logo
أمريكا وأوروبا… بين زواج مارشال وطلاق ترامب

أمريكا وأوروبا… بين زواج مارشال وطلاق ترامب

إيطاليا تلغراف
إحسان الفقيه
كاتبة أردنية
خرجت الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب العالمية الثانية، كقوة وحيدة من بين دول الجانبين، لم تتأثر بنيتها التحتية من طرق ومبانٍ وجسور وبنوك ونحوه بضرر، ما ساعدها في احتكار التقنية الحديثة وصناعتها، واتخاذ وضعية تؤهلها لإنتاج السلع وبيعها بأسعار عالية في أرجاء العالم.
لكن وجدت أمريكا أن هذا النمو الاقتصادي سيظل محصورا داخل حدودها، ما لم تقم بتفعيل اقتصادات أوروبا – التي خرجت منهكة من الحرب – لتكون سوقا لمنتجاتها، وعلمت أمريكا كذلك أن الفشل في تعافي الاقتصاد الأوروبي سوف يفسح الطريق أمام المد الشيوعي.
بناء على هذه المعطيات، قامت أمريكا بوضع خطة «مارشال»، نسبة إلى وزير الخارجية الأمريكي جورج مارشال، الذي دعا في خطاب له في جامعة هارفارد عام 1947 إلى مشروع مساعدة أوروبا في إعادة البناء.
لم تكن أهداف خطة مارشال اقتصادية بحتة، فقد كانت أمريكا ترمي من خلالها إلى جعْل أوروبا حليفا قويا في مواجهة السوفييت، وترمي كذلك إلى منع عودة أية أنظمة ديكتاتورية تجر إلى الاقتتال بين دول أوروبا.
المساعدات التي قدمتها أمريكا لأوروبا من خلال خطة مارشال، كانت حجر الأساس في انطلاق أوروبا نحو التعافي الاقتصادي.
أوروبا القارة العجوز التي تقاسمت مع الولايات المتحدة الأمريكية مفهوم الغرب، ومثلتا معا ركني الحضارة الغربية، ظلت على مدى عقود من بعد الحرب العالمية الثانية متنعمة بمظلة الحماية الأمريكية، القوة الأولى في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إضافة إلى الشراكات الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي حققت المنافع المتبادلة.
ومع تولي ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية للمرة الثانية، حدثت تغيرات جذرية في السياسات الخارجية الأمريكية، كان أبرزها السياسات غير المألوفة في التعامل مع أوروبا، التي فجرت مفهوم الغرب، وأنذرت بفك الارتباط، الذي امتد على مدى ما يقرب من ثمانين عاما بين أمريكا وأوروبا.
بدأ ترامب حقبته بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، ومن منظمة الصحة العالمية، وهدد بالاستحواذ على جزيرة غرينلاند الدنماركية، وتنكّر لأوكرانيا، واتهم رئيسها زيلينسكي بأنه ديكتاتور ومختلس للمساعدات الأمريكية، وعقد المفاوضات مع بوتين في غياب أوكرانيا وأوروبا.
ظهر في سلوك ترامب وإدارته، ما اعتبرته أوروبا تدخلا سافرا في شؤونها الداخلية، حيث دأبت الإدارة الأمريكية على انتقاد الأنظمة الأوروبية واتهامها بقمع الحريات، ومطاردة المعارضين والسطو على الانتخابات، وأرسل نائبه جيه دي فانس إلى مؤتمر ميونخ في فبراير/شباط الماضي، ليخطب خطابا تاريخيا حمل من أصناف التوبيخ لأوروبا ما حمل، ما حدا برئيس مؤتمر ميونيخ كريستوف هويسغن، للتعقيب على الخطاب قائلا: يبدو أن المبادئ المشتركة بين الدول الغربية لم تعد مشتركة اليوم، بما يعني أن العلاقات بين أمريكا وأوروبا لن تكون كما كانت. ترامب الذي يولي تعزيز الاقتصاد الأمريكي الأولوية القصوى، ينظر إلى أوروبا على أنها عالة على الدعم الاقتصادي والأمني الأمريكي، ومن ثم يتجه إلى فصل هذا التحالف الغربي، كان آخر مظاهره: التعريفات الجمركية التي فرضها على الاتحاد الأوروبي والصين. هناك أخطار عدة تتهدد القارة العجوز جراء تفتت هذا التحالف، فإضافة إلى الخسائر الاقتصادية، سوف تفقد القارة الأوروبية – التي ركنت طويلا إلى القوة الأمريكية- مظلة الحماية في وجه روسيا، ما يعرّض أوروبا، خاصة دول الشرق منها لاجتياح النفوذ الروسي. ولا شك أن أمريكا فرضت صيغة على النظم الأوروبية، تحول دون ولادة نظم ديكتاتورية ذات أطماع استعمارية على غرار الفاشية والنازية من جديد، ومع تفتت هذا التحالف فإن الباب أمام ولادة هذه النظم قد فُتح، خاصة إذا انكفأت كل دولة على شؤونها الخاصة، وتصاعدت النبرة القومية بين الشعوب الأوروبية.
سياسة ترامب الجديدة، هي دعم اليمين الأوروبي الذي يتناغم مع توجهاته السياسية، ومن ثم تخشى أوروبا أن تقع الدول الأوروبية في قبضة هذا اليمين المتطرف. لا شك أن حقبة ترامب يتشكل فيها نظام عالمي جديد، من خلال سياسات ترامبية تتبنى القومية الاقتصادية، تعتمد على المصلحة الذاتية أولا، وإعادة توزيع القوة من خلال دوائر النفوذ، ووصولا إلى ذلك يعمل ترامب على مد جسور التفاهم مع الصين وروسيا، باعتبارهما أقوى وأبرز المنافسين، بما يعني أن العالم معرض لأن يكون كعكة تتقاسمها الدول العظمى من خلال التفاهمات وتقاطع المصالح واقتسام النفوذ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

إيلون ماسك يهاجم بحدة مشروع خفض الضرائب.. هل خلع عباءة ترامب؟
إيلون ماسك يهاجم بحدة مشروع خفض الضرائب.. هل خلع عباءة ترامب؟

الشروق

timeمنذ 42 دقائق

  • الشروق

إيلون ماسك يهاجم بحدة مشروع خفض الضرائب.. هل خلع عباءة ترامب؟

هاجم الملياردير الأميركي إيلون ماسك، الذي كان حتى وقت قريب على رأس 'هيئة الكفاءة الحكومية'، مشروع خفض الضرائب الذي يراهن عليه الرئيس دونالد ترامب. وجاء في تدوينة نشرها ماسك عبر منصته 'إكس' للتواصل الاجتماعي: 'أنا آسف، ولكنني لم أعد أتحمل ذلك.. مشروع قانون الإنفاق الهائل والفظيع.. في الكونغرس هو شر مقيت'ّ. وأوضح أن مشروع القانون 'سيزيد عجز الميزانية الهائل أصلا إلى 2.5 تريليون دولار (!!!) ويثقل كاهل المواطنين الأميركيين بديون لا يمكن تحملها'، مضيفا: 'عار على أولئك الذين صوتوا لصالحه. تعلمون أنكم أخطأتم، أنتم تعلمون ذلك'. وفي شهر ماي الماضي أقر مجلس النواب مشروع القانون، بفارق صوت واحد بعد أن قال مكتب الميزانية في الكونغرس إن التشريع، الذي سيمدد التخفيضات الضريبية لعام 2017 التي كانت أهم إجراء تشريعي حققه ترامب في ولايته الأولى، سيضيف 3.8 تريليونات دولار إلى ديون الحكومة الاتحادية البالغة 36.2 تريليون دولار. ويهدف مجلس الشيوخ، الذي يسيطر عليه الجمهوريون، إلى إقرار مشروع القانون الشهر المقبل. ورفض البيت الأبيض هذا الهجوم، حيث قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولاين ليفيت: 'الرئيس يعلم فعلا موقف إيلون ماسك من مشروع القانون. وهذا لا يغير رأي الرئيس. إنه مشروع قانون هائل وجميل، وهو متمسك به'. وأمام انتقادات ماسك الحادة تساءل نشطاء إن كان خلع عباء الرئيس كليا، رغم أن ترامب صرح مؤخرا أنه سيبقى مستشارا مقربا منه حتى لو غادر إدراته. وخلال مؤتمر صحفي مشترك في البيت الأبيض، أشاد ترامب بماسك ودافع عن حملته لخفض التكاليف خلال إشرافه على إدارة الكفاءة الحكومية، وألغت إدارة الكفاءة آلاف الوظائف، كما ألغت نفقات بمليارات الدولارات، بما فيها غالبية المساعدات الخارجية الأميركية، لكنها لم ترق حتى الآن إلى مستوى الوعود الأولية الكبيرة التي أطلقها ماسك. وقال ترامب بالمكتب البيضاوي وإلى يمينه ماسك 'لن يغادر إيلون كليا. سيعود من حين إلى آخر'، لكن بعض كبار المسؤولين رأوا في تصريحاته انفصالا صريحا وكليا عن الإدارة. وأعلن ماسك، يوم الأربعاء 28 ماي الماضي، مغادرة منصبه، بعد أشهر من قيادته لوزارة حملت اسم 'هيئة الكفاءة الحكومية'، والتي هدفت إلى خفض الإنفاق في الإدارة الأميركية. وقال الملياردير الشهير عبر منصته للتواصل الاجتماعي إن فترة عمله كموظف حكومي خاص قد انتهت، معربا عن شكره للرئيس ترامب على منحه الفرصة للإسهام في تقليص الإسراف في الإنفاق. وأضاف أن مهمة هيئة الكفاءة الحكومية ستتطور مع الوقت، مؤكدا أنها ستتحول إلى أسلوب عمل دائم في مختلف مؤسسات الحكومة. ونقلت وكالة بلومبرغ عن مسؤول في البيت الأبيض أن ماسك اتخذ قرار مغادرة منصبه بمفرده وبدعم من الرئيس ترامب. ووفق أحدث الأرقام، فقد عانت محفظة الملياردير الأميركي المالية انخفاضات وخسائر فادحة، في الوقت الذي تفاقمت فيه أزماته الاقتصادية بسبب تداعيات سياسات ترامب الاقتصادية وحربه التجارية، التي انعكست سلباً على شركاته وأرباحه. وانتقد ماسك، مساء الثلاثاء، الركيزة الأساسية في أجندة ترامب التشريعية، فيما بدا تصدعا كبيرا في شراكة تأسست خلال حملة ترامب الانتخابية العام الماضي وكانت تهدف إلى إعادة تشكيل السياسة الأميركية والحكومة الفيدرالية. وقال ماسك الذي دعم حملة ترشيح ترامب لخوض الانتخابات الرئاسية بمبلغ لا يقل عن 250 مليون دولار وعمل بصفة مستشار رفيع في إدارته، في مقابلة أجرتها معه شبكة 'سي بي إس نيوز' وبُثّت مقتطفات منها مساء الثلاثاء على أن تُبثّ كاملة الأحد: 'بصراحة، لقد شعرت بخيبة أمل لرؤية مشروع قانون الإنفاق الضخم، الذي يزيد عجز الموازنة ويُقوّض العمل الذي يقوم به فريق هيئة الكفاءة الحكومية'. وبعد مقطع انتقاد، مشروع قانون الإنفاق الضخم الذي يدعمه ترامب، والمعروف باسم 'One Big Beautiful Bill'، قالت بعض المصادر إن ماسك فقد موقعه في إدارة ترامب. نهاية درامية مفاجئة وخلافات عاصفة لهذه الأسباب رحل ماسك عن ادارة ترامب!!. بعد هذا المقطع،فقد #إيلون_ماسك ،مالك منصة #اكس ،موقعه كقائد للفريق الحكومي في إدارة الرئيس الأمريكي #دونالد_ترامب ،حيث انتقد ماسك مشروع قانون الإنفاق الضخم الذي يدعمه ترامب، والمعروف باسم 'One Big… — khaled mahmoued (@khaledmahmoued1) May 29, 2025 ووفقًا لمصادر إعلامية، فإن مشروع القانون الذي أقره مجلس النواب الأميركي الأسبوع الماضي وانتقل إلى مجلس الشيوخ، يتضمن إعفاءات ضريبية واسعة وتخفيضات في الإنفاق، في حين حذر منتقدون من أن النص سيؤدي إلى تقليص الرعاية الصحية وزيادة العجز الوطني بما يصل إلى أربعة تريليونات دولار خلال العقد المقبل. ماسك الذى كان من أكبر المتبرعين بالمال لترامب خلال حملته الانتخابية، أبدي استياءه من تحول وزارته ،المعروفة اختصارا باسم DOGE ، إلى 'كبش فداء' للمشاكل الأوسع في الإدارة، مما دفعه إلى الابتعاد عن دوره الاستشاري في البيت الأبيض والتركيز على شركاته مثل تسلا وسبيس إكس. من جانبها، سعت إدارة البيت الأبيض إلى التقليل من شأن أي خلافات بين الرئيس الجمهوري ومالك 'تسلا'، من دون أن تُسمي ماسك مباشرة. يذكر أن ترامب عيّن ماسك في شهر نوفمبر الماضي بعد فوزه بالرئاسيات لقيادة جهود تحسين كفاءة الحكومة الأمريكية بالتعاون مع فيك راماسوامي، المرشح السابق للرئاسة عن الحزب الجمهوري.

مواجهة كلامية بين ترامب وماسك
مواجهة كلامية بين ترامب وماسك

الخبر

timeمنذ ساعة واحدة

  • الخبر

مواجهة كلامية بين ترامب وماسك

بعد أن انتقد مؤيده ومستشاره السابق مشروع الإعفاء الضريبي بشدة، كشف الرئيس الأمركي دونالد ترامب أنه يشعر "بخيبة أمل" تجاه إيلون ماسك. وأشار ترامب، اليوم الخميس، إلى أن أغنى رجل في العالم يفتقد وجوده في البيت الأبيض ويعاني من "متلازمة اضطراب ترامب". كما تحدث الرئيس عن انفصاله عن ماسك أمام الصحافيين في المكتب البيضاوي، بينما واصل ماسك نشر سلسلة من المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي هاجم فيها مشروع القانون، محذراً من أنه سيزيد العجز الفيدرالي. وقال ترامب: "أشعر بخيبة أمل كبيرة تجاه إيلون. لقد ساعدت إيلون كثيراً". في المقابل وفي منشور على إكس كتب ماسك "خطأ، لم يتم عرض هذا المشروع عليّ ولو مرة واحدة وتم إقراره في منتصف الليل بسرعة كبيرة لدرجة أن أحداً تقريباً في الكونغرس لم يتمكن حتى من قراءته!". كما صعد ماسك من خلافه العلني مع ترامب، معتبرا أن الرئيس الأمريكي كان سيخسر الانتخابات في 2024 لولا دعمه. وكتب قطب التكنولوجيا على منصته اكس "من دوني، كان ترامب سيخسر الانتخابات. أي قلة وفاء هذه". وبعد مغادرته إدارة ترامب رسمياً الأسبوع الماضي، ندد ماسك علنا بمشروع قانون المصالحة في مجلس النواب، واصفًا إياه هذا الأسبوع بأنه "عملٌ بغيضٌ مثيرٌ للاشمئزاز". وستُمدد النسخة التي أقرها مجلس النواب بفارق ضئيل تخفيضات ترامب الضريبية لعام 2017، وتُلغي الضرائب على الإكراميات والعمل الإضافي، وتُعزز تمويل إنفاذ قوانين الهجرة والجيش، وتُخفّض ميزانية برنامج ميديكيد وبرنامج المساعدة الغذائية التكميلية، وترفع سقف الدين بمقدار 4 تريليونات دولار.

الموت جوعاً وعاراً
الموت جوعاً وعاراً

إيطاليا تلغراف

timeمنذ 7 ساعات

  • إيطاليا تلغراف

الموت جوعاً وعاراً

إيطاليا تلغراف نشر في 5 يونيو 2025 الساعة 1 و 04 دقيقة إيطاليا تلغراف سهيل كيوان كاتب فلسطيني لا شكَّ أنَّ كلَّ من يملك الحد الأدنى من القِيَم الإنسانية، يشعر بالقهر عندما يرى جموع الفلسطينيين متصارعة للحصول على وجبة طعام، أو كرتونة مساعدات غذائية. أكثرنا لا يحبُّ النظر إلى هذا المشهد، وعندما يراه على موقع ما، فإنّه يقلب الصّفحة، كي يحجب عن نفسه الشّعور بالعار والعجز. كيف تحوّل هؤلاء الناس الشّرفاء الصّابرون، الذين واجهوا الإبادة والفقد بالاحتساب، وتسليم أمرهم إلى الله، إلى متصارعين للحصول على الطحين! تشعر بالعار لتقصيرك وعجزك، ولعجز الأمّة العربية كلها، عن مدّ يد العون والمدد لضحايا همجية لم يسجّل التاريخ الحديث مثيلا لها. هذه الصورة الوحشية التي سعت الصهيونية إلى إلصاقها بالفلسطيني، حاربها الفلسطينيون على مدار عقود، وحاولوا دائما إبراز الحقيقة بأنّهم ضحايا يطلبون حقوقهم وإنصافهم، وليسوا دعاة قتل وخراب، بل دعاة تعايش وسلام. تجلّى هذا الدّفاع عن صورة الفلسطيني في المعاملة الإنسانية، التي أظهرتها المقاومة للأسرى والمحتجزين الإسرائيليين، وهذا بدا واضحا على ردود الأسرى خلال عملية إطلاق سراحهم وبعدها، لدرجة أنّ أحد هؤلاء الأسرى قبّل رأسيّ رجلين من رجال المقاومة، خلال عملية التبادل في شباط /فبراير الماضي، وهو مشهد غير مسبوق، رآه مئات الملايين عبر العالم، وهذا شكّل فخراً للمقاومة من جهة، وضربة إعلامية قوية استفزّت مشاعر حكومة الاحتلال الأشدّ تطرّفا، التي تعدّت الفاشية في وحشيتها بدرجات. عندما يجوع مئات الآلاف من البشر لفترة طويلة ويشعرون بخطر الفناء، فإن المحرّك الغريزي للبقاء يتغلّب على الاعتبارات الأخرى. تتضاءل مساحة التفكير، وتتراجع العواطف، وتختفي الرحمة، ويشعر الجائع قسراً بظلم العالم له، وتتراجع كل القيم المكتسبة التي راكمها الإنسان عبر آلاف السنين، مثل القيمة البسيطة، وهي الوقوف بالدّور من غير تدافع، أو السّماح لمن هو أضعف منك كامرأة حامل مثلاً، أو رجلٍ مُسنٍ أو لمريض أو حتى لإنسان عادي مُستعجل في أمره، بأن يتقدّم عليك في الطابور. هنالك نماذج كثيرة من المجاعات التي عرفتها البشرية لأسباب جفاف، أو أوبئة، منها أيرلندا وأوكرانيا والصين والبنغال وافريقيا، وخلال الحروب كما في أيام السّفر برلك (النّفير العام) في الحرب العالمية الأولى، التي صوّرها توفيق يوسف عواد في رواية «الرغيف»، كذلك حصار ستالينغراد خلال الحرب العالمية الثانية، وحصار تلِّ الزّعتر عام 1976 في الحرب الأهلية اللبنانية. في المجاعات أكل الناس الحيوانات المنزلية، والجِيف ولحاء وأوراق الشّجر والأعشاب، والأحذية المصنوعة من الجلد، وباعت بعض العائلات ممتلكاتها وحتى أطفالها، وهاجر من استطاع إلى الأمكنة التي ظنّ أن يجد فيها طعاماً. وتم إخفاء حالات وفاة أحد أبناء الأسرة للحصول على حصة المتوفى من طعام مقنّن، وانتشرت السرقات والنهب، وأخفى الناس الطعام عن أقرب الناس إليهم، بل إنهم في بعض الحالات أكلوا لحم البشر. ما يفعله الاحتلال حصار طويل وتجويع، إضافة لاحتمال القصف المفاجئ من طَرفه، أو من قبل عصابات يحميها ويسلّحها، وعملياً فإن فرصة الحصول على الطعام من المساعدات المعروضة غير مضمونة والناس في سباق مع الوقت. لا ضمانة لنظام منهجي في الأسابيع المقبلة، لأنّ الوضع يزداد سوءا، ويمكن للاحتلال إطلاق الرصاص، أو القذائف ليس بهدف القتل وإشاعة الفوضى وإظهار عجز المقاومة عن السيطرة فقط، بل قد يكون للتّسلية. هذا ما قاله رئيس حزب الديمقراطيين المعارض يائير غولان، بأنّ الجنود يقتلون الأطفال في غزّة كهواية. أمام مشهد الصّراع للحصول على كرتونة المساعدات ينظر الصهيوني المُحتل بشماتة ويصف هؤلاء الناس بالمتوحّشين، وإذا كانوا متوحّشين فهذا يعني إخراجهم من دائرة المعايير الإنسانية، ويصبح الإضرار بهم وبممتلكاتهم وحتى قتلهم أمراً يمكن غضّ الطّرف عنه، أو استنكاره، بعبارة «غير مقبول» مثل علامة يكاد يكفي، التي كانت تسجّل في زماننا أيام الابتدائية. هذا المنطق الصهيوني هو منطق العرق الأبيض، الذي غزا أمريكا وقتل عشرات ملايين الهنود الحمر «المتوحشين»، وهو منطق الأوروبيين في افريقيا ومختلف بقاع الأرض عندما استعمروها. اهتمّت الحركة الصهيونية منذ بدء صراعها للسّيطرة على فلسطين، بتصوير الفلسطيني كمتوحّش، وذلك لتبرير جريمتها بسلب أرضه ووطنه، مع إبقائه مواطنا من درجة ثالثة، وإمّا تهجيره بضغط مباشر أو غير مباشر، أو تبرير قتله أو أسره وسجنه لفترات طويلة، إذا قاوم. الهدف من تصوير الفلسطيني كمتوحّش، هم الصهاينة أنفسهم، خصوصاً الأجيال الصاعدة التي ستخدم في الجيش، والتي ستقوم بمهمة حماية الاستيطان وممارسته، بأن لا تأخذهم رأفة بهذا الفلسطيني لأنّه أقل من إنسان، وعليه فلا يعامل بالمعايير الإنسانية المعروفة، ثم إنّ هذه رسالة موجّهة إلى الفلسطيني والعربي نفسه، ليشعر بأنّه أقل درجات من الصّهيوني، وكثيراً ما يتحقّق هذا الشعور لدى ضعفاء نفوس، فيقرّون أنّ الصهيوني ابن الشّعب المختار أفضل منهم، وأنهم كعرب يستحقون ما يجري لهم من قتل وإذلال وسجن وتهجير. ثم هي رسالة إلى العالم كلّه، كي يتفهّم ما تقوم به الصهيونية، فهذه ليست جرائم ضد بشر عاديين، يتألّمون عندما يجرحون، أو عندما يموت أحباءهم، بل هي ضد مجموعات دون البشر، وهذا في المحصّلة دفاع عن الحضارة في مواجهة الوحشية. على الرغم من الاحتجاجات الشّعبية في بعض الدّول الغربية وفي أمريكا، إلا أنّ المستويات الرّسمية ما زالت في غالبيتها تنظر إلى الضحايا الفلسطينيين على أنّهم أقلُّ قيمة من غيرهم، فكيف نفسّر السّكوت، أو التعبير باحتجاج سطحي جداً مثل، «إن ما يجري في قطاع غزّة غير مقبول؟»، تصوروا ماذا سيكون موقف أمريكا والدّول الأوروبية لو حوصرت مدينة يهودية ومُنع عن سكانها الطعام والشراب والدواء لأشهر، من دون أن نتحدّث عن القصف! لا ننسى وهذا واجبنا أن نذكّر بأنّ الأنظمة العربية، أسهمت في تعزيز الدّعاية الصهيونية، وذلك من خلال النّماذج التي قدمتها وتقدمها في تعاملها مع شعوبها، خصوصاً مع المعارضين السياسيين في بلدانها، فهي تصف بعضهم في كثير من الحالات بالإرهاب! كذلك من خلال تعامل هذه الأنظمة وردود أفعالها على الإبادة والتّهجير في قطاع غزّة، التي لا ترتقي إلى الحد الأدنى المطلوب أمام حدث مفصلي من تاريخ صراع مثل هذا. كذلك يجب أن نذكّر بأنّ جزءا من الفلسطينيين أنفسهم، يحمّل الضحايا المسؤولية بأنّهم سبب الكوارث التي ينزلها الاحتلال بالناس، وهذا يزرع الفتنة بين الضحايا أنفسهم، ويخدم دعاية الاحتلال. قد ترتكب المقاومة، أية مقاومة، أخطاءً خلال مسيرتها للتحرّر من الاحتلال، وقد تكون أخطاء كارثية، ولكن في السّطر الأخير فإن الاحتلال هو أساس كلِّ الكوارث التي وقعت وما زالت تقع على شعبنا وشعوب المنطقة. التالي قصة إسماعيل تتحقق من جديد في غزة

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store