
426 مليار دينار لنواب العراق مقابل حضور معدود.. تفكيك لبرلمان "ينفق أكثر مما يُشرّع"
في مبنى البرلمان العراقي في المنطقة الخضراء ببغداد، يجلس 329 نائبًا، يتقاضى أغلبهم ما معدله 1.296 مليار دينار خلال الدورة النيابية المكونة من أربع سنوات، بين راتب ومخصصات حماية وبدل إيجار. لكن خلف هذه الأرقام التي تتراكم بصمت في دفاتر وزارة المالية، تبرز مفارقة: مؤسسة تُصرف عليها ترليونات الدنانير، مقابل إنتاج تشريعي يُقاس على أصابع اليد. ويستمر الجدل، من يراجع حساب النواب؟ ومن يحاسب مؤسسة تشرّع امتيازاتها بنفسها؟
منذ بدء دورته في كانون الثاني يناير 2022، بدا البرلمان الحالي، وهو الخامس منذ عام 2003، مثقلًا بالتجاذبات والانقسامات، وعاجزًا عن القيام بوظيفته الدستورية. جلساته قلّت إلى حدّ لافت، وبعضها أُلغيت بسبب مشادات سياسية، وأخرى لم تُعقد أصلاً لغياب النصاب، فيما ظلت قضايا تشريعية مركزية – كقانون النفط والغاز والمحكمة الاتحادية – عالقة دون حل.
عمد فريق التحقيقات في وكالة شفق نيوز إلى مراجعة تفصيلية للامتيازات المالية التي يحصل عليها أعضاء مجلس النواب العراقي، مستندًا إلى بيانات وأرقام تحصلت عليها الوكالة، بالإضافة إلى شهادات متقاطعة أدلى بها نواب حاليون وسابقون، لتحديد الكلفة الفعلية التي تتحملها خزينة الدولة خلال الدورات النيابية المختلفة.
وتُظهر هذه المراجعة أن الرواتب والمخصصات الممنوحة للنواب شهدت تفاوتًا كبيرًا بين دورة وأخرى، من دون وجود معايير شفافة أو ضوابط مالية موحدة.
ففي الدورتين الأولى والثانية، كان النائب يتقاضى راتبًا شهريًا يبلغ 12 مليون دينار، إلى جانب مخصصات حماية تصل إلى 40 مليونًا، وبدل إيجار بقيمة 3 ملايين دينار للنواب المقيمين خارج العاصمة بغداد- على الرغم أن بعضهم يسكن في العاصمة-، ليبلغ إجمالي المبلغ الشهري نحو 55 مليون دينار.
ومع انطلاق الدورة الثالثة، شهدت تلك المبالغ خفضًا نسبيًا، حيث تراجع الراتب الشهري إلى 7 ملايين دينار، وانخفضت مخصصات الحماية إلى 16 مليونًا، بينما بقي بدل الإيجار ثابتًا. واستمر هذا المستوى من المخصصات حتى نهاية الدورة الرابعة.
أما في الدورة الخامسة الحالية، فيتقاضى النائب راتبًا شهريًا مقداره 8 ملايين دينار، بالإضافة إلى 16 مليونًا كمخصصات حماية، و3 ملايين بدل إيجار للنواب غير المقيمين في بغداد، ليصل إجمالي ما يتقاضاه النائب الواحد شهريًا إلى 27 مليون دينار.
وقد أجرى فريق التحقيقات جردًا دقيقًا لتلك الأرقام، فتبين أن الراتب السنوي للنائب في الدورة الحالية يبلغ 324 مليون دينار، أي ما يعادل مليارًا و296 مليون دينار خلال دورة نيابية واحدة تمتد لأربع سنوات. وباحتساب عدد النواب البالغ 329، تصل الكلفة السنوية الإجمالية للرواتب والمخصصات إلى نحو 426 مليارًا و384 مليون دينار. وترتفع هذه الكلفة بشكل ملحوظ عند احتساب النفقات التشغيلية الأخرى، بما في ذلك مرتبات الموظفين والمخصصات الإدارية للمكاتب واللجان النيابية.
اللافت أن هذه الامتيازات المالية بقيت قائمة رغم محاولات سابقة لتقليصها. ففي عام 2018، أصدرت المحكمة الاتحادية العليا قرارًا بتخفيض رواتب النواب بنسب متفاوتة، شملت بصورة رئيسية أصحاب الشهادات الأدنى، فيما استُثني حملة الشهادات العليا من التخفيض، وهو ما أضعف الأثر الفعلي للقرار على الموازنة العامة، وسط غياب تنفيذ صارم وآلية رقابية مستقلة.
ورغم هذا الإنفاق السخي، فإن البرلمان لم يُعقد منذ بداية دورته حتى ربيع 2025 سوى 132 جلسة، بينما ينص نظامه الداخلي على 256 جلسة سنويًا، بمعدل 32 جلسة لكل فصل تشريعي.
هذا العجز لا يعود فقط إلى التقويم الزمني، بل إلى اضطراب داخلي واسع شلّ المؤسسة من الداخل، وأبرز وجوهه كان شغور منصب رئيس البرلمان لأكثر من عام، بعد أن أقصت المحكمة الاتحادية محمد الحلبوسي في نوفمبر 2023، على خلفية اتهامات بتزوير استقالة، وهي سابقة لم يعرفها البرلمان العراقي منذ 2003.
لم تكن الرئاسة وحدها في مهب الفراغ. فالنقاشات التشريعية نفسها، بحسب مراقبين، باتت أشبه بمناورات سياسية داخل قاعة بلا بوصلة. بعض القوانين أُقرّ بالفعل، منها الموازنة الثلاثية المثيرة للجدل عام 2023، وتعديلات على قانون العفو العام والأحوال الشخصية. لكن أغلب ما طُرح ظل حبراً على ورق، إما لغياب التوافق أو لغياب النواب أنفسهم.
الإنفاق المبالغ به لم يكن مقتصرًا على الرواتب. ففي الشهادات التي جمعتها الوكالة من نواب حاليين وسابقين، يتبيّن أن مخصصات الحماية التي تُمنح لكل نائب – والمفترض أن تُغطي رواتب 16 عنصر أمن – لا تُصرف دومًا على هذا النحو.
إذ إن بعض النواب يكتفون بسائق أو مرافق، ويحوّلون المبالغ المتبقية إلى مصاريف مكتبية أو يُعيدون توزيعها داخليًا. "الورق شيء، والواقع شيء آخر"، يقول أحد النواب السابقين، طالبًا عدم الكشف عن اسمه. "الحماية صارت بندًا مرنًا لتغطية أي إنفاق غير مبرر."
في بلد يرزح تحت أعباء ديون داخلية وخارجية، ويُعاني من تراجع الاستثمار في الصحة والتعليم والخدمات، فإن بقاء هذه الامتيازات على حالها يُثير أسئلة حول أولويات الدولة. فمنذ عام 2011، حين صوّت البرلمان على تقليص امتيازات أعضائه استجابة لمطالب الشارع، لم يُسجّل أي تعديل جوهري، بل بالعكس، "سُجّلت زيادات خفية ومخصصات جديدة أُدرجت عبر قرارات داخلية لا تمر عبر الإعلام"، بحسب شهادات خاصة لمسؤولين حكوميين.
الخبير القانوني علاء شون يقول إن "هذا التضارب في المصالح يُفرغ المطالبات بالإصلاح من مضمونها"، ويضيف: "نحن أمام مؤسسة تنتج قواعدها لنفسها، ثم تُشرعن امتيازاتها باسم القانون."
تكمن الإشكالية الأعمق في أن تلك الامتيازات محمية بنصوص قانونية، أبرزها قانونا مجلس النواب رقم 13 لعام 2018، ورواتب ومخصصات النواب رقم 28 لعام 2011، اللذان يمنحان النواب مرتبة وزير من حيث الحقوق والامتيازات. تعديل تلك القوانين لا يتم إلا عبر البرلمان نفسه، ما يجعل النواب – فعليًا – أصحاب القرار في ما يتقاضونه، وهو ما يخلق حالة تضارب مصالح بنيوية في صلب النظام التشريعي العراقي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


شفق نيوز
منذ 4 ساعات
- شفق نيوز
بعد حريق الكوت.. الأمن النيابية قلقة من وضع ميسان وتطالب بدعم عاجل
شفق نيوز– بغداد طالبت لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب، اليوم الاثنين، القائد العام للقوات المسلحة، رئيس مجلس الوزراء، بتوجيه دعم عاجل إلى محافظة ميسان، جنوبي البلاد، لتعزيز الإمكانيات الأمنية ومعدات الدفاع المدني، في ظل تصاعد درجات الحرارة وازدياد المخاطر المرتبطة بالكوارث. وقال رئيس اللجنة كريم عليوي المحمداوي، في بيان ورد إلى وكالة شفق نيوز، أن الكارثة الإنسانية التي شهدتها محافظة واسط جراء حريق "هايبر ماركت الكوت" كشفت عن "ثغرات خطيرة في جاهزية معدات الدفاع المدني وقدرات التدخل السريع". وأضافت اللجنة، أن "محافظة ميسان تُعد من المناطق الأكثر عرضة للخطر في ظل الأجواء المناخية القاسية"، مشددة على ضرورة تعزيز القوات الأمنية حول المناطق الحيوية، وتوفير سيارات إطفاء متطورة ووحدات إنقاذ ومعدات كشف وإنقاذ حراري ومعدات قطع معادن للوصول إلى المحاصرين. كما طالبت اللجنة بـ"إقامة دورات تدريبية للعاملين بالتعاون مع منظمات دولية، مثل الفيدرالية الدولية للصليب الأحمر، وتحويل أفواج الطوارئ والقوات الاتحادية التي لا فائدة من وجودها، إلى فرق دفاع مدني مدربة". وشدد المحمداوي على أن "الحوادث لا تُعالج بالتعازي، بل بالاستعداد المسبق"، محذرًا من أن "تجاهل دعم ميسان اليوم قد يُنتج كوارث جديدة غدًا"، ومؤكدًا أن اللجنة البرلمانية تضع كل إمكانياتها لدعم هذا الملف. وفي أعقاب الحريق الكارثي الذي شب بمركز "هايبر ماركت الكورنيش" في مدينة الكوت بمحافظة واسط في 16 تموز 2025، وأسفر عن وفاة ما بين 61 إلى 69 شخصاً، أطلقت السلطات العراقية حملة لمراجعة تراخيص المراكز التجارية وتدقيق التزامها بإجراءات السلامة، مع وعود بمحاسبة المقصرين وتشديد الرقابة على الأبنية والمنشآت العامة.


شفق نيوز
منذ 4 ساعات
- شفق نيوز
"فاجعة الكوت" ترفع الطلب وأسعار طفايات الحريق في الأسواق العراقية
شفق نيوز– بغداد أثار الحريق الكبير الذي اندلع في مبنى "هايبر ماركت الكوت" صدمة واسعة في الأوساط الشعبية، ما أدى إلى قفزة في الطلب على معدات الإطفاء وارتفاع أسعارها بشكل ملحوظ، وسط تصاعد الوعي المجتمعي بأهمية تجهيز المنازل والمحال التجارية بوسائل السلامة الوقائية. وقال عباس حسين، صاحب أحد محال بيع معدات الإطفاء في وسط بغداد، لمراسل وكالة شفق نيوز، إن "الطلب على المطافئ اليدوية ارتفع بشكل كبير بعد الحادث مباشرة، إذ قفز سعر المطفأة الواحدة من 25 ألف دينار إلى 45 ألف دينار خلال أيام قليلة". وأضاف أن "أنواعاً أخرى من المعدات مثل كرات الإطفاء ارتفعت أسعارها أيضاً من 7 آلاف إلى 15 ألف دينار، رغم أنها لا تزال محدودة الاستخدام بسبب قلة الإقبال عليها سابقاً". وأشار إلى وجود أنواع متقدمة من معدات الإطفاء تُثبت قرب مفاتيح الكهرباء وتعمل تلقائياً عند استشعار الحريق، موضحاً أن بعض هذه الأنواع بإمكانها إطفاء النيران في التيار الكهربائي والأثاث في آن واحد، وهو ما بدأ يثير اهتمام المستهلكين مؤخراً. وأكد حسين أن "المواطنين أصبحوا يسألون بشكل أوسع عن نوعيات معدات الإطفاء وطرق استخدامها، ما يعكس تغيراً واضحاً في الثقافة المجتمعية بعد الحادث الأليم، حيث بات الأمان الوقائي أولوية في المنازل والمحال". وفي أعقاب الحريق الكارثي الذي شب بمركز "هايبر ماركت الكورنيش" في مدينة الكوت بمحافظة واسط في 16 تموز 2025، وأسفر عن وفاة ما بين 61 إلى 69 شخصاً، أطلقت السلطات العراقية حملة لمراجعة تراخيص المراكز التجارية وتدقيق التزامها بإجراءات السلامة، مع وعود بمحاسبة المقصرين وتشديد الرقابة على الأبنية والمنشآت العامة.


شفق نيوز
منذ 6 ساعات
- شفق نيوز
ارتفاع طفيف للدولار ببغداد واستقراره في أربيل
شفق نيوز– بغداد/ اربيل سجلت أسعار صرف الدولار الأمريكي، صباح اليوم الإثنين، ارتفاعاً طفيفاً في أسواق العاصمة بغداد، فيما حافظت على استقرارها في أربيل، عاصمة إقليم كوردستان. وقال مراسل وكالة شفق نيوز، إن أسعار الدولار ارتفعت في بورصتي الكفاح والحارثية لتسجل 139,250 ديناراً عراقياً مقابل 100 دولار، مقارنة بـ139,200 دينار يوم أمس الأحد. وأضاف أن أسعار البيع في مكاتب الصيرفة بالأسواق المحلية في بغداد استقرت عند 140,250 ديناراً مقابل 100 دولار، في حين بلغ سعر الشراء 138,250 دينارًا لكل 100 دولار. أما في أربيل، فقد بقيت أسعار صرف الدولار مستقرة، حيث بلغ سعر البيع 139,000 دينار، وسعر الشراء 138,900 دينار لكل 100 دولار.