logo
اتفاقيات ترامب التجارية.. نفوذ أميركي أم سلوك تكتيكي للشركاء؟

اتفاقيات ترامب التجارية.. نفوذ أميركي أم سلوك تكتيكي للشركاء؟

الجزيرةمنذ يوم واحد
على مدار نحو سبعة أشهر، مضت من ولاية ترامب منذ مطلع عام 2025، شكلت قضية الرسوم الجمركية ، وفرض معدلات جديدة لها من أميركا على شركائها التجاريين، واحدة من قضايا الاقتصاد العالمي المثيرة للجدل.
واكتفى المتضررون من قرارات ترامب، بمقولات "خطر الحماية التجارية" وضرورة وجود "نظام اقتصادي عالمي جديد"، بينما أداء ترامب لم يتغير، ومضى في تنفيذ قراراته.
بعضهم توقع أن تدفع الأحداث، بما تمثله من أضرار لنظام التجارة العالمي، أو للشركاء التجاريين لأميركا، بأن يولد كيان يمثل المتضررين لمواجهة ترامب، وإجباره على التراجع عن قراراته، ولكن ما حدث، هو أن تباكى بعضهم على منظمة التجارة العالمية ، التي أظهرت الأحداث هشاشة دورها، في فض المنازعات، أو إلزام أميركا باتفاقيات المنظمة.
كما راهن بعضهم الآخر على تجمع بريكس ، لكي يكون له دور، وبخاصة أن كبار أعضائه متضررين من قرارات ترامب، وعلى رأسهم الصين التي يعد اقتصادها أكبر اقتصاديات بريكس، وكذلك الهند والبرازيل.
وبعد أن أنهى ترامب عبر إدارته، الوصول إلى اتفاقات مع كل من الاتحاد الأوروبي واليابان ودول أخرى والوصول إلى هدنة مع الصين تمهيدًا لاتفاق نهائيًا في الشهور القادمة، وكذلك استمرار المفاوضات مع الهند والمكسيك وكندا، فإن الأمر يجعلنا نطرح تساؤلات لتفسير هذا الواقع الذي فرضه ترامب، ليعكس قوة موقف ونفوذ أميركا.
فهل التوصل إلى هذه الاتفاقات المبرمة، والأخرى التي يُنتظر الانتهاء منها في أشهر قليلة، تعكس قوة نفوذ أميركا واستمرارها في اعتلائها قمة خريطة القوى الاقتصادية، ببسط سلطتها ونفوذها على شركائها التجاريين، حتى على الصين؟
أم أن الأمر يأتي في إطار تكتيكي من الشركاء، لتمرير فترة ترامب بأقل خسائر ممكنة، باعتبارها فترة استثنائية في الإدارة الأميركية، ثم يعاد النظر في هذه الاتفاقيات في ظل إدارة أميركية جديدة؟
مبعث التساؤل
في الوقت الذي كانت تنحصر فيه المفاوضات على أمر الرسوم الجمركية، وجدنا نتائج المفاوضات المعلن عنها في الإعلام، تتضمن حزمة أخرى من التسهيلات لصالح أميركا.
ففي حالة الاتحاد الأوروبي، أعلن الاتحاد التزامه بشراء مواد طاقة من أميركا بـ 750 مليار دولار، إضافة إلى ضخ 600 مليار دولار كاستثمارات هناك، فضلا عن فتح بروكسل أسواقها للمنتجات الأميركية بلا جمارك.
وفي اتفاق اليابان، قبلت طوكيو بنسبة جمارك تصل إلى 15%، على أن تقدم لأميركا حزمة استثمارية في شكل قروض وضمانات حكومية بنحو 550 مليار دولار.
كما تم التوصل لاتفاق مع بريطانيا، بموجب تخفيض الرسوم الجمركية على صادرات بريطانيا لأميركا، من أجل استمرار استقرار سلاسل التوريد الخاصة بالصناعة الأميركية.
وثمة عروض أخرى من دول فقيرة، تحرص على استمرار تجارتها مع أميركا، منها على سبيل المثال بنغلاديش، التي تعتبر من أهم مصدري الملابس إلى السوق الأميركية. فقد أعلنت بنغلاديش عن استعدادها لشراء 25 طائرة بوينغ أميركية الصنع، مقابل تخفيض الجمارك على صادراتها إلى أميركا.
مظاهر النفوذ
تصرف الرئيس الأميركي في قضية الرسوم الجمركية مع الشركاء التجاريين، بشكل منفرد، ضاربًا باتفاقيات منظمة التجارة العالمية عرض الحائط، بل يمكن القول، إن تصرفات ترامب بمثابة شهادة وفاة لمنظمة التجارة العالمية.
لم يكن لمنظمة التجارة أي دور في قضية الرسوم الجمركية التي فجرها ترامب، وحتى المفاوضات التي تمت، أتت في إطار ثنائي، لم تُستدعَ فيه منظمة التجارة.
وحتى خارج إطار منظمة التجارة العالمية، لم تتصرف أميركا مع شركائها، بأي شكل من أشكال التفاوض الجماعي، بل انفردت بكل دولة على حدة.
ومن مظاهر النفوذ الأميركي، أن واشنطن هي من حددت سقف المفاوضات ومحاورها، وعليه كل من قبل التفاوض معها، يدخل بتنازلات، ويقبل بشروط، يحاول أن يخفف من حدتها، أو يقدم بدائل من الرسوم الجمركية في شكل استثمارات.
وشكل توقيع هذه الاتفاقات، أو الوعد بإنجاز ما تبقى خلال مدة قصيرة، حالة من الزهو لدى ترامب، الذي صرح لوسائل الإعلام، أن لديهم عوائد من رسوم الجمارك، يدرس التصرف بشأنها في مجالين، الأول إصدار شيكات استرداد لصالح محدودي الدخل، أو سداد جزء من الديون الأميركية.
ونشرت أخيرًا أرقام تخص عوائد الرسوم الجمركية خلال الفترة من أكتوبر/تشرين الأول 2024 – يونيو/حزيران 2025، حيث قدرت بنحو 113 مليار دولار، وثمة توقعات أن تبلغ الحصيلة الجمركية لأميركا بنهاية 2025 إلى نحو 300 مليار دولار، وفق تصريح وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت.
إلا أن الأمر يتطلب نظرة كلية لتبعات سياسات ترامب على الاقتصاد الكلي بأميركا، في ظل استمرار ارتفاع معدلات التضخم عند 2.7%، مما حال دون تخفيض المجلس الفدرالي الأميركي سعر الفائدة ، وهي قضية محل خلاف ومؤرقة لترامب، مع المجلس الفدرالي.
أداء تجارة أميركا في عهد ترامب
تظهر البيانات الرسمية الأميركية المنشورة، أن إجمالي التجارة السلعية لأميركا في مايو/أيار 2025 بلغ 459.5 مليار دولار، وأن العجز التجاري بلغ 93.5 مليار دولار.
في ما يخص الـ 15 شريكًا رئيسيا، فقد بلغت قيمة تبادلهم التجاري مع أميركا في الشهر ذاته 337.8 مليار دولار، وبفائض لصالح الشركاء بقيمة 87 مليار دولار.
يستحوذ هؤلاء الشركاء على نسبة 73.5% من إجمالي تجارة أميركا الخارجية.
وثمة تفاصيل تخص أداء بعض الدول على حدة مع أميركا خلال الفترة من يناير/كانون الثاني – مايو/أيار 2025، منها:
إعلان
المكسيك صاحبة أكبر تبادل تجاري مع أميركا بنحو 359.5 مليار دولار، وفائض لصالح المكسيك بنحو 79.4 مليار دولار.
ثم كندا، بقيمة تبادل تجاري مع أميركا بنحو 311.4 مليار دولار، وفائض تجاري لصالح كندا بقيمة 25.6 مليار دولار.
وفي المرتبة الثالثة الصين، بقيمة تبادل تجاري خلال نفس الفترة بنحو 195 مليار دولار، وفائض تجاري لصالح الصين بقيمة 101.9 مليار دولار.
ويلاحظ أنه على الرغم من أن الصين تأتي في المرتبة الثالثة من حيث قيمة التجارة مع أميركا خلال الفترة يناير/كانون الثاني –مايو/أيار 2025، إلا أنها صاحبة أكبر فائض تجاري مع أميركا، من بين الـ 15 شريكًا رئيسيا.
اليابان بلغت قيمة تجارتها مع أميركا خلال الفترة 96.5 مليار دولار، وبفائض لصالح اليابان 29.2 مليار دولار، ثم بريطانيا التي بلغت قيمة تجارتها مع أميركا 69.2 مليار دولار، وبفائض لصالح بريطانيا 12.7 مليار دولار.
رهان تكتيك الشركاء التجاريين لأميركا
ولاية ترامب الأولي 2017–2020، اتخذ فيها العديد من القرارات التي تخص المنظمات الدولية، أو الواقع الاقتصادي الداخلي، ثم أتى بايدن ليعيد النظر في كل ما اتخذ من قرارات في عهد ترامب، وعادت أميركا إلى المحيط العالمي من جديد.
وتشجع هذه التجربة التاريخية، على توقع انتهاء سياسات وقرارات ترامب بانتهاء ولايته، في عام 2028، خاصة وأن بعض الاتفاقيات تتضمن مبالغ كبيرة في ما يخص الالتزامات الاستثمارية.
وقد يساعد سيناريو التكتيك من المتضررين، في أن يسعى رجال الأعمال الأميركيون المتضررون من سياسات ترامب، إلى تغيير هذه السياسات بعد رحيله.
كما أن ترامب ما لم يتخذ خطوات متسارعة لتنفيذ سياسة "الإحلال محل الواردات"، فسوف يفقد ثقة الناخب الأميركي، نظرا لما أدت إليه سياسته بشأن رفع الرسوم الجمركية من استمرار معدلات التضخم مرتفعة.
لكن ما يساهم في استبعاد هذا السيناريو، أن المتضررين من سياسات ترامب خارج أميركا، لم يجتمعوا على أمر جامع لمواجهته، ولذلك يستبعد بعضهم فرضية، أن ثمة إرهاصات جادة بشأن ميلاد نظام اقتصادي عالمي جديد.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ما حجم التقدم في مباحثات ويتكوف وبوتين لإنهاء حرب أوكرانيا؟
ما حجم التقدم في مباحثات ويتكوف وبوتين لإنهاء حرب أوكرانيا؟

الجزيرة

timeمنذ 4 ساعات

  • الجزيرة

ما حجم التقدم في مباحثات ويتكوف وبوتين لإنهاء حرب أوكرانيا؟

تتصاعد التساؤلات بشأن حجم التقدم الذي أفرزته مباحثات المبعوث الرئاسي الأميركي ستيفن ويتكوف مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن مستقبل حرب أوكرانيا بعد حديث الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن مباحثات "مثمرة للغاية". ويتمثل التقدم بإيجاد حلول وسط "قد تتضمن تنازلات روسية ليست جوهرية"، مثل توافق على وقف مؤقت للهجمات الجوية بين موسكو وكييف، وهدن إنسانية لتبادل الأسرى والجثث، وفق حديث الباحث السياسي والإستراتيجي رولاند بيجاموف لبرنامج "ما وراء الخبر". وتمثل المباحثات بداية مناقشات نحو إطار جديد يتضمن التعامل مع شروط روسية -حسب كبيرة الباحثين في معهد كوينسي كيلي فلاهوس- مثل عضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ووضع أوكرانيا بعد الحرب بحيث لا توجد قوات عسكرية أوروبية وأميركية على أراضيها. ولا يمكن إحداث تطور جوهري والمضي قدما في مفاوضات حقيقية لإنهاء حرب أوكرانيا من دون "معالجة هاتين المسألتين"، فالتوصل لوقف إطلاق النار "غير ممكن" من دون تسوية ذلك. ووفق فلاهوس، فإن هاتين المسألتين هما الأساس للتوصل إلى حل، وليس وقف إطلاق النار وفرض عقوبات وتعريفات جمركية، فهذه "أدوات دبلوماسية حربية لن تؤدِي إلى نتائج مرجوة". لكن ليست من مصلحة موسكو وقف حرب أوكرانيا "إلا إذا نفذت مطالبها، وحصلت على ضمانات، ورفعت العقوبات عنها"، إذ "تكسب في ميدان الحرب وفي سباق التسلح"، حسب حديث بيجاموف. وتتفق كبيرة الباحثين في معهد كوينسي مع ذلك، فموقف روسيا قوي، ويواصل جيشها مهاجمة أوكرانيا ويسيطر على مزيد من أراضيها، وباستطاعتها وضع الشروط على طاولة المفاوضات، وليست كييف التي تتموضع في موقع دفاعي. وبناء على هذه المعطيات، تحاول روسيا كسب الوقت لكي تصبح الأمور لصالحها في ظل "أفضليتها العسكرية في الميدان، وقدرتها على إطالة الحرب أكثر من أوكرانيا". مهلة ترامب كما تبدو روسيا هادئة مع اقتراب المهلة التي حددها ترامب لروسيا لوقف حرب أوكرانيا، إذ "لم تأخذها على محمل الجد، ولم يعلق عليها بوتين، في وقت أظهر فيه المسؤولون الروس صبرا إستراتيجيا"، وفق بيجاموف. ورجح مواصلة الحوار بين واشنطن وموسكو في ظل الحديث عن "شراكة إستراتيجية"، وقلل في الوقت نفسه من شراء أوكرانيا أسلحة أميركية جديدة بـ200 مليون دولار، مؤكدا أنه لا يمكن مقارنة هذه الصفقة بفترة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن. وفي هذا الإطار، قال مسؤول أميركي رفيع إن اجتماع ويتكوف في روسيا "سار بشكل جيد"، مشيرا إلى أن "موسكو حريصة على مواصلة التنسيق مع الولايات المتحدة". كما أن واشنطن قد لا تستمر طويلا في مساعيها الرامية لإنهاء حرب أوكرانيا، فترامب قد ينسحب تاركا هذه الساحة الأوروبية للتركيز على الصراع مع الصين، في حين "تستعد النخبة الأوروبية الأيديولوجية الحاكمة لحرب مع الروس عام 2030″، كما يقول بيجاموف.

لماذا تعادي أميركا الصين بهذه الشراسة؟
لماذا تعادي أميركا الصين بهذه الشراسة؟

الجزيرة

timeمنذ 5 ساعات

  • الجزيرة

لماذا تعادي أميركا الصين بهذه الشراسة؟

على مدار العقدين الماضيين، تطور موقف الولايات المتحدة تجاه الصين من التعاون الاقتصادي إلى العداء الصريح. فقد انخرطت وسائل الإعلام والسياسيون الأميركيون في خطاب معادٍ للصين بشكل مستمر، بينما فرضت الحكومة الأميركية قيودا تجارية وعقوبات على الصين، وسعت إلى تعزيز وجودها العسكري بالقرب من الأراضي الصينية. تريد واشنطن من الناس أن يعتقدوا أن الصين تشكل تهديدا. صحيح أن صعود الصين يهدد المصالح الأميركية، لكن ليس بالطريقة التي تحاول النخبة السياسية الأميركية تصويرها. يجب فهم العلاقة بين الولايات المتحدة والصين في سياق النظام الرأسمالي العالمي. إذ يعتمد تراكم رأس المال في الدول المركزية، والتي يشار إليها غالبا باسم "الشمال العالمي"، على العمالة والموارد الرخيصة القادمة من الأطراف وشبه الأطراف، أي ما يعرف بـ"الجنوب العالمي". ويعد هذا الترتيب أمرا حاسما لضمان تحقيق أرباح عالية للشركات متعددة الجنسيات التي تهيمن على سلاسل التوريد العالمية. كما أن التفاوت المنهجي في الأسعار بين المركز والأطراف يمكّن الدول المركزية من الاستحواذ الصافي الكبير على القيمة من الأطراف من خلال التبادل غير المتكافئ في التجارة الدولية. منذ ثمانينيات القرن الماضي، حين فتحت الصين أبوابها للاستثمار والتجارة الغربية، أصبحت جزءا أساسيا من هذا الترتيب، إذ وفرت مصدرا رئيسيا للعمالة لصالح الشركات الغربية؛ عمالة تتميز بأنها رخيصة، ولكنها أيضا عالية المهارة ومرتفعة الإنتاجية. فعلى سبيل المثال، تعتمد نسبة كبيرة من إنتاج شركة آبل على العمالة الصينية. ووفقا لأبحاث الاقتصادي دونالد أ. كليلاند، فإن آبل لو اضطرت لدفع أجور للعمال الصينيين والآسيويين الشرقيين توازي أجور العامل الأميركي، لكانت كلفة جهاز الآيباد الواحد سترتفع بمقدار 572 دولارا إضافيا في 2011. لكن خلال العقدين الماضيين، ارتفعت الأجور في الصين بشكل كبير ولافت. تقريبا في 2005، كانت تكلفة العمالة الصناعية في الساعة بالصين أقل من نظيرتها في الهند، إذ لم تتجاوز دولارا واحدا في الساعة. أما اليوم، فقد ارتفعت الأجور في الصين إلى أكثر من 8 دولارات في الساعة، في حين لا تزال في الهند تقارب دولارين فقط. بل في الواقع، باتت الأجور في الصين أعلى منها في أي دولة نامية أخرى في آسيا، وهو تطور تاريخي بالغ الأهمية. ويعزى هذا التحول إلى عدة أسباب رئيسية. أولها أن فائض العمالة في الصين تم استيعابه تدريجيا ضمن اقتصاد العمل المأجور، مما عزز من قدرة العمال التفاوضية. وفي الوقت نفسه، وسّع الرئيس الصيني شي جين بينغ من دور الدولة في الاقتصاد، عبر تعزيز أنظمة الخدمات العامة- مثل الرعاية الصحية والإسكان العام- الأمر الذي زاد من تحسين وضع العمال، ودعم قوتهم الاقتصادية والاجتماعية. هذه تغيّرات إيجابية بالنسبة للصين- وخصوصا للعمال الصينيين- لكنها تشكل مشكلة حقيقية لرأس المال الغربي. فارتفاع الأجور في الصين يفرض قيودا على أرباح الشركات الغربية التي تعمل هناك أو التي تعتمد على التصنيع الصيني في تزويدها بالأجزاء الوسيطة ومدخلات الإنتاج الأساسية. أما المشكلة الأخرى بالنسبة لدول المركز، فهي أن ارتفاع الأجور والأسعار في الصين يقلل من تعرضها لتبادل غير متكافئ. ففي حقبة الأجور المنخفضة خلال تسعينيات القرن الماضي، كان معدل صادرات الصين إلى وارداتها مع دول المركز مرتفعا للغاية، أي أن الصين كانت تضطر لتصدير كميات هائلة من السلع من أجل الحصول على الواردات التي تحتاجها. أما اليوم، فقد انخفض هذا المعدل بشكل ملحوظ، مما يمثّل تحسنا كبيرا في شروط التبادل التجاري لصالح الصين، ويضعف بشكل كبير قدرة دول المركز على الاستحواذ على القيمة من الصين. نظرا لكل ما سبق، فإن الرأسماليين في الدول المركزية باتوا الآن في حالة يأس لفعل أي شيء لاستعادة قدرتهم على الوصول إلى العمالة الرخيصة والموارد. أحد الخيارات- الذي يروج له بشكل متزايد في الصحافة الاقتصادية الغربية- هو نقل الإنتاج الصناعي إلى مناطق أخرى في آسيا حيث تكون الأجور أقل. لكن هذا الخيار مكلف من حيث فقدان الإنتاج، والحاجة إلى توظيف عمال جدد، والاضطرابات الأخرى في سلاسل الإمداد. الخيار الآخر هو إجبار الأجور الصينية على الانخفاض مجددا. ومن هنا تأتي محاولات الولايات المتحدة تقويض الحكومة الصينية وزعزعة استقرار الاقتصاد الصيني، بما في ذلك عبر الحرب الاقتصادية والتهديد المستمر بالتصعيد العسكري. من المفارقات أن الحكومات الغربية تبرر أحيانا معارضتها للصين بحجة أن صادرات الصين رخيصة للغاية. وغالبا ما يدّعى أن الصين "تغش" في التجارة الدولية من خلال خفض سعر صرف عملتها، اليوان الصيني (الرنمينبي)، بشكل مصطنع. بيد أن المشكلة في هذا الطرح هي أن الصين تخلّت عن هذه السياسة منذ حوالي عقد من الزمن. كما أشار خبير الاقتصاد في صندوق النقد الدولي، خوسيه أنطونيو أوكامبو، في 2017: "في السنوات الأخيرة، كانت الصين تبذل جهدا لتجنب انخفاض قيمة الرنمينبي، وقد ضحت بكمية كبيرة من احتياطاتها. وقد يشير هذا إلى أن هذه العملة، إذا كان هناك شيء يمكن قوله، فهي الآن مبالغ في تقييمها". وقد سمحت الصين في نهاية المطاف بخفض قيمة العملة في 2019، عندما فرضت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تعريفات جمركية، مما زاد الضغط على الرنمينبي. لكن هذا كان رد فعلٍ طبيعيا على تغيّر في ظروف السوق، وليس محاولة لتخفيض قيمة الرنمينبي إلى ما دون مستواه السوقي. لقد دعمت الولايات المتحدة الحكومة الصينية إلى حد كبير في الفترة التي كانت فيها عملة الصين منخفضة القيمة، بما في ذلك من خلال القروض المقدمة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. لكن الغرب انقلب بشكل حاسم ضد الصين في منتصف العقد الثاني من الألفية، في اللحظة نفسها التي بدأت فيها البلاد ترفع أسعارها وتتحدى موقعها كمورّد هامشي للمدخلات الرخيصة ضمن سلاسل الإمداد التي يهيمن عليها الغرب. العنصر الثاني الذي يغذي عداء الولايات المتحدة تجاه الصين، هو التكنولوجيا. فقد استخدمت بكين السياسة الصناعية لإعطاء الأولوية للتطور التكنولوجي في القطاعات الإستراتيجية على مدى العقد الماضي، وحققت تقدما مذهلا. فهي تمتلك الآن أكبر شبكة للقطارات فائقة السرعة في العالم، وتصنّع طائراتها التجارية الخاصة، وتقود العالم في تكنولوجيا الطاقة المتجددة والمركبات الكهربائية، وتتمتع بتقنيات متقدمة في مجالات الطب، والهواتف الذكية، وإنتاج الرقائق الدقيقة، والذكاء الاصطناعي، وغيرها. لقد كانت الأخبار التكنولوجية القادمة من الصين مذهلة وسريعة الإيقاع. وهذه إنجازات لا نتوقعها عادة إلا من الدول ذات الدخل المرتفع، لكن الصين تحققها رغم أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لديها يقل بنسبة تقارب 80% عن متوسط ما تحققه الاقتصادات "المتقدمة". وهذا أمر غير مسبوق. يمثّل هذا تطورا مقلقا للدول المركزية، لأن أحد الأعمدة الأساسية للترتيب الإمبريالي هو حاجتها إلى الحفاظ على احتكار التكنولوجيا الضرورية، مثل السلع الرأسمالية، والأدوية، وأجهزة الكمبيوتر، والطائرات، وما إلى ذلك. هذا الاحتكار يجبر "الجنوب العالمي" على البقاء في موقع التبعية، إذ يضطر إلى تصدير كميات كبيرة من موارده المنخفضة القيمة من أجل الحصول على هذه التكنولوجيا الأساسية. وهذا هو ما يبقي على عملية الاستحواذ الصافي للدول المركزية من خلال التبادل غير المتكافئ. أما اليوم، فإن التطور التكنولوجي في الصين بات يكسر هذا الاحتكار الغربي، وقد يمنح الدول النامية الأخرى موردين بدلاء للسلع الأساسية، بأسعار أكثر قدرة على التحمل. وهذا يمثل تحديا جوهريا لترتيب السيطرة الإمبريالية ولنظام التبادل غير المتكافئ. لقد ردت الولايات المتحدة بفرض عقوبات تهدف إلى شل التطور التكنولوجي في الصين. حتى الآن، لم تنجح هذه العقوبات؛ بل على العكس، زادت من الحوافز لدى الصين لتطوير قدراتها التكنولوجية السيادية. ومع تحييد هذا السلاح إلى حد كبير، ترغب الولايات المتحدة في اللجوء إلى التحريض على الحرب، حيث يتمثل الهدف الأساسي في تدمير القاعدة الصناعية الصينية، وتحويل رأس المال الاستثماري والقدرات الإنتاجية الصينية نحو قطاع الدفاع. ترامب، والغرب من ورائه، لا يريدون الحرب مع الصين، لأن الصين تشكل تهديدا عسكريا على الشعب الأميركي، بل لأن التطور الصيني يقوض مصالح الرأسمال الإمبريالي. الادعاءات الغربية بأن الصين تشكل نوعا من التهديد العسكري ليست سوى دعاية محضة. فالوقائع المادية تروي قصة مختلفة تماما. في الواقع، فإن الإنفاق العسكري للصين للفرد الواحد أقل من المتوسط العالمي، ويعادل عُشر ما تنفقه الولايات المتحدة وحدها. صحيح أن الصين تملك عددا كبيرا من السكان، ولكن حتى من حيث القيم المطلقة، فإن الكتلة العسكرية المتحالفة مع الولايات المتحدة تنفق على القوة العسكرية أكثر من سبعة أضعاف ما تنفقه الصين. كما أن الولايات المتحدة تمتلك ثمانية رؤوس نووية مقابل كل رأس نووي واحد تملكه الصين. قد تكون لدى الصين القدرة على منع الولايات المتحدة من فرض إرادتها عليها، لكنها لا تملك القدرة على فرض إرادتها على بقية العالم بالطريقة التي تفعلها الدول المركزية. إن السردية التي تزعم أن الصين تشكل نوعا من التهديد العسكري هي مبالغ فيها إلى حد بعيد. وفي الواقع، العكس هو الصحيح. فالولايات المتحدة تمتلك مئات القواعد والمنشآت العسكرية حول العالم، وعدد كبير منها متمركز قرب الصين؛ في اليابان وكوريا الجنوبية. أما الصين، في المقابل، فلا تمتلك سوى قاعدة عسكرية واحدة في الخارج، تقع في جيبوتي، ولا تمتلك أي قاعدة عسكرية بالقرب من حدود الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، لم تطلق الصين رصاصة واحدة في أي حرب دولية منذ أكثر من 40 عاما، في حين أن الولايات المتحدة، خلال هذه الفترة، غزت أو قصفت أو نفذت عمليات لتغيير الأنظمة في أكثر من اثنتي عشرة دولة في الجنوب العالمي. وإذا كانت هناك دولة تشكل تهديدا معروفا للسلام والأمن العالميين، فهي الولايات المتحدة. السبب الحقيقي وراء التحريض الغربي على الحرب هو أن الصين تحقق تنمية سيادية، وهذا يقوض الترتيب الإمبريالي الذي يعتمد عليه تراكم رأس المال الغربي. والغرب لن يسمح بانزلاق القوة الاقتصادية العالمية من بين يديه بهذه السهولة.

واشنطن تتحدث عن تقدم بشأن حرب أوكرانيا وزيلينسكي يهاتف ترامب
واشنطن تتحدث عن تقدم بشأن حرب أوكرانيا وزيلينسكي يهاتف ترامب

الجزيرة

timeمنذ 5 ساعات

  • الجزيرة

واشنطن تتحدث عن تقدم بشأن حرب أوكرانيا وزيلينسكي يهاتف ترامب

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إنه بحث مع نظيره الأميركي دونالد ترامب زيارة مبعوثه الخاص ستيف ويتكوف إلى موسكو ، اليوم الأربعاء، وإنه أكد دعم أوكرانيا للسلام العادل وتصميمها المستمر على الدفاع عن نفسها. وأضاف على موقع إكس "ستدافع أوكرانيا بالتأكيد عن استقلالها، مشيرا إلى أن قادة أوروبيين انضموا إلى المكالمة مع ترامب". وكان ويتكوف قد اجتمع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نحو ثلاث ساعات، في محاولة لتحقيق انفراجه باتجاه إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية ، التي تفاخر ترامب بأنه قادر على إنهائها خلال 24 ساعة من توليه منصبه. وفي السياق ذاته أعلن ترامب أن ويتكوف أحرز "تقدما كبيرا" في اجتماعه مع بوتين، وأضاف في منشور على موقع تروث سوشيال أنه أطلع بعض حلفاء واشنطن الأوروبيين على آخر المستجدات بعد اجتماع ويتكوف مع بوتين، الذي ركّز على إنهاء الحرب المستمرة منذ فبراير/شباط 2022. ومضى قائلا "يتفق الجميع على أن هذه الحرب يجب أن تنتهي، وسنعمل على تحقيق ذلك في الأيام والأسابيع المقبلة". وكان مسؤول ب البيت الأبيض قد ذكر في وقت سابق أن الاجتماع سار على ما يرام، وأن موسكو حريصة على مواصلة التعاون مع الولايات المتحدة. وعلى الرغم من ذلك أوضح أنه لا يزال من المتوقع فرض العقوبات الثانوية على الدول التي تتعامل تجاريا مع روسيا يوم الجمعة المقبل، دون إعطاء تفاصيل. وكان ترامب هدد بفرض عقوبات على موسكو، وعقوبات ثانوية على الدول التي تشتري نفطها، إذا لم تُتخذ أي خطوات لإنهاء الحرب في أوكرانيا.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store