صدمة الدولار الأميركي... هل تتقدّمه عملات أخرى كملاذ آمن؟
وقد شهدنا الدولار الأميركي يسجّل أسوا أداء له خلال الأيام المئة الأولى من الرئاسة الأميركية، في نحو نصف قرن، أي منذ عهد الرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون.
خلال المئة يوم الأولى من ولاية ترامب الثانية، خسر مؤشر الدولار الأميركي نحو 9 في المئة من قيمته، ما دفعه نحو أكبر خسارة منذ عام 1973. في موازاة ذلك، سجّلت وول ستريت أسوأ خسائرها منذ عقود. فعلى سبيل المثال، تراجع مؤشر S&P 500 بنسبة 8 في المئة، منذ يوم تنصيب ترامب في 20 كانون الثاني وحتى نهاية أولى جلسات هذا الأسبوع. ويُعدّ هذا الانخفاض في المؤشر الأسوأ خلال المئة يوم الأولى من ولاية رئيس أميركي منذ عام 1970.
صعود الملاذات الآمنة
دعمت تراجعات الدولار مكاسب العملات الأخرى، إذ ارتفعت قيمة كلّ من اليورو والفرنك السويسري والين الياباني بأكثر من 8 في المئة مقابل الدولار الأميركي. ومن جهة أخرى، سجّل الذهب قفزات تاريخية، إذ ارتفع بنحو 22 في المئة خلال الأيام المئة الأولى من ولاية ترامب. كما ازداد الإقبال في الأسواق على الأصول العالية المخاطر، مثل العملات المشفّرة.
ويُبرّر الرئيس الأميركي فرضه للرسوم الجمركية التاريخية بأنها ستنقذ الميزان التجاري لبلاده، إلّا أن خطط ترامب لا تتوافق مع النظريات الاقتصادية. وكما هو معروف، فإن ضعف الدولار يعني أن المنتجات الأميركية تصبح أرخص في الأسواق العالمية، في حين ترتفع أسعار السلع المستوردة بسبب تراجع العملة المحلية. لكنّ الرسوم الجمركية لا تبدو عاملًا مساعدًا في حلّ الأزمات الاقتصادية، بل على العكس، فهي تفاقم مخاطر الركود وتُسرّع في خروج التدفقات المالية من الولايات المتحدة.
وفي أوقات الضبابية والأزمات، يتّجه المستثمرون نحو الملاذات الآمنة، التي اجتذبت اهتمامًا كبيرًا في الفترة الأخيرة. ومن أبرز هذه الملاذات، الين الياباني، الذي يُعرف بلقب "الملاذ الآمن"، لكونه من العملات الرئيسية المعتمدة عالميًا، ويتمتّع بدرجة عالية من الاستقرار. فاليابان تُعدّ ثالث أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة والصين، كما أنها من أبرز الدول المصدّرة، ما يعزّز من قوّة عملتها.
كذلك، يتمتع الفرنك السويسري بجاذبية عالية كملاذ آمن، وقد أظهر أداءً مميزًا هذا العام. ففي شهر نيسان فقط، ارتفع بنحو 9 في المئة أمام الدولار الأميركي، مسجّلًا أكبر مكاسب شهرية له منذ الأزمة المالية العالمية في 2008. ويُعتبر الفرنك السويسري من أكثر العملات استقرارًا في العالم.
عملات تستفيد من ضعف الدولار
وقد أفاد تقرير لبنك غولدمان ساكس أن عملة كوريا الجنوبية "الوون"، و"الدولار السنغافوري"، و"اليوان" الصيني هي أبرز العملات المرشحة لجذب التدفقات في آسيا. ويرى البنك أن هذه العملات تستفيد في ظل المخاوف على الدولار. فكوريا الجنوبية تقترب من الانضمام إلى مؤشر "فوتسي" العالمي للسندات الحكومية العام المقبل، بينما بدأت سنغافورة، ذات التصنيف الائتماني (AAA)، في جذب استثمارات البنوك المركزية. أما العلاقات التجارية بين الصين والعالم، فتجعل اليوان "مرشحًا طبيعيًا" لعمليات إعادة تخصيص الاحتياطيات المحتملة.
قوة واشنطن وهيمنة الدولار
أما بالعودة إلى حالة الـ100 يوم الأولى للرؤساء الأميركيين خلال العقود الماضية، فيظهر لنا أن تلك المراحل تميزت بقوة العملة الأميركية، حيث كان متوسط العوائد يقارب 0.9 في المئة بين عام 1973، عندما بدأ ريتشارد نيكسون ولايته الثانية، وعام 2021، عندما تولى الرئيس السابق جو بايدن منصبه.
وعلى مدى نحو نصف قرن، هيمنت العملة الأميركية على التجارة العالمية. كما شكّلت السياسة الخارجية لواشنطن قوةً ضبطت إيقاع العلاقات الدولية، وأشعلت حروبًا وأخمدت أخرى. بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر هيمنة الدولار على الساحة العالمية أداةً تساعد واشنطن في فرض عقوبات اقتصادية على دول عدة مثل فنزويلا وإيران وروسيا.
إ
هتزاز الثقة بالاقتصاد الأكبر
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل تهتزّ الثقة في الاقتصاد الأميركي والسياسة الأميركية؟ هذا ما بدأت تشير إليه التراجعات الحادة للعملة الخضراء وعمليات بيع سندات الخزانة الأميركية، التي لطالما كانت تُعتبر ملاذًا آمنًا، لا سيما في وقت الأزمات. ويتزايد القلق مع تسارع التضخم، وتصاعد مخاطر الركود، وارتفاع الدين الفدرالي بشكل كبير.
تجدر الإشارة إلى أنّ احتمال ارتفاع أسعار الفائدة على الدين الفدرالي المتضخم، الذي يشكل حوالي 120 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي، يعدّ أمرًا بالغ الخطورة.
من جهة أخرى، تُعدّ استقلالية البنك المركزي (الاحتياطي الفدرالي) مسألة بالغة الأهمية لضمان استقرار الأسعار على المدى الطويل، وكذلك لحماية صُنّاع السياسات من الضغوط السياسية. وعلى الرغم من أن ترامب تراجع عن نيّة إقالة جيروم باول، إلا أن انتقاداته اللاذعة وضغوطه المتكررة عليه لخفض أسعار الفائدة، تواصل إبقاء القلق قائمًا بشأن وضع الاحتياطي الفدرالي.
بيانات اقتصادية سلبيّة
لا بدّ أيضًا من الإشارة إلى أن التطورات الأخيرة الناجمة عن الرسوم الجمركية والتوترات التجارية العالمية لا تضغط فقط على آفاق النمو، بل تؤثر أيضًا على القطاعات التي تُعدّ عصب الاقتصاد الأميركي، مثل قطاعات الخدمات كالبنوك والتأمين، بالإضافة إلى قطاعات الصحة والتعليم. هذه القطاعات تتعرض لعدد من التحديات بسبب القرارات التي اتخذها الرئيس والتي لم تُبنَ في معظمها على معايير اقتصادية ومالية دقيقة.
ويبدو أن الإدارة الأميركية قد أدركت ذلك إلى حد ما، حيث تراجع ترامب عن بعض القرارات، وجمّد بعض الرسوم، وخفّف أخرى.
وقد بدأت نتائج التوترات التجارية بالظهور في أرقام الاقتصاد الأميركي، إذ انكمش الناتج المحلي الأميركي بنسبة 0.3% في الربع الأول من العام الحالي، بدلاً من تحقيق نمو متوقع بنسبة 0.3%، في ظل قفزة في الواردات بسبب المخاوف من زيادة الرسوم الجمركية.
كذلك أظهر تقرير الوظائف أن القطاع الخاص أضاف 62 ألف وظيفة فقط خلال شهر نيسان، وهو أدنى مستوى منذ تموز 2024. كما تظهر الآثار أيضًا في أداء الاقتصاد الصيني، حيث انكمش النشاط الصناعي في الصين بأكثر من المتوقع، ليصل إلى أدنى مستوى له منذ ما يقارب العامين، مُنزلقًا إلى منطقة الانكماش في شهر نيسان، في ظل تفاقم الحرب التجارية مع الولايات المتحدة التي أضرت بالتجارة الثنائية بين البلدين.
مكانة الدولار في خطر
رغم كلّ المخاوف التي تحيط بأداء الاقتصاد الأميركي، الذي بات أكثر عرضة للتقلبات، وتسيطر عليه سمة الاستهلاك ويعتمد بشكل كبير على قطاعات الخدمات، من المُبكر القول إنّ الدولار سيخسر مكانته في العالم. فالسلع العالمية تُتداول بالدولار، وهو عملة الاحتياط الدولية الأولى.
لكن كما نتابع على الساحة الدولية، بات الصراع بين واشنطن وبكين مفتاحًا أساسيًا يحرك اتجاه العملات. أما محاولة ترامب لإعادة تشكيل نظام التجارة العالمي فترفع مستوى الضبابية وتكشفُ المخاوف من ضعف الدولار الذي لطالما كان الملاذ الآمن للمستثمرين.
في هذا الإطار، حذّر دويتشه بنك من اتجاه هبوطي هيكلي للدولار الأميركي في السنوات المقبلة، ما قد يدفع العملة الخضراء إلى أدنى مستوياتها أمام اليورو خلال أكثر من عشر سنوات.
إلى ذلك، أشار تقرير لشركة "كابيتال إيكونوميكس" ومقرها لندن إلى أنه لم يعد من المبالغة القول إن وضع الدولار كاحتياطيّ ودوره المهيمن الأوسع نطاقًا أصبحا موضع شكّ إلى حد ما.
الخطط الصينية بعيدة المدى
هذا وقد بدأت الصين منذ سنوات تنفيذ خططها لتدويل عملتها اليوان، وهي تُسارِع في خطواتها بهذا الاتجاه، لا سيّما مع تفاقم حرب الرسوم الجمركية.
تبرم الصين منذ سنوات صفقات تجارية باليوان مع البرازيل لشراء المنتجات الزراعية، ومع روسيا لشراء النفط، ومع كوريا الجنوبية لشراء سلع أخرى.
كما تقدّم الصين قروضًا باليوان للبنوك المركزية التي تحتاج إلى السيولة في الأرجنتين وباكستان ودول أخرى، لتحلّ محل الدولار كمموّل للطوارئ.
تحالف بريكس في وجه القطب الواحد
العالم يتغيّر والسياسة تتغيّر ومعها خارطة التحالفات الدولية. وتبدو الصين خصمًا مرًا لواشنطن، "خطوة خطوة نحو تحقيق النهضة العظيمة للأمة الصينيّة"، على حدّ تعبير الرئيس الصيني تشي جينبينغ الذي يرى أنّ بلاده تدخل عصرًا جديدًا بإبداع.
كما نشهد نمو اقتصادات صاعدة بقوة كالاقتصاد الهنديّ. أما روسيا فلم تتمكن أقوى العقوبات في التاريخ من ترويضها.
ويُطرح تحالف بريكس كقطبٍ عالميّ ضخمٍ بمقوماته البشرية والاقتصادية، فهو يمثل نحو 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وتمتلك المجموعة نحو 45 في المئة من إجمالي احتياطات النفط العالمي، و38 في المئة من إنتاج الغاز، و67 في المئة من إنتاج الفحم العالمي. كما تضم ثلاث دول نووية هي: روسيا والصين والهند.
في اجتماعاتها التي انعقدت بداية هذا الأسبوع في البرازيل، ناقشت دول البريكس سبل تعزيز التجارة متعددة الأطراف، وأهمية الدفاع عنها في مواجهة السياسات الأحادية. فهي تسعى إلى ترسيخ دورها كمدافع رئيسي عن نظام تجاري قائم على القواعد.
وإلى جانب قضايا كثيرة ملحّة على الساحة الدولية، ناقشت الدول تعزيز التعاملات المالية بالعملات المحلية بين دول بريكس، بدلاً من الاعتماد الحصري على الدولار الأميركي.
بالمحصّلة، إن عدم اليقين هو الوصف الذي يهيمن على الاقتصاد العالمي اليوم، فإلى متى سيصمد الدولار الأميركي على عرش العملات العالمية؟ وإلى أي حدّ ستنجح الدول الأخرى في كسر نموذج القطب الواحد؟ وكم تحتاج من الوقت لتحقيق ذلك؟
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صدى البلد
منذ 32 دقائق
- صدى البلد
«آي صاغة»: الذهب يتراجع محليًا وعالميًا وسط ضغوط الدولار وترقب الرسوم الأمريكية
سجلت أسعار الذهب تراجعًا في السوقين المحلية والعالمية خلال تعاملات اليوم الإثنين، متأثرة بصعود الدولار الأمريكي وتزايد الترقب بشأن تنفيذ رسوم جمركية أمريكية جديدة قبل الموعد المحدد الأربعاء المقبل، بحسب تقرير صادر عن منصة «آي صاغة» لتداول الذهب والمجوهرات عبر الإنترنت. وقال سعيد إمبابي، المدير التنفيذي للمنصة، إن الذهب فقد نحو 25 جنيهًا محليًا خلال تعاملات اليوم مقارنة بإغلاق السبت الماضي، ليهبط سعر جرام الذهب عيار 21 إلى مستوى 4615 جنيهًا، بينما تراجعت الأوقية بقيمة 34 دولار لتسجل نحو 3303 دولارات. وسجل سعر جرام الذهب عيار 24 نحو 5274 جنيهًا، وعيار 18 بلغ 3956 جنيهًا، وعيار 14 سجل 3077 جنيهًا، فيما بلغ سعر الجنيه الذهب 36920 جنيهًا. وأوضح إمبابي أن هذا التراجع يأتي بعد مكاسب أسبوعية شهدها السوق المحلي، حيث ارتفع الذهب بنحو 30 جنيهًا الأسبوع الماضي، من 4610 إلى 4640 جنيهًا، كما ارتفعت الأوقية عالميًا من 3274 إلى 3337 دولارًا. وأشار إلى أن التراجع الحالي مدفوع بصعود مؤشر الدولار، وزيادة تفاؤل الأسواق بإمكانية التوصل إلى اتفاقات تجارية قبيل موعد تنفيذ الرسوم الجمركية الأمريكية، إلى جانب ارتفاع عوائد السندات الأمريكية بعد صدور بيانات قوية لسوق العمل نهاية الأسبوع الماضي. وأضاف أن استمرار الفائدة الأمريكية عند مستويات مرتفعة لفترة أطول يزيد من الضغط على الذهب، باعتباره أصلًا لا يدرّ عائدًا، ما يقلل من جاذبيته الاستثمارية في بيئة نقدية متشددة. تهديدات ترامب تخلق حالة من عدم اليقين وتدعم الذهب على المدى المتوسط في السياق نفسه، أشار إمبابي إلى أن تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن فرض رسوم إضافية بنسبة 10% على الدول المتحالفة مع سياسات "بريكس" قد تضيف مزيدًا من الضبابية إلى المشهد الاقتصادي العالمي، ما قد يُعيد بعض الدعم للذهب كملاذ آمن. وكان ترامب قد صرّح الأحد من مطار موريس تاون أن معظم الاتفاقيات التجارية سيتم الانتهاء منها أو إرسال رسائل بشأنها بحلول 9 يوليو، على أن تبدأ الرسوم الجمركية الجديدة في 1 أغسطس. كما كتب على منصة "تروث سوشال": "أي دولة تصطف خلف السياسات المعادية لأميركا التي تتبناها مجموعة بريكس، ستُفرض عليها رسوم إضافية بنسبة 10% دون استثناءات". وتأتي هذه التصريحات في وقت تنعقد فيه قمة "بريكس" في مدينة ريو دي جانيرو، حيث تبحث الدول الأعضاء – البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب إفريقيا – تعزيز التعاون الاقتصادي وتقليص الاعتماد على الدولار، ضمن ما يُعرف بعملية "إزالة الدولرة". ترقب لمحضر الفيدرالي… وتزايد المخاوف من تراجع الطلب العالمي في المقابل، يُتابع المستثمرون عن كثب صدور محضر اجتماع الفيدرالي الأمريكي يوم الأربعاء، والذي يوضح خلفيات قرار تثبيت أسعار الفائدة في يونيو عند النطاق 4.25%-4.50%، ويعكس رؤية أعضاء لجنة السوق المفتوحة بشأن مستقبل السياسة النقدية. وبحسب تقرير "المسح العالمي للذهب" الصادر عن مجلس الذهب العالمي لشهر يونيو، فإن الطلب العالمي على المعدن الأصفر لا يزال قويًا، مدفوعًا بتصاعد التوترات الجيوسياسية، لا سيما بين الولايات المتحدة والصين. في المقابل، حذّرت مؤسسة "جولدمان ساكس" من مخاطر هبوطية إضافية في حال تراجع مشتريات البنوك المركزية، أو إذا دفعت قوة الاقتصاد الأمريكي الفيدرالي نحو مزيد من التشدد في السياسة النقدية، وهو سيناريو غير داعم لأسعار الذهب.

القناة الثالثة والعشرون
منذ 41 دقائق
- القناة الثالثة والعشرون
نتنياهو يطلب ضوءًا أخضر من ترامب لضربات محددة في لبنان
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب... انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب... ذكر مراسل الـmtv في واشنطن، أن 'رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، سيعرض أمام الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قراءة للوضع في الجنوب اللبناني وكيفيّة نزع سلاح حزب الله، وسيطلب ضوءاً أخضر لتنفيذ ضربات محدّدة لا خوض حربٍ شاملة'. انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News

القناة الثالثة والعشرون
منذ 41 دقائق
- القناة الثالثة والعشرون
فتاة "العصا السحرية" التي ساهمت في صنع "خليط الكعك" لضرب المنشآت المحصّنة
كانت الثقوب الصغيرة في الجبل أعلى منشأة فوردو النووية الإيرانية، التي أظهرتها صور الأقمار الصناعية، محطّ أنظار العالم الذي ترقّب أياماً بيانات البيت الأبيض والبنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية لمعرفة سرّ تلك الثقوب. أخبار غزت وسائل الإعلام عن سلاح قادر على مهاجمة المخابئ والأنفاق المدفونة بعمق، تملكه الولايات المتحدة حصراً. ووسط إصرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب على أن الهجوم دمّر المنشآت النووية الإيرانية، وتهديده بمقاضاة وسائل إعلام شكّكت، وتقارير أشارت إلى أن البرنامج النووي الإيراني تأخر أشهراً فقط، قرّرت امرأة فيتنامية ألا تخوض غمار الجدل الدائر، مكتفية بـ"نشوة مألوفة". من طفولة الحرب إلى مختبر الذخائر البحرية الأميركية مع اندلاع حرب فيتنام، تمنّت خلال طفولتها امتلاك "عصا سحرية". يومها، ما كان الوصول إلى مختبر الذخائر الأميركية حلماً حتى! بدأت آنه دونغ رحلتها من منزل العائلة في سايغون في أواخر ستينات القرن الماضي، حين كانت بعدُ في السابعة تقريباً. كان والدها مسؤولاً زراعياً في حكومة جنوب فيتنام، وشقيقها طياراً مروحياً يغادر المنزل في مهمات قتالية. تتذكر دونغ في تلك الأيام بكاءها وتوقها الى أن تصنع سلاحاً قادراً على إعادته إليها سالماً، إلى أن قطعت على نفسها وعداً: "إن كان بوسعي، سأفعل ذلك لجميع الجنود الأميركيين الذين حموا عائلتي، سأمنحهم أفضل وسيلة ليعودوا إلى ديارهم سالمين". فرّت دونغ من سايغون قبل سقوطها في يد القوات الفيتنامية عام 1975، واستقرّت مع عائلتها في شقة بضاحية في ماريلاند في واشنطن. تقول: "وصلنا هذه البلاد بلا شيء. فقراء. ووجدنا هنا الكثير من الأميركيين الطيبين". عزم على "ردّ الجميل" لم تكن دونغ تجيد الإنكليزية، لكنها كانت طالبة موهوبة. تخرجت بمرتبة الشرف في الهندسة الكيميائية من جامعة ماريلاند في 1982، ثم نالت شهادة الماجستير في الإدارة العامة، وتوظّفت في البحرية الأميركية. شدّ انتباهها كل ما "يتحرك بسرعة فائقة"، كما قالت للكاتب الصحافي جورج ويل في مقابلة في 2007. في 1983، بدأت دونغ مسارها المهني مهندسة كيميائية في القاعدة البحرية الأميركية في مركز "إنديان هيد" بولاية ماريلاند، وكانت وظيفتها الأولى تركيب المواد التي تُطلق المقذوفات من فوهات المدافع البحرية الكبيرة. وبين 1991 و1999، أدارت جميع برامج البحوث الاستكشافية الأساسية والتطوير المتقدم في مجال المواد الشديدة الانفجار التابعة للبحرية الأميركية. في 1999، تولت منصب رئاسة البرامج التقنية في مركز الحرب السطحية البحرية في "إنديان هيد" في مجال المتفجرات والأسلحة تحت المياه. من هذا المنصب، قادت برنامج تطوير القنبلة الحرارية، واضطلعت بأعمال بالغة الأهمية لتحسين سلامة المتفجرات على متن سفن البحرية. الفرصة من أفغانستان إلى إيران بعد نحو شهر من هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، نالت دونغ فرصتها... قال لها الكولونيل توماس وورد من القوات الجوية: "سنذهب إلى الحرب في أفغانستان. ماذا يمكننا أن ننجز في أسرع وقت ممكن؟". نجحت دونغ في قيادة فريق من العلماء والمهندسين لتطوير مادة متفجرة من فئة القنابل الخارقة للتحصينات، وكانت النتيجة قنبلة "بي إل يو-118/بي" الموجهة بأشعة الليزر والمصممة للاختراق عميقاً في الأماكن الضيقة، مثل الأنفاق أو المغارات الجبلية التي يلوذ بها المقاتلون في أفغانستان. وحاولت مع فريقها المؤلف من 100 عالم وفنّي سكب المادة التي طوروها في ما يُشبه "خليط الكعك" في قذائف، وأجروا الاختبارات اللازمة حتى تمكنوا من الحصول على 420 غالوناً من المادّة المتفجرة نفسها. وفي نهاية يوم العمل في المختبر، "لم يكن أحد يرغب في المغادرة"، كما قالت دونغ، مضيفةً: "اضطررت إلى طرد الناس. لا يمكنك أن تتعب عندما تعمل بالمتفجرات". وبحسبها، هذه القنبلة صُمّمت كي لا يضطر جنود الجيش الأميركي إلى مسح التلال أو الأنفاق سيراً على الأقدام، وتكبّد الخسائر البشرية. استُخدم السلاح الذي طورته دونغ وفريقها في أفغانستان، حتى نسب إليه البعض الفضل في تقصير أطول حرب خاضتها أميركا. ولا تذكر من أطلق عليها لقب "سيدة القنابل". ورغم مرارة الحرب الفيتنامية، تقول دونغ إنها لم تجد تناقضاً بين معاناتها سابقاً وعملها في تطوير أسلحة فتّاكة. اليوم، تُدرج هذه المادة شديدة الانفجار في داخل القنبلة الخارقة للتحصينات المعروفة باسم "جي بي يو-57"، وهي نفسها التي ألقتها طائرات الشبح الأميركية فوق منشآت فوردو ونطنز وأصفهان النووية في إيران، قبل يوم من وقف للنار أنهى حرباً دامت 12 يوماً. انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News