
نشطاء سوريون يخشون الاعتقال والتضييق إن عادوا إلى سوريا
تحدثت بي بي سي في هذا التقرير إلى نشطاء سوريين عبّروا عن شعورهم المتزايد بالخوف، واضطرار بعضهم لمغادرة البلاد مجدداً رغم آمالهم السابقة ببناء مستقبل جديد داخل سوريا، في ظل ما وصفوه بانتهاكات متكررة تطال سوريين في الساحتين الثقافية والسياسية.
"الإساءة لهيبة الدولة"
ندى (اسم مستعار)، ناشطة سورية كانت قد عاشت لحظة الأمل بعد سقوط النظام، روت لبي بي سي ما تعرضت له قبل مغادرتها سوريا مؤخراً. تقول: "كان الحلم بسوريا جديدة، لكن الواقع جاء مناقضاً للتوقعات. لم أعد قادرة على التأقلم، خاصة بعد أحداث الساحل". وتضيف: "مدرسة الأسد لا تزال قائمة. المشاركة السياسية لا تزال محفوفة بالمخاطر، والوضع يزداد سوءاً".
توضح ندى أن ما ظنّه النشطاء فترة حرية، كان قصيراً جداً. "بعد سقوط النظام مباشرة، استمتعنا بحرية التعبير، خاصة على مواقع التواصل. لكن لم تمر سوى أشهر قليلة حتى بدأ استدعاء النشطاء للتحقيق، وتمت ملاحقتهم بتهم الإساءة لهيبة الدولة".
تحكي عن حادثة خاصة بها على الحدود اللبنانية، حين كانت مدعوة إلى مؤتمر يخص العدالة الانتقالية في سوريا. "خلال حكم الأسد، كنت أخفي أي نشاط سياسي. لكن بعد السقوط، اعتقدت أن الأمور تغيرت، فحملت معي الدعوة الرسمية. إلا أنني خضعت لتحقيق مطول عند الحدود. سُئلت عن طبيعة عملي، المدينة التي أنتمي إليها، ومفهومي للعدالة، وصولاً إلى الجهة الداعية. تم منعي من الدخول، ولم يُسمح لي بالعبور إلا بعد تبرير آخر ونقاش طويل دام أكثر من ساعة. يومها مسحت كل ما في هاتفي، وعاد إليّ الخوف القديم: خوف الحواجز، خوف الحدود".
تستطرد قائلة: "في عهد الأسد، كنا نعرف حدود التعبير. كنا نخفي آراءنا بذكاء لحماية أنفسنا. أما اليوم، فقد أفصحنا عن كل شيء في لحظة حرية خاطفة، ليتم استخدام هذه الآراء لاحقاً ضدنا. أنا لا أريد العودة إلى زمن القمع، لكنني أشعر بأننا نُساق نحوه مجدداً".
ندى لا تفكر بالعودة إلى سوريا حالياً. تقول بوضوح: "لن أعود طالما أن هذه السلطة موجودة. هناك خطر حقيقي على حياتي، ليس فقط من الأجهزة الأمنية، بل من الشبيحة والفوضى الأمنية. أي مواطن معرض للخطر، والقانون غائب بالكامل. لا توجد ضمانات أو عدالة، ولا مشاركة حقيقية للمكونات السورية في صناعة القرار. الأقلية تُعامل بفوقية، وليس كمواطنين متساويين".
وتتابع: "حتى حديثي الآن يعرّض عائلتي للخطر. التجربة مع نظام الأسد علمتنا أن التهديد قد يطال الأحباء، وهذا ما أخشاه. لذلك أتكلم تحت اسم مستعار، كمحاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه".
"لم أصمت في عهد الأسد... ولن أصمت الآن"
"أعيش حالة من الخوف والقلق، خاصة على عائلتي التي لا تزال داخل سوريا"، بهذه الكلمات يبدأ يامن حسين، الكاتب والناشط الحقوقي المقيم في برلين، شهادته حول واقع الحريات في سوريا اليوم. يامن زار سوريا للمرة الأولى بعد أكثر من عقد من الغياب، وكان من المفترض أن يقوم بزيارة ثانية، لكنه اضطر لإلغائها، خشية التعرض لـ"استهداف مباشر"، على حد تعبيره، قد يُلفّق له لاحقاً كاتهام بالإرهاب أو ما شابه.
يقول: "لم أعد أفكر بالذهاب مجدداً. ليست المشكلة فقط في الأجهزة الأمنية، بل في البيئة العامة التي أصبحت مهيّأة للتحريض والخوف".
ويضيف يامن أن بعد أحداث الساحل تحديدا، "ظهرت طبقة من الداعمين للسلطة، تتصدى لأي صوت معارض. إما بالنفي أو بالهجوم الشخصي العلني، من دون أي حماية أو مساءلة"، ويقول: "السلطة قد لا تعتقلك مباشرة بسبب منشور على فيسبوك، لكنها تسمح بحملات تحريض مكثفة من قبل هؤلاء"
يشير يامن إلى أن بعض هذه الحملات تستهدف حتى من يكتفون بالتضامن الرمزي. ويضرب مثالاً بما حدث مع طلاب دروز من السويداء: "بعض المنشورات الداعمة لموقف المدينة انتشرت على صفحات محلية، وكان الناس يخشون حتى الضغط على 'لايك' خوفاً من المساءلة. البعض أخبرني أنهم امتنعوا عن التفاعل نهائياً".
ويضيف: "حتى أنا، لاحظت أن كثيرين ألغوا صداقتهم معي على فيسبوك خوفاً من منشوراتي. وهناك من قالها لي صراحة: نحن نتابعك، لكن لا يمكننا الظهور علناً ضمن قائمة أصدقائك".
وعن حياته الشخصية ونشاطه على مواقع التواصل الاجتماعي، يروي يامن أنه سأل والدته بصراحة: "هل تفضّلين أن أخفف من انتقاداتي العلنية؟" فأجابته: "لا. حتى في ظل حكم الأسد لم تصمت، ونحن أيضاً لم نصمت رغم التحقيقات والضرب الذي تعرضنا له. فلا تتوقف الآن". ومع ذلك، اضطر يامن في مرات عدّة إلى حذف صور من منشوراته تظهر أشخاصاً يحملون لافتات مؤيدة للسويداء، حرصاً على سلامتهم.
يوضح يامن أن النشاط الحقوقي والمدني داخل سوريا أصبح اليوم أكثر تعقيداً من أي وقت مضى، مضيفاً: "معظم النشطاء حالياً يمارسون عملهم بسرية تامة، وحتى من يشاركون في فعاليات مدنية علنية يحرصون على إخفاء وجوههم أثناء رفع اللافتات خشية الملاحقة".
"أخشى الاعتقال"
ليلى (اسم مستعار)، ناشطة سورية مقيمة في الخارج، زارت سوريا بعد سقوط النظام، وتستعد لزيارة أخرى قريباً. تقول: "سمعت عن كثيرين تتم مراقبة هواتفهم. شعرت بالخوف من التهديدات التي تلقيتها على وسائل التواصل بسبب آرائي. لم أعد أشارك ما أفكر به بسهولة".
توضح ليلى أن أكبر مخاوفها اليوم لا تتعلق بالوضع الاقتصادي، بل بانعدام الأمان الشخصي. "قد أتحمل غلاء الأسعار وسوء المعيشة، لكن لا أستطيع تحمل التضييق على الحريات. أخشى من الاعتقال، ومن انعدام الحماية القانونية".
وتضيف: "الوضع اليوم أفضل من عهد الأسد، لكنه بعيد عن المثالية. لا يجب أن نقيس الأمور بمقياس الأسد. ما يحدث اليوم يثير القلق أيضاً. لدي جنسية أخرى وهذا يمنحني نوعاً من الحماية، لكنني لا أشعر بالأمان الكامل للتعبير".
تواصلت بي بي سي مع وزارة الإعلام السورية، وردّاً على ما ورد في التقرير، يقول عمر حاج أحمد، مدير الشؤون الصحفية في الوزارة، إن "حرية التعبير حق دستوري ومبدأ أساسي لا غنى عنه في بناء الدولة الجديدة"، مشيراً إلى أن الوزارة اتخذت خطوات عملية لتوسيع هامش الحريات الإعلامية، وتجميد بعض القوانين القديمة التي كانت تحدّ من هذا الهامش.
وأضاف أن الوزارة تعمل حالياً على إعداد مدونة سلوك مهني بالتعاون مع المؤسسات الإعلامية والنقابات، تهدف إلى تنظيم العمل الإعلامي بشكل أخلاقي ومهني، بما يضمن حرية التعبير من جهة، والمسؤولية والموضوعية من جهة أخرى.
وحول المخاوف المتعلقة بالتضييق على الإعلاميين، شدد حاج أحمد على أن الوزارة "تعمل على توفير بيئة آمنة للإعلاميين والدفاع عن حقوقهم، ولدينا يومياً أكثر من 40 فريقاً صحفياً نسهّل عملهم ونتابع مشاكلهم"، مشيراً إلى أن الحالات التي أثرت سلباً على الصحفيين قليلة جداً ولم تصل إلى مستوى الظاهرة.
وختم بالتأكيد أن حرية التعبير على وسائل التواصل الاجتماعي "مصونة ما دامت ضمن إطار القانون والدستور"، وأن أي تدخل قضائي لا يتم إلا في حالات التحريض أو مخالفة القوانين النافذة، كما هو معمول به في معظم دول العالم.
حريات ثقافية في مهب الرقابة
لا تقتصر القيود على المجال السياسي فقط، بل تمتد إلى الحقل الثقافي أيضاً. ففي تموز الماضي، أعلن الروائي السوري خليل صويلح أن لجنة الرقابة منعت طباعة روايته "جنة البرابرة" في سوريا، رغم صدورها قبل أكثر من عشر سنوات عن "دار العين" في القاهرة.
وقال صويلح في منشور على صفحته في فيسبوك إن لجنة الرقابة طلبت حذف عشرات العبارات، معظمها يوثق مراحل من الصراع السوري، وطالبت كذلك بتغيير عنوان الرواية، وحذف الإشارة إلى رواية "خريف البطريرك" لغابرييل غارسيا ماركيز، التي ورد ذكرها في سياق الحديث عن أدب الديكتاتوريات.
علق صويلح بسخرية: "هو أمر لا سلطة لي عليه بعد غياب صاحبها"، مضيفاً في نهاية منشوره: "ربما عليّ أن أبحث مجدداً عن منفى آخر لهذه الرواية".
وفي حادثة أخرى، نشر الروائي السوري ممدوح عزام صورة لمنزله المحترق في ريف السويداء، ومكتبته الكبيرة وكتب: "ليسوا برابرة، بل سوريون هؤلاء الذين أحرقوا بيتي".
ردا على بي بي سي، نفى مدير الشؤون الصحفية حاج أحمد منع الرواية من النشر، موضحاً أن ما طُلب هو "تصويب بعض الكلمات التي وردت في النص، لما تضمنته من معلومات تاريخية مغلوطة ووصف مسيء للثوار السوريين وعناصر الجيش الحر"، مثل اتهامهم بـ"جهاد النكاح" و"قطاع الطرق". وأكد أن "لم يُطلب تغيير عنوان الرواية أو حذف فصول كاملة، بل فقط تعديل بعض العبارات، وبعلم الجسم النقابي المعني بالكتّاب والروائيين".
وأشار إلى أن الوزارة منحت خلال الأشهر الثمانية الماضية الموافقة على تداول أكثر من ألف كتاب جديد، ولم يُمنع أي كتاب من النشر، مضيفاً أن المعيار الوحيد لعدم السماح بالتداول هو "احتواء العمل على تحريض طائفي أو إساءة للأديان أو تمجيد للنظام البائد".
حوادث متكررة
وشهدت الآونة الأخيرة تصاعداً في الانتهاكات التي طالت صحفيين وناشطين في سوريا، شملت التضييق على حرية التعبير والملاحقة الأمنية وحتى حالات تعذيب وقتل غامضة.
قبل أسابيع، عُثر في مدينة دير الزور على جثة الناشط الإعلامي كندي العداي مشنوقاً داخل شقته، وقد ظهرت عليها آثار تعذيب واضحة. التسريبات تشير إلى أن الجريمة وقعت في الأول من آب، وأثارت حالة من الغضب بين الناشطين، خاصة وأن العداي كان معروفاً بتوثيقه لانتهاكات جميع الأطراف منذ بداية الثورة في 2011.
كما أثار اعتقال الصحفية السورية نور سليمان ضجة كبيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي أفرج عنها بعد أن أصبحت قضية رأي عام أدت إلى انقسام واسع بين نشطاء.
وعن مسألة نور، قال وزير الإعلام السوري حمزة المصطفى إن السلطات حريصة على ضمان الحريات الصحافية وحقوق الصحافيين، داعياً إلى "الابتعاد عن خطاب الكراهية، الشعبوية والتحريض الطائفي".
ولاحقاً، قال المصطفى في تدوينة أخرى على "إكس": "الدعوة إلى الإفراج عن الصحافيين وعدم احتجازهم لا يسقط المسار القضائي، بل يفتح له طرقاً مختلفة، ولكن بأساليب مغايرة، وهذا النهج الذي ينبغي أن يسود في دولة العدل والكرامة".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الحركات الإسلامية
منذ يوم واحد
- الحركات الإسلامية
الجماعات الإسلامية بين المراوغة والتنظيم: قراءة في صعودها السياسي
في ظل التحولات السياسية العاصفة التي شهدتها المنطقة العربية خلال العقدين الأخيرين، ومع صعود تيارات الإسلام السياسي والجماعات الجهادية إلى واجهة المشهد في أكثر من بلد، يبرز سؤال جوهري حول أسباب هيمنة هذه القوى على مسارات التغيير، وعجز التيارات الأخرى، بما فيها اليسارية والليبرالية، عن منافستها في الميدانين السياسي والاجتماعي. في هذا الحوار، نستضيف الباحث المصري صبحي نايل المتخصص في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي المعاصر، وصاحب كتاب "استراتيجيات التأويل وأصول العنف الديني في الفكر الإسلامي المعاصر"، للحديث عن المشهد السوري، وديناميات صعود الجماعات الإسلامية، ودور النخبة في صياغة مستقبل المنطقة، وأين يجب أن يبدأ التغيير. ما رأيك فيما حدث في سوريا من إسقاط النظام الحاكم من قبل الإسلاميين بقيادة تنظيم إسلامي " جبهة تحرير الشام " المعروفة بجبهة النصرة الإرهابية _ ثورة أكملها الإسلاميين وفشل في تحقيقها اليساريين كيف ترى ذلك؟ المعطيات العلنية لم حدث في سوريا لا توفر ما يمكن أن يُبنى عليه رؤية واضحة، ففي ظرف أيام سقط نظام الأسد وأصبحت سوريا تحت سيطرة جبهة تحرير الشام. ولا يمكن أن ننكر فرحتنا جميعا بسقوط الأسد، فكان نظام الأسد نظام مجرم بلا شك، فصنع بشعبه ما لم تصنعه دول الاحتلال والاستعمار، وحكم البلاد من نار، ولكن في الوقت عينه استمراره منذ انتفاضات عام 2011، وسقوطه في غضون أيام في نهاية عام 2024، وخروج أحمد الشرع من قائمة الإرهابيين المطلوبين، وإلغاء الخارجية الأمريكية المكافأة التي أعلنتها لمن يدلي بمعلومات عنه وكانت تبلغ 10 ملاين دولار، توضح أن ما حدث في سوريا كان باتفاق أمريكي واضح مع هيئة تحرير الشام.وعن فشل اليساريين فإن الحال في سوريا لم يكن يسمح بانتصار من لا يحمل السلاح، والحرب الأهلية السورية التي راح ضحيتها الآلاف وتهجر بسببها الملاين خير شاهد على ذلك، وكما ذكرت فإن جبهة تحرير الشام هي جبهة النصرة سابقًا المعروفة بنشاطها المسلح مما جعلك تصفها بالإرهابية، واليساريين لم يملكوا التنظيم ولا السلاح الذي تملكه جبهة تحرير الشام، لذا آلت الأمور في يدها، فضلا عما يعرفه الإسلام السياسي والجهادي من المراوغة التي لا تمانع من اتفاقه مع أي دولة ما كانت، ومساعيه الدائمة للسلطة ولا يمانع إذا أودى بالدولة في حرب شاملة في سبيل وصوله للسلطة، ولنا في السودان خير مثال على ذلك. ولا أريد أ تفهم إجابتي بوصفها تنزيها لليساريين ولكنها اعترافًا بقوة التنظيم، والقدرة على المراوغة اللتان تعرفهما الجماعات الإسلامية، وما يعرف عن الجماعات الإسلامية والجهادية تنظيميتها الشديدة، والسرية كذلك، وتفتقد التيارات اليسارية ما تملكه الجماعات الإسلامية من قوة تنظيمية، وقدرة على المراوغة. في أغلب محاولات التغيير في العالم العربي كانت التنظيمات الإسلامية تتصدر المشهد بالمبادرات والتحركات ماذا يعني هذا؟ كما قلت لك تكمن قوة الجماعات الإسلامية في تنظيمها، وعملها السري كذلك، فهي بارعة في العمل السري إلى ذلك الحد الذي يربكها حين تعمل بشكل علني، ولنا في الإخوان المسلمين في مصر خير مثال على ذلك؛ فقد نجحوا في الاستمرار كتنظيم سري منذ فترة عبد الناصر حتى تسنت لهم الفرصة في الظهور مرة أخرى إثر انتفاضات المصريين في الخامس والعشرين من يناير عام 2011، وتقلدوا السلطة وتعاملوا مع الدولة بمنطق العشيرة، وأربكهم وجودهم العلني وفشلوا فيه. ووجودهم السري وقوتهم التنظيمية يمكنوهم من الحضور فور توفر أي فرصة من الفراغ السياسي، ولا مانع عندها من الاستهلاك الديني داخل المجتمعات، لتبني خطابها بوصفه خطاب دفاع عن الدين، وعن الأرض المفتقدة والمحتلة (فلسطين) وهو خطاب له شعبيته في ظل حالة الانهزام الحضاري التي تعانيه منطقة الشرق الأوسط، تجاه المجتمعات الأوروبية الأمريكية. وتبني الجماعات الإسلامية نفسها من خلال الثغرات التي تتركها الدولة، لتحضر عندما تغيب الدولة في صورة جمعيات خيرية ومنظمات مدنية، وتصنع لنفسها شبكة إدارية داخل الدولة، وشعبية موازية لشعبية الدولة، لتستغلها في معاركها السياسية، حال إمكانية وجود مثل هذه المعارك. ولا يمكن أن نغفل عن براعة التنظيمات الإسلامية في استغلالها لحالات الاستبداد السياسي لتقدم نفسها بوصفها البديل لمثل هذه النظم الفاسدة المستبدة، وتعرض نفسها بوصفها البديل الأصيل المناضل الذي يقف أمام الهيمنة الأمريكية، وتستخدم في ذلك الخطاب الديني وتمد صلاحيتها لتعلن أن خطابها يمثل الخطاب الإلهي، وأن ما تقدمه هو نظام الحكم الإلهي مقابل نظام الحكم البشري، وهو اتهام ضمني لمن لا يقف معهم بالكفر، وهو اتهام نجحت هذه التنظيمات في السيطرة على المجتمعات من خلاله، إلى حد أن الخطابات النخبوية أصبحت تتوخى الحذر وعدم التصادم معهم، وذلك لم يحمله هذا الاتهام من نفي اجتماعي وعدم القبول داخل الأطر الاجتماعية، فضلا عن العقوبات القانونية. وعلينا ان ننتبه لم يملكه الخطاب الديني من تأثير قوي في المجتمعات العربية الإسلامية، خاصة أنه صاغ هويته من خلال الميزة الدينية، ورأى أن وجوده كمسلم يعني تفوقًا على الغرب المتقدم، وصاغ كل ما يدور بوصفه مؤامرة تقام له خصيصًا. ومن ثم يكون خطاب الجماعات الإسلامية بما يحمله من استغلال للبعد العقائدي، وإعلانه النضال في الوقت الذي تحتاج فيه المجتمعات العربية لأي وجود ندي، خطابًا مسيطرًا على الشارع العربي، ويرى فيه خطاب يمثله بما يشعر به من تهديد وانهزام دائمين أمام السيطرة الحضارية والسياسية للمجتمعات والحكومات الأوروأمريكية. من يقود إدارة المستقبل؟ ومن أين يجب أن يبدأ التغيير؟ هذا السؤال على قدر عموميته تكون أهميته، ومن الجيد إنني أنهيت منذ أيام المفهوم العاشر والأخير من سلسلة المفاهيم المكونة للعقل العربي المعاصر، وكان بعنوان مفهوم المستقبل: الانحصار في النموذج والمصير المحتوم، وأوضحت فيه عمل العقل العربي بمبدأ المصير المحتوم الذي لا فرار منه سواء كانت الحداثة الأوروبية، أو ما يقدمه من صورة للماضي يُطالب الواقع بالمثول إليها والسعي نحو فرضها على المستقبل. والسؤال عمن يقود إدارة المستقبل أظن أن الإجابة عادة ما تكون النخبة، فالنخبة هي المعنية بتحديد أزمات الواقع ومشكلاته، ومحاولة إعادة صياغة الواقع بصورة أفضل تحل مشكلاته وأزماته، والنخبة العربية وضعت لنفسها حد الشرح والاستهلاك فقط، فتنتظر ما تنتجه الحضارة المُسيطرة لتستهلكه، حتى على مستوى الأفكار.وحال الجامعات مؤسف ومُضحك ومُبكي، يتم استيراد نمط الاختبارات من السياقات الأوروبية والأمريكية بصورة شكلانية تفقدها طبيعتها، ولا يتم الانتباه لطرق التدريس وعدم أهلية أساتذة الجامعات لمكانتهم، وعدم أهلية تقاليد البحث العلمي للبحث العلمي، فأضحينا نرى البحث العلمي شرح للنظريات الأوروبية ليس إلا. ومن المُضحك التقليد العلمي المُتبع الآن في السياق العربي وهو البحث عن أي كاتب، فيلسوف، عالم غير عربي لم يكتب فيه أحد ليكون موضوعًا لرسالة دكتوراه أو ماجستير، وأصبح عدم وجود أي كتابات سابقة عنه هو ما يعطي للبحث جودته وأصالته، دون الانتباه لم يقدمه البحث من إضافة، وطريقة تناوله وقوة منطقه، وهذا ما ينتج أبحاثًا كثيرة من حيث الكم، خالية من حيث الكيف، وهذا ما أشار إليه قبل ذلك طيب تزيني. وفشل النخبة في أنتاج نمط معرفي واقعي ينطلق من الواقع ومشكلاته، ويعمل على سد احتياجات الواقع، يُخلي الوعي الجمعي للخطابات الدينية التي تعمل على بناء الوعي وفق مصالحها، فتسيطر جماعات الإسلام السياسي والجماعات الجهادية على الشارع وتقود الوعي، وتُعلن نفسها حارسة على الوعي، وهذا ما ظهر عند إعلان تأسيس مؤسسة تكوين الفكر العربي في مصر، وتصويرها كمؤسسة داعية للإلحاد، وخرج رد الفعل العنيف عليها وحملات التشويه من مشاركتها في صياغة الوعي الجمعي، وهو ما يُقلق الجماعات الإسلامية، ويخرج الوعي من سيطرتها. من أين يبدأ التغييـر؟ أي تغيير هو تغيير في بنية الوعي، وإذا كان الحديث عن التغيير جادًا فإنه يبدأ من المؤسسات العلمية والمعرفية المسؤولة عن بناء الوعي، ومن النخبة، فالنخبة العربية تكتفي بلوم الشعوب وربما إهانتها واتهامها؛ فمن يزعمون انطلاقهم من الخطاب الإسلامي ورجال الدين يتهمون المجتمعات العربية بالفسوق والفجور، ويطالبونهم بالخضوع لخطابهم وقيادتهم باسم الدين والقيادة الروحية التي تضمن لهم صلاح الدنيا والآخرة. وحال المُجددين ورجال الحداثة لا يختلف كثيرًا؛ فهم أيضا يتهمون المجتمعات العربية بالتخلف وعدم أهليتهم للحضارة والعقلانية، وبنفس المنطق يطالبونهم بالخضوع لخطابهم وقيادتهم، ولكن هنا باسم العقل والمنطق والحضارة، والصورة لا تختلف في الطرفين عن بعضهما، فكلاهما ينتج خطاب إنشائي يعلن نفسه كمسؤول عن الواقع وإدارته، ويقدمه في صورة نضالية تجعل المجتمع مدان له، ولا ينظر لرؤيته واحتمالية أهليتها لهذا الواقع الذي يرفضها. لذا أصر على أن التغيير يبدأ بالنخبة التي تكون الوعي، والتي تعلن نفسها كمسؤولة عنه وعن قيادة المجتمع، والاهتمام بالمؤسسات العلمية والإنتاج المعرفي، وكيفيته وليس الاهتمام الكمي فقط. وأعرف أن كلامي هذا يحمل من النظري أكثر منه للعملي، ولكن أظن أن هذا هو دوري أشكلة الرؤى والانطلاق من الواقع، والجزء التطبيقي العملي هو من صميم عمل المؤسسات التي أهدف أن ترى دورها ومهمتها، ومستقبلها كذلك. إصلاح التعليم في الدول التي ظهر فيها التطرف هل يكون (الإصلاح) مفتاح التغيير نحو الحل؟ الإصلاح في عمومه يكون من التعليم، فالعملية التعليمية هي المسؤولة عن بناء الوعي، وتحديد الأفق في المجتمع، فالمنظومة التعليمية التي تعمل بمبدأ المُعلم العارف الذي يملك كافة الإجابة على كافة الأسئلة، وتعامل الطالب كوعاء يجب أن يحفظ ما يُقدم إليه، تنتج عقولًا عاجزة عن الاستقلال في حاجة دائمة إلى مرشد، وتكون سهلة الانقياد، فقد تربت عليه. أما المنظومات التعليمية التي تفهم العملية التعليمية بوصفها عملية بنائية يشارك فيها الطالب رأيه، ويقلب الإمكانات والأسئلة ويساهم في صياغتها، فإنها تنتج عقولًا غير سهلة الانقياد دائمة التساؤل وتسعى عادة نحو الاستقلال. وللأسف الشديد فإن المنظومات التعليمية في البلدان العربية والإسلامية تعمل على الحفظ، وتتعامل مع العملية التعليمية كما يتعامل عامل توصيل الطلبات، أو البريد، ليحمل المُعلم طردًا مكلف بتوصيله إلى الطالب، لذلك نجد أن المُعلم لا يُمانع أن يغني ويرقص غاية أن يحفظ الطالب المعلومة. والعملية التعليمية في مجتمعاتنا اليوم لا تهدف لشيء غير اجتياز الامتحان، ومن ثم فهي تنتج ممتحنين جيدين ورائعين، ولكنها عاجز عن إنتاج كوادر تغطي احتياجاتها، وفقدت الشهادات العلمية قيمتها لأنها لم تعد تعبر عن أهلية صاحبها للتفكير.لذلك أؤكد القول بأن إصلاح التعليم هو الطريق نحو الحل، وبناء أفق متعدد الرؤى منفتح على الجميع، والإصلاح هنا يعني الإصلاح الكيفي ودخول الطالب ضمن المعادلة التعليمية، ليكون له دور ويربى على إمكانية الخروج عن الأطر وإنتاج ما هو جديد، والخروج من دور المُتلقي التائه الذي في حاجة دائمة إلى الإرشاد، لأن مثل هذه الذهنية سهلة الانقياد لخطاب التطرف، وذلك لبراعته في لعب دور المُرشد.والمؤسسات التعليمية لا يمكنها أن تنتج الإبداع، بيد أن براعتها تكمن في احترامه، ومؤسساتنا التعليمية تقدس الإتباع والخضوع، وهي أمور تحتاج الثقافة الإسلامية والعربية مراجعتها. إلى أي حد تجد الخطاب السائد حاليا خطاب عقل؟ في الواقع لا أستطيع أن اتهم الخطاب السائد حاليًا أو ابرأه في الوقت نفسه، ولا أستطيع أن انفي انتمائي إلى هذا الخطاب، فأنا مصري عربي أنطلق من مشكلات وأزمات ومجتمع، ومن أفق هذا الخطاب، وأصر دائمًا على الحاجة إلى النقد والمراجعة الدائمين، فالنقد هو ما يضمن سلامة البناء، والمُراجعة هي ما تُعيد بوصلة أي خطاب، وللأسف الشديد الخطاب المعاصر يحركه الدفاع أكثر مما يحركه أي شيء آخر، ويسعى للحضور الندي أمام الحضارة المُسيطر، ويعمل على استهلاك التراث والحداثة ليثبت حضوره الندي بأي شكلٍ ما كان.وحالة الانهزام الحضاري والسياسي التي يعيشها الواقع العربي تمكن الخطابات الأصولية من الحضور القوي في المجتمعات العربية، فبعد أحداث السابع من أكتوبر نشطت الجماعات الأصولية بصورة ملحوظة، مُستغلة في ذلك المسألة الفلسطينية، والضغط من خلالها على المجتمعات، واتهام الحكومات بالتواطؤ والعمالة، وهي ثغرة وجدت فيها إمكانية الحضور من جديد. وتحضر الجماعات الأصولية عادة من طريق المشروع الندي المناهض للحضارة السائدة، والرافض للاستبداد الأمريكي وحالة الهيمنة الدائمة. وهذه الصورة من الخطاب المُهدد الذي يقف عند حدود الإنشائية ولا يتجاوز إطارها إلى الدور البنائي، والانطلاق من مشكلات الواقع وأزماته، تنشغل بالتأكيد على فكرتها أكثر من دراستها، والبحث عن أبعادها الواقعية وإمكانية حضورها الفعلي، ومن ثم فهو لا يعبر عن الواقع ولا يعد ذي نفع على المجتمع، بل ربما يمثل عقبة أمامه. في ظل ما يجري من أحداث متسارعة في العالم العربي هل يمكننا تحديد رؤية للمستقبل القريب والبعيد؟ في ظني المُستقبل القريب أو البعيد بالنسبة للشرق الأوسط معروف؛ فهذه المجتمعات تقف موضع المفعول به، وأقصى ما تتمناه أن تختار سيدًا أفضل من الآخر، يؤسفني أن أجد مسألة الحضور الفعلي والمساهمة في بناء الحضارة أبعد من الأفق العربي المعاصر. والواقع فإن الدور السلبي لمجتمعات ودول الشرق الأوسط يجعل حاضرها مثل ماضيها، مثل مستقبلها، يجعل حلم الوحدة العربية حلمًا يتلاشى كل يوم عن الآخر، ومسألة الحضور الحضاري تبعد كل يوم عن الآخر، وتقف هذه المجتمعات في موقف المُستهلك للحضارة ولا تتعداه، ومن ثم فإننا لا ننتظر منها شيء.صحيح أن الأحداث متسارعة وتوضح تهالك الدول العربية، ولكنها لا تُحدث تغييرًا فعليًا ما لم تكن إرادة عربية لذلك، وكما ذكرت تقف الإرادة العربية عند تحديد من تتبعه. ولا أنتظر تغييرًا فعليًا في العالم العربي ما لم يكن هناك تغيير في بنية الوعي، وينطلق التغيير في بنية الوعي، من تحديد الوعي العربي وكيفية عمله، وكيف يمكن تغييره وما الذي يحتاجه، وهو لا يحتاج لشيء في رؤيتي أكثر من الاستقلال. من سقوط بغداد 2003 إلى سقوط دمشق 2024 كيف تقرأ ما حدث؟ لا أرى أن وصف السقوط لم حدث في سوريا دقيق بم يكفي، وكذا أيضا لا أرى وصف التحرير دقيق بم يكفي، فكلاهما في نظري لا يصفون حالة الوضع السوري، فالوضع السوري انتقل من وضع لوضعٍ مشابه على نفس المستوى، ولكن بمرجعية مُختلفة. لا ننكر أن الأسد كان طاغية قتل الآلاف من شعبه وشرد الملايين من أجل تشبثه بالسلطة، وساعدته إيران على ذلك لم بينهما من مرجعية شيعية واحدة. ولا تحمل جبهة تحرير الشام رؤية مختلفة، ولكنها تحمل مرجعية مختلفة، فهي لا تقبل بتعدد الأحزاب والسلطات، وترى منطق السيادة ولكن بمرجعية سنية، وهذا ما ظهر من إعلانهم عودة دولة بني أمية. وتظهر الصورة الندية والمشابهة للنظامي الأسد والشرع فيما حدث مع العلويين والمسيحيين كذلك، وما حدث من هدم تمثال الشهداء في حلب، ونزع السيف من تمثال صلاح الدين تمهيدًا لهدمه، وهو أمر مفهوم وليس جديد على الإدارة الحالية صاحبة المرجعية الجهادية، التي ترى في الفن خطيئة دينية، وترى في التماثيل أصناما كتلك التي كانت في شبه الجزيرة العربية في الجاهلية.والمُشكل الرئيس في السياق العربي هو عدم إيمانه بتعدد الرؤى، ويرى الأمور عادة من ثنائية الحق والباطل، وكذا هو الوضع السياسي عادة؛ فلا يوجد إيمان بضرورة التعددية الحزبية ومنطق تبادل السلطة، وعدم الاستبداد بالسلطة، لذا تأتي السلطة عادة معلنة نفسها بوصفها الحق والسيادة والوطنية، وترفض أي رؤى مختلفة وتتهمها بعدم الوطنية، وفي حال الإسلام السياسي تتهمها بعدم الإيمان. وينعكس هذا على الوضع السياسي العربي، فعندما تسمح الظروف بوجود فراغ سياسي يمكن أن تتم من خلاله تجربة سياسية جديدة، يظهر الفريق الآخر وفي حالنا يكون الإسلام السياسي كما نرى، ويعلن نفسه بوصفه البديل الوحيد والند للسلطة السابقة التي يرفضها المجتمع. ونجح الإسلام السياسي في أن يطرح نفسه بديلًا فور وجود مساحة للتداول السلطة، ويرجع هذا في ظني إلى سرية عمله وتنظيمه، وربما اتفاقاته مع السلطة الحاكمة في العديد من الأحيان. والسقوط الفعلي لسوريا كان بوجود الأسد بعد قتل شعبه وتهجيره علنًا، فمن أجل شخص واحد طاغية تشرد شعب بأكمله، ولا يعنى هذا أن دخول الشرع قصر الرئاسة تحريرًا لسوريا، فهو انتقال على نفس المستوى ولكن مختلف الاتجاه. وأقول بكل وضوح أني لستُ مطمئنًا على المستقبل السوري، أو العربي، فكلاهما ينحدر نحو الجهل،والتعصب، والتطرف، والاستبداد.وصحيح أننا لا يمكن ان نحكم على التجربة السورية وهي في طور النشء بعد، ولكن لنا تجارب مع الإسلام السياسي في المنطقة العربية، ومراوغته وأساليبه المعتادة للحفاظ على السلطة والسعي لها، ويرى البعض أن ما حدث فتح الباب على الممكن الذي لم يكن مفتوحًا في عصر الأسد، ولكني أتوقع وأخشى أن يُغلق عما قريب مع الإدارة الحالية، ومن كل قلبي أتمنى ان يخطئ توقعي. وعن رؤيتي للوضع من سقوط بغداد 2003 إلى تولي التيارات الإسلامية السلطة في دمشق 2024، فإنني أرى أن الوضع العربي يزداد سوءً يومًا بعد الآخر، وتصرف أمريكا في الشرق الأوسط كمالكة له ليس جديدًا، بل إن دول الشرق الأوسط تسعى جاهدة نحو التحالف مع الوليات المتحدة الأمريكية، ولا أرى في الاتفاق الأمريكي مع الشرع على خروج الأسد والصعود مكانه جديدًا على المجتمعات العربية، فهذا ما نراه كل يوم في العالم العربي. ولا يمكن ان ننكر الضعف الملحوظ للدول العربية، خاصة السياسي، فالوضع العربي اليوم في حالة عجز وضياع عن سابقه. وأقول وأكرر أنه لا جديد وأقول وأكرر أنه لا جديد من حيث المواقف ورد الفعل، وبنية الوعي للأسف الشديد، فسقوط العراق 2003 وتولي الشرع السلطة 2024 باتفاق أمريكي حدثان لا يختلفان في منطقهما، من حيث السيطرة الأمريكية.


شفق نيوز
منذ 2 أيام
- شفق نيوز
هل انتهى حلم الفلسطينيين بدولتهم؟
على تلة صغيرة في تجمع جبل البابا البدوي، شرقي مدينة القدس، يجلس رئيس المجلس القروي لعرب الجهالين، أبو عماد الجهالين، تحت ظل شجرة يحتمي من الشمس الحارقة. من هناك، يطل على القدس التي لا تبعد كثيراً عن ناظريه، لكن يفصلها عنه جدار إسمنتي وحاجز عسكري. يشير بيده نحو الأفق، ويتحدث أبو عماد لبي بي سي بمرارة: "هذا نسيج الممات.. وليس نسيج الحياة كما يسميه الإسرائيليون". الطريق الذي يتحدث عنه أبو عماد، المسؤول عن كافة التجمعات البدوية في منطقة القدس، والمعروف باسم "نسيج الحياة"، يهدف بحسب السلطات الإسرائيلية لتمكين الفلسطينيين من التنقل بين شمال وجنوب الضفة الغربية دون المرور بالحواجز، لكنه في الواقع سيمنعهم من دخول الشارع الرئيسي رقم 1، الذي يربط جنوب الضفة بوسطها وشمالها. هدم وإخلاء تمهيداً للعزل BBC يؤكد أبو عماد أن السلطات الإسرائيلية أصدرت مؤخراً 40 أمر هدم وإخلاء لمنشآت سكنية وزراعية في منطقة العيزرية. الهدف، كما يوضح، هو ربط طريق "نسيج الحياة" بالمشروع المعروف باسم "E1"، الذي سيؤدي إلى عزل القدس عن الضفة الغربية وقطع الاتصال الجغرافي بينهما. ويضيف أن إنشاء الطريق سيتم على حساب عشرات المنازل الفلسطينية، في مناطق مصنفة (ج) و(ب)، ما يعني تشريد عائلات وفقدان أراضٍ واسعة. ويؤكد أن "إنشاء هذا الطريق يهدد بعزل 22 تجمعاً فلسطينياً، يمتد من محيط مستوطنة "معاليه أدوميم" حتى البحر الميت، في خطوة تمهّد لتهجير السكان قسراً، من خلال حرمانهم من الوصول إلى المدارس والمستشفيات والمرافق العامة في القرى المجاورة". BBC حلم الدولة يقول أبو عماد وهو يقف مقابل مستوطنة "معاليه أدوميم" إن المشروع الاستيطاني يمتد من مدخل بلدة العيزرية الشرقي، مروراً بتجمع وادي الجمل وتجمع جبل البابا ووادي الحوض، وصولاً إلى حاجز الزعيم. ويرى أن إسرائيل تهدف من خلال السيطرة على هذه الأراضي إلى ربط مستوطنة "معاليه أدوميم" بمدينة القدس. ويضيف أن "هذا الربط يعني عملياً استحالة إقامة دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً على هذه الأراضي، إذ سيصبح من المستحيل على أي فلسطيني الانتقال بين شمال الضفة الغربية وجنوبها إلا عبر بوابات إسرائيلية". خطة استيطانية بعد ثلاثة عقود BBC مشروع E1 الاستيطاني، المطروح منذ عام 1990، شهد محاولات متكررة للتنفيذ بدأت بخطة أريئيل شارون لبناء 2500 وحدة، وتوسعت لاحقاً في 2004 إلى نحو 4000 وحدة مع مرافق تجارية وسياحية، لكن ضغوط دولية أوقفت التنفيذ. بين 2009 و2020 أُعلن عن مراحل جديدة، شملت مصادرة أراضٍ وتصميمات وبناء طرق، غير أن المشروع جُمّد في كل مرة. صادق وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، مساء الأربعاء، على بناء 3,401 وحدة سكنية ضمن المخطط الاستيطاني في منطقة E1 شرقي القدس، بعد أكثر من 20 عاماً من تجميد المشروع تحت ضغط دولي. سموتريتش اعتبر القرار "إنجازاً تاريخياً"، قائلاً إنه يربط فعلياً مستوطنة "معاليه أدوميم" في القدس، ويفصل التواصل العربي بين رام الله وبيت لحم، و"يدفن فكرة إقامة دولة فلسطينية". رسائل سياسية ودعم أمريكي خلال تصريحاته، شكر سموتريتش الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والسفير مايك هاكابي على دعمهما، مؤكداً أن الضفة الغربية وفق رؤيته "جزء لا يتجزأ من أرض إسرائيل التي وعد بها الله". كما أعلن أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يدعمه في خطط إدخال مليون مستوطن جديد إلى الضفة. BBC بحسب حركة "السلام الآن" الإسرائيلية، فإن الوحدات السكنية الجديدة تمثل زيادة بنسبة 33 في المئة، في حجم مستوطنة معاليه أدوميم، التي يبلغ عدد سكانها حالياً نحو 38 ألف نسمة. المشروع يربط المنطقة السكنية بالمناطق الصناعية المحيطة، ويمهد لتوسيع السيطرة الإسرائيلية على مساحات واسعة من الضفة، وفقاً للـ"سلام الآن". وقالت حركة "السلام الآن"، التي ترصد النشاط الاستيطاني، إن وزارة الإسكان الإسرائيلية، وافقت على بناء نحو 3300 منزل في "معاليه أدوميم". وجاء في بيانها: "خطة E1 قاتلة لمستقبل إسرائيل ولأي فرصة لتحقيق حل الدولتين السلمي. نحن نقف على حافة الهاوية، والحكومة تدفعنا بسرعة نحوها". إدانات فلسطينية وعربية الخارجية الفلسطينية أدانت المشروع، واعتبرته "استهدافاً لوحدة الأراضي الفلسطينية وضرباً لفرصة إقامة الدولة، وتقويض وحدتها الجغرافية والسكانية، وتكريس تقسيم الضفة إلى مناطق معزولة بعضها عن بعض، تغرق في محيط استعماري ليسهل استكمال ضمها". ورفضت الخارجية الأردنية بدورها الخطة، وقالت إن الأردن يرفض تماماً الخطة الاستيطانية الإسرائيلية بوصفها اعتداء "على حق الشعب الفلسطيني غير القابل للتصرف في تجسيد دولته المستقلة ذات السيادة على خطوط الرابع من يونيو/حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية". أما مصر، فأدانت المشروع بشدة، مؤكدة أنه "انتهاك صارخ للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن".


شفق نيوز
منذ 3 أيام
- شفق نيوز
لقاء ترامب وبوتين: ماذا نعرف عنه؟
يلتقي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في أنكوريج، يوم الجمعة، لمناقشة إنهاء الحرب في أوكرانيا. ويُعقد هذا اللقاء رفيع المستوى في قاعدة إلمندورف - ريتشاردسون المشتركة، وهي منشأة عسكرية أمريكية تقع شمال أكثر مدن ألاسكا اكتظاظاً بالسكان. وأكد مسؤولو البيت الأبيض أن القاعدة استوفت المتطلبات الأمنية اللازمة لاستضافة الزعيمين، إذ لم تكن هناك خيارات متعددة لعقد هذا الاجتماع الذي رُتب له في عجالة، في ذروة موسم السياحة الصيفية. الجدير بالذكر أن جولات المحادثات الثلاث بين روسيا وأوكرانيا هذا الصيف، التي عُقدت بناءً على طلب ترامب، لم تنجح في دفع الجانبين نحو السلام. وإليكم ما نعرفه عن القاعدة، وما يُمكن توقعه من هذا الاجتماع. ما هي قاعدة إلمندورف - ريتشاردسون المشتركة؟ تعود جذور قاعدة إلمندورف - ريتشاردسون المشتركة إلى الحرب الباردة، وهي أكبر قاعدة عسكرية في ألاسكا. وتُعد هذه المنشأة، التي تبلغ مساحتها 64.000 فدان، موقعاً أمريكياً رئيسياً للتأهب العسكري في القطب الشمالي. وتحيط بالقاعدة جبالٌ مُغطاة بالثلوج وبحيراتٌ جليديةٌ وأنهارٌ جليديةٌ خلابة، وتسود فيها أجواء باردة طوال العام، إذ تصل درجات الحرارة فيها إلى 12 درجة مئوية تحت الصفر في فصل الشتاء. ومع ذلك، سيكون الطقس معتدلاً نسبياً خلال لقاء الزعيمين يوم الجمعة؛ حيث ستبلغ درجة الحرارة نحو 16 درجة مئوية. وقد أوضح ترامب أهمية إلمندورف - ريتشاردسون المشتركة حين قال في زيارة للقاعدة خلال ولايته الأولى عام 2019، إن القوات الأمريكية هناك "تخدم في آخر حدود بلادنا كخط دفاع أول لأمريكا". ويعيش في هذا الموقع أكثر من 30.000 نسمة، أي ما يُمثل نحو 10 في المئة من سكان أنكوريج. ويعود تشييد هذه القاعدة إلى عام 1940، حين كانت موقعاً دفاعياً جوياً بالغ الأهمية، ونقطة قيادة مركزية لصد تهديدات الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة. وقد تجلت أهميتها بشكل خاص عام 1957، حين استضافت 200 طائرة مقاتلة، وأنظمة رادار متعددة لمراقبة الحركة الجوية والإنذار المبكر، ما أكسبها لقب "الغطاء الجوي لأمريكا الشمالية". ولا تزال القاعدة في نمو مستمر بفضل موقعها الاستراتيجي ومرافقها التدريبية. اشترت الولايات المتحدة ألاسكا من روسيا عام 1867، ما يضفي على الاجتماع طابعاً تاريخياً. وقد أصبحت ألاسكا ولاية أمريكية رسمياً عام 1959. وأشار مساعد الرئيس الروسي، يوري أوشاكوف، إلى أن الدولتين جارتان، ولا يفصل بينهما سوى مضيق بيرينغ. وقال أوشاكوف: "يبدو منطقياً تماماً أن يحلّق وفدنا فوق مضيق بيرينغ، وأن تُعقد قمة مهمة ومرتقبة كهذه بين زعيمي البلدين في ألاسكا". وكانت آخر مرة برزت فيها ألاسكا في حدث دبلوماسي أمريكي، في مارس/آذار 2012، عندما التقى الفريق الدبلوماسي والأمني لجو بايدن بنظرائهم الصينيين في أنكوريج. حينها، اتسم الاجتماع بالتوتر، حيث اتهم الصينيون الأمريكيين بـ"التعالي والنفاق". لماذا يلتقي بوتين وترامب؟ يسعى ترامب جاهداً - دون نجاح حتى الآن - لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وكان ترامب قد تعهد كمرشح رئاسي، بأنه قادر على إنهاء الحرب في غضون 24 ساعة من توليه منصبه. وكثيراً ما كرر أن الحرب "ما كانت لتحدث أبداً" لو كان رئيساً وقت الغزو الروسي عام 2022. وفي الشهر الماضي، صرّح ترامب لبي بي سي بأنه "يشعر بخيبة أمل" تجاه بوتين. وبعد أن تزايدت حدة الإحباط، حدد ترامب الثامن من أغسطس/آب موعداً نهائياً لبوتين، للموافقة على وقف فوري لإطلاق النار، وإلا فسيواجه عقوبات أمريكية أشد. ومع اقتراب الموعد النهائي، أعلن ترامب أنه وبوتين سيلتقيان وجهاً لوجه في 15 أغسطس/آب. ويأتي هذا الاجتماع بعد أن أجرى المبعوث الأمريكي الخاص ستيف ويتكوف محادثات "مثمرة للغاية" مع بوتين في موسكو يوم الأربعاء، وفقاً لترامب. وقبل الاجتماع، سعى البيت الأبيض إلى التقليل من التكهنات بأن الاجتماع الثنائي قد يُسفر عن وقف إطلاق النار. وقالت كارولين ليفيت، المتحدثة باسم للبيت الأبيض إن هذا اللقاء يعد بمثابة "استماع" للرئيس. وفي حديثه للصحفيين يوم الاثنين، قال ترامب إنه يعتبر القمة "اجتماعاً استطلاعياً" يهدف إلى حث بوتين على إنهاء الحرب. هل ستحضر أوكرانيا؟ لا يُتوقَّع حضور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إذ قال ترامب يوم الاثنين: "أود أن أقول إنه يستطيع الحضور، لكنه حضر العديد من الاجتماعات". ومع ذلك، صرّح ترامب بأن زيلينسكي سيكون أول من سيتصل به بعد اللقاء المرتقب. وفي وقت لاحق، أوضح مسؤول في البيت الأبيض بأن ترامب وزيلينسكي سيلتقيان افتراضياً يوم الأربعاء، قبيل قمة الرئيس الأمريكي مع بوتين. وسينضم إلى اجتماع زيلينسكي عدد من القادة الأوروبيين. وكان بوتين قد طلب استبعاد زيلينسكي، على الرغم من أن البيت الأبيض كان قد صرّح سابقاً بأن ترامب مستعد لعقد اجتماع ثلاثي يحضره القادة الثلاثة. وقال زيلينسكي إن أي اتفاقات دون مساهمة أوكرانيا ستكون بمثابة "حبر على ورق". ما الذي يأمل الطرفان في تحقيقه؟ على الرغم من أن كلاً من روسيا وأوكرانيا لطالما أكدتا رغبتهما في إنهاء الحرب، إلا أن كلاً منهما يريد ما يعارضه الطرف الآخر بشدة. وصرح ترامب يوم الاثنين بأنه "سيحاول إعادة بعض الأراضي [التي تحتلها روسيا] إلى أوكرانيا"؛ لكنه حذّر أيضاً من احتمال حدوث "بعض التبادل والتغيير في الأراضي". ومع ذلك، أصرت أوكرانيا على رفض سيطرة روسيا على المناطق التي استولت عليها، ومنها شبه جزيرة القرم. كما رفض زيلينسكي هذا الأسبوع أي فكرة بشأن "تبادل" الأراضي، قائلاً: "لن نكافئ روسيا على ما ارتكبته". في غضون ذلك، لم يتراجع بوتين عن مطالبه، لا سيما فكرة حياد أوكرانيا، وتحديد حجم جيشها المستقبلي. وكانت أحد الأسباب التي دفعت روسيا، نوعاً ما، إلى شن غزوها الشامل لأوكرانيا، هو اعتقاد بوتين بأن حلف الناتو، التحالف العسكري الغربي، يستخدم هذه الدولة المجاورة ليضمن موطئ قدم لقواته بالقرب من حدود روسيا. وأفادت قناة سي بي إس نيوز، الشريكة الأمريكية لبي بي سي، بأن إدارة ترامب تحاول التأثير على القادة الأوروبيين بشأن اتفاق لوقف إطلاق النار، من شأنه أن يُسلم مساحات شاسعة من الأراضي الأوكرانية إلى روسيا. ووفقاً لمصادر مطلعة على المحادثات، سيسمح الاتفاق لروسيا بالاحتفاظ بالسيطرة على شبه جزيرة القرم، والاستيلاء على منطقة دونباس شرق أوكرانيا، التي تضم دونيتسك ولوهانسك. وقد احتلت روسيا شبه جزيرة القرم بشكل غير قانوني عام 2014، وتسيطر قواتها على معظم منطقة دونباس. وبموجب الاتفاق، سيتعين على روسيا التخلي عن منطقتي خيرسون وزابوريجيا الأوكرانيتين، حيث تبسط سيطرتها العسكرية على بعض تلك المناطق.