logo
مدن سودانية تنهض من رماد الحرب والخرطوم تتراجع

مدن سودانية تنهض من رماد الحرب والخرطوم تتراجع

الجزيرةمنذ 3 أيام
في وقت ينهار فيه قلب السودان، تقف مدن أخرى على هامشه لتعلن عن صعود جديد يُعيد رسم الخارطة الجغرافية للنفوذ الاقتصادي والعمراني. الخرطوم ، العاصمة التي كانت ترمز إلى مركز القرار والسيطرة، تشهد انحسارا مدمرا بفعل الحرب التي اندلعت قبل أكثر من عامين، تاركة خلفها فراغا سكانيا ومؤسساتيا، في حين تنمو على أطراف المشهد مدن مثل بورتسودان وعطبرة والقضارف وشندي والدبة، لتتحول إلى حواضن بديلة للدولة والاقتصاد والمجتمع.
هذا التقرير يرصد تحولات هذه المدن في ظل الانهيار المتسارع للعاصمة، ويستعرض كيف بات الهامش مركزا مؤقتا وربما دائما.
بورتسودان العاصمة المؤقتة
مدينة بورتسودان، المعروفة بـ"دُرّة الشرق"، تقع على الساحل الغربي للبحر الأحمر، وقد شهدت تغييرات عميقة منذ اندلاع الحرب في الخرطوم. حيث تحولت المدينة إلى مركز إداري بديل للحكومة، وأصبحت ملاذا للنازحين والفارين من مناطق الصراع، ومقصدا للعابرين بحرا وجوا.
كما جذبت المدينة المستثمرين ورجال الأعمال الذين نقلوا إليها نشاطهم التجاري، وأصبحت مقرا للمنظمات الدولية والإنسانية والسفارات الأجنبية.
ويُعدّ مطار بورتسودان الدولي الآن المنفذ الجوي الوحيد الذي يربط البلاد بالعالم الخارجي، مما ضاعف من أهميته الاستراتيجية. أما الميناء البحري الوحيد في السودان، فقد اكتسب بدوره أهمية اقتصادية متزايدة منذ إنشائه في أوائل القرن الماضي، وأصبح أحد أركان الاقتصاد الوطني في ظل انقطاع العاصمة.
وفي ظل هذا الانتعاش، شهد القطاع العقاري في المدينة تضخما كبيرا في الأسعار، حيث تضاعفت إيجارات العقارات بشكل جعلها بعيدة المنال عن أصحاب الدخل المحدود، مما أدى إلى ظهور تفاوتات اقتصادية بين الوافدين الجدد والسكان الأصليين.
عطبرة وشندي والقضارف.. صعود صناعي وزراعي وعمراني
في شمال السودان، برزت مدينة عطبرة -التي تُعرف بـ"مدينة الحديد والنار"- كواحدة من أبرز المدن التي نهضت بوتيرة متسارعة.
عطبرة التي كانت مركزا تاريخيا للسكك الحديد، استفادت من موقعها الجغرافي عند تقاطع الطرق القومية بين الخرطوم وبورتسودان وحلفا، ومن تدفق رؤوس الأموال الهاربة من مناطق النزاع، خاصة تلك العاملة في قطاع التعدين الأهلي للذهب.
وانتقل إلى المدينة عدد كبير من العمالة التي كانت تعمل في القطاعات غير المنظمة، وارتفع عدد السكان من نحو 75 ألفا إلى نحو مليوني نسمة، وفقا لما صرّح به علي عسكوري، المسؤول السابق في وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، لموقع الجزيرة نت.
وقال عسكوري: "في كل مكان في عطبرة ترى العمارات ترتفع، والمراكز التجارية تنمو، والشركات والمناطق الصناعية تتسع". وقد رافق هذا التوسع نمو في سوق الذهب، حيث أصبحت ولاية نهر النيل (التي تنتمي إليها عطبرة) مع ولاية البحر الأحمر تنتج نحو 70% من الذهب في السودان، بعد انتقال مصفاة الذهب إليها وبناء برج خاص بسوق الذهب.
أما في شرق السودان، فقد جذبت ولاية القضارف -التي تُعد من كبريات مناطق الإنتاج الزراعي- رؤوس أموال ضخمة وكبريات الشركات، حيث شُغّل نحو 32 مصنعا في مجالات متنوعة، مما أسهم في تقليص الفجوة الغذائية، وتوفير فرص عمل واسعة للشباب والعمالة في المجالات الحرفية والمهنية.
وقد أدى توافد المستثمرين إلى انتعاش سوق العقارات وارتفاع أسعار الإيجارات، لا سيما في سوق القضارف والسوق العمومي والمحال التجارية، إلى جانب تحسن ملحوظ في القوة الشرائية ومعدل الدخل، رغم تصاعد البطالة والتضخم في بقية مناطق السودان.
وفي مدينة شندي الواقعة شمالي الخرطوم، استقرت عشرات المصانع التي غادرت العاصمة بعد الحرب. وقد خصصت المحلية مدينة صناعية متكاملة استوعبت هذه المصانع، بحسب ما أوضح المدير التنفيذي لمحلية شندي، خالد عبد الغفار، للجزيرة نت.
وتشمل الصناعات الجديدة في شندي إنتاج المواد الغذائية، والكراسات، والمياه المعدنية، والعصائر، والشاي، والصابون، واللحوم، بالإضافة إلى صناعات البلاستيك والعطور والأواني المنزلية، ومعدات الكهرباء، والسباكة، وتعليب الخضروات، وتجفيف البصل.
كما خصصت شندي مواقع لمعارض السيارات التي كانت تتركز سابقا في الخرطوم، وسوقا جديدا لمواد البناء، إلى جانب انتقال تجارة الأحذية والملابس والعطور من سوق سعد قشرة الشهير في بحري إلى أسواقها. وتشير بيانات محلية إلى أن عدد سكان شندي تضاعف أكثر من 5 مرات، وارتفعت إيجارات السكن والمتاجر بدرجة غير مسبوقة.
الدبة.. الميناء البري
وفي شمال السودان، تحولت مدينة الدبة الواقعة على منحنى نهر النيل إلى ميناء بري ضخم، وأصبحت مركزا حيويا يربط بين الأقاليم الشمالية والغربية والشرقية.
تُستقبل في المدينة السلع والبضائع القادمة من المثلث الحدودي مع مصر وليبيا ، بالإضافة إلى الواردات القادمة من مصر مباشرة.
وباتت المدينة نقطة توزيع مركزية للسلع إلى ولايات دارفور وكردفان، كما أصبحت ملتقى للنازحين الذين هربوا من تدهور الأوضاع الأمنية والخدمية في تلك الأقاليم، بحثا عن الاستقرار والتعليم والخدمات الصحية لأطفالهم.
وقد ارتفع عدد سكان الدبة من نحو 50 ألفا إلى أكثر من 500 ألف نسمة خلال عامين فقط، مما جعلها تتحول من مدينة صغيرة إلى مركز اقتصادي ناشئ. ويُعزى ذلك إلى موقعها المفتوح على الصحراء، مما سهّل تحوّلها إلى نقطة عبور لسلع التصدير من كردفان ودارفور نحو بورتسودان أو شمالا نحو معبر أرقين الحدودي مع مصر.
صعود المدن هل يعيد تشكيل السودان؟
التحولات العميقة التي تشهدها مدن مثل بورتسودان، وعطبرة، والقضارف، وشندي، والدبة لا تمثل مجرد رد فعل ظرفي على الحرب الدائرة في الخرطوم، بل تكشف عن إعادة توزيع حقيقي للثقل السكاني والاقتصادي في البلاد.
هذه المدن أصبحت في غضون عامين فقط محاور جديدة للنمو والعمران، واستوعبت موجات النزوح والاستثمار التي كانت تتركز سابقا في العاصمة.
لكن يبقى التساؤل الجوهري: هل سيقود هذا الصعود إلى تغيير دائم في الجغرافيا السياسية والاقتصادية للسودان؟ أم أنها لحظة طارئة ستتبدد مع نهاية الحرب؟ الأكيد أن واقع ما بعد الخرطوم لن يشبه ما قبلها، وأن المدن التي كانت على الهامش باتت تمتلك الآن مفاتيح جديدة لمستقبل البلاد.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

مدن سودانية تنهض من رماد الحرب والخرطوم تتراجع
مدن سودانية تنهض من رماد الحرب والخرطوم تتراجع

الجزيرة

timeمنذ 3 أيام

  • الجزيرة

مدن سودانية تنهض من رماد الحرب والخرطوم تتراجع

في وقت ينهار فيه قلب السودان، تقف مدن أخرى على هامشه لتعلن عن صعود جديد يُعيد رسم الخارطة الجغرافية للنفوذ الاقتصادي والعمراني. الخرطوم ، العاصمة التي كانت ترمز إلى مركز القرار والسيطرة، تشهد انحسارا مدمرا بفعل الحرب التي اندلعت قبل أكثر من عامين، تاركة خلفها فراغا سكانيا ومؤسساتيا، في حين تنمو على أطراف المشهد مدن مثل بورتسودان وعطبرة والقضارف وشندي والدبة، لتتحول إلى حواضن بديلة للدولة والاقتصاد والمجتمع. هذا التقرير يرصد تحولات هذه المدن في ظل الانهيار المتسارع للعاصمة، ويستعرض كيف بات الهامش مركزا مؤقتا وربما دائما. بورتسودان العاصمة المؤقتة مدينة بورتسودان، المعروفة بـ"دُرّة الشرق"، تقع على الساحل الغربي للبحر الأحمر، وقد شهدت تغييرات عميقة منذ اندلاع الحرب في الخرطوم. حيث تحولت المدينة إلى مركز إداري بديل للحكومة، وأصبحت ملاذا للنازحين والفارين من مناطق الصراع، ومقصدا للعابرين بحرا وجوا. كما جذبت المدينة المستثمرين ورجال الأعمال الذين نقلوا إليها نشاطهم التجاري، وأصبحت مقرا للمنظمات الدولية والإنسانية والسفارات الأجنبية. ويُعدّ مطار بورتسودان الدولي الآن المنفذ الجوي الوحيد الذي يربط البلاد بالعالم الخارجي، مما ضاعف من أهميته الاستراتيجية. أما الميناء البحري الوحيد في السودان، فقد اكتسب بدوره أهمية اقتصادية متزايدة منذ إنشائه في أوائل القرن الماضي، وأصبح أحد أركان الاقتصاد الوطني في ظل انقطاع العاصمة. وفي ظل هذا الانتعاش، شهد القطاع العقاري في المدينة تضخما كبيرا في الأسعار، حيث تضاعفت إيجارات العقارات بشكل جعلها بعيدة المنال عن أصحاب الدخل المحدود، مما أدى إلى ظهور تفاوتات اقتصادية بين الوافدين الجدد والسكان الأصليين. عطبرة وشندي والقضارف.. صعود صناعي وزراعي وعمراني في شمال السودان، برزت مدينة عطبرة -التي تُعرف بـ"مدينة الحديد والنار"- كواحدة من أبرز المدن التي نهضت بوتيرة متسارعة. عطبرة التي كانت مركزا تاريخيا للسكك الحديد، استفادت من موقعها الجغرافي عند تقاطع الطرق القومية بين الخرطوم وبورتسودان وحلفا، ومن تدفق رؤوس الأموال الهاربة من مناطق النزاع، خاصة تلك العاملة في قطاع التعدين الأهلي للذهب. وانتقل إلى المدينة عدد كبير من العمالة التي كانت تعمل في القطاعات غير المنظمة، وارتفع عدد السكان من نحو 75 ألفا إلى نحو مليوني نسمة، وفقا لما صرّح به علي عسكوري، المسؤول السابق في وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، لموقع الجزيرة نت. وقال عسكوري: "في كل مكان في عطبرة ترى العمارات ترتفع، والمراكز التجارية تنمو، والشركات والمناطق الصناعية تتسع". وقد رافق هذا التوسع نمو في سوق الذهب، حيث أصبحت ولاية نهر النيل (التي تنتمي إليها عطبرة) مع ولاية البحر الأحمر تنتج نحو 70% من الذهب في السودان، بعد انتقال مصفاة الذهب إليها وبناء برج خاص بسوق الذهب. أما في شرق السودان، فقد جذبت ولاية القضارف -التي تُعد من كبريات مناطق الإنتاج الزراعي- رؤوس أموال ضخمة وكبريات الشركات، حيث شُغّل نحو 32 مصنعا في مجالات متنوعة، مما أسهم في تقليص الفجوة الغذائية، وتوفير فرص عمل واسعة للشباب والعمالة في المجالات الحرفية والمهنية. وقد أدى توافد المستثمرين إلى انتعاش سوق العقارات وارتفاع أسعار الإيجارات، لا سيما في سوق القضارف والسوق العمومي والمحال التجارية، إلى جانب تحسن ملحوظ في القوة الشرائية ومعدل الدخل، رغم تصاعد البطالة والتضخم في بقية مناطق السودان. وفي مدينة شندي الواقعة شمالي الخرطوم، استقرت عشرات المصانع التي غادرت العاصمة بعد الحرب. وقد خصصت المحلية مدينة صناعية متكاملة استوعبت هذه المصانع، بحسب ما أوضح المدير التنفيذي لمحلية شندي، خالد عبد الغفار، للجزيرة نت. وتشمل الصناعات الجديدة في شندي إنتاج المواد الغذائية، والكراسات، والمياه المعدنية، والعصائر، والشاي، والصابون، واللحوم، بالإضافة إلى صناعات البلاستيك والعطور والأواني المنزلية، ومعدات الكهرباء، والسباكة، وتعليب الخضروات، وتجفيف البصل. كما خصصت شندي مواقع لمعارض السيارات التي كانت تتركز سابقا في الخرطوم، وسوقا جديدا لمواد البناء، إلى جانب انتقال تجارة الأحذية والملابس والعطور من سوق سعد قشرة الشهير في بحري إلى أسواقها. وتشير بيانات محلية إلى أن عدد سكان شندي تضاعف أكثر من 5 مرات، وارتفعت إيجارات السكن والمتاجر بدرجة غير مسبوقة. الدبة.. الميناء البري وفي شمال السودان، تحولت مدينة الدبة الواقعة على منحنى نهر النيل إلى ميناء بري ضخم، وأصبحت مركزا حيويا يربط بين الأقاليم الشمالية والغربية والشرقية. تُستقبل في المدينة السلع والبضائع القادمة من المثلث الحدودي مع مصر وليبيا ، بالإضافة إلى الواردات القادمة من مصر مباشرة. وباتت المدينة نقطة توزيع مركزية للسلع إلى ولايات دارفور وكردفان، كما أصبحت ملتقى للنازحين الذين هربوا من تدهور الأوضاع الأمنية والخدمية في تلك الأقاليم، بحثا عن الاستقرار والتعليم والخدمات الصحية لأطفالهم. وقد ارتفع عدد سكان الدبة من نحو 50 ألفا إلى أكثر من 500 ألف نسمة خلال عامين فقط، مما جعلها تتحول من مدينة صغيرة إلى مركز اقتصادي ناشئ. ويُعزى ذلك إلى موقعها المفتوح على الصحراء، مما سهّل تحوّلها إلى نقطة عبور لسلع التصدير من كردفان ودارفور نحو بورتسودان أو شمالا نحو معبر أرقين الحدودي مع مصر. صعود المدن هل يعيد تشكيل السودان؟ التحولات العميقة التي تشهدها مدن مثل بورتسودان، وعطبرة، والقضارف، وشندي، والدبة لا تمثل مجرد رد فعل ظرفي على الحرب الدائرة في الخرطوم، بل تكشف عن إعادة توزيع حقيقي للثقل السكاني والاقتصادي في البلاد. هذه المدن أصبحت في غضون عامين فقط محاور جديدة للنمو والعمران، واستوعبت موجات النزوح والاستثمار التي كانت تتركز سابقا في العاصمة. لكن يبقى التساؤل الجوهري: هل سيقود هذا الصعود إلى تغيير دائم في الجغرافيا السياسية والاقتصادية للسودان؟ أم أنها لحظة طارئة ستتبدد مع نهاية الحرب؟ الأكيد أن واقع ما بعد الخرطوم لن يشبه ما قبلها، وأن المدن التي كانت على الهامش باتت تمتلك الآن مفاتيح جديدة لمستقبل البلاد.

الجنيه السوداني يواصل الهبوط والأسعار تتصاعد.. غذاء الفقراء يتحول إلى ترف
الجنيه السوداني يواصل الهبوط والأسعار تتصاعد.. غذاء الفقراء يتحول إلى ترف

الجزيرة

timeمنذ 5 أيام

  • الجزيرة

الجنيه السوداني يواصل الهبوط والأسعار تتصاعد.. غذاء الفقراء يتحول إلى ترف

شندي- في بلد يزخر بالأراضي الخصبة والثروة الحيوانية، أصبح الحصول على وجبة غذائية متكاملة حلمًا بعيد المنال لغالبية المواطنين، الذين يرزحون تحت وطأة حرب طاحنة وانهيار اقتصادي شامل. في الأسواق يطغى الركود ، وفي البيوت يقاتل الناس من أجل وجبتين في اليوم بالكاد تكفيان لسد الرمق، في حين تتدهور قيمة الجنيه السوداني بلا توقف، وسط غياب حلول حقيقية أو أفق سياسي واضح. وفي آخر تقاريره، كشف البنك الدولي عن انكماش الاقتصاد السوداني بنسبة إضافية بلغت 13.5% خلال عام 2024، وذلك بعد أن تقلّص بنحو الثلث في عام 2023. التقرير ذاته توقّع أن تصل نسبة السكان الذين يعيشون في فقر مدقع إلى 71%، في ظل استمرار النزاع وغياب الدولة. هذه الأرقام ليست مجرّد إحصاءات، بل تعكس واقعًا يعيشه المواطن يوميًا بين الجوع والعجز ودوامة البقاء. "أعمل 12 ساعة في اليوم لأجمع أقل من 10 دولارات بالكاد تكفيني لوجبتين لأسرتي المكوّنة من 6 أفراد"، تقول إقبال محمد، فنية مختبر في شندي شمال الخرطوم. وتضيف: "قبل الحرب، كنت أحتاج إلى نحو 5 آلاف جنيه فقط لتغطية نفقاتنا اليومية، أما الآن فهناك سلع تضاعف سعرها بأكثر من 1000%". إقبال ليست وحدها. ملايين السودانيين يواجهون واقعا مشابها، حيث تحوّلت المواد الغذائية الأساسية إلى سلع نادرة المنال، وتحوّلت المائدة اليومية إلى تحد مستمر. ركود الأسواق وتراجع الزراعة الأسواق في المدن والقرى تشهد حالة من الشلل. يقول بدر الدين أحمد، بائع خضروات في شندي: "الناس لا تشتري. كل شيء تضاعف سعره، ومعظم الزبائن يكتفون بالنظر أو الاكتفاء بالحاجات الضرورية فقط". ويرجع بدر الدين هذا الركود إلى تقلّص الرقعة الزراعية، خصوصًا في ولاية الجزيرة التي كانت تُعدّ سلة غذاء رئيسية للبلاد. ووفقًا لمنظمة الفاو، تراجع الإنتاج الزراعي بأكثر من 40%، وهو قطاع يشكّل 35% من الناتج المحلي الإجمالي ويوفر وظائف لأكثر من 40% من القوة العاملة. ويعاني التجار بدورهم من آثار الغلاء. يقول محمد عبد الحميد، تاجر يبلغ من العمر 60 عامًا: "توقفت عن بيع المعلّبات والمشروبات المستوردة لأن الناس لم تعد تشتريها. المبيعات تراجعت كثيرًا، واقتصر الطلب على العدس والسكر والزيت والمنظفات". الجميع خاسر في هذه المعادلة، من المنتج إلى المستهلك. وفي ظل هذه الظروف، تزداد الصعوبات مع المرض أو الحوادث. عبد الله وراق، عامل بناء، يقول: "أحيانًا نعيش على وجبة واحدة في اليوم. لا نشتري اللحم ولا الخضروات، وأصعب ما نواجهه حين يمرض أحد أفراد الأسرة، فتكاليف العلاج لم تعد في متناول اليد، والطب البديل هو الملاذ الأخير". انهيار الجنيه وتآكل الأجور أحد أبرز مظاهر الانهيار الاقتصادي هو تدهور سعر صرف الجنيه السوداني. فمنذ اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023، تراجع الجنيه من 600 جنيه مقابل الدولار إلى 2679 جنيهًا في السوق الموازية، في حين سجّل في البنوك الرسمية نحو 2100 جنيه منتصف عام 2025. هذا الانهيار انعكس مباشرة على الأجور، وقدرت دراسة أجرتها لجنة المعلمين في يوليو/تموز الجاري أن تكلفة المعيشة الشهرية لأسرة مكوّنة من 5 أفراد تتراوح بين 354 ألف جنيه في المناطق المستقرة، وتصل إلى 2.8 مليون جنيه في الولايات المتأثرة بالحرب. ومع ذلك، فإن أجور العاملين في القطاع العام لا تغطي سوى 8% من هذه التكاليف، بحسب الدراسة، مما يعني أن أكثر من 90% من الموظفين يعيشون تحت خط الفقر. سمية عبد الرحمن، ممرضة وأم لـ4 أبناء، تقول: "أعمل في عيادة ومختبر، ومع ذلك لا يغطي دخلي سوى ثلث احتياجاتنا. اثنان من أولادي يدرسون في الجامعة، وأنا أستدين كل شهر لأتمكن من الاستمرار". هذا النمط يتكرّر مع آلاف الأسر، حيث لم تعد وظيفة واحدة، ولا اثنتان، قادرتين على توفير الحد الأدنى من الكفاف. وبحسب تقرير البنك الدولي، فإن معدلات البطالة ارتفعت من 32% في عام 2022 إلى 47% في 2024، بفعل الإغلاقات الواسعة النطاق للشركات والانهيار الكلي في سوق العمل. رؤى اقتصادية.. وحلول مؤجلة ويرى الخبير الاقتصادي الدكتور حسين القوني أن تدهور قيمة الجنيه مرتبط بـ3 عوامل رئيسية: تراجع الإنتاج، غياب الصادرات، والطلب الكبير على الدولار نتيجة سفر السودانيين للخارج. ويشير إلى أن غياب الجهاز التنفيذي جعل من الدولار سلعة نادرة، وأن غموض المشهد السياسي يمنع أي دعم خارجي حقيقي. "الدمار الذي لحق بالاقتصاد كبير، ولا أحد يريد المجازفة بدعم اقتصاد لا يملك صورة مستقبلية واضحة"، يقول القوني. أما البروفيسور كمال أحمد يوسف، عميد كلية الدراسات العليا بجامعة النيلين، فيرى أن "الزراعة تمثل أملًا سريعًا لعائدات نقدية، لكنها تحتاج إلى كهرباء وطاقة شمسية، وأراضٍ آمنة، وبنية تحتية قائمة". ويطالب بإعادة إعمار الطرق والجسور، وتوفير الخدمات الأساسية كالماء والصحة والتعليم كشرط رئيسي لعودة الناس إلى مناطقهم. كما يدعو إلى تشجيع الاستثمار المحلي، وخفض الدولار الجمركي، وتوقيع اتفاقيات مع دول الجوار لتسهيل استيراد السلع الضرورية. ويلفت إلى استمرار بعض الولايات في استخدام العملة القديمة رغم قرار الاستبدال قبل أكثر من عام، محذرًا من أن ذلك يفتح الباب أمام الفساد ويزيد من تعقيد الأزمة النقدية في البلاد. وبينما يواجه السودانيون معركة يومية مع الغلاء والجوع والمرض، يبقى الأمل معقودًا على موسم زراعي واعد، وتوافق سياسي يعيد للدولة حدًّا من الفاعلية والهيبة، قبل أن ينهار ما تبقى من اقتصاد البلاد ويصبح الجوع هو القاعدة لا الاستثناء.

قفزة في كلفة تأمين السفن بالبحر الأحمر مع استئناف هجمات الحوثيين
قفزة في كلفة تأمين السفن بالبحر الأحمر مع استئناف هجمات الحوثيين

الجزيرة

timeمنذ 6 أيام

  • الجزيرة

قفزة في كلفة تأمين السفن بالبحر الأحمر مع استئناف هجمات الحوثيين

ارتفعت كلفة تأمين السفن المارة عبر البحر الأحمر بشكل حاد منذ استئناف الحوثيين هجماتهم على سفن تجارية، مما يهدد بتعطيل التجارة العالمية، حسبما نقلت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية عن أكبر شركة وساطة تأمين في العالم. وزادت أقساط التأمين المفروضة على مخاطر الحرب في الممر المائي بين أفريقيا وآسيا إلى ما يصل إلى 1% من القيمة الإجمالية للسفينة بحلول أمس، من حد أقصى بلغ 0.4% قبل هجوم يوم الأحد على سفينة شحن مملوكة لليونان. قفزة ونقلت الصحيفة البريطانية عن رئيس قسم الشحن البحري في شركة مارش ماكلينان، ماركوس بيكر قوله إن هذا يعني أن كلفة التغطية التأمينية لسفينة بقيمة 100 مليون دولار قد ارتفعت من حوالي 300 ألف دولار للرحلة الواحدة إلى حوالي مليون دولار. وأعقب الهجوم على سفينة ماجيك سيز، وهي ناقلة بضائع سائبة مملوكة لشركة ستيم شيبينغ اليونانية، يوم الاثنين هجوم آخر على سفينة إترنيتي سي، وهي ناقلة بضائع سائبة ترفع العلم الليبيري. وقال بيكر: "ديناميكيات أسعار تأمين الشحن أغرب مما رأيته من قبل"، مشيرًا إلى أن الهجمات السابقة دفعت السفن إلى اتخاذ مسار أطول بالالتفاف حول رأس الرجاء الصالح. وأضاف: "يبدو أن ثمة تصعيدًا سريعًا للغاية في نشاط الحوثيين. ومن المتوقع أن ترتفع هذه الأسعار أكثر إذا استمرت حركة الشحن في استخدام الممر (البحر الأحمر) لعبور السفن". ويُعد البحر الأحمر أحد أهم نقاط التحكم التجارية في العالم، ومن شأن تصعيد الهجمات، بالإضافة إلى رفع تكاليف التأمين على السفن التجارية أن يُهدد بارتفاع أسعار النفط وتعطيل تدفق البضائع. انتهاكات متكررة كان الهجوم على سفينة "ماجيك سيز" أول هجوم من نوعه يشنه الحوثيون منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وقالت الجماعة إن السفينة غرقت بعد تعرضها لهجوم بالنيران والقذائف الصاروخية والطائرات المسيرة البحرية. وقال متحدث باسم الحوثيين في بيان نُشر على موقع إكس إن الهجوم جاء ردًا على "الانتهاكات المتكررة من قبل الشركة المالكة (للسفينة) لحظر دخول موانئ فلسطين المحتلة". وتعرضت سفينة "إترنيتي سي"، التي تديرها شركة كوسموشيب اليونانية لإدارة السفن، لهجوم بطائرات مسيرة بحرية وقذائف صاروخية أُطلقت من زوارق سريعة مأهولة، وفق رويترز، التي أفادت بمقتل 3 بحارة. ولم يعلن الحوثيون مسؤوليتهم عن هذا الهجوم. وردًا على هجوم يوم الأحد على سفينة ماجيك سيز، الذي قال عنه الرئيس التنفيذي لشركة ستيم شيبينغ إنه "أرعب طاقمها"، أعلنت إسرائيل أنها ضربت "بقوة" أهدافًا مرتبطة بالحوثيين، بما في ذلك موانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى ومحطة كهرباء. واستهدفت إسرائيل سفينة "غالاكسي ليدر"، وهي ناقلة سيارات هاجمها الحوثيون واستولوا عليها في أول هجوم لهم على سفن تجارية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023. وقال الجيش الإسرائيلي في منشور على موقع "إكس" إن السفينة "كانت مزودة بنظام رادار لتتبع السفن الدولية بحثًا عن عمليات إرهابية".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store