
دبلوماسية الجوار الهندية: ركيزة أساسية للاتساق والثقة
تأتي زيارة رئيس الوزراء مودي إلى جزر المالديف في وقت حاسم في العلاقات الثنائية. فهي زيارته الثالثة للدولة الجزرية، والأولى في عهد الرئيس محمد معزو، مما يُثبت أن التواصل الدبلوماسي الهندي يرتكز على المشاركة طويلة الأمد، لا على المصالح السياسية. ومن المتوقع أن تُعلن الهند خلال الزيارة عن خط ائتمان جديد لمبادرات التنمية، وإطلاق مشاريع بنية تحتية كبرى، وتعميق التعاون في مجالات مثل التكيف مع تغير المناخ، والصحة، والأمن البحري.
يُعدّ مشروع ربط ماليه الكبرى، الذي تبلغ تكلفته 500 مليون دولار أمريكي، أحد الركائز الأساسية للعلاقات بين الهند وجزر المالديف، حيث سيربط العاصمة ماديًا بالجزر المجاورة، مما يحفز النشاط الاقتصادي ويحسّن مستوى المعيشة. كما نفذت الهند مشاريع مجتمعية للمياه والصرف الصحي في عشرات الجزر، استفاد منها بشكل مباشر أكثر من 28 ألف مالديفي. هذه ليست مبادرات رمزية، بل تُجسّد دبلوماسية الهند المستقرة التي تُولي اهتمامًا خاصًا لشعبها.
لعبت الهند أيضًا دورًا محوريًا في توفير لقاحات كوفيد-19، والمساعدات الغذائية، وإغاثة الكوارث لجزر المالديف، مساندةً إياها في وقت حاجتها. إن هذا الاستعداد للمساعدة، ليس فقط بالقروض والبنية التحتية، بل أيضًا بالدعم الإنساني، هو ما يميز الهند كشريك دائم وعطوف.
لا تقتصر موثوقية الهند على جزر المالديف. ففي جميع أنحاء جنوب آسيا، برهنت نيودلهي على سياسة ثابتة في المشاركة البناءة والتعاون الإقليمي. ففي سريلانكا، خلال أسوأ أزمة اقتصادية شهدتها البلاد، قدمت الهند مساعدات تجاوزت 3.8 مليار دولار، شملت قروضًا لشراء الوقود والغذاء والأدوية والأسمدة. ورافق ذلك دعمٌ حيوي خلال الجائحة، حيث زودت الهند سريلانكا باللقاحات والأكسجين في وقتٍ كانت فيه سلاسل التوريد العالمية تعاني من الاختناق.
في بنغلاديش، قدمت الهند ما يقرب من 8 مليارات دولار أمريكي كخطوط ائتمان ميسّرة، وهو أكبر مبلغ قدمته لأي دولة بمفردها. تُسهم هذه الأموال في تطوير البنية التحتية، وربط السكك الحديدية، والوصول إلى الموانئ، والتعاون في مجال الطاقة، والتجارة عبر الحدود. تُغذي خطوط أنابيب الصداقة الهندية البنغلاديشية وشبكات نقل الكهرباء آلاف المنازل، بينما تعكس مبادراتهما المشتركة في مجال الدفاع وإدارة الكوارث شراكة استراتيجية فعّالة ومتينة.
في نيبال وبوتان، تواصل الهند الاستثمار في ربط الطرق والسكك الحديدية والطاقة الكهرومائية. وقد تعززت الروابط الثقافية والتاريخية المشتركة بفضل الزيارات رفيعة المستوى المنتظمة، ومنح البنية التحتية، ودعم التعليم والرعاية الصحية، وتوفير سبل العيش. ولا تزال الهند الشريك التجاري الأول وشريك التنمية الأول لكلا البلدين.
في أفغانستان، حتى في ظل الاضطرابات، قدمت الهند مساعدات إنسانية وأعادت بناء مؤسسات رئيسية، مثل سد سلمى والبرلمان الأفغاني، مؤكدةً التزامها تجاه الشعب الأفغاني. وفي ميانمار، اتبعت الهند نهجًا دقيقًا في التعاون من خلال ربط البنية التحتية وإغاثة المنكوبين.
منذ بداية ولايته، أولى مودي الأولوية لسياسة "الجوار أولاً". وقد شهد حفل تنصيبه عام ٢٠١٤ حضور رؤساء دول من مختلف أنحاء جنوب آسيا، مما يشير إلى عزم الهند على إعادة ترسيخ سياستها الخارجية في محيطها المباشر. وقد تطورت هذه السياسة منذ ذلك الحين لتصبح مبدأً للشراكة التنموية والاستراتيجية العميقة.
التوجه الإقليمي لا يقتصر على القرب الجغرافي فحسب، بل يشمل أيضًا الأولويات. سواءً تعلق الأمر بإجلاء المواطنين أثناء الكوارث، أو بناء بنى تحتية عابرة للحدود، أو ترميم المواقع الثقافية القديمة، أو الاستثمار في رأس المال البشري من خلال المنح الدراسية وبناء القدرات، فإن دعم الهند شامل ومتجاوب ويتسم بالاحترام.
الأهم من ذلك، أن دبلوماسية الهند ليست دبلوماسية معاملات، بل هي مبنية على المصائر المشتركة، والاحترام المتبادل، والتقدم الجماعي. لا تُملي الهند شروطًا ولا تفرض شروطًا سياسية. بل تستجيب للطلبات، وتدعم الخيارات السيادية، وتعزز الاستقرار الإقليمي من خلال التعاون، لا الإكراه.
يتميز الأسلوب الدبلوماسي الهندي بالثقة الهادئة والصبر الاستراتيجي. لم تُسهم التوترات الأخيرة مع جزر المالديف، التي أشعلتها الخطابات السياسية والحساسيات المحلية، في تقويض العلاقة الأوسع. لم ترد نيودلهي بالاتهامات المتبادلة، بل بضبط النفس. استُبدل العسكريون الهنود بخبراء مدنيين، واستمر الحوار من خلال مجموعات عمل مشتركة وزيارات رسمية.
بدلاً من التصعيد، اختارت الهند الاستثمار في الحفاظ على الثقة. زار وزير خارجية المالديف الهند ثلاث مرات هذا العام، وعمل الجانبان بنشاط لتعزيز "شراكتهما الاقتصادية والأمنية البحرية الشاملة". هذه ليست مجرد دبلوماسية، بل هي نضج عملي.
تُعدّ زيارة مودي المقبلة تأكيدًا على رؤية الهند الإقليمية. فهي تُخبر الجيران، القريب والبعيد، أن الهند لا تتخلى عن صداقاتها مع تغيرات الظروف السياسية. كما تُظهر أن سياسة الهند الخارجية ترتكز على الاستقرار والاستمرارية واحترام المسار الفريد لكل دولة.
تواجه منطقة جنوب آسيا تحديات معقدة، بدءًا من تغير المناخ والهجرة وصولًا إلى الأزمات الصحية والاضطرابات الاقتصادية. في هذا السياق، توفر قيادة الهند للمنطقة أساسًا من الأمن والتواصل والنمو المشترك.
لا يقتصر دور الهند على العظمة، بل على التنفيذ العملي. من بناء الطرق في نيبال إلى استعادة إمدادات المياه في جزر المالديف، ومن تزويد شبكات الكهرباء في بنغلاديش بالوقود إلى إنقاذ المواطنين العالقين في مناطق النزاع، تُعتبر الهند الجار الذي يُبادر ويُبادر بسرعة ويُحافظ على مساره.
لقد أعادت دبلوماسية الجوار الهندية في عهد رئيس الوزراء مودي تعريف معنى القيادة الإقليمية. فهي لا تتعلق بالهيمنة على الخطاب العام، بل بصياغة مستقبل مشترك من خلال مشاركة متسقة وشاملة ومتجاوبة.
بينما تحتفل جزر المالديف بعيدها الوطني بزيارة دولة لرئيس الوزراء الهندي، تحمل الزيارة رمزيةً لا تُخطئها العين. إنها احتفالٌ بالثقة، والروابط المتجذرة، والشراكة التي صمدت أمام الاختبارات وبرزت أقوى.
أفعال الهند على مدى العقد الماضي أبلغ من أي خطاب. في منطقة غالبًا ما تتسم بالتقلبات، تُعدّ الهند راسخًا نادرًا، وجارًا يُعتمد عليه. موثوقة، ومرنة، ومحترمة: هذه هي قصة الهند في جنوب آسيا.
ريشي سوري معلق سياسي وإعلامي. شغل سابقًا منصب المستشار الإعلامي لرئيس وزراء جامو وكشمير.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


البيان
منذ 5 ساعات
- البيان
عمار النعيمي وسفير تركيا يبحثان تعزيز العلاقات الثنائية
استقبل سمو الشيخ عمار بن حميد النعيمي، ولي عهد عجمان رئيس المجلس التنفيذي، أمس، بالديوان الأميري، لطف الله غوكتاش، سفير الجمهورية التركية لدى الدولة، الذي قدم للسلام على سموه، بمناسبة تسلمه مهام عمله الجديد. ورحب سمو الشيخ عمار بن حميد النعيمي بالسفير التركي، متمنياً له التوفيق في مهامه الجديدة، بما يسهم في تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين في مختلف المجالات، وسبل تطويرها لما فيه مصلحة الشعبين الصديقين. من جانبه أعرب لطف الله غوكتاش عن سعادته بلقاء سمو ولي عهد عجمان، متوجهاً بالشكر لسموه على حسن الاستقبال وكرم الضيافة، مشيداً بما تشهده دولة الإمارات عموماً، وإمارة عجمان خصوصاً، من نهضة وازدهار على مختلف الأصعدة. حضر اللقاء الدكتور مروان المهيري، مدير عام الديوان الأميري بعجمان، ويوسف محمد النعيمي، مدير عام دائرة التشريفات والضيافة.


البيان
منذ 5 ساعات
- البيان
أعضاء في «الوطني»: زيارة رئيس الدولة إلى روسيا ترسّخ نهج الإمارات الداعم للاستقرار الدولي
وتأكيداً على عمق الروابط الثنائية المبنية على الاحترام المتبادل والتفاهم المشترك والمصالح المتبادلة، فضلاً عن كونها تعكس الإرادة المشتركة لتعزيز الشراكة الاستراتيجية على مختلف الأصعدة. وأشار الدكتور الحمادي إلى حرص القيادة الرشيدة على توسيع آفاق التعاون مع روسيا الاتحادية، بما يخدم مصالح الشعبين ويدعم الأمن والاستقرار العالمي، ويعكس رؤية الإمارات في بناء جسور التواصل مع القوى الدولية الفاعلة، انطلاقاً من نهجها الدبلوماسي القائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. مضيفة أن الزيارة تُعد خطوة جديدة نحو تعزيز الجهود الثنائية في دعم السلم والأمن الدوليين، وترسيخ الحوار والتفاهم بين الشعوب، بما يعكس دور البلدين الفاعل في تعزيز النظام العالمي القائم على التعددية والتعاون البنّاء». مضيفةً بأن «هذه الزيارات تعبر عن دبلوماسية الإمارات الحديثة، التي تستند إلى القوة الهادئة، وحكمة القيادة، وصدق الالتزام بالمبادئ، والتي أكدت دوماً أن بناء العلاقات لا يكون على حساب الآخرين، بل بالشراكة معهم، بما يحقق التنمية المشتركة ويعزز السلام الإنساني». ومواجهة التحديات العالمية العابرة للحدود. وقد أثبت البلدان قدرتهما على صياغة مواقف مسؤولة ومتزنة، تعزز من جهود المجتمع الدولي نحو التهدئة والاستقرار. مشيرة في الوقت نفسه إلى أن العلاقات الروسية الإماراتية قوية، وراسخة في ظل وجود تعاون دائم بين البلدين في شتى المجالات الاقتصادية والتجارية والسياسية والدبلوماسية. حيث تتشاركان رؤية مشتركة تجاه العديد من القضايا المحورية المختلفة. وتابعت: تؤكد هذه الزيارة نهج دولة الإمارات الراسخ في دعم السلام والاستقرار على الصعيد الإقليمي والدولي وتكثيف الجهود لحل النزاعات والصراعات والسعي للمضي قدماً نحو تعزيز العلاقات وسبل التعاون بين البلدين بما يحقق المصالح المشتركة، كما تمثل الزيارة علامة فارقة في ترسيخ هذا الدور خاصة في ظل التحديات العالمية الراهنة.


البيان
منذ 5 ساعات
- البيان
ترامب يتحول إلى داعم غير معلن لصعود الصين
إدوارد لوس مضى من عام 2025 أكثر من نصفه، لكن من الواضح -رغم كل شيء- أن الصين هي الرابح الأكبر حتى الآن، فحتى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه لم يتوقف عن تقديم المكاسب لها بوتيرة منتظمة. وقد اتهم زبغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في إدارة جيمي كارتر، ذات مرة، هنري كيسينغر بـ«الولع بالأعداء والضجر من الحلفاء»، وهو توصيف قد ينطبق على سلوك ترامب تجاه حلفاء الولايات المتحدة في منطقة المحيط الهادئ الهندي. وهذا ليس جديداً؛ فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، كانت اليابان هي الخصم الأكبر في نظر ترامب، لا الاتحاد السوفيتي. وحتى في المرات القليلة التي يحمل فيها الصين مسؤولية ما، فإنه يُرجع الخطأ إلى الشركات الأمريكية. وبحسب تعبيره «لو كنت مكان الصين، لكنت ملتهماً غداء أمريكا». ومن بين هؤلاء الجيران، تعد الهند هي الحالة الأكثر إثارة للانتباه. فرئيس وزرائها، ناريندرا مودي، الرجل القوي ببلاده، آخذ في التودد إلى ترامب، لكنه لم يجنِ من الإطراءات أي شيء. ففي الأسبوع الماضي، تعهد ترامب بفرض تعريفات جمركية قدرها 25 % على الهند، واتهم نيودلهي بتمويل الحرب الروسية على أوكرانيا عن طريق واردات النفط من روسيا، مشيراً لاحتمالية أن يعقب هذا فرضه تعريفات ثانوية «بنسبة 100 %». وبعد زعمه الخاطئ -وفق ما أعلنته الهند- أنه أوقف الحرب بين الهند وباكستان في مايو الماضي، ها هو ذا ترامب يشق طريقه نحو استمالة باكستان. وفي اليوم ذاته الذي دعا فيه مودي إلى واشنطن في يونيو، تناول ترامب غداء خاصاً مع عاصم منير، قائد الجيش الباكستاني. لا يتشارك الرؤساء الأمريكيين وجبات خاصة مع قادة الجيوش الأجنبية، لكنه استثنى باكستان من هذه القاعدة. أما مودي، فقد رفض دعوة ترامب بأدب. والآن، يتهكم ترامب على الهند بقوله: «إن لديها اقتصاداً ميتاً، وقد تضطر يوماً ما إلى استيراد النفط من باكستان». وهكذا ببساطة تخسر أصدقاءك وتضيع نفوذك. والأسوأ، رفض ترامب السماح للرئيس التايواني، لاي تشينغ-تي، بالتوقف في نيويورك، خشية أن يثير ذلك حفيظة الصين. وهنا، يحل قصر النظر التكتيكي بشأن تايوان محل نهج كيسينغر القائم على الغموض الاستراتيجي، وينطوي على أنه لا يمكن للصين أبداً أن تراهن على أن الولايات المتحدة لن تهب لنجدة تايوان، فترامب لديه القدرة على المقايضة على أمن تايوان لنيل تنازلات تجارية من جانب الصين. ويريد ترامب وضع يده على غرينلاند، وما زال طامعاً في قناة بنما؛ لأنه يرى الصين تغير على القطب الشمالي ونصف الكرة الغربي. لكنه في الوقت نفسه لا يبدي اهتماماً كبيراً بجيران الصين. وقد قوبل الرئيس الفلبيني، فيرديناند ماركوس جونيور، بالتجاهل حينما اشتكى إلى ترامب أخيراً من أن الصين تغير النظام العالمي بصورة أحادية الجانب. ولم يكن من ترامب إلا أن قال: «نحن على وفاق مع الصين بصورة جيدة للغاية». وفي العام الماضي، رفعت الصين من قدرات الطاقة المتجددة لديها بصورة تتخطى ما أضافته بلدان العالم مجتمعة. في المقابل ومنذ يناير، خفض ترامب الدعم الأمريكي المقدم للطاقة الخضراء في مقابل «احفر يا حبيبي، احفر» باعتبارها استراتيجية محورية لسياسة إدارته تجاه الوقود الأحفوري. ولعل هذه العودة إلى المصادر الكربونية هي أكبر هدايا ترامب للصين. وهكذا تجري كتابة مستقبل العالم في الصين، وترامب نفسه يشارك في تأليف هذا المستقبل دون دراية منه.