
هل سيترشح أردوغان مجددًا؟ السيناريوهات المحتملة
حالة من الجدل أحدثتْها كلمات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي قال فيها: "غايتنا من الدستور الجديد ليست فتح مجال لأنفسنا، فلا هاجس لديّ لإعادة الترشح أو التقدم مجددًا للانتخابات". تكاثرت الأقوال في تفسيرها، وفي رسم سيناريوهات المستقبل، وغيّرت مجرى النقاشات السياسية في تركيا بشكل مفاجئ.
بيدَ أنّ هذه التصريحات، على عكس ما رآه بعض المعلّقين، لا تعبّر عن عدم رغبته في الترشح مجددًا، بل تشير إلى الأهمية الكبرى التي يوليها لتعديل الدستور.
والحقيقة أن هناك سرًا يعرفه الجميع في تركيا: أردوغان ينوي الترشح في الانتخابات المقبلة.
لقد أصبحت مسألة ترشّح رجب طيب أردوغان، الذي يقود تركيا منذ 23 عامًا (12 عامًا رئيسًا للوزراء، و11 عامًا رئيسًا للجمهورية)، من القضايا التي لا تنفصل عن كل نقاش حول الانتخابات العامة في البلاد.
منذ عام 2002 وحتى 2014، حكم أردوغان تركيا رئيسًا للوزراء في ظل النظام البرلماني، ثم انتُخب رئيسًا للجمهورية لأول مرة عام 2014 وفقًا لذلك النظام. وفي عام 2018، شهدت تركيا تحوّلًا جذريًا في نظامها السياسي، وانتقلت بموجب تعديل دستوري إلى "نظام الحكم الرئاسي".
وبحسب المادة 101 من الدستور المعدّل، فشروط الترشح لرئاسة الجمهورية كالتالي: "يُنتخب رئيس الجمهورية من بين أعضاء البرلمان التركي ممن تجاوزوا الأربعين عامًا، أو من بين المواطنين الأتراك الذين يتمتعون بمؤهلات الترشح النيابية، ويجب أن يكون قد أتمّ تعليمًا عاليًا. ويُنتخب الرئيس من قبل الشعب، ومدة ولايته خمس سنوات، ولا يجوز انتخاب الشخص نفسه رئيسًا لأكثر من دورتين".
كما نصّت المادة ذاتها على أن يفوز المرشح الذي يحصل على الأغلبية المطلقة (50٪ + 1) من الأصوات، وإذا لم يحصل أي مرشح على هذه النسبة تُعاد الانتخابات بعد أسبوعين بين المرشحين الحاصلين على أعلى عدد من الأصوات، ومن ينل الأغلبية في الجولة الثانية يُنتخب رئيسًا.
وبموجب هذا الدستور، وُسّعت صلاحيات أردوغان، وانتُخب مجددًا رئيسًا في انتخابات 2018 التي جرت على جولتين. ومن هنا بدأت النقاشات القانونية: هل يحق لأردوغان الذي انتُخب عامي 2014 و2018 أن يترشح للمرة الثالثة في انتخابات 2023؟ خصوصًا في ظل المادة التي تمنع الترشح لأكثر من مرتين.
لكن المجلس الأعلى للانتخابات (YSK) رأى أن شرط "الولايتين" بدأ سريانه مع تعديل الدستور عام 2018، لذا لا يوجد ما يمنع مشاركة أردوغان في انتخابات 2023. وهكذا خاض الانتخابات التي أُجريت جولتها الأولى في 14 مايو/ أيار، والثانية في 28 مايو/ أيار، وفاز بنسبة 52٪، ليبدأ ولايته الثالثة من حيث العدد، ولكن الثانية وفقًا للنظام الرئاسي الجديد. وبالتالي، فإنه سيواصل مهامه حتى عام 2028، وهو بذلك يكون قد شغل منصب الرئاسة لمدة 14 عامًا عند نهاية فترته الحالية.
غير أن نقاشًا جديدًا طفا على السطح: إذا كان الدستور لا يجيز الترشح لأكثر من دورتين، فهل سيتمكن أردوغان من الترشح مرة أخرى في انتخابات 2028؟
وفقًا للدستور، تُعقد الانتخابات بثلاث طرق: أولًا، في موعدها الاعتيادي، ثانيًا، إذا قرر البرلمان (TBMM) تبكير الانتخابات، وثالثًا، إذا قرر الرئيس حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة. لكن إذا حلّ الرئيس البرلمان بنفسه فلا يحق له الترشح. وعليه، فإن الخيار الوحيد لتمكين أردوغان من الترشح مجددًا، هو أن يتخذ البرلمان قرارًا بإجراء انتخابات مبكرة.
وبحسب المادة 116 من الدستور المعدّل عام 2018، والمعنونة بـ "تبكير انتخابات مجلس الأمة التركي ورئاسة الجمهورية":
"يجوز لمجلس الأمة التركي الكبير أن يقرر تبكير الانتخابات بأغلبية ثلاثة أخماس من مجموع أعضائه، وفي هذه الحالة تُجرى الانتخابات البرلمانية والرئاسية معًا. وإذا قرر الرئيس تبكير الانتخابات، تُجرى أيضًا انتخابات برلمانية ورئاسية معًا. وإذا قرر البرلمان تبكير الانتخابات في الولاية الثانية للرئيس، يجوز له الترشح مرّة أخرى".
بموجب هذه المادة، لا يوجد ما يمنع أردوغان من الترشح مجددًا إذا صوّت 360 نائبًا من أصل 600 في البرلمان لصالح تجديد الانتخابات. وهنا يكمن لبّ الجدل.
أصوات حزب العدالة والتنمية (AK Parti) بزعامة أردوغان، وشركائه في "تحالف الجمهور" (حزب الحركة القومية MHP، حزب الدعوة الحرة HÜDA PAR، والحزب اليساري الديمقراطيDSP) تبلغ 325 نائبًا فقط. أي أن التحالف بحاجة إلى 35 صوتًا إضافيًا لتمرير قرار "تجديد الانتخابات" الذي يمكّن أردوغان من الترشح مجددًا.
ومن السيناريوهات المطروحة إمكانية "نقل نواب" من كتل أخرى. ففي انتخابات 2023 كان عدد نواب التحالف 321، وارتفع لاحقًا إلى 325. ومع أن احتمالية انتقال 35 نائبًا من كتل أخرى ضعيفة، إلا أنها ليست مستحيلة، لا سيما في ظل التقارب بين التحالف و"حزب الشعوب الديمقراطي" (DEM) الذي يملك 56 نائبًا.
وقد أعلنت المعارضة الرئيسية (حزب الشعب الجمهوري CHP) استعدادها لدعم قرار "تجديد الانتخابات" شرط أن يُجرى في خريف 2025. وبالرغم من أن هذا الموقف يفتح الطريق نظريًا أمام أردوغان، فإن خطته الفعلية تختلف.
وكما أشرنا منذ البداية، فالأمر لم يعد سرًا: يهدف أردوغان إلى إجراء انتخابات مبكرة بقرار من البرلمان في خريف 2027، ليُعاد انتخابه رئيسًا حتى عام 2032.
وهذا الموقف لا يعكس إرادة أردوغان وحزبه فقط، بل أيضًا إرادة حلفائه: زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي، وحزبَي HÜDA PAR وDSP. كما أن قاعدة جماهيرية واسعة مؤيدة لأردوغان ترغب في إعادة انتخابه.
أردوغان يحتاج فقط إلى 35 نائبًا إضافيًا لتأمين قرار "تجديد الانتخابات" الذي يتيح له الترشح، وهو رقم صغير من الناحية العددية، لكنه صعب المنال في ظل الظروف السياسية التركية.
ومع ذلك، يبقى ممكنًا في ظل احتمال انضمام نواب من أحزاب أخرى، أو دعم من DEM، خاصة بعد دعم 23 نائبًا من DEM لانتخاب مرشح حزب العدالة والتنمية، نعمان قورتلموش، لرئاسة البرلمان بأغلبية 329 صوتًا، ما يشير إلى احتمال دعمهم أيضًا لقرار "تجديد الانتخابات".
كل هذا يعيد إلى الأذهان مقولة الرئيس التركي السابق سليمان ديميريل: "أربع وعشرون ساعة في السياسة وقت طويل جدًا".
فما يزال أمام تركيا وقت طويل حتى الانتخابات المقبلة، وقد تطرأ تحولات تدفع حتى الأحزاب المعارضة إلى دعم ترشح أردوغان مرة ثالثة، إذا ما نضجت الظروف لذلك.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
صحف عالمية: حماية الأطفال من الموت جوعا أحد أكبر تحديات العائلات الغزية
واصلت صحف ومواقع عالمية في مقالات وتقارير تسليط الضوء على المأساة الإنسانية التي تعرض لها أهالي قطاع غزة ، في ظل استمرار الحصار الإسرائيلي للقطاع والتجويع. وانطلق تقرير في صحيفة "الغارديان" البريطانية من قصة أم فلسطينية قُتلت برصاص الجنود الإسرائيليين بعد العديد من المحاولات اليائسة لتأمين قليل من الطعام لأبنائها من أحد مراكز توزيع المساعدات في غزة. وخلص التقرير إلى أن المشي لساعات والانتظار طويلا والدخول في حالة من الفوضى مخاطرةٌ لا طائل منها في غزة، فكثيرون يعودون أدراجهم من دون الحصول على المساعدات التي عرضوا حياتهم للخطر من أجل الوصول إليها. وتستذكر "نيويورك تايمز" الأميركية مقالا نشرته قبل عام تناول تحديات واجهتها بعض العائلات في غزة لحماية الأطفال من سوء التغذية، ثم تشير الصحيفة إلى أن الوضع الآن أصبح أكثر تعقيدا بعد حصار دام أشهرا ثم تغيير جذري في آلية توزيع المساعدات، و"في ظل تجدد العنف وانتشار الفوضى يهدف الآباء والأمهات في غزة إلى تأمين بقاء أطفالهم على قيد الحياة فحسب". عصابة إجرامية أما صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية فأوردت أن إسرائيل لم تتردد في التحالف مع عصابة إجرامية بهدف إضعاف حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، لافتة إلى أن ما أثير في السابق بشأن حماية توفرها إسرائيل لعصابة تسطو على قوافل المساعدات بات اليوم مؤكدا. وتضيف الصحيفة أن "العديد من المراقبين يستبعدون أن تشكل الجماعة التي لم ينكر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو -المطلوب ل لمحكمة الجنائية الدولية – دعمها تهديدا حقيقيا لسلطة حماس على القطاع بالنظر إلى قوامها ونطاق انتشارها في غزة". ومن جهتها، نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية مقالا جاء فيه أنه "لا يمكن تجاهل الصلة المباشرة بين منطق الاحتلال والتطرف السياسي وتراجع سيادة القانون ومعها مكانة إسرائيل الدولية". ويشرح المقال كيف تحول احتلال الأراضي الفلسطينية خلال أقل من عامين من قضية هامشية في الداخل الإسرائيلي إلى قضية تقوّض أسس الديمقراطية وتفكك المجتمع الإسرائيلي. ومن جهة أخرى، أشار تقرير في صحيفة "الإندبندنت" البريطانية إلى إحباط متزايد يستشعره معظم فلسطينيي الضفة الغربية من المجتمع الدولي بسبب ما يعتبرونه تجاهلا للواقع المفروض عليهم. وينقل التقرير قصص العديد من العائلات التي تعرضت للتهجير إما عبر هدم منازلها أو ترهيبها لإجبارها على الرحيل، ويذكر التقرير أن من فلسطينيي الضفة الغربية من اضطر إلى إعادة بناء منزله عدة مرات بعد عمليات هدم متكررة.


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
أطفال مفقودون بسوريا.. قصة عائلة ياسين والفصل القسري الذي طمس ذاكرة الطفولة
بعد مضي أكثر من 12 عاما على اختفاء 6 أطفال من أسرة سورية معروفة، لا تزال عائلة ياسين تبحث عن أجوبة في ملف يُعد من أكثر القضايا تعقيدا في سوريا ما بعد بشار الأسد ، ألا وهو مصير الأطفال الذين اختفوا قسرا خلال سنوات الحرب. وردَ ذلك في تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية عن الأطفال الذين اختطفهم نظام الأسد وفصلهم قسرا عن ذويهم، واستمرار البحث عنهم حتى اليوم. يقول التقرير إن الاستخبارات العسكرية السورية دهمت في مارس/آذار 2013 منزل الطبيبة رانيا العباسي، بطلة سوريا في الشطرنج، واعتقلت زوجها عبد الرحمن ياسين، ثم عادت بعد يومين لاعتقالها نفسها وأطفالها الستة، الذين كانت أعمارهم تتراوح بين عام واحد و14 عاما. ومنذ تلك اللحظة، انقطعت أخبار الأسرة بالكامل. وبعد سنوات من الصمت والرعب، كشفت الوثائق التي حصلت عليها الصحيفة، إلى جانب شهادات معتقلين سابقين ومسؤولين في دور أيتام، عن ممارسة ممنهجة للفصل القسري بين الأطفال وذويهم داخل منظومة الاعتقال السورية. وأشار التقرير إلى أن هذه السياسة لم تكن مجرد انتهاك عابر، بل جزءا من إستراتيجية استخباراتية لإخضاع المعارضين وطمس آثارهم تماما. وذكر أن التقديرات تشير إلى أن نحو 3700 طفل سوري لا يزالون في عداد المفقودين، كثير منهم تم انتزاعهم من ذويهم خلال الاعتقال، وتم إيداعهم دور أيتام خاضعة لسيطرة أجهزة الأمن. وأكدت تحقيقات وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل التي أجريت مؤخرا بعد سقوط نظام الأسد، وجود ما لا يقل عن 300 طفل وُضعوا في دور رعاية بدون وثائق رسمية، وسط تواطؤ بعض المؤسسات المحلية والدولية. ومن بين تلك المؤسسات، منظمة "قرى الأطفال- إس أو إس"، التي أقرت -في بيان صحفي- بأنها استقبلت 139 طفلا بين عامي 2014 و2018، بناء على تعليمات من النظام السابق، لكنها نفت احتجاز أبناء رانيا العباسي. وفي حالة نادرة مشابهة، تمكنت رشا الشربجي -وهي معتقلة سابقة- من استعادة أطفالها الخمسة الذين تم نقلهم قسرا إلى أحد مراكز "إس أو إس" في أثناء اعتقالها. وقد شكلت شهادتها خيطا مهما في تتبع مصير أطفال عائلة ياسين. بين الأمل والانكسار بعد سقوط نظام الأسد، عادت عمّة الأطفال، نائلة العباسي، إلى دمشق لأول مرة منذ بداية الحرب، لتعيد فتح ملف شقيقتها. دخلت منزل العائلة المهجور، حيث وجدت أغراض الأطفال كما هي، ودفاتر المدرسة مفتوحة على طاولات الدراسة، وكأن الزمن توقّف عند لحظة الاعتقال. على جدران المنزل، بقيت آثار الطفولة. في دفتر نجاة، كبرى البنات، كُتب بخط اليد: "سنبقى في سوريا حتى ترحل يا بشار". أما أعقاب السجائر في الزوايا، فكانت الشاهد الوحيد على مداهمة رجال الأمن. قالت نائلة العباسي: "لم أرَ في حياتي شيئا أقسى من أن أبحث عن أطفال لا أعلم إن كانوا أحياء أم أمواتا، وألا أملك حتى صورة حديثة لهم". وفي ظل غياب الوثائق الرسمية، حاولت العائلة تعقب صور الأطفال على مواقع الإنترنت وصفحات دور الأيتام، وبمساعدة أصدقاء، استُخدم الذكاء الاصطناعي لتخمين ملامحهم بعد سنوات من الغياب. ظهرت بعض الخيوط، منها صورة لفتى يُدعى "عمر عبد الرحمن" في دار "لحن الحياة"، بدا شبهه كبيرا بأحمد ياسين، لكن فحص الحمض النووي نفى وجود صلة قرابة. إرث دموي وأرواح ضائعة ومع انهيار النظام السوري نهاية العام الماضي، ورثت السلطة الانتقالية تركة مثقلة بجرائم الحرب والاختفاء القسري. أمام السلطات الجديدة الآن أحد أكثر الملفات حساسية: تحديد مصير عشرات الآلاف من المعتقلين والمختفين، بينهم آلاف الأطفال الذين فُصلوا عن أهاليهم، ونُقلوا إلى مؤسسات لا تزال كثير منها ترفض التعاون الكامل. وكشق الناطق باسم وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، سعد الجابري، عن وجود سجلات تشير إلى نقل نحو 300 طفل إلى 4 دور رعاية رئيسية في دمشق، لكنه أشار إلى أن كثيرا من الوثائق الرسمية إما فُقدت أو دُمّرت. وأضاف: "في بعض الحالات، نحن لا نعرف حتى الأسماء الحقيقية لهؤلاء الأطفال". وفي حديثه للصحيفة، أشار الجابري إلى احتمال وجود مقابر جماعية في محيط العاصمة، قد تضم رفات معتقلين ماتوا تحت التعذيب، دون أن يُسجل وجود أطفال من عائلة ياسين بينها. وقال: "نحن أمام منظومة استخباراتية تعمدت محو الهويات، ومهمتنا الآن استعادة تلك الهويات من العدم". ودعت منظمات حقوقية إلى فتح تحقيقات دولية مستقلة بشأن مصير الأطفال السوريين المختفين، ومحاسبة المتورطين في جريمة الفصل القسري. وقالت كاثرين بومبرغر، المديرة العامة للجنة الدولية للمفقودين، إن "الفشل في كشف مصير هؤلاء الأطفال يشكل خطرا حقيقيا على مستقبل سوريا، وقد يُغذي جولات جديدة من العنف". وأضافت: "يجب أن يعلم السوريون أن هذا الملف لن يُطوى بصمت". "سنبحث حتى النهاية" ورغم كل الخيبات، فلا تزال عائلة ياسين تُصر على الاستمرار في البحث. وتقول نائلة: "مهما كانت الحقيقة، نريد أن نعرفها. إن كانوا أحياء، فسنستعيدهم. وإن كانوا شهداء، فليكن لهم قبر نضع عليه وردة". وفي شوارع دمشق، حيث تتشابك رائحة الياسمين مع ظلال المقابر الجماعية، لا تزال ذاكرة الأطفال المفقودين ترفرف كأطياف في مدينة تبحث عن بداية جديدة.


الجزيرة
منذ 4 ساعات
- الجزيرة
قراءة شاملة لجذور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من منظور المؤرخ الشاب زاخاري فوستر
في هذا الحوار المطوّل غير التقليدي يقدم المؤرخ والناشط الأميركي زاخاري فوستر قراءته لتاريخ فلسطين المعاصر والحديث ورؤية عميقة وشاملة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وقد حصل فوستر على درجة الدكتوراه في دراسات الشرق الأدنى من جامعة برينستون عام 2017، وهو مؤسس مشروع "فلسطين نيكسوس" الذي يأمل أن يكون المصدر المفضل لفهم ما يحدث في فلسطين. يتتبّع الحوار الجذور التاريخية للصراع وتطوراته عبر القرنين الماضيين، ويستعرض فوستر، وهو باحث متخصص في تاريخ المنطقة، أبعادًا متعددة للقضية، مقدمًا تحليلًا نقديًّا للروايات السائدة ومفندًا بعض المفاهيم الخاطئة. يبدأ الحوار بتأصيل تاريخي للقضية، حيث يقول الضيف: "أعتقد أن جذور قضية إسرائيل وفلسطين تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر… عندما قرر اليهود تحويل دولة عربية، أي فلسطين، إلى دولة يهودية". هذا التحديد الزمني يضع القضية في سياقها التاريخي الصحيح، مؤكدًا أن بدايتها تسبق فترة الاستعمار التقليدي. يتطرق الحوار إلى مقارنة الصهيونية بحركات الاستعمار الاستيطاني الأخرى، مع تسليط الضوء على خصوصيتها. يقول الضيف: "الصهيونية من بين جميع الحركات الاستعمارية الاستيطانية في جميع أنحاء العالم… هي نوع مثالي من الحركة الاستعمارية الاستيطانية". ويضيف موضحًا الفرق: "ما يميز الحركات الاستعمارية الاستيطانية عن الحركات الاستعمارية العادية هو أن الحركات الاستعمارية الاستيطانية تتخلى عن روابطها بوطنها الأصلي." يناقش الحوار أيضا تطور المواقف الأكاديمية اتجاه القضية، خاصة بين المؤرخين الغربيين واليهود. يشير الضيف إلى أن "هناك تقليدًا طويلًا من معاداة الصهيونية لدى اليهود. في الواقع، يعود هذا التقليد إلى أصول الصهيونية نفسها"، وفي المقابل يفنّد الادعاءات حول عدم وجود هوية فلسطينية قبل قيام إسرائيل. ويختتم بتأكيد أهمية فهم الجذور التاريخية للصراع لإدراك تعقيداته الحالية. يقول الضيف: "يمكنك أن تفهم بشكل أساسي الكثير من التاريخ الفلسطيني إذا فهمت فقط إجابتهم عن هذا السؤال: ما هو الخيار المناسب كرد فعل على مجموعة من الناس تحاول الاستيلاء على أرضي وتدمير منزلي وتطهيري عرقيًّا من البلاد." هل ترى جذور القضايا الحالية في الشرق الأوسط، وخاصة في فلسطين؟ أعتقد أن جذور قضية إسرائيل وفلسطين تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر. لذا فهذه الفترة الزمنية تسبق فترة الاستعمار. وفي سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر، كان اليهود في أوروبا يتحدثون عن إنشاء دولة يهودية في فلسطين. وأعتقد أن هذا هو أصل قضية فلسطين بالنسبة لي. كان ذلك عندما قرر اليهود تحويل دولة عربية، أي فلسطين، إلى دولة يهودية. بالنسبة لي، كان هذا هو بداية قضية إسرائيل وفلسطين الحديثة. نعم. نحن نتحدث عن سبعينيات القرن التاسع عشر أو ثمانينياته، أي ما يعادل 140 أو 150 عامًا، لقد تلقيت عمومًا ردودًا إيجابية جدًّا على فيديو يشرح ذلك. كان هدفي محاولة تغطية أكبر قدر ممكن من الأرض في مقطع مرئي قصير قدر الإمكان. والتركيز على محاولة فهم سبب حدوث الأشياء، والطريقة التي حدثت بها. وأعتقد أن الناس عمومًا قد قدروا ذلك لأنني أعتقد، أولًا وقبل كل شيء، أنني أحاول أن أكون موضوعيًّا. أنا أتحدث عن الإرهاب اليهودي. أنا أتحدث عن الإرهاب الفلسطيني. أنا أتحدث عن الجرائم، جرائم الحرب التي ارتكبتها كل من إسرائيل وحماس. صحيح. لذا، أعتقد أنني أحاول جاهدًا تقديم رواية موضوعية، فضلًا عن الجرأة التفسيرية لمساعدتكم على فهم كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم. وأعتقد أن الناس يقدرون ذلك. من الواضح أن لديَّ وجهة نظري الخاصة. ومن الواضح أنني أعتقد أنه لفهم حقيقة الأمر، وكيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم؛ يتعين عليك أن تفهم حقًّا الفكرة الأساسية الكامنة وراء الصهيونية، التي تتلخص في أننا نريد تحويل هذا البلد من بلد عربي فلسطيني إلى بلد يهودي. لذا كان على كل زعيم صهيوني أن يسأل نفسه هذا السؤال: ماذا سنفعل بالسكان الأصليين؟ لذا فأنا أحاول تسليط الضوء على وجهة النظر الفلسطينية، والتركيز بشكل خاص على محاولة إعطاء صوت لضحايا هذا الصراع، وللأشخاص الذين ضاعت أصواتهم في الروايات التقليدية. أعتقد أنني أركز أيضا على إسرائيل وفلسطين بدلًا من الصراع العربي الإسرائيلي. الناس ظلوا لعقود طويلة يعتبرون هذا الصراع أشبه بصراع عربي إسرائيلي بين إسرائيل والدول العربية. وأعتقد أنه من الواضح أنه لم يكن هناك صراع حقيقي كبير بين إسرائيل والدول العربية. بل كان الصراع دائمًا في المقام الأول بين إسرائيل والفلسطينيين. وأعتقد أن هذا الأمر أصبح الآن أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. لذا فهذه زاوية أخرى للقصة. أنا لا أتحدث عن حرب 1973. ولا أتحدث عن غزو سيناء. ولا أتحدث حقًّا عن اتفاقيات السلام بين الأردن ومصر في التسعينيات أو السبعينيات ثم التسعينيات. هذه بالنسبة لي مجرد أحداث جانبية. بالنسبة لي، القضية الأساسية هي قضية إسرائيل وفلسطين، وهي المحاولة الصهيونية ثم الإسرائيلية للسيطرة على كل الأراضي الواقعة بين النهر والبحر. أعتقد أن هذا هو ما نحتاج إلى فهمه حقًّا، لفهم كيف وصلنا إلى حيث وصلنا اليوم. أعتقد أن هناك بعض الاختلافات. أولًا وقبل كل شيء، لا أستطيع أن أسمي الصهيونية حركة استعمارية. بل أسميها حركة استعمارية استيطانية. وفي الواقع، قد تقول إن الصهيونية من بين جميع الحركات الاستعمارية الاستيطانية في جميع أنحاء العالم، في أستراليا، وفي الولايات المتحدة وكندا، هي نوع مثالي من الحركة الاستعمارية الاستيطانية. بمعنى أن ما يميز الحركات الاستعمارية الاستيطانية عن الحركات الاستعمارية العادية هو أن الحركات الاستعمارية الاستيطانية تتخلى عن روابطها بوطنها الأصلي، في حين أن الحركات الاستعمارية تريد الاحتفاظ بروابطها بوطنها. فلنفكر على سبيل المثال في الفرنسيين، الفرنسيين في الجزائر. لقد كانت تلك حركة استعمارية، أليس كذلك؟ لأنهم أرادوا في واقع الأمر الحفاظ على روابطهم بوطنهم. قد تقول إن الولايات المتحدة كانت في مكان ما بين هذين الأمرين، لأن العديد من المستعمرين كانوا يريدون الحفاظ على ارتباطهم ببريطانيا العظمى، وكانوا يريدون العودة إلى بريطانيا العظمى. ولم يكونوا يريدون قطع هذه الصلة تمامًا. أما في حالة الصهيونية، فقد تخلوا تمامًا عن بلدانهم الأصلية. ولم تكن لديهم أي نية للعودة أبدًا. أعني أن العديد منهم، بالمناسبة، عادوا، ولكن عندما وصلوا أول مرة إلى فلسطين، كانت فكرتهم أننا لا ننوي العودة إلى الوطن. نحن ننتقل إلى فلسطين، وسنقوم بتأسيس جذورنا هنا، وسنستولي على هذا البلد. لذا فإن هذا هو أحد الاختلافات الرئيسية. والاختلاف الرئيسي الثاني هو أن الصهيونية متجذرة في العديد من الأفكار اليهودية. أليس كذلك؟ هناك فكرة في اليهودية مفادها أن اليهود سيعودون في نهاية المطاف إلى الأرض المقدسة. إنه نوع من الاعتقاد الأخروي بأن المسيح، سيعود في نهاية الأيام وسيجتمع كل اليهود من أنحاء العالم الأربعة ويعودون إلى فلسطين. لذا فإن هذا يميزها عن الحركات الاستعمارية الاستيطانية الأخرى التي لم تكن متجذرة في تقاليد دينية عمرها 3000 عام. كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا، ولديها نوع من الروابط الدينية، بالأرض واعتبرت هذه الأرض ذات أهمية دينية. لذا أعتقد أن هذا يميزها أيضًا. لكن أودّ أن أقول بشكل عام، إن أوجه التشابه مذهلة للغاية. أعني، لديك هؤلاء الأشخاص المضطهدون، أليس كذلك؟ أعتقد أن هذا مهمّ حقًّا لفهم جوهر معظم الحركات الاستعمارية الاستيطانية. عليك أن تفهم أن هؤلاء الناس هم في المقام الأول الذين يشعرون بالاضطهاد في بلدانهم الأصلية. أليس كذلك؟ "لقد واجه البروتستانت الأميركيون الذين قدموا إلى العالم الجديد الاضطهاد في بلدانهم الأصلية. ولهذا السبب كانوا يجمعون أمتعتهم ويغادرون. هل تعتقد أنهم أرادوا ركوب القوارب؟ لقد كانت رحلة خطيرة للغاية وغادرة. إذ استغرقت شهرين عبر المحيط. وقد هلك العديد منهم على طول الطريق. هل كانوا يريدون فعل ذلك؟ لا، بالطبع لا. تمامًا كما لم يرد اليهود التخلي عن أوطانهم في الغالب. لقد أجبروا على المغادرة بسبب المذابح، ومعاداة السامية، وبسبب العنف الذي واجهوه في بلدانهم الأصلية. لذا أعتقد أن هذا يعني بهذا المعنى أن الصهيونية تشبه إلى حد كبير العديد من الحركات الاستعمارية الاستيطانية الأخرى. ظهر مؤخرًا جيلًا جديدًا من المؤرخين الغربيين، ضد السياسات الإسرائيلية.. كيف نشأ هذا الجيل من الأكاديميين مثلك، داخل المؤسسات التي كانت تعتبر تقليديًّا مؤيدة لإسرائيل؟ أولًا وقبل كل شيء، أنا لست منتميًا إلى أي جهة أكاديمية. أنا لست أستاذًا في جامعة مقرها الولايات المتحدة. وأعتقد أن هذا يقطع شوطًا طويلاً في تفسير ذلك. وبالمناسبة، عندما أخذت شهادتي للدكتوراه من جامعة برينستون، كان هناك عدد من أعضاء هيئة التدريس في قسمي، بما في ذلك مستشاري الأكاديمي، الذي أصدر نداءً وإعلانًا يدعو الجامعة إلى تمرير قرار بالمقاطعة، قرار "BDS"، يدعمون ذلك الحراك ويطالبون الجامعة أن تسحب استثماراتها من الشركات التي تستفيد من احتلال إسرائيل للضفة الغربية وحصارها لغزة. وأود أن أقول إن الغالبية العظمى من أعضاء هيئة التدريس الذين يدرسون إسرائيل وفلسطين في الولايات المتحدة متعاطفون للغاية مع القضية الفلسطينية. ولكن ما أود أن أقوله في الوقت نفسه هو أن هناك خوفًا مؤسسيًّا. إنهم يخشون أن تتعرض مؤسساتهم وإدارات جامعاتهم والأشخاص الذين يجلسون في أعلى التسلسل الهرمي للجامعة للانتقام من هؤلاء الأشخاص، لأن هؤلاء الأشخاص لديهم مصالح مختلفة. إنهم ليسوا مؤرخين. إنهم ليسوا علماء سياسة. إنهم لا يتابعون الأحداث على الأرض. إنهم لا يعرفون ما يحدث في إسرائيل وفلسطين. ولكن في الغالب، بدلًا من ذلك لديهم ولاءات للمانحين وما يريدونه، وبالتالي فهم مدينون لفئة المانحين، وهي مجموعة مختلفة جدًّا من الناس.. هناك فرق كبير بين هيئة التدريس في الجامعة، والإدارة، كما تعلمون، ثم هناك فرق أكبر بين هيئة التدريس وفئة المتبرعين. والحقيقة، أن الأشخاص الذين يتولون المسؤولية حقًّا عن الجامعة هم الإدارة وفئة المتبرعين. الأمر لا يتعلق بهيئة التدريس. إعلان لاحظنا أن هذه الحرب كانت حدثًا مختلفا، في هذا السياق، وظهر كثير من المؤرخين التاريخيين المناهضين للصهيونية، داخل المجتمع اليهودي، في أوروبا والولايات المتحدة. هل يمكنك أن تعطينا نبذة مختصرة عن ذلك؟ انظر، يمكنك العودة بالزمن لعقود عديدة. أعني شخصيات مثل نعوم تشومسكي، نورمان فينكلشتاين. هناك تقليد طويل من معاداة الصهيونية لدى اليهود. في الواقع، يعود هذا التقليد إلى أصول الصهيونية نفسها، أليس كذلك؟ عندما ظهرت الصهيونية أول مرة على عتبات المنازل، في أوروبا والولايات المتحدة، كان اليهودي العادي، يعارض الصهيونية. عندما ظهرت الصهيونية أول مرة في أواخر القرن التاسع عشر، في الولايات المتحدة، كانت حركة الإصلاح، التي تعد اليوم أكبر الحركات اليهودية في الولايات المتحدة، تتألف من ثلث اليهود الأميركيين. وأنا أنتمي إلى حركة الإصلاح التي تأسست أول مرة في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وتبنت برنامج بيتسبرغ. وبرنامج بيتسبرغ يقول في الأساس، إننا لا ندعم الهجرة اليهودية إلى فلسطين؛ لأنها تتناقض مع اعتقادنا بأن اليهود يجب أن يندمجوا في المجتمعات التي يعيشون فيها. وكانوا في ذلك الوقت يحاولون الاندماج في الولايات المتحدة في مواجهة معاداة السامية. وكانوا يعتقدون أنه إذا ظهرت هذه الحركة اليهودية التي تقول إن اليهود ينتمون إلى فلسطين، فإنهم سيواجهون المزيد من الاضطهاد في بلدانهم الأصلية، وسيواجهون اتهامات بالولاء المزدوج، وسيواجهون المزيد من التمييز لأن الناس سيقولون، حسنًا، إذا كنت تريد الذهاب إلى فلسطين، فماذا تفعل هنا؟ لذا كانت هناك حركة نشطة للغاية بين اليهود. هذا كان برنامج بيتسبرغ في ثمانينيات القرن التاسع عشر. ثم لديك العديد والعديد من المثقفين اليهود، طوال فترة ما بين الحربين العالميتين، الذين عارضوا الصهيونية. أعتقد أن السبب وراء معارضتهم للصهيونية هو أنهم رأوا أن الصهيونية باعتبارها حركة استعمارية استيطانية لن يكون لها سوى نتيجة حتمية واحدة، وهي في النهاية تهجير السكان الأصليين من الأرض. وقد كرر ذلك العديد من المناهضين للصهيونية، واليهود المناهضين للصهيونية في فترة ما بين الحربين العالميتين، من عام 1919 إلى 1939. العديد من اليهود يعارضون الصهيونية لهذا السبب. ثم كان لديك سلالة ثالثة من اليهود المناهضين للصهيونية، وكانت في الأساس من اليهود المتدينين المناهضين للصهيونية، وكان بعضهم مثقفين للغاية. أعني أنهم ربما لم يكونوا أكاديميين، لكنهم كانوا بالتأكيد غارقين في التقاليد اليهودية وكانوا يعتقدون أن أي محاولة لتسريع مجيء المسيح، تعدّ بالنسبة لهم محاولة من الصهيونية لتسريع المستقبل، وهي محاولة من اليهود للتدخل لتحقيق المجيء الثاني للمسيح. كان هناك اعتقاد لاهوتي في اليهودية بأن اليهود سيعودون إلى فلسطين أو إسرائيل في آخر الزمن عندما يأتي المسيح مرة ثانية،، وكان اعتقادهم هو أنه إذا انتقلت إلى فلسطين، فإنك تنتهك قانون التوراة لأن الله وحده هو الذي يقرر ذلك. إن قرار الله هو عندما يأتي وليس قرار البشر. عندما يتصرف البشر لمحاولة تسريع هذا المستقبل، فهذا انتهاك لقانون التوراة. كانت هذه سلالة ثالثة داخل اليهودية، داخل الدوائر اليهودية. أعتقد أنه يمكن القول إنها كانت معارضة للصهيونية. لذا كان هناك اليهود الذين أرادوا الاندماج في مجتمعاتهم الأصلية وعارضوا الصهيونية. وكان هناك يهود ربما عارضوا الصهيونية لأنهم اعتقدوا أنها ستؤدي إلى طرد السكان الأصليين من الأرض. وكانوا قلقين للغاية بشأن ذلك. وكانوا على حق تمامًا. وهذه هي السلالة الثانية. ثم كانت هناك السلالة الثالثة، التي تمثلت في الصهاينة المتدينين المناهضين للصهيونية. ماذا عن اليهود القادمين من خلفيات قومية؟ أعتقد أن وجهة نظري هي أن المثقفين الذين يعارضون الصهيونية يعارضون على الأرجح معظم القوميات لأن الصهيونية هي شكل من أشكال القومية. إنها قومية يهودية. وأعتقد أن لديك العديد من الأكاديميين مثلهم، وخاصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة في أعقاب التطهير العرقي ضد البوسنيين، وفي ميانمار، والتطهير العرقي ضد السكان الأصليين في جميع أنحاء العالم، في أستراليا والولايات المتحدة. أعتقد أنه كان هناك صحوة في العقود القليلة الماضية، بأن الصهيونية كانت في الأساس مشابهة جدًّا للعديد من حركات الاستعمار الاستيطاني الأخرى. إذا عدنا إلى أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، فلن تجد الكثير من الأكاديميين يتحدثون عن الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية. لم يدرك الأكاديميون إلا في العقود القليلة الماضية أن الصهيونية تشترك في الكثير مع كل هذه الحركات الاستعمارية الاستيطانية الأخرى، التي ارتكبت جميعها فظائع مروعة ضد السكان الأصليين. لذا أعتقد أن القومية العرقية، وخاصة في أعقاب التطهير الذي حدث في البلقان في التسعينيات، عندما دخلت المليشيات الصربية إلى سربرنيتشا وذبحت 8000 من البوسنيين المسلمين، لارتكابهم جريمة كونهم بوسنيين، أعتقد أن هذا النوع أيقظ العالم على فكرة مفادها أنه عندما تحاول إنشاء دولة قومية عرقية، أي دولة تخدم مصالح مجموعة عرقية واحدة فقط، فإن ذلك يؤدي إلى عواقب وخيمة للغاية على المجموعات التي تقع داخل الدولة والتي تنتمي إلى عرقية مختلفة. أنت تدرس الكثير من القضايا في تاريخ الفلسطينيين والإسرائيليين المعاصرين، كما درست أيضًا ردود الشعب الفلسطيني والتفاعل مع الصهيونيين في عدة مناسبات. كيف تقارن ما حدث في عام 1948، وقبل وبعد عام 1967، بما يقع الآن؟ وكيف تقارن ردود الشعب الفلسطيني اتجاه الاحتلال، قبل وبعد النكبة؟ لأنك تركز على ما قبل النكبة أيضًا. وهذا ليس شائعًا في الوقت الحاضر لأنه يبدو – لدى البعض- أن التاريخ بدأ في السابع من أكتوبر. لذا نريد أن نضع سياقًا تاريخيًّا. يمكنك فهم الكثير عن التاريخ الفلسطيني إذا فهمت الإجابة الفلسطينية عن سؤال واحد فقط، وهو: ما هي الطريقة الشرعية؟ ما هي الطريقة المناسبة لمقاومة مجموعة من الناس تريد الاستيلاء على بلدك واتخاذ جميع القرارات المهمة بشأن حياتك؟ لأن هذا هو ما كانت عليه الصهيونية. وإذا كان من الواضح أن الفلسطينيين استجابوا بطرق مختلفة، وكانت هناك مجموعة من الردود. كان هناك فلسطينيون خلال فترة الانتداب في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين (يقولون) دعونا نعمل مع هؤلاء الناس. دعونا نعمل مع الصهاينة. كما تعلمون، دعونا نقدم ملاحظات احتجاج إلى البريطانيين، ونقول لهم إننا سنقاوم هذا سلميًّا. سنقدم احتجاجنا في شكل مكتوب. سنحتج سلميًّا في الشوارع. وهذا بالضبط ما فعله العديد من الفلسطينيين. كان هذا في الواقع، أحد أهم التيارات داخل الحركة الوطنية الفلسطينية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. كان هذا الشكل من أشكال النضال غير عنيف بشكل كامل، وكانوا يطلقون عليه ما كانوا يسمونه المؤتمرات الوطنية طوال عشرينيات القرن العشرين، وكانت كلها سلمية. واجتمع الفلسطينيون في أعوام 1919، و1920، و1921، و1922، و1923، و1924، و1925، وقالوا: انظروا، نحن ندعو إلى إنشاء دولة ديمقراطية في فلسطين. لقد دعونا البريطانيين إلى السماح لنا بانتخاب ممثلينا ديمقراطيًّا من السكان الأصليين اليهود والمسيحيين والمسلمين في فلسطين. وبطبيعة الحال، تجاهل البريطانيون كل هذه المقترحات تمامًا. كان النظام البريطاني مناهضًا للديمقراطية. لقد انتهك الإرادة السياسية لـ85% من السكان. وبعد ذلك، بالطبع، كان هناك تيار أكثر تشددًا داخل السلطة. نحن هنا لا نتحدث فقط عن السياسات التي فشلت، بل عن كل سياسة نجحت خلال فترة الحكم البريطاني لفلسطين. نتحدث عن آلاف الفلسطينيين الذين عملوا في ظل الإدارة البريطانية، كل واحد منهم – من خلال هذا العمل – كان يقبل ضمنيًا النظام الذي فرضه البريطانيون، وهو نظام لم يكن ديمقراطيًا بأي حال، بل كان منحازًا بوضوح لمصلحة المشروع الصهيوني. هذا القبول، حتى وإن بدا براغماتيًا، كان يعكس موقفًا واسع الانتشار في تلك الفترة. لكن، في المقابل، لا بد أن أقول إن هناك تيارًا واضحًا داخل الحركة الوطنية الفلسطينية تبنى موقفًا أكثر صرامة. هذا التيار كان يرى بوضوح أن الاستعمار البريطاني لم يأتِ بالتوافق، بل فُرض بالقوة المسلحة. وبالتالي، فإن الرد عليه يجب أن يكون بالقوة أيضًا. فحين تواجه مشروعًا استعماريًّا عنيفًا يسعى لانتزاع أرضك، وطمس هويتك، وتحويل وطنك من بلد عربي إلى كيان يهودي، فإن الوسيلة الوحيدة لمقاومته هي الرد بالمثل، بالقوة. وأعتقد أن هذا التوجه، رغم أنه لم يكن الغالب في البداية، إلا أنه بدأ يكتسب زخمًا متزايدًا، خصوصًا في أواخر الثلاثينيات، وتحديدًا مع انطلاق الثورة العربية الكبرى في فلسطين بين عامي 1936 و1939. ومنذ ذلك الحين، وعلى مدى العقود السبعة التي تلت نكبة عام 1948، وحتى يومنا هذا، يمكن القول إن هذين التيارين – السلمي والمسلح – ظلا حاضرين ومتداخلين في المشهد الفلسطيني. هناك دائمًا من قال إن تحرير فلسطين لا يمكن أن يتم إلا عبر القوة. هذا الرأي لم يكن هامشيًّا، بل شكّل التيار المركزي في أوساط الشتات الفلسطيني، وتبنته جماعات كبرى مثل 'فتح' و'الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين'. بل إن منظمة التحرير الفلسطينية نفسها، في بداياتها، تبنت الكفاح المسلح كوسيلة وحيدة للتحرر الوطني، قبل أن تتحول تدريجيًا إلى خيارات سياسية وسلمية، رافضة العنف في مراحل لاحقة. وهنا أجد من المهم الإشارة إلى مسألة ديناميكية المواقف، لأن هذه التحولات لم تكن حكرًا على جماعة واحدة. بل إن الجماعات نفسها، بالأشخاص أنفسهم، والقيادات ذاتها، والبنية التنظيمية الأساسية نفسها، قد تنقلوا عبر الطيف السياسي بين العنف واللاعنف وفقًا للظروف، وتبعًا لطبيعة الاحتلال وتكتيكاته القمعية. نفس التحول شهدناه مع حركة 'حماس'. فهذه الحركة، التي بدأت في الأصل كامتداد لجماعة 'المجمع الإسلامي' ذات الطابع الخيري وغير العنيف، تطورت لاحقًا إلى تبني الكفاح المسلح. وكما حصل مع منظمة التحرير من قبل، فإن المواقف تتغير وفقًا لتصاعد العنف من الطرف الآخر، ومدى البطش الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي، وشروط البيئة السياسية في كل مرحلة. وبالتالي، لفهم التاريخ الفلسطيني المعاصر، لا أعتقد أنك بحاجة إلى قراءة كل التفاصيل الصغيرة، بل يكفي أن تطرح سؤالًا واحدًا وتتابع كيف أجاب عليه الفلسطينيون عبر الزمن: ما هي الوسيلة المشروعة لمقاومة مشروع استعماري يسعى إلى سلب أرضك، وهدم منزلك، وتطهيرك عرقيًا من وطنك؟ الإجابة على هذا السؤال وحدها كافية لفهم الكثير من التحولات والتوجهات التي شهدها هذا الشعب في مواجهة استعمار طال أمده. هناك نقاش كبير حاليا عن الهوية الفلسطينية قبل النكبة، وهناك من ينكر هذه الهوية تاريخيا؟ لطالما سعى الخطاب الصهيوني إلى إنكار الهوية الوطنية الفلسطينية، من خلال تصوير الفلسطينيين كمجرد 'عرب' أو 'سوريين جنوبيين'، بهدف الطعن في فكرة أنهم شعب أصيل له وجود وطني وتاريخي. هذا الإنكار كان وسيلة لتسهيل الرواية الصهيونية التي تؤمن بقومية يهودية تمنح 'إسرائيل' لليهود حصريًا. ومن هنا جاءت جهود متعمدة لإعادة كتابة التاريخ، عبر أوراق أكاديمية ومؤلفات تنفي وجود 'الفلسطيني' كشخصية قومية. ردًا على ذلك، حاولت توثيق استخدام مصطلح 'فلسطيني' في السياقات المحلية، ليثبت بالأدلة اللغوية والتاريخية أن الفلسطينيين عرّفوا أنفسهم كأمة قبل ظهور الصهيونية بسنوات، بل وعقود. في المصادر الإنجليزية، يظهر المصطلح منذ ستينيات القرن التاسع عشر، وفي المصادر العربية منذ أواخر القرن ذاته، تحديدًا عام 1898. ويؤكد الباحث أن استخدام هذا المصطلح لم يكن نتيجة رد فعل على الصهيونية، بل سبقها، وظهر في أوساط طلاب فلسطينيين في الناصرة، بعيدًا عن أي تأثير مباشر للحركة الصهيونية التي لم تكن قد انتشرت بعد في المنطقة. كما يشير إلى أن هؤلاء الرواد من الفلسطينيين، مثل نجيب نصار وخليل بيدس وسليم قبعين، تلقوا تعليمهم في مدارس عربية وروسية، وشكلت مفاهيم الوطن والهوية بالنسبة لهم جزءًا من وعي ثقافي أوسع، لا علاقة له بالصراع اللاحق مع الصهيونية، بل بجذور وطنية ضاربة في الوجدان واللغة والخرائط التي علقت على جدران المدارس.