
الأكراد السوريون في قلب العاصفة
هذا القرار، الذي صدر في فبراير/شباط 2025، كان أثره كزلزالٌ كاد أن يهزّ الأسس التي بُني عليها مشروع الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، المعروف باسم "روجآفا".
فمنذ تأسيسها، ارتبطت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) عضوياً بفكر أوجلان وأيديولوجية "الكونفدرالية الديمقراطية"، التي جعلت من الحزب المرجعية السياسية والعسكرية لها. لكن اليوم، ومع تفكك هذا الإطار، تواجه قسد تحدياً مزدوجاً: إعادة تعريف هويتها الروحية الرمزية في ظل فراغ قيادي، وكذلك التصدي لضغوط إقليمية ودولية تهدد بنسف مكتسبات سنوات من النضال.
لم تنتظر تركيا طويلاً لتترجم قرار أوجلان إلى فرصة استراتيجية. فمنذ إعلان حل الحزب، كثفت أنقرة مناوراتها العسكرية في شمال سوريا، مستهدفة مواقع لقسد في كوباني ومنبج، في رسالة واضحة بأن "الكيان الإرهابي" – حسب توصيفها – لا يزال موجوداً حتى لو غير اسمه.
ووفق تحليلات معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى (فبراير/شباط 2025)، فإن تركيا ترى في الانهيار التنظيمي لحزب العمال فرصة لضرب روجآفا، التي تعتبرها امتداداً طبيعياً للتهديد الكردي.
هذه الهجمات، التي تصاعدت بعد تراجع الوجود الأمريكي في المنطقة، تعيد إلى الأذهان سيناريوهات مشابهة في التاريخ الحديث، مثل انهيار الحركة الباسكية في إسبانيا بعد تفكك منظمة إيتا، حيث استغلت الحكومات المركزية الفراغ لفرض شروطها. لكن في حالة سوريا، تختلف المعادلة بسبب تعقيدات الوضع الإقليمي وغياب سلطة مركزية قوية.
في ظل هذه الضغوط، لجأت قسد إلى الحوار مع الحكومة السورية الجديدة، لكن المفاوضات، التي بدأت في مارس/آذار 2025، تواجه عقبات جمة. فالحكومة السورية، المدعومة من تركياً وتتلقى دعما عربيا واسعا، ترفض الاعتراف بالحكم الذاتي وتصر على دمج قسد في مؤسسات الدولة، وهو ما يراه الأكراد تصفيةً لمشروعهم.
هنا، يمكن قراءة التشابه مع اتفاقية أوسلو 1993 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث تحولت التسوية السياسية إلى أداة لاحتواء المقاومة دون منحها حقوقاً جوهرية. ومع ذلك، يحاول الأكراد، بقيادة مظلوم عابدي، محاكاة التناقضات الإقليمية، مثل التنسيق مع روسيا لضمان دور تركي محدود في الشمال، أو استغلال المخاوف الغربية من عودة تنظيم داعش لاستعادة الدعم الأمريكي.
داخل المجتمع الكردي، كشف قرار أوجلان عن شروخ عميقة. فبينما رأى البعض في الحل تحرراً من عباءة الحزب الأبوية، اعتبره آخرون "خيانة" للتضحيات التي قدمت. هذه الانقسامات تتفاقم مع تصاعد مطالب المكونات العربية والسريانية في الإدارة الذاتية بزيادة تمثيلها، مما يعيد إلى الواجهة سؤال الهوية: هل روجآفا مشروعاً كردياً بحتاً، أم إطاراً جامعاً للمجتمعات المحلية؟ ففي درس إقليم كردستان العراق، تحولت الهوية القومية إلى مصدر قوة ونقاط ضعف في آن، مع تراجع الحركة التحررية لصالح مشاريع سياسية محلية. ومع تراجع النموذج الأوجلاني، قد تشهد سوريا نشوء حركات كردية جديدة تجمع بين الخطاب المدني وواقع التفاوض مع الحكومات.
بالطبع، أثار تراجع الدعم الأمريكي لقسد تساؤلات حول مستقبل التحالفات في المنطقة. فواشنطن، التي كانت ترى في الأكراد حليفاً موثوقاً في محاربة الإرهاب، باتت اليوم أكثر تركيزاً على أولويات أخرى، مثل الملف الأوكراني والتنافس مع الصين. لكن هذا لا يعني نهاية النفوذ الأمريكي، بل تحولاً في آلياته. ففي تحليل نشره مركز كارنيغي (أبريل 2025)، يشير الباحثون إلى أن الولايات المتحدة قد تعتمد على "دبلوماسية الظل"، عبر دعم جماعات مدنية واقتصادية في روجآفا، لضمان استمرار النفوذ دون التورط عسكرياً. هذا النموذج يشبه إلى حد بعيد استراتيجية واشنطن في أمريكا اللاتينية، حيث تُستخدم المنظمات غير الحكومية كأدوات للتأثير السياسي.
في خضم المتغيرات المتسارعة، لم تعد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تقف على مفترق طرق فحسب، بل باتت تمشي على حبل مشدود بين احتمال الاندماج الكامل في الدولة السورية الجديدة، وانهيار المشروع الكردي الذاتي تحت وطأة الضغوط المتزايدة من الداخل والخارج. فقد كشفت الأسابيع الأخيرة عن هشاشة الاتفاق الموقع في مارس 2025 مع حكومة الرئيس أحمد الشرع، حيث تعثر التنفيذ وسط تباين جوهري في الرؤى: تصر دمشق على مبدأ "جيش واحد، حكومة واحدة"، بينما تسعى قسد إلى ضمانات صريحة بالاعتراف بخصوصيتها العسكرية والإدارية.
الأزمة تعمّقت مع التصريحات المباشرة للمبعوث الأمريكي توماس باراك، الذي اعتبر أن "الطريق الوحيد لقسد هو دمشق"، معلنًا تقاربًا لافتًا بين واشنطن ورؤية الحكومة السورية. باراك لم يكتف بتوجيه النصح، بل أكد أن أي تأخير في اندماج قسد سيجعلها عرضة لضغوط مزدوجة من دمشق وأنقرة، وصرّح صراحة أن "الفيدرالية لا تصلح في سوريا".
وفي ظل تراجع الدعم الأمريكي المالي والعسكري، والذي تقلّصت موازنته إلى أقل من 130 مليون دولار هذا العام، بدأت واشنطن تنظر إلى قسد كعبء استراتيجي أكثر من كونها شريكًا موثوقًا، مع التلميح المتكرر إلى ضرورة "انتقال تدريجي" نحو حكومة سورية موحدة.
وفي الداخل، يتصاعد الانقسام داخل "قسد" نفسها. الأحزاب الكردية، وفي مقدمتها الحزب اليساري الكردي، عبّرت عن رفضها التام لمحاولات دمج قسد دون استقلالية، واتهمت الحكومة الانتقالية بانتهاك بنود اتفاق 10 مارس/آذار، بينما حذّرت من أن التنازلات الزائدة قد تفتح الباب أمام انفجار داخلي، في وقتٍ يتصاعد فيه الضغط التركي لاستغلال الفوضى الناتجة.
وجهة نظري أن السيناريوهات الممكنة أمام قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في هذه اللحظة المصيرية تدور حول ثلاث مسارات، لكل منها تكاليفه وأثره العميق على مستقبل المشروع الكردي برمّته؛ فإما القبول بالاندماج الكامل في مؤسسات الدولة السورية، وهو خيار يحظى بدعم أمريكي–سوري معلن وقد يؤمن الحماية من العزلة والهجمات التركية، لكنه ينهي فعليًا حلم الحكم الذاتي ويذيب قسد داخل الدولة الجديدة؛ أو الانكفاء نحو نموذج الإدارة الذاتية مع غطاء روسي هش، وهو خيار يعاني من هشاشة داخلية وانقسام كردي وتآكل للشرعية الشعبية، وقد يتحول إلى عزلة قاتلة في ظل الضغوط التركية المستمرة؛ أما السيناريو الأخطر، فهو انهيار الاتفاق مع دمشق بالكامل، ما سيعيد خلط الأوراق ويفتح المجال أمام الفوضى وعودة الجماعات المتطرفة وتوسع التدخلات الإقليمية، وسط انفجار محتمل داخل قسد نفسها. كل هذه المسارات تُحيل إلى معادلة واحدة: إما إعادة التموضع السياسي بذكاء وشجاعة، أو السقوط في فخ الجمود والانهيار، لأن الانتظار لم يعد خيارًا، والتاريخ لا يرحم المترددين.
في المحصلة، لم تعد قوات سوريا الديمقراطية في موقع مناور قادر على فرض شروطها. وعليها اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن تعيد صياغة هويتها الاستراتيجية، وتنتقل من كونها ذراعًا عسكرية لمشروع حزبي إلى قوة مدنية ذات برنامج سياسي واقعي. المستقبل ليس مضمونًا، لكن التاريخ يعلمنا أن التكيف مع الواقع أكثر نجاعة من التمسك بالسراب.
يقف الأكراد السوريون أمام مفترق طرق تاريخي. فكما تعلمت الشعوب من دروس الماضي، مثل الشيشان الذين بنوا دولتهم من رماد الحرب، يحتاج الأكراد اليوم إلى إعادة اختراع أنفسهم. هذا يتطلب التخلي عن ثنائية "النصر أو الانتحار"، والقبول بواقع التسوية، مع الحفاظ على جوهر المشروع التحرري. ففي عالم السياسة، كما قال هنري كسنجر، "لا توجد صداقات دائمة أو عداوات، بل مصالح دائمة". وعلى الأكراد أن يتعلموا هذه القاعدة، ليس للبقاء فحسب، بل لصناعة مستقبلهم بيدين حرتين.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


البيان
منذ 20 ساعات
- البيان
حكاية أوجلان والطائفية
بعد 47 عاماً أحرق عبدالله أوجلان أسلحة حزبه وعاد إلى رشده. عشرون عاماً من ذلك الدهر المقارب لنصف قرن قضاها في خلوة مع نفسه، في السجن، حيث يعيش وحيداً، ويسترجع كل ما مر منذ أن أعلن التمرد على بلاده، ويتذكر الدماء التي سالت نتيجة صراع بين الدولة وأتباعه الخارجين على النظام العام والقانون، وجمع كل «القصاصات» التي تراءت له، ابتداء من الذين زينوا له درب الانفصال، وحتى وصل إلى من تخلوا عنه وتركوه يواجه مصيره دون عون. ادعى بأنه يتحدث باسم أكراد تركيا، وتحدث كثيراً عن اضطهاد ضد طائفته، واتبع نهج اليسار عندما كان هناك يسار ويمين، ودين وإلحاد، وحرية واشتراكية، وحمل السلاح بعد أن شكل مجموعة طائفية، وفجر المدن ومعسكرات الجيش، واختبأ في الجبال، ورفض كل المحاولات للصلح مع تغير الأنظمة وقيادات الدولة. ولم يجلب للأكراد ما وعدهم به، بل زادهم بؤساً، وجعل الحياة في مناطقهم قاسية، وأضاف على الحرمان سطوة الثورة متعددة الولاءات، المرتزقة من الإتاوات، المهرولة خلف من يدفع أكثر! وصل أوجلان إلى قناعة، ربما بعد أن قرأ التاريخ، وعرف أن الأكراد لم يكونوا في يوم من الأيام شوكة مغروزة في جسد المسلمين والعرب، بل هم «سيف» يتقدم الصفوف إذا «حمي الوطيس»، وتذكر أحداث فترة التمرد والمطالبة بالانفصال، وخاصة ظهور المبعوثين من الذين قدموا العروض لاستثمار حزبه ورجاله في مراحل الهيمنة وتحقيق المصالح العليا لدول طامعة وكارهة. واطلع أوجلان على ما يسمى بثورات الطوائف والأقليات، واكتشف أنها لم تنتصر يوماً على الدولة التي يحاربونها، ولكنهم يُضعفونها، ويفتحون الأبواب لتدخلات الأجانب، ويضرون بأهلهم ويدمرون مجتمعاتهم! حكاية أوجلان وحزب العمال الكردستاني في تركيا، وامتداده إلى العراق وسوريا وإيران، ونهايته الدرامية قبل أيام، تقدم لكل من يفكرون في معاداة أوطانهم نموذجاً حياً خلاصته أن الأحزاب والميليشيات الطائفية تمزق أوطانها وتخدم الطامعين فيها.


سبوتنيك بالعربية
منذ 3 أيام
- سبوتنيك بالعربية
إسقاط طائرة مسيرة قرب مطار أربيل دون أضرار
إسقاط طائرة مسيرة قرب مطار أربيل دون أضرار إسقاط طائرة مسيرة قرب مطار أربيل دون أضرار سبوتنيك عربي تمكن جهاز مكافحة الإرهاب في إقليم كردستان، فجر اليوم الاثنين، من إسقاط طائرة مسيرة مفخخة قرب مطار أربيل الدولي، دون وقوع أي أضرار بشرية أو مادية. 14.07.2025, سبوتنيك عربي 2025-07-14T05:30+0000 2025-07-14T05:30+0000 2025-07-14T05:30+0000 أخبار كردستان العالم العربي أخبار العالم الآن الأخبار العراق وكان شهود عيان ومصادر محلية أفادوا بسماع دوي انفجارات في محيط المطار، بالتزامن مع انطلاق صافرات الإنذار من داخل القنصلية الأمريكية، وتم إسقاط الطائرة عند الساعة 2:20 فجرا بالتوقيت المحلي.وأشارت المصادر إلى أن منظومة الدفاع الجوي "سي رام"، المنتشرة في القنصلية ومحيط المطار، أطلقت نيرانها على جسم طائر مجهول، وتمكنت من اعتراضه وإسقاطه، وفقا لموقع "شفق نيوز".وفي أعقاب الحادث، فرضت القوات الأمنية طوقا أمنيا مشددا حول المطار والمناطق القريبة منه.وفي يوم الجمعة الماضي، ألقى نحو 30 عنصرا من حزب العمال الكردستاني أسلحتهم، في خطوة رمزية تعد بداية عملية تسليم السلاح، التي أعلنها الحزب في الآونة الأخيرة، في إطار مسار السلام الجاري.وتأتي هذه المبادرة استجابة لدعوة زعيم الحزب، عبد الله أوجلان، حيث أكدت منظومة المجتمع الكردستاني في بيان أن هذه الخطوة تمثل المرحلة الأولى من تنفيذ قرار الانسحاب وإنهاء العمل المسلح"، الذي أقر خلال المؤتمر الـ12 للحزب في مايو/ أيار الماضي.وأعلن الجناح المدني للحزب، الثلاثاء الماضي، إلغاء التغطية الإعلامية المباشرة لمراسم تسليم السلاح، والتي من المقرر أن يقوم بها 30 مقاتلا من الحزب، في مناطق رابرين، وذلك لأسباب أمنية، بحسب بيان للحزب.وكان زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، قد دعا البرلمان التركي إلى تشكيل لجنة للإشراف على عملية السلام وتسليم سلاح الحزب، وقال في رسالة فيديو: "الكفاح المسلح ضد تركيا قد انتهى، ونزع سلاح حزب العمال الكردستاني سيحدث بسرعة". أخبار كردستان العراق سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 2025 سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 الأخبار ar_EG سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 1920 1080 true 1920 1440 true 1920 1920 true سبوتنيك عربي +74956456601 MIA 'Rossiya Segodnya' 252 60 سبوتنيك عربي أخبار كردستان, العالم العربي, أخبار العالم الآن, الأخبار, العراق


العين الإخبارية
منذ 4 أيام
- العين الإخبارية
الأكراد السوريون في قلب العاصفة
تجد الحركة الكردية السورية نفسها اليوم، مرة أخرى، أمام منعطف وجودي بعد إعلان عبد الله أوجلان، الزعيم الرمزي لحزب العمال الكردستاني، حلّ حزبه وإنهاء عقود من الصراع المسلح. هذا القرار، الذي صدر في فبراير/شباط 2025، كان أثره كزلزالٌ كاد أن يهزّ الأسس التي بُني عليها مشروع الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، المعروف باسم "روجآفا". فمنذ تأسيسها، ارتبطت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) عضوياً بفكر أوجلان وأيديولوجية "الكونفدرالية الديمقراطية"، التي جعلت من الحزب المرجعية السياسية والعسكرية لها. لكن اليوم، ومع تفكك هذا الإطار، تواجه قسد تحدياً مزدوجاً: إعادة تعريف هويتها الروحية الرمزية في ظل فراغ قيادي، وكذلك التصدي لضغوط إقليمية ودولية تهدد بنسف مكتسبات سنوات من النضال. لم تنتظر تركيا طويلاً لتترجم قرار أوجلان إلى فرصة استراتيجية. فمنذ إعلان حل الحزب، كثفت أنقرة مناوراتها العسكرية في شمال سوريا، مستهدفة مواقع لقسد في كوباني ومنبج، في رسالة واضحة بأن "الكيان الإرهابي" – حسب توصيفها – لا يزال موجوداً حتى لو غير اسمه. ووفق تحليلات معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى (فبراير/شباط 2025)، فإن تركيا ترى في الانهيار التنظيمي لحزب العمال فرصة لضرب روجآفا، التي تعتبرها امتداداً طبيعياً للتهديد الكردي. هذه الهجمات، التي تصاعدت بعد تراجع الوجود الأمريكي في المنطقة، تعيد إلى الأذهان سيناريوهات مشابهة في التاريخ الحديث، مثل انهيار الحركة الباسكية في إسبانيا بعد تفكك منظمة إيتا، حيث استغلت الحكومات المركزية الفراغ لفرض شروطها. لكن في حالة سوريا، تختلف المعادلة بسبب تعقيدات الوضع الإقليمي وغياب سلطة مركزية قوية. في ظل هذه الضغوط، لجأت قسد إلى الحوار مع الحكومة السورية الجديدة، لكن المفاوضات، التي بدأت في مارس/آذار 2025، تواجه عقبات جمة. فالحكومة السورية، المدعومة من تركياً وتتلقى دعما عربيا واسعا، ترفض الاعتراف بالحكم الذاتي وتصر على دمج قسد في مؤسسات الدولة، وهو ما يراه الأكراد تصفيةً لمشروعهم. هنا، يمكن قراءة التشابه مع اتفاقية أوسلو 1993 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث تحولت التسوية السياسية إلى أداة لاحتواء المقاومة دون منحها حقوقاً جوهرية. ومع ذلك، يحاول الأكراد، بقيادة مظلوم عابدي، محاكاة التناقضات الإقليمية، مثل التنسيق مع روسيا لضمان دور تركي محدود في الشمال، أو استغلال المخاوف الغربية من عودة تنظيم داعش لاستعادة الدعم الأمريكي. داخل المجتمع الكردي، كشف قرار أوجلان عن شروخ عميقة. فبينما رأى البعض في الحل تحرراً من عباءة الحزب الأبوية، اعتبره آخرون "خيانة" للتضحيات التي قدمت. هذه الانقسامات تتفاقم مع تصاعد مطالب المكونات العربية والسريانية في الإدارة الذاتية بزيادة تمثيلها، مما يعيد إلى الواجهة سؤال الهوية: هل روجآفا مشروعاً كردياً بحتاً، أم إطاراً جامعاً للمجتمعات المحلية؟ ففي درس إقليم كردستان العراق، تحولت الهوية القومية إلى مصدر قوة ونقاط ضعف في آن، مع تراجع الحركة التحررية لصالح مشاريع سياسية محلية. ومع تراجع النموذج الأوجلاني، قد تشهد سوريا نشوء حركات كردية جديدة تجمع بين الخطاب المدني وواقع التفاوض مع الحكومات. بالطبع، أثار تراجع الدعم الأمريكي لقسد تساؤلات حول مستقبل التحالفات في المنطقة. فواشنطن، التي كانت ترى في الأكراد حليفاً موثوقاً في محاربة الإرهاب، باتت اليوم أكثر تركيزاً على أولويات أخرى، مثل الملف الأوكراني والتنافس مع الصين. لكن هذا لا يعني نهاية النفوذ الأمريكي، بل تحولاً في آلياته. ففي تحليل نشره مركز كارنيغي (أبريل 2025)، يشير الباحثون إلى أن الولايات المتحدة قد تعتمد على "دبلوماسية الظل"، عبر دعم جماعات مدنية واقتصادية في روجآفا، لضمان استمرار النفوذ دون التورط عسكرياً. هذا النموذج يشبه إلى حد بعيد استراتيجية واشنطن في أمريكا اللاتينية، حيث تُستخدم المنظمات غير الحكومية كأدوات للتأثير السياسي. في خضم المتغيرات المتسارعة، لم تعد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تقف على مفترق طرق فحسب، بل باتت تمشي على حبل مشدود بين احتمال الاندماج الكامل في الدولة السورية الجديدة، وانهيار المشروع الكردي الذاتي تحت وطأة الضغوط المتزايدة من الداخل والخارج. فقد كشفت الأسابيع الأخيرة عن هشاشة الاتفاق الموقع في مارس 2025 مع حكومة الرئيس أحمد الشرع، حيث تعثر التنفيذ وسط تباين جوهري في الرؤى: تصر دمشق على مبدأ "جيش واحد، حكومة واحدة"، بينما تسعى قسد إلى ضمانات صريحة بالاعتراف بخصوصيتها العسكرية والإدارية. الأزمة تعمّقت مع التصريحات المباشرة للمبعوث الأمريكي توماس باراك، الذي اعتبر أن "الطريق الوحيد لقسد هو دمشق"، معلنًا تقاربًا لافتًا بين واشنطن ورؤية الحكومة السورية. باراك لم يكتف بتوجيه النصح، بل أكد أن أي تأخير في اندماج قسد سيجعلها عرضة لضغوط مزدوجة من دمشق وأنقرة، وصرّح صراحة أن "الفيدرالية لا تصلح في سوريا". وفي ظل تراجع الدعم الأمريكي المالي والعسكري، والذي تقلّصت موازنته إلى أقل من 130 مليون دولار هذا العام، بدأت واشنطن تنظر إلى قسد كعبء استراتيجي أكثر من كونها شريكًا موثوقًا، مع التلميح المتكرر إلى ضرورة "انتقال تدريجي" نحو حكومة سورية موحدة. وفي الداخل، يتصاعد الانقسام داخل "قسد" نفسها. الأحزاب الكردية، وفي مقدمتها الحزب اليساري الكردي، عبّرت عن رفضها التام لمحاولات دمج قسد دون استقلالية، واتهمت الحكومة الانتقالية بانتهاك بنود اتفاق 10 مارس/آذار، بينما حذّرت من أن التنازلات الزائدة قد تفتح الباب أمام انفجار داخلي، في وقتٍ يتصاعد فيه الضغط التركي لاستغلال الفوضى الناتجة. وجهة نظري أن السيناريوهات الممكنة أمام قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في هذه اللحظة المصيرية تدور حول ثلاث مسارات، لكل منها تكاليفه وأثره العميق على مستقبل المشروع الكردي برمّته؛ فإما القبول بالاندماج الكامل في مؤسسات الدولة السورية، وهو خيار يحظى بدعم أمريكي–سوري معلن وقد يؤمن الحماية من العزلة والهجمات التركية، لكنه ينهي فعليًا حلم الحكم الذاتي ويذيب قسد داخل الدولة الجديدة؛ أو الانكفاء نحو نموذج الإدارة الذاتية مع غطاء روسي هش، وهو خيار يعاني من هشاشة داخلية وانقسام كردي وتآكل للشرعية الشعبية، وقد يتحول إلى عزلة قاتلة في ظل الضغوط التركية المستمرة؛ أما السيناريو الأخطر، فهو انهيار الاتفاق مع دمشق بالكامل، ما سيعيد خلط الأوراق ويفتح المجال أمام الفوضى وعودة الجماعات المتطرفة وتوسع التدخلات الإقليمية، وسط انفجار محتمل داخل قسد نفسها. كل هذه المسارات تُحيل إلى معادلة واحدة: إما إعادة التموضع السياسي بذكاء وشجاعة، أو السقوط في فخ الجمود والانهيار، لأن الانتظار لم يعد خيارًا، والتاريخ لا يرحم المترددين. في المحصلة، لم تعد قوات سوريا الديمقراطية في موقع مناور قادر على فرض شروطها. وعليها اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن تعيد صياغة هويتها الاستراتيجية، وتنتقل من كونها ذراعًا عسكرية لمشروع حزبي إلى قوة مدنية ذات برنامج سياسي واقعي. المستقبل ليس مضمونًا، لكن التاريخ يعلمنا أن التكيف مع الواقع أكثر نجاعة من التمسك بالسراب. يقف الأكراد السوريون أمام مفترق طرق تاريخي. فكما تعلمت الشعوب من دروس الماضي، مثل الشيشان الذين بنوا دولتهم من رماد الحرب، يحتاج الأكراد اليوم إلى إعادة اختراع أنفسهم. هذا يتطلب التخلي عن ثنائية "النصر أو الانتحار"، والقبول بواقع التسوية، مع الحفاظ على جوهر المشروع التحرري. ففي عالم السياسة، كما قال هنري كسنجر، "لا توجد صداقات دائمة أو عداوات، بل مصالح دائمة". وعلى الأكراد أن يتعلموا هذه القاعدة، ليس للبقاء فحسب، بل لصناعة مستقبلهم بيدين حرتين.