
رصد مستويات مقلقة من "الميكروبلاستيك" في بحيرة البرلس المصرية
في مشهد يعكس التحديات البيئية التي تواجهها البحيرات الساحلية في منطقة البحر المتوسط، كشفت دراسة علمية حديثة أن بحيرة البرلس -ثاني أكبر البحيرات الطبيعية في مصر- باتت معرضة بشكل متزايد للتلوث بجزيئات البلاستيك الدقيقة، المعروفة بالميكروبلاستيك، نتيجة تدفق الملوثات من مصادر متعددة، على رأسها المصارف الزراعية، ومخلفات الصيد، والتصرفات البشرية غير المنضبطة.
الدراسة، التي نشرت يوم الرابع من أبريل/نيسان في مجلة "ساينتفك ريبورتس" استخدمت نظم المعلومات الجغرافية ونماذج التحليل المكاني لتقييم مدى تعرض البحيرة لهذا النوع من التلوث الخفيّ.
وبحسب النتائج، فإن المناطق الجنوبية والغربية والشمالية الغربية من البحيرة تُظهر أعلى درجات القابلية البيئية للتلوث، ما يجعلها نقاطًا حرجة تستدعي التدخل العاجل.
وتقع بحيرة البرلس على الساحل الشمالي الشرقي لمصر، وهي مصنفة كمحمية طبيعية منذ عام 1998 بموجب القانون المصري، كما أنها مدرجة ضمن اتفاقية "رامسار" الدولية لحماية الأراضي الرطبة.
ورغم ذلك، تؤكد الدراسة أن الحماية القانونية لم تمنع تغلغل الأنشطة البشرية، ولا سيما تصريف مياه الصرف الزراعي والصحي، في نسيجها البيئي الهش.
نموذج استباقي لرصد التهديدات
تمثل الدراسة نقلة نوعية في طريقة التعامل مع التلوث البلاستيكي، إذ لا تكتفي بتوثيق الوضع القائم، بل تقدم نموذجًا تنبُّئيًا يستشرف المناطق الأكثر عرضة للخطر، استنادًا إلى 7 مؤشرات رئيسية، منها: كثافة الأنشطة البشرية، واتجاهات التيارات المائية، وقرب المناطق من مداخل البحر، ومستوى الحماية القانونية.
وفي تصريح لـ"الجزيرة نت"، قالت الباحثة المشاركة في الدراسة "سهى شبكة"، الأستاذة المساعدة في قسم الأحياء المائية بالمعهد القومي لعلوم البحار والمصايد: "أنشأنا نموذجا باستخدام نظم المعلومات الجغرافية لتقييم تعرض المياه السطحية للتلوث من المصادر غير المباشرة. وأظهرت النتائج أن الممرات المائية تلعب دورًا محوريًا في نقل الجزيئات البلاستيكية إلى داخل البحيرة، لا سيما في الجزء الجنوبي منها".
وأضافت "شبكة": "تتلقى بحيرة البرلس سنويا حوالي 3.9 مليارات متر مكعب من مياه الصرف الزراعي والمنزلي، إلى جانب التصريفات القادمة من مزارع الأسماك. هذه الكميات الضخمة تُعد وسيلة مثالية لنقل الميكروبلاستيك إلى النظام البيئي البحيري".
رصد الفريق البحثي وجود 8 أنواع من البوليمرات الحرارية في عينات المياه، من بينها البولي بروبيلين، والبولي إيثيلين منخفض الكثافة، والنايلون، والتيفلون.
وتشير هذه المواد إلى مصادر تلوث متنوعة، تشمل الحبال وشباك الصيد، والمواد العازلة في الكابلات الكهربائية، وطلاء القوارب، والأكياس البلاستيكية، وحاويات التغليف.
وتوضح الباحثة أن متوسط تركيز الجزيئات البلاستيكية في المياه المفتوحة للبحيرة بلغ 165 قطعة لكل متر مكعب، بينما وصل إلى 835.6 قطعة/م³ في المياه القريبة من المصارف، وهو ما يشير إلى علاقة وثيقة بين مخرجات الأنشطة البشرية ونسبة التلوث المسجلة.
وتبرُز مناطق مثل بلطيم والبرج والأجزاء الجنوبية الشرقية من البحيرة باعتبارها الأكثر تأثرا، حيث تتركز الأنشطة الحضرية وتتشابك الشبكات المائية التي تسهم في تجميع ونقل الملوثات.
أثر غير مرئي.. ولكن خطير
الميكروبلاستيك، رغم حجمه الدقيق الذي لا يتجاوز 5 ميليمترات، يعتبر من أخطر أنواع الملوثات الحديثة، نظرا لقدرته على اختراق سلاسل الغذاء البحرية. فعندما تبتلع الكائنات البحرية مثل الأسماك والقشريات هذه الجزيئات، تتراكم المواد السامة المرتبطة بها في أنسجتها، وقد تنتقل لاحقا إلى الإنسان عند استهلاك هذه الكائنات.
وفي هذا السياق، تقول شبكة "الميكروبلاستيك لا يؤثر فقط على الحياة البحرية من حيث الاختناق أو انسداد الجهاز الهضمي، بل يتسبب أيضا في اضطرابات هرمونية وتكاثرية قد تقود إلى انهيار تدريجي في التوازن البيئي. أما بالنسبة للإنسان، فهناك مخاطر حقيقية ناتجة عن تناول أسماك ملوثة أو استخدام مياه ملوثة".
رغم أن بحيرة البرلس تخضع للحماية القانونية، فإن الدراسة تسلط الضوء على "فجوة تطبيقية" في إنفاذ هذه القوانين. وتشير النتائج إلى أن ضعف الرقابة البيئية، وتعدد مصادر التلوث، والتوسع الحضري غير المخطط، كلها عوامل تساهم في تدهور الحالة البيئية للبحيرة.
يعلق "عبد الحميد أحمد" -أستاذ الجغرافيا الطبيعية المساعد بجامعة المنصورة، والباحث غير المشارك في الدراسة- قائلا في تصريحات لـ"الجزيرة نت" إن الدراسة لم تكتف برصد الواقع البيئي القائم في بحيرة البرلس، بل خلصت إلى مجموعة من الإجراءات الوقائية العاجلة التي يمكن أن تسهم في الحد من تفاقم التلوث بالميكروبلاستيك.
من أبرز هذه التوصيات تفعيل نظم مراقبة بيئية دورية، تهدف إلى رصد تركيزات الجزيئات البلاستيكية الدقيقة في المياه والرسوبيات بشكل مستمر، مما يتيح تتبع التغيرات ورسم خريطة زمنية دقيقة للمخاطر. كما دعت إلى الحد من استخدام المواد البلاستيكية أحادية الاستعمال، خاصة في الأنشطة المرتبطة بالصيد والسياحة، باعتبارها من المصادر الرئيسية للتلوث.
نموذج مصغر
ولم تغفل الدراسة أهمية رفع الوعي المجتمعي، حيث أوصت بتنظيم حملات توعية تستهدف الصيادين والمجتمعات المحلية، لشرح أبعاد المشكلة وآثارها الصحية والبيئية. كذلك شددت على ضرورة إنشاء بنية تحتية متكاملة لمعالجة النفايات، لاسيما في المناطق المحيطة بالمصارف التي تعد البوابة الرئيسية لتسرب الملوثات إلى البحيرة.
وأخيرا، طالبت الدراسة بتطبيق أكثر صرامة للتشريعات البيئية، وتعزيز أدوات الرقابة على مصادر التلوث غير المباشر، لضمان حماية فعالة ومستدامة لهذا النظام البيئي الهش.
وفي هذا الإطار، تؤكد شبكة، على أهمية اعتماد نهج متعدد الأبعاد، يجمع بين الحلول التقنية والتدخلات المؤسسية والتوعية المجتمعية، مشددة على أن "المعركة ضد الميكروبلاستيك لا يمكن كسبها من خلال الباحثين وحدهم، بل تتطلب تعاونًا بين صانعي السياسات، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص".
بحيرة البرلس، بحسب الخبراء، تعد نموذجا مصغرا للتحديات التي تواجهها العديد من البحيرات الساحلية في المنطقة، مثل بحيرة البردويل في سيناء، وبحيرة مريوط في الإسكندرية، وغيرها من الأنظمة البيئية الرطبة المهددة بالتلوث.
ويرى أحمد أن نتائج هذه الدراسة يمكن تعميمها على بيئات مشابهة، قائلا "الخريطة المكانية التي أنتجتها الدراسة توفر أداة مهمة لترتيب أولويات التدخل، وتعد أساسا علميا لتوجيه الاستثمارات البيئية نحو المناطق الأكثر احتياجا".
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
٠٢-٠٥-٢٠٢٥
- الجزيرة
علماء يضعون خريطة للبلاستيك بالمحيطات والنتائج صادمة
يُعد تلوث البلاستيك البحري قضية عالمية ملحة، إذ يدخل ما بين 9 و14 مليون طن متري من البلاستيك إلى المحيطات، وتشكل الجزيئات المتحللة الخطر الأكبر على النظم البيئية البحرية، وتؤثر على تخزين الكربون في أعماق البحار. وفي حين ركزت معظم الأبحاث السابقة على المياه السطحية، حيث تُؤخذ العينات عادة من أعلى 15 إلى 50 سنتيمترا، رسم العلماء لأول مرة خريطة عالمية لتوزيع البلاستيك الدقيق من سطح البحر إلى أعماقه، كاشفين عن أماكن تراكمه، وعن كيفية تسلله إلى أنظمة المحيطات الحيوية. وفي الدراسة التي نشرت في مجلة "نيتشر"، جمع الباحثون بياناتٍ من أعماق البحار من 1885 نقطة بين عامي 2014 و2024 لرسم خريطة لأنماط توزيع البلاستيك الدقيق حسب الحجم ونوع البوليمر، مع تقييم آليات النقل المحتملة. ويمثل ذلك نقطة تحول في فهم كيفية تحرك المواد البلاستيكية الدقيقة عبر المحيط العالمي وتأثيرها عليه. وكشفت الدراسة أن جزيئات البلاستيك الدقيقة، التي يتراوح حجمها بين ميكرون واحد أو ميكرومتر (جزء من المليون من المتر) و5 مليمترات، تمثل الغالبية العظمى من القطع البلاستيكية المكتشفة، وتمثل مخاطر جسيمة على صحة المحيطات. وأشارت النتائج إلى أن الجسيمات البلاستيكية الدقيقة ليست مجرد ملوثات سطحية، بل هي متأصلة بعمق في بنية المحيط، ويتراوح تركيزها بين مئات وآلاف من الجسيمات لكل متر مكعب، ويحدد حجمها نمط تحركها. وحسب الدراسة، تنتشر الجسيمات الأصغر (من 1 إلى 100 ميكرومتر) بشكل أكثر توازنا وتخترق أعماق المحيط، في حين تتركز الجسيمات الأكبر (من 100 إلى 5 آلاف ميكرومتر) قرب السطح، وخصوصا ضمن أعلى 100 متر من الدوامات المائية، التي تعمل كدوامات ضخمة بطيئة الحركة تحتجز الحطام العائم وتُركّز البلاستيك. وتشير الدراسة إلى أن تلك الجسيمات البلاستيكية الدقيقة أصبحت جزءا ملموسا من دورة الكربون في المحيط، إذ تشكل 0.1% من جزيئات الكربون على عمق 30 مترا، لكنها ترتفع إلى 5% على عمق ألفي متر. ويكشف ذلك أن الجسيمات البلاستيكية الدقيقة ليست ملوثات ثابتة فحسب، بل إنها متجذرة بعمق في جميع أنحاء المحيط، من المياه الساحلية إلى البحر المفتوح، وقد تُغير العمليات البيوكيميائية في أعماق البحار. كما حدد الباحثون أكثر من 56 نوعا من البوليمرات البلاستيكية (تتكون البوليمرات من سلاسل طويلة من الجزيئات المتكررة أو المونومرات) في قاعدة بياناتهم عن البلاستيك الدقيق. ورغم هيمنة المواد الطافية عموما، فإن البلاستيك الدقيق الأكثر كثافة هو الأكثر انتشارا في عرض البحر، ويرجع ذلك على الأرجح إلى سهولة تفتيته. وتصبح البوليمرات الكثيفة هشة وتتحلل أسرع، لا سيما بعد التعرض الطويل للعوامل الجوية. ويمكن للجسيمات الصغيرة الثابتة، وغالبا ما تكون من معدات الصيد والحاويات مثل زجاجات البوليستر، أن تبقى في المحيط لعقود. وفي المقابل يتحلل البولي بروبيلين ضوئيا أسرع من البولي إيثيلين المستخدم في الأكياس البلاستيكية وزجاجات المياه. ولعل هذا يُفسر انخفاض وفرته في المياه العميقة. التسلل إلى الأعماق وجد الباحثون أيضا أن البوليمرات الموجودة في هذه المواد البلاستيكية تُشكل نسبة كبيرة من جزيئات الكربون العائمة. وعلى أعماق ألفي متر، حيث يكون النشاط البيولوجي أقل مقارنة بالمناطق الأقرب إلى السطح، تُشكل هذه البوليمرات ما يبلغ 5% من الكربون. وكشفت الدراسة عند أخذ عينات البلاستيك الدقيق تحت السطح في المحيط الأطلسي والمحيط المتجمد الشمالي، أن وفرة البلاستيك الدقيق في المياه التي يتراوح عمقها بين متر واحد و60 مترا يمكن أن تصل إلى 800 جسيم لكل متر مكعب بمتوسط 0.49 جسيم لكل متر مكعب. كما قد لوحظت وفرة عالية باستمرار في المياه العميقة، بما في ذلك أكثر من 1100 جسيم لكل متر مكعب عند 100-270 مترا في مقطع عرضي بين شمال وجنوب المحيط الأطلسي. كما وجد 600 جسيم لكل متر مكعب عند ألفي متر في دوامة شمال المحيط الهادي شبه الاستوائية. وعلى طول الساحل الكوري وحده، يوجد ما يقدر بنحو 3.13 تريليونات من البلاستيك الدقيق بحجم 0.33-4.75 ملم في عمود الماء. كما وجد أكثر من 13 ألف جسيم بلاستيكي دقيق لكل متر مكعب على عمق يقارب 7 كيلومترات في خندق ماريانا، وهو أعمق منطقة على سطح الكرة الأرضية في غرب المحيط الهادي. ومع تحرك الجسيمات البلاستيكية الدقيقة عبر هذه المساحة الشاسعة في المحيطات، فإنها تتفاعل مع الجسيمات والعمليات الطبيعية، مما قد يؤثر على كيفية عمل المحيطات وقدرتها على إزالة الكربون من الغلاف الجوي وعلى النظم البيئية البحرية. وتلعب المحيطات دورا حاسما في دورة الكربون على الكوكب، وتمثل بالوعة هامة لثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، وتؤدي بالتالي دورا رئيسيا في تنظيم المناخ.


الجزيرة
٢٩-٠٤-٢٠٢٥
- الجزيرة
كيف تلاعب العصر الجليدي الأخير بصفائح الأرض التكتونية؟
يعتقد كثير من الناس أن تحركات القارات وانشقاق قاع المحيطات هي عمليات بطيئة تحدث على مدى ملايين السنين. لكن دراسة جديدة أجراها عالمان من جامعة كولورادو بولدر بالولايات المتحدة، كشفت أن هذه العمليات قد تتأثر أيضا بتغيرات سريعة في مناخ الأرض، مثل ذوبان الكتل الجليدية الضخمة. فمنذ حوالي 10 آلاف عام، عندما بدأ العصر الجليدي الأخير في الانتهاء، ذابت كتل جليدية هائلة كانت تغطي أجزاء واسعة من أميركا الشمالية، وتدفقت كميات هائلة من المياه إلى المحيطات. وبحسب الدراسة التي نشرت في مجلة "نيتشر"، فإن هذا الذوبان أدى إلى تسريع حركة الصفائح القارية. ويقول الباحث الرئيسي بالدراسة "تاو يوان" -طالب الدراسات العليا بقسم الفيزياء في جامعة كولورادو بولدر- في تصريحات لـ"الجزيرة نت": "عندما قل حجم الجليد بشكل كبير، تسبب ذلك في حركة ضخمة في قشرة الأرض. كان العلماء يعرفون أن ذوبان الجليد يؤدي إلى ارتفاع الأرض، لكن ما وجدناه هو أن الصفائح تحركت أفقيا أيضا بشكل ملحوظ." ارتفاع البحر وتحرك اليابسة اعتمد المؤلفان على نماذج حاسوبية لمحاكاة ما حدث للأرض قبل حوالي 26 ألف سنة. ففي ذلك الوقت، كانت قارة أميركا الشمالية مغطاة بطبقة جليدية تعرف باسم "لوغرانتايد"، امتدت حتى ولاية بنسلفانيا الحالية. ومع بدء الذوبان، ارتفع منسوب مياه البحر بمعدل سنتيمتر واحد سنويا حول العالم، ولكن لم يكن هذا هو التغيير الوحيد، وفقا للدراسة، إذ أظهرت النماذج أن القارة الأميركية تحركت أفقيا بسرعة زادت بنسبة 25%، بينما تسارع التمدد عند منتصف المحيط الأطلسي بنسبة وصلت إلى 40% بين عامي 12 ألفا و6 آلاف قبل الميلاد. وأوضح "يوان" أن هذه النتائج تتحدى الفكرة السائدة بأن تحركات الصفائح الأرضية تحدث فقط بسبب حرارة باطن الأرض، قائلا: "كنا نعتقد لوقت طويل أن العمليات مثل انقسام قاع المحيط وانجراف القارات تتم على مدى ملايين السنين بفعل محرك الأرض الداخلي. وهذا لا يزال صحيحا، لكننا نظهر الآن أن ذوبان الجليد يمكنه أيضا التسبب بحركات كبيرة خلال فترة قصيرة نسبيا، مثل 10 آلاف سنة". نشاط بركاني في آيسلندا لم يقتصر تأثير ذوبان الجليد على تحرك القارات فقط، بل امتد ليشمل النشاط البركاني أيضا، خاصة في آيسلندا التي تقع فوق منطقة من قاع المحيط تعرف بـ"منتصف الأطلسي"، حيث تندفع الصهارة من باطن الأرض إلى السطح، مكونة أراضي جديدة. ويشير الباحثان إلى أن نهاية العصر الجليدي شهدت نشاطا بركانيا مكثفا في آيسلندا، ربما كان سببه ذوبان الجليد من غرينلاند المجاورة، والذي ساعد على تعزيز التمدد في قاع المحيط، مما سمح للصهارة بالخروج بسهولة أكبر. ويقول "يوان": "قد يكون نمط النشاط البركاني في آيسلندا خلال تلك الفترة ناتجا جزئيا عن ذوبان الجليد الذي درسناه". وعلى الرغم من أن ذوبان الجليد الحالي في غرينلاند وغرب القارة القطبية الجنوبية لا يؤثر بعد على حركة القارات، فإن الباحثين يحذرون من أن استمرار هذا الذوبان بوتيرة متسارعة قد يؤدي إلى نتائج مشابهة في المستقبل، خاصة في المناطق القريبة من منتصف المحيطات. ويؤكد الباحث الرئيسي في الدراسة أن صفائح الجليد في غرينلاند وغرب أنتاركتيكا ما زالت تذوب، ومن ثم، يعتقد الباحثان أن هذا الذوبان قد يعزز تمدد قاع المحيط وزيادة النشاط البركاني في المستقبل. ويضيف أن الدراسة تسلط الضوء على الروابط العميقة والمعقدة بين المناخ والنشاط الجيولوجي، وتؤكد أن تغير المناخ لا يقتصر على الطقس ودرجات الحرارة، بل يمتد ليشمل أعماق الأرض نفسها.


الجزيرة
٢٨-٠٤-٢٠٢٥
- الجزيرة
بعد قرنين من الهدوء.. هل تنذر زلازل إثيوبيا بانفجار بركاني قريب؟
في المدارس يتعلم الأطفال عن البراكين من خلال تجربة بسيطة، تتضمن اهتزاز زجاجة المياه الغازية ثم خروج محتواها بسرعة يصعب السيطرة عليها نتيجة حدوث ضغط كبير داخل الزجاجة يحرك الغازات المضغوطة. هذا السيناريو يتكرر على مستوى أكبر في باطن الأرض عند حدوث الزلازل في المناطق النشطة البركانية، حيث تكون الهزات الأرضية التي تحدثها الزلازل أشبه بعملية اهتزاز الزجاجة، التي تؤدي إلى تحريك الصهارة تحت البركان، مما قد يسفر عنه حدوث الثوران البركاني. ووقعت أحداث هذا السيناريو في كثير من المناطق حول العالم، حيث كان حدوث الزلازل في تلك المناطق مقدمة لثوران بركاني، وهو ما دفع خبراء -تحدث بعضهم لـ"الجزيرة نت"- إلى مناقشة احتمالية تكرار ذلك في إثيوبيا، التي شهدت مؤخرا سلسلة من الزلازل في مناطق نشطة بركانيا، وكان المبرر المنطقي لهذا الطرح ليس فقط تلك الأحداث، ولكن لأن إثيوبيا نفسها كانت مسرحا لتلك الأحداث قبل أكثر من قرنين من الزمان. وتعرضت منطقتا "عفر" و"أوروميا" في إثيوبيا للعديد من الزلازل والهزات الأرضية منذ بداية عام 2025، كان أقواها في الرابع من يناير/كانون الثاني بقوة 5.7 درجات، وأفاد كل من هيئة المسح الجيولوجي الأميركية والمركز الألماني لأبحاث علوم الأرض أن مركز الزلزال كان على بعد 142 كيلومترا شرق العاصمة أديس أبابا، في منطقة أوروميا. وجاء هذا الزلزال بعد يوم واحد فقط من وقوع زلزال آخر بقوة 5.5 درجات في المنطقة نفسها، كما تم تسجيل زلزالين آخرين يوم 11 يناير/كانون الثاني، وهو ما آثار المخاوف من حدوث ثوران بركاني، لاقتراب مركز هذه السلسلة الزلزالية من بركانين نشطين، هما "فنتالي" و"دوفين". إثيوبيا مثالا وأشهر الأمثلة على الثورات البركانية التي تأتي في أعقاب سلسلة الزلازل كانت في أميركا عام 1980، عندما حدث ثوران لبركان جبل سانت هيلينز في ولاية واشنطن، بعد سلسلة من الزلازل الكبيرة، وبعده كانت الفلبين عام 1991 على موعد مع ثوران بركان بيناتوبو، بعد سلسلة زلازل متعددة خلال أشهر سبقت الانفجار. وفي التاريخ الأقدم، حدث ثوران بركاني قبل نحو أكثر من قرنين في منطقة "فنتالي" بإثيوبيا عام 1820 بعد سلسلة من الزلازل، ورغم ندرة هذه الأحداث، أصبحت الزلازل تحذيرا طبيعيا من ارتفاع الصهارة إلى سطح الأرض، مما يؤدي إلى انفجار بركاني محتمل. وقبل الحديث عن احتمالية تكرار سيناريو 1820 في إثيوبيا، يجب بداية معرفة أسباب حدوث الزلازل والبراكين في هذه البقعة من العالم، التي تعتبر من أكثر المناطق نشاطا بركانيا وتكتونيا في العالم. ولمعرفة الأسباب، يعود جمشو بيداسا تيفيري، المحاضر في قسم الجيولوجيا بجامعة أديس أبابا للعلوم والتكنولوجيا، في مقال نشره بموقع "ذا كونفرزيشن" بالتاريخ إلى قبل 18 مليون عام، عندما بدأت القارات بالتباعد في عملية تسمى "التصدع القاري"، وهو ما أدى إلى تشكيل البحر الأحمر وخليج عدن، وفي هذه المرحلة، بدأت الصفائح التكتونية التحرك، ونتج عن ذلك انقسام الأرض وتشكيل المسطحات المائية بين قارة أفريقيا وشبه الجزيرة العربية. وتطور هذا الصدع قبل حوالي 11 مليون عام بشكل أعمق في المنطقة، ونتج عنه تشكل صدع عميق تحت منخفض"عفر" في شمال شرق إثيوبيا، وأصبح هذا الصدع الذي كان جزءا من عملية التباعد التي بدأت منذ ملايين السنين، يمثل مرحلة أكثر تطورا من الحركات التكتونية التي أثرت بشكل كبير على تضاريس المنطقة، وهو الآن يعتبر جزءا من نظام الصدوع الكبير الذي يعرف بـ"الصدع الأفريقي الشرقي". تفاعلات تحت سطح الأرض وينطلق تيفيري من هذا السياق التاريخي إلى ما يحدث تحت سطح الأرض، موضحا أن هذه المنطقة تقع على طبقة ساخنة شبه صلبة تسمى الوشاح، وهذه الطبقة تتحرك باستمرار بسبب الحرارة القادمة من أعماق الأرض، والنتيجة هي أن الصخور شبه الصلبة المسخنة (الصهارة) يمكن أن تدفع إلى الأعلى من الوشاح وتثور عبر النقاط الضعيفة في قشرة الأرض، ويُعرف هذا بالثوران البركاني. وفي أعماق السطح، تسمح الصهارة بعملية موازية تتمثل في تحرك الأرض بشكل متباعد، ويؤدي هذا إلى تشكل فجوة، تُعرف بالصدع، التي تمتلئ بالصهارة في النهاية، وينتج عن الاحتكاك تكسر الصخور بشكل مفاجئ وإطلاق كميات هائلة من الطاقة، وتنتشر هذه الطاقة نحو الخارج على شكل موجات زلزالية مثل تموجات الماء، مما يؤدي إلى اهتزاز الأرض، وهذا ما يُعرف بالزلزال. ويبدو من الشرح الذي قدمه تيفيري أن تلك المنطقة نشطة جيولوجيا، لذلك فإن الزلازل التي تحدث بها لن يكون تأثيرها قاصرا على الهزات الأرضية، بل يمكن أن تكون علامة على وجود نشاط بركاني تحت الأرض. ويوضح أمدميشيل تاديسي، زميل ما بعد الدكتوراه بقسم علوم الأرض بجامعة أكسفورد في مقال آخر نشره على موقع "ذا كونفرزيشن" هذه العلاقة قائلا إن: "الزلازل غالبا ما تكون نتيجة لحركة الصخور المنصهرة (الحمم) في باطن الأرض، وعندما ترتفع الحمم نحو السطح، يمكن أن تتسبب في حدوث زلازل، وفي كثير من الأحيان، تعتبر الزلازل مؤشرا على اقتراب ثوران بركاني، لأنها تشير إلى أن الحمم قد تحاول شق طريقها إلى الأعلى". سيناريوهات حدوث نشاط بركاني وبناء على التوضيح الذي قدمه تاديسي، فإن سلسلة الزلازل الأخيرة في المنطقة أثارت المخاوف من احتمال حدوث ثوران بركاني، خصوصا مع وجود تاريخ من النشاط البركاني في المنطقة، لكن هناك العديد من العوامل التي تحكم حدوث ذلك، كما يقول عبد العزيز محمد عبد العزيز، أستاذ هندسة الاستكشاف وتقييم الطبقات في كلية الهندسة جامعة القاهرة. ويوضح أن "حركة الصهارة (الصخور المنصهرة) التي ترتفع من عمق حوالي 10 كيلومترات تحت الأرض، مسببة الزلازل، قد تؤدي إلى مجموعة من الأحداث، وأول هذه الأحداث هي تحرك الصهارة بسرعة نحو السطح، وذلك عندما تكون أكثر سخونة، حيث تكون في هذا الحالة أكثر سيولة وتتدفق بشكل أسرع، وهو السيناريو الذي حدث في ثوران بركان "كيلاويا" في هاواي عام 2018، حيث كان مرتبطا بصهارة شديدة السخونة، تدفقت بسهولة إلى السطح مما أدى إلى انبعاث الحمم البركانية بشكل متواصل لفترة طويلة". وإلى جانب السخونة، هناك أيضا عامل اللزوجة، التي تشير إلى كثافة الصهارة ومدى سهولة تدفقها، فإذا كانت كثيفة وسميكة فإنها ستتحرك ببطء، مما قد يؤدي إلى تراكم ضغط أكبر تحت سطح الأرض، وعلى سبيل المثال، في ثوران بركان "بيناتوبو" في الفلبين عام 1991، كانت الصهارة لزجة وكثيفة، مما أدى إلى تراكم الضغط بشكل كبير قبل الثوران الضخم، وهذا الضغط المتزايد تسبب في انفجار قوي وانتشار رماد بركاني على مسافات شاسعة. وأخيرا، يأتي عامل "قوة الصخور المحيطة بالصهارة"، التي تلعب دورا مهما في التحكم بحركتها، فإذا كانت هذه الصخور قوية ومقاومة، فقد تعيق الصهارة من الوصول إلى السطح، فعلى سبيل المثال، في بركان "مونا لوا" في هاواي، كانت الصخور المحيطة قوية بما يكفي لمنع الثوران لفترة طويلة، رغم وجود نشاط زلزالي واضح، لكن مع استمرار تراكم الضغط، حدث الثوران بعد سنوات. وبناء على هذه العوامل، يوضح عبد العزيز أن "النشاط الزلزالي في إثيوبيا قد ينتهي بعدة طرق، وهو تبريد الصهارة، ففي حالة تباطؤ حركة الصهارة وتعرضها للتبريد، يمكن أن تتصلب الصهارة وتشكل صخورا صلبة تحت الأرض، وهذا يحدث عندما تفقد الصهارة الحرارة تدريجيا دون أن تصل إلى السطح، وحدث ذلك في ثوران بركان "نيفادو ديل رويز" في كولومبيا، حيث بردت بعض أجزاء الصهارة تحت الأرض وشكلت قبابا صخرية". ويشير إلى سيناريو آخر، وهو أنه "إذا استمرت الصهارة في الارتفاع ووجدت طريقا إلى السطح، يمكن أن تحدث ثورة بركانية، وهو ما حدث في ثوران بركان سانت هيلينز في الولايات المتحدة عام 1980، حيث دفعت الصهارة طريقها إلى السطح وأدت إلى ثوران مدمر". ويختم بسيناريو "تحرك الصهارة بشكل أفقي تحت الأرض، وتصادمها مع صهارة أخرى تحت السطح، مما قد يؤدي إلى تبريد أو ثوران بركاني كبير، ومثال على ذلك هو بركان لارداربانجا في آيسلندا، حيث تحركت الصهارة أفقيا عبر الشقوق لفترة طويلة قبل أن تصل إلى السطح وتؤدي إلى ثوران". تخفيف لا منع وليس معلوما أي هذه السيناريوهات يحدث في الحالة الإثيوبية، ومتى ستحدث، وهل سيكون ذلك قريبا أم بعد وقت طويل، وليس هناك أي فرصة لمنع مثل هذا الأحداث، لكن يمكن التخفيف من آثارها من خلال التخطيط والتصرف مسبقا. ويقول عبد العزيز إن الرصد وأنظمة الإنذار المبكر هي عوامل حاسمة في التخطيط، حيث يتم تتبع التوغل الصهاري الحالي من خلال ملاحظات الاستشعار عن بُعد عبر الأقمار الاصطناعية والبيانات الزلزالية من الشبكات الزلزالية الوطنية والدولية، وتساعد الأدوات المستخدمة في الكشف عن التغيرات في النشاط الزلزالي، وتشوه الأرض، التي غالبا ما تسبق الثورات البركانية". ويضيف: "هذه البيانات، جنبا إلى جنب مع الأدلة التي تم جمعها من دراسة الزلازل والأحداث البركانية السابقة (إما من السجلات التاريخية أو السجلات الجيولوجية)، يمكن أن تساعد العلماء في فهم مدى تكرار هذه الأحداث وأنواع أحجامها". ويشير أيضا إلى أهمية إعداد الخرائط التفصيلية التي تحدد المناطق المعرضة للخطر، موضحا أنها "ضرورية في المساعدة على توجيه التخطيط الحضري، وتطوير البنية التحتية، وإستراتيجيات الإخلاء".