إليه إسرائيل. علاوة على ذلك، فإن الإجراءات العدوانية مثل عملية "الأسد الصاعد" تزيد من خطر جرّ الولايات المتحدة إلى صراع أوسع، مما قد يقلل من الدعم الغربي. ويُظهر هذا الهشاشة أن إسرائيل، بدلاً من أن تكون قوة مهيمنة، تعمل بشكل أكبر كلاعب معتمد على القوى الأجنبية، بحسب مجلة "الدبلوماسية الحديثة". ثالثاً: الافتقار إلى الشرعية الإقليمية يذكر الخبير الأمريكي والت، أن الهيمنة الإقليمية الدائمة تتطلب من الدول المجاورة قبولاً بمركز القوة المهيمنة، وإلا ستظل الأخيرة قلقة من تجدد معارضتها في المنطقة، وستُجبر على اتخاذ إجراءات مضادة. وأوضح أن هذه سمة حسن الجوار غير موجودة مع إسرائيل، كما أن النفوذ المتزايد للقوى اليمينية والمتطرفين فيها يضعف من احتمالية ذلك. كما أن احتلال الضفة الغربية وشرق القدس وحرب غزة وقمع الفلسطينيين، التي أدانتها منظمات حقوق الإنسان باعتبارها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، قد صورت إسرائيل كقوة قمعية. ولم تُغضب هذه السياسات الفلسطينيين فحسب، بل منعت أيضاً دول المنطقة، بما في ذلك الجهات الفاعلة القوية مثل تركيا وقطر، من قبول إسرائيل كقوة مهيمنة، وإقامة علاقات معها. وبحسب مجلة "الدبلوماسية الحديثة"، فإنه حتى الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، تحافظ على هذه العلاقات إلى حد كبير لأسباب معينة وتحت ضغط غربي، وليس من باب قبول هيمنة إسرائيل.

كيف تستخدم الصين المعادن النادرة كسلاح في حروبها التجارية مع الغرب؟
كيف تستخدم الصين المعادن النادرة كسلاح في حروبها التجارية مع الغرب؟

بوست عربي

timeمنذ 3 أيام

  • بوست عربي

كيف تستخدم الصين المعادن النادرة كسلاح في حروبها التجارية مع الغرب؟

تسببت حرب الرسوم الجمركية المتبادلة بين الصين وأمريكا والتي أطلقها ترامب ضد بكين، إلى اتخاذ الأخيرة أساليب استراتيجية جديدة في الرد على خصومها، من خلال تقييد إمدادات المعادن النادرة أو "الحرجة". وهي موادّ حيوية في صناعة للسيارات الكهربائية، الهواتف الذكية، الدفاعات، وتقنيات الطاقة النظيفة. وبفضل سيطرتها الكبيرة على هذا السوق، يبدو أن بكين باتت تحول هذه المعادن من سلع اقتصادية هامة واستثنائية، إلى أدوات ضغط سياسي بامتياز. وتحذر شركات صناعات كبرى من أن أحدث ضوابط التصدير التي فرضتها الصين في أبريل/نيسان الماضي على المعادن الأرضية النادرة، تتسبب في إيقاف إنتاج السيارات، حيث من المقرر أن تنفد مخزونات المغناطيسات الأساسية في غضون أشهر إذا أوقفت بكين الصادرات بالكامل. ووسعت بكين قيودها التصديرية لتشمل 7 عناصر أرضية نادرة ومغناطيسات حيوية للسيارات الكهربائية وطواحين الهواء والطائرات المقاتلة في أوائل أبريل/نيسان 2025 رداً على الرسوم الجمركية الباهظة التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنسبة 145% على الصين. ما هي المعادن النادرة وكيف تسيطر الصين عليها؟ تُعتبر المعادن الأرضية النادرة، وهي مجموعة من 17 عنصراً كيميائياً، مكونات أساسية في تصنيع المنتجات العالية التقنية وأشباه الموصلات وحتى صناعة الصواريخ الفضائية. معظم هذه المعادن ليس نادرًا جدًا في الواقع، بل منتشر في جميع أنحاء العالم، وإن كان نادرًا ما يتواجد في رواسب خام كبيرة بما يكفي لاستخراجها بكفاءة. ولذلك تُسمى نادرةً لصعوبة فصلها عن بعضها البعض. يتطلب كسر الروابط الكيميائية التي تربطها في الطبيعة أكثر من 100 مرحلة معالجة وكميات كبيرة من الأحماض القوية. تستخدم هذه المعادن في الصناعات التالية: المغناطيسات فائقة القوة داخل المحركات الكهربائية والطائرات. والأنظمة الدفاعية مثل أجهزة التوجيه الصاروخية، الرادار، والغواصات. بالإضافة إلى تقنيات الاستشعار في الهواتف، المجسّات الطبية، معدات الاتصالات. وكذلك الأقمار الصناعية وأنظمة الطاقة المتجددة كالألواح الشمسية وتوربينات الرياح. يُعد الليثيوم ضروريًا لإنتاج بطاريات أيونات الليثيوم عالية الكفاءة، بينما يُعد الكوبالت والنيكل مهمين أيضًا لتخزين الطاقة وتحسين أدائها. وتُعتبر معادن أخرى، مثل الجرافيت والمنغنيز، أساسيةً لمجموعة متنوعة من الاستخدامات الصناعية وتكنولوجيا البطاريات. علاوةً على ذلك، تعتمد الحلول الصناعية والفضائية والمتجددة المتقدمة على النيوبيوم والتنتالوم وعناصر مجموعة البلاتين والتنغستن والتيتانيوم والألمنيوم. وتُعزز هذه المعادن مجتمعةً التقدم التكنولوجي وتُبرز أهميتها الاستراتيجية في شبكات التوريد الدولية والتوسع الاقتصادي. تستخرج الصين 70% من المعادن الأرضية النادرة في العالم، بينما تستخرج ميانمار وأستراليا والولايات المتحدة معظم الكمية المتبقية. إلا أن الصين تُجري المعالجة الكيميائية لـ 90% من المعادن الأرضية النادرة في العالم، لأنها تُكرر جميع خاماتها، بالإضافة إلى إنتاج ميانمار بأكمله تقريبًا، وما يقرب من نصف إنتاج الولايات المتحدة. تمتلك الصين بعضاً من أفضل رواسب المعادن الأرضية النادرة الثقيلة في العالم. توجد هذه الرواسب في شريط من الخام غنيّ بها بشكل خاص في وادٍ بالقرب من لونغنان في جنوب وسط الصين، ويمتد غربًا إلى أقصى شمال ميانمار. ما هي أهمية المعادن السبع النادرة التي تسيطر عليها الصين وتفرض عليها قيود تصدير؟ المستهلك الرئيسي لهذه المعادن السبعة هو صناعة السيارات، التي تستخدم كميات كبيرة من مغناطيسات العناصر الأرضية النادرة المقاومة للحرارة. إلا أن هذه العناصر ضرورية أيضًا لمصنعي أشباه الموصلات، ومواد التصوير الطبي، والروبوتات، وتوربينات الرياح البحرية، ومجموعة واسعة من المعدات العسكرية. ومغناطيسات العناصر الأرضية النادرة أقوى بخمسة عشر مرة من مغناطيسات الحديد بنفس الوزن. وهي ضرورية لعشرات المحركات الكهربائية الصغيرة في سيارات اليوم. تعتمد محركات الفرامل والتوجيه والعديد من الأنظمة الأخرى على مغناطيسات العناصر الأرضية النادرة. قد يحتوي مقعد سيارة فاخر واحد على اثني عشر مغناطيسًا من العناصر الأرضية النادرة للمحركات التي تضبطه. تحتوي السيارات الكهربائية على مغناطيسات إضافية من العناصر الأرضية النادرة للمحركات التي تدير عجلاتها. تنتج الصين حوالي 90 بالمائة من إمدادات العالم من مغناطيسات الأرض النادرة. وإذا نفدت مغناطيسات مورد قطع غيار أحد هذه الأنظمة، فقد يضطر مصنع تجميع سيارات بأكمله إلى الإغلاق، وقد يُسرّح آلاف الموظفين مؤقتًا. وتتكون معظم مغناطيسات العناصر الأرضية النادرة من عنصرين أرضيين نادرين وخفيفين، هما النيوديميوم والبراسيوديميوم، اللذين تواصل الصين تصديرهما، كما أنهما متوفران بكميات أصغر بكثير من أستراليا والولايات المتحدة. لكن هذه المغناطيسات الأرضية النادرة قد تفقد الكثير من مغناطيسيتها إذا تعرضت للحرارة أو لمجال كهربائي قوي. ولمنع ذلك، يمكن إضافة كميات صغيرة من الديسبروسيوم أو التربيوم، وهما من العناصر الأرضية النادرة الثقيلة، أثناء الإنتاج، والتي تمتلك الصين منها بوفرة. وتُنتج محركات البنزين والعديد من المحركات الكهربائية حرارةً عالية، ولذلك يشتري قطاع صناعة السيارات في الغالب مغناطيساتٍ من معادن الأرض النادرة المُضاف إليها الديسبروسيوم أو التربيوم. حاليًا، لا تبيع الصين تقريبًا أيًا من هذه المغناطيسات المقاومة للحرارة. تنتج صناعة المغناطيس العالمية ما يقرب من 200,000 طن سنويًا من مغناطيسات العناصر الأرضية النادرة المحتوية على الديسبروسيوم أو التربيوم. وفيما يتعلق بالبطاريات، أصبحت الصين تمتلك ما يقارب 80% من إنتاج خام الليثيوم العالمي، ونحو 50% من عمليات التكرير والمعالجة لليثيوم، فضلًا عن عدد هائل من المصانع التي تنتج الخلايا (giga-factories). وتقدم الحكومة الصينية قروضًا، إعفاءات ضريبية، منح إنشاء المصانع التي تعمل في هذه الصناعة، وإجراءات تفضيلية للاستيراد والتصدير، مما خفّض التكاليف إلى أقل من مثيلتها في الغرب. كيف تعمل الصين على تسليح المعادن النادرة؟ في ظل هيمنتها على ما يقرب من 70-80% من الإنتاج العالمي لهذه المعادن، باتت الصين تستخدم هذا المورد الاستراتيجي كأداة للضغط الاقتصادي والسياسي، خاصة في مواجهتها مع الولايات المتحدة ودول غربية أخرى. بعد فترة وجيزة من إعلان بكين عن قيود جديدة على تصدير معادن الأرض النادرة والمغناطيسات المتخصصة التي تُصنع منها، حذّرت صناعة السيارات العالمية من نقص قد يُجبرها على إغلاق مصانعها. ولعلّ مهارة الصين في فرض عقوبات على المعادن النادرة هذا الربيع كانت العامل الرئيسي في إجبار واشنطن على التراجع عن زياداتها في الرسوم الجمركية على البلاد. تُمثّل هذه العقوبات حقبة جديدة من الحكمة الاقتصادية الصينية، ودليلاً على سياسة عقوبات قادرة على الضغط ليس فقط على الدول المجاورة الصغيرة، بل أيضاً على أكبر اقتصاد في العالم، كما تقول صحيفة " فاينانشيال تايمز" البريطانية. وتختلف الضوابط الجديدة المفروضة على تصدير المواد الأرضية النادرة والمغناطيسات. ففي غضون أسابيع قليلة، هددت بإغلاق مصانع رئيسية في قطاع صناعة السيارات، أكبر قطاع تصنيع في معظم الاقتصادات المتقدمة. كما أنها أجبرت الرئيس الأمريكي على الرضوخ لمبادرته المميزة: الحرب التجارية. ظنّ البيت الأبيض أنه حقق هيمنةً تصعيدية. وكانت نظريته أن الرسوم الجمركية الباهظة ستكون باهظة التكلفة لدرجة أن بكين لن تجد أمامها أي خيار سوى التفاوض. في الواقع، استطاع قادة الصين تحمّل التكلفة السياسية للرسوم الجمركية. لكن واشنطن لم تستطع تجاهل فقدان المواد الأرضية النادرة وتأثيره على شركات السيارات. في الواقع، منذ أبريل، انخفضت صادرات الصين من المعادن والمغناطيسات الأرضية النادرة، ليس فقط إلى الولايات المتحدة، بل إلى شركاء تجاريين رئيسيين آخرين مثل اليابان وكوريا الجنوبية. وخفّضت شركات صناعة السيارات الهندية إنتاجها في مواجهة نقص المواد. وأحضرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مغناطيسًا من المعادن الأرضية النادرة إلى اجتماع مجموعة السبع في يونيو، داعيةً إلى زيادة الإنتاج من خارج الصين. ويُعطي الاتحاد الأوروبي الأولوية لصادرات المعادن الأرضية النادرة في دبلوماسيته مع الصين. هل سبق وأن فرضت الصين قيوداً على تصدير المعادن النادرة؟ في عام 2010 أوقفت الصين صادرات جميع المعادن النادرة إلى اليابان لمدة شهرين خلال نزاع إقليمي، مما أثار قلق المصنّعين اليابانيين الذين كادت تنفد إمداداتهم. لاحقًا، ساعدت مجموعة سوميتومو التجارية اليابانية، والحكومة اليابانية، شركة ليناس الأسترالية على بناء قدرات تعدينية أكبر في أستراليا وقدرات معالجة أكبر في ماليزيا، حتى يتوفر لليابان بديل عن الصين. منذ ذلك الحين، احتفظت العديد من الشركات اليابانية بمخزونات ضخمة من الديسبروسيوم، تكفي لثمانية عشر شهرًا على سبيل المثال في صناعة أشباه الموصلات. وبدأت بعض شركات صناعة السيارات اليابانية، مثل هوندا ونيسان، مؤخرًا بدفع مبالغ إضافية لشراء مغناطيسات أرضية نادرة مقاومة للحرارة، وهي أغلى ثمنًا ولا تتطلب الديسبروسيوم، حتى مع تردد شركات صناعة السيارات في أماكن أخرى في دفع ثمن هذه التقنية البديلة. ولا يبدو أن شركات الإلكترونيات الكبرى في كوريا الجنوبية قد تراكمت لديها مخزونات. ولكن بعد أن أشارت الصين في ديسمبر 2024 إلى احتمال تقييد صادراتها من المعادن الأرضية النادرة، استوردت كوريا الجنوبية كميات كبيرة من الديسبروسيوم من الصين في يناير وفبراير، وفقًا لسجلات الجمارك الصينية. لذلك، حاولت الولايات المتحدة وأوروبا إنشاء صناعات خاصة بهما للمعادن الأرضية النادرة والمغناطيس بعد حظر عام 2010. لكنهما تواجهان تكاليف باهظة للامتثال البيئي، وتضطران لدفع رواتب عالية لجذب المهندسين الكيميائيين. يوجد في الصين 39 جامعة تقدم برامج تدريبية في المعادن الأرضية النادرة، بينما لا يوجد في الولايات المتحدة أي برنامج، كما تقول صحيفة " نيويورك تايمز".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store