
سوريا: دول قوية تتلاعب بأقلياتها الضعيفة
تبدو سوريا هذه الأيام المسرح الأكبر لدول قوية تتصارع على المصالح والنفوذ بأقلياتها الضعيفة. أبرز الدول القوية الولايات المتحدة و'إسرائيل' وتركيا وإيران. أشرس هذه الدول واكثرها طمعاً 'إسرائيل' التي احتلت، بعد تهاوي حكم بشار الأسد، مساحةً من جنوب سوريا لا تقلّ عن خُمس مساحتها الإجمالية. تركيا دعمت وسهّلت لمجموعة من التنظيمات الإسلاموية المتطرفة بقيادة أحمد الشرع (محمد الجولاني سابقا) السيطرة على معظم المحافظات ذات الأكثرية الإسلامية السنّية من حلب شمالاً إلى دمشق جنوباً، ومن دير الزور شرقاً إلى إدلب غرباً.
إيران البعيدة جغرافياً عن مسرح الصراع، اكتفت بالتنديد بالاحتلال الإسرائيلي للجنوب السوري، وبموقف الدعم السياسي لوحدة سوريا. الولايات المتحدة لعبت، وما زالت، دور المهيمن السياسي والعسكري على مسرح الصراع والمنسّق بين 'إسرائيل' وتركيا والحكم الانتقالي في دمشق، مع انحيازٍ واضح لمصلحة الكيان الصهيوني.
ماذا تبتغي كلٌ من الدول المتصارعة؟
ما تبتغيه 'إسرائيل' واضح بل صارخ: أولاً، البقاء داخل سوريا كي تستطيع أن يكون لها الدور الأفعل في رسم خريطتها المقبلة. ثانياً، الادعاء بحماية الدروز كي تحول دون قيام حكومة مركزية فاعلة في دمشق قادرة على احتواء جميع الأقليات التي تشكو من غلبة التنظيمات الإسلامية السنّية المتطرفة على الحكم الانتقالي في دمشق. ثالثاً، توسيع رقعة احتلالها لمنطقة الجولان وضمّها إلى كيان الاحتلال. رابعا، العمل على إقامة نظام لامركزي في سوريا تحتفظ بموجبه كل من الأقليات الكردية والعلوية والدرزية بصيغةٍ من الحكم الذاتي. خامسا، المشاركة الفاعلة في استثمار منطقة الجنوب السوري المحتل اقتصادياً وسياحياً بعد تحويله إلى منطقة عازلة منزوعة السلاح. تركيا تبتغي منع الأكراد في شمال شرقي البلاد من إقامة منطقة حكم ذاتي يمكن أن يشكّلوا، بالتعاون مع أكراد تركيا والعراق، نواةً لدولة كردية مستقلة. الولايات المتحدة تقوم، بالتعاون مع تركيا، على إعادة صياغة دولة سورية لامركزية، تدور في فلكها وتكون عضواً منتظماً في مجموعة الدول العربية السنّية التي تجمعها بـِ'إسرائيل' معاهدة صلح، أو علاقات تطبيع إبراهيمية.
كلُّ ما تقدّم بيانه مهم، بل خطير وله تداعيات بالغة السلبية على سائر العرب، حاضراً ومستقبلاً. غير أن الخطر الأكبر الماثل في الوقت الحاضر هو استمرار الفتنة الطائفية، واحتمال تطويرها من جانب 'إسرائيل'، بالتعاون مع الولايات المتحدة، إلى حرب أهلية تمتد إلى كلٍّ من لبنان والعراق والأردن، وربما إلى وادي النيل بشطريه المصري والسوداني أيضاً. من هنا تستبين الحاجة إلى ضرورة إدراك القوى الوطنية النهضوية في عالم العرب عموماً، وفي دول المشرق العربي خصوصاً (المترعة بفسيفساء من الأقليات الضعيفة والمستهدَفَة، لاسيما من 'إسرائيل' ) كي تجابه مخاطر الانزلاق إلى حروب أهلية متطاولة، الأمر الذي يستدعي مسارعة هذه القوى الوطنية النهضوية إلى التلاقي والتنسيق في ما بينها، في سياق عمل جدّي موصول يؤدي إلى بناء جبهة عريضة لدعم وحماية النسيج الوطني داخل أقطارها وترجمته بوحدة وطنية راسخة، وصولاً إلى تعزيز قدراتها للضغط على الفئات الحاكمة، كي تبقى بمنأى عن تأثير الولايات المتحدة ونفوذها ومطامع 'إسرائيل' التوراتية والتلمودية اللامتناهية في أراضيها ومواردها.
صحيح أن 'إسرائيل'، ومن ورائها الولايات المتحدة، وحلفاؤهما في غرب آسيا وأوروبا أقوياء ونافذون، لكن من شأن يقظة القوى الوطنية النهضوية ونجاحها في الاتحاد وتعبئة الجماهير في عالم العرب والإسلام، تحريكُ الدول العربية المنتجة للنفط، وحملها على ممارسة ضغوطٍ على الولايات المتحدة لتمارس بدورها ضغوطٍ على 'إسرائيل' للحدّ من غلوائها، وتدخلها السافر والمتصاعد في سوريا، خصوصاً مع المتعاملين معها داخل مختلف الأقليات، بقصد تفكيك بلاد الشام إلى كيانات متنازعة قائمة على أسس طائفية او إثنية (عرقية) أو قَبَلية. لئن تكن هذه المهمة صعبة جداً لكون الدول المنتجة للنفط، تخشى تيارات التغيير الليبرالية واليسارية أكثر مما تخشى 'إسرائيل'، لكن تمادي هذه الأخيرة في اعتداءاتها الوحشية في فلسطين المحتلة، وإصرارها على تجويع الفلسطينيين وقتلهم ودفعهم إلى الهجرة قسراً إلى صحراء سيناء المصرية، أدى إلى توليد ردود فعل استهجانية واسعة في كل أنحاء العالم، قد تدفع أجيال الشباب المتعاطفة مع الفلسطينيين المضطهدين (وربما لاحقاً مع السوريين المضطهدين) إلى الانتقال من التأييد الإعلامي المدني إلى الدعم الإجرائي الميداني، على نحوٍ يحاكي ما يقوم به اليمنيون شعباً وحكماً، الذي أدى إلى إغلاق ميناء إيلات الإسرائيلي على البحر الأحمر، وقد يؤدي لاحقاً إلى إغلاق أو شلّ ميناء حيفا على البحر المتوسط.
حتى لو تجاوبت الدول المنتجة للنفط بشكلٍ محدود مع الضغوط الشعبية، التي تمارسها القوى الوطنية النهضوية، فإن لدى هذه الأخيرة مجالات أخرى للنشاط وممارسة الضغوط الوازنة. ففي مقدور القوى الوطنية مثلاً، تنظيم حملة واسعة لمقاطعة منتجات الدول المتحالفة مع 'إسرائيل' أو المعارضة لحق الشعب الفلسطيني في تحرير أراضيه المحتلة، وإقامة دولته المستقلة. إن مقاطعةً شعبية واسعة ومنظمة من شأنها أن تُلحق أضراراً كبيرة بمختلف الدول الداعمة للكيان الصهيوني. مع العلم ألا سبيل للدول العربية والإسلامية المتحالفة مع الولايات المتحدة، أو تلك المطبّعة مع 'إسرائيل' إلى منع شعوبها من ممارسة مقاطعة منتجات الدول الداعمة للكيان الصهيوني، لأن الأمر يتعلق بالأذواق الشخصية، فلا قدرة للسلطة على تغيير أذواق المستهلكين، أو على وقف حملة المقاطعة، فضلاً عن أن من شأن مقاطعة المنتجات الأجنبية دعم المنتجات الوطنية وترويجها، وهو هدف وطني نبيل ومُرحب به شعبياً.
المهم أن تتوحد وتتحرك القوى الوطنية النهضوية والحركات الشعبية لأن ما من أحد غيرنا يهمه أو في وسعه أن يحقق لنا أهدافنا. نعم، إن التحديات والمخاطر كثيرة وماثلة ولا سبيل إلى مواجهتها بفعالية إلاّ بمقاومةٍ للعدو الصهيوني متزامنة مع مقاومة صانعي الفتنة الطائفية والحرب الأهلية والتقسيم داخل بلادنا.
كاتب لبناني

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 27 دقائق
- العربي الجديد
تزايد الإشارات الأميركية الملغومة حول مصير غزة بعد التجويع
قال السيناتور الأميركي، الجمهوري ليندسي غراهام الأحد، إن " إسرائيل تعتزم تغيير تكتيكها لتقوم بما قمنا به في طوكيو وبرلين (في الحرب العالمية الثانية)، بحيث تسيطر بالقوة على غزة بكاملها، ثم تبدأ فيها من جديد، وبما يوفر مستقبلاً أفضل للفلسطينيين، على أمل أن يتولى العرب بعد ذلك أمر الضفة والقطاع". بعده بساعات، وبعد نفيه وجود مجاعة في غزة، قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب الصورة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ولد دونالد ترامب في 14 حزيران/ يونيو 1946 في مدينة نيويورك، لأبوين من أصول ألمانية واسكتلندية، تلقى تعليمه الأولي في مدرسة كيو فورست بمنطقة كوينز في مدينة نيويورك. التحق بالأكاديمية العسكرية في المدينة نفسها، وحصل عام 1964 على درجة الشرف منها، ثم انضم إلى جامعة فوردهام بنيويورك لمدة عامين، ثم التحق بجامعة بنسلفانيا، وحصل على بكالوريوس الاقتصاد 1968 ، إن "على إسرائيل أن تقرر بشأن الخطوة التالية في غزة". في التوقيت والمضمون، كلا التصريحين مثقل بإشارات قاتمة حول مرحلة ما بعد حرب التجويع، خاصة أن هذا الكلام الملغوم يأتي على خلفية انسحاب واشنطن أواخر الأسبوع المنصرم من مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، والذي قال ترامب إنه لا يدري ما ستكون عليه الأحوال في القطاع بعد انهيار المفاوضات، من دون ولو أي تلميح، إلى احتمال استئنافها، وكأنه بذلك استبعد العودة إليها، على الأقل في المدى المنظور، وكأن الحرب تقرر أن يجري دفعها باتجاه انسداد الحلول، وبالتالي نحو خيارات دراماتيكية. ما كشف عنه السيناتور غراهام المقرّب من الرئيس ترامب، ومن مطبخ القرار الاسرائيلي، مريب وخطير. المقارنة مع طوكيو وبرلين لا تستقيم. ظروف البداية المزمعة في غزة غير متوفرة، كما كانت آنذاك في ألمانيا واليابان. الولايات المتحدة التي أنزلت الخراب بالبلدين هي نفسها التي ساهمت في نهوضهما، عبر مشروع مارشال في أوروبا ومن ضمنها ألمانيا، كما عن طريق المساعدة في إعادة تأهيل اليابان. في حالة غزة هذا غير وارد أصلاً، بل إن إسرائيل، أو على الأقل، الفريق النافذ في حكومتها، يعمل باتجاه الخلاص من فلسطينيي القطاع، عبر حرب "التطهير العرقي"، وهو تعبير صار متداولاً بصورة متزايدة ليس فقط من جانب أكاديميين وصحافيين إسرائيليين، بل أيضاً من يهود أميركيين. تقارير عربية التحديثات الحية إدخال المساعدات إلى غزة... إطالة أمد الحرب ودعاية مضادة والأخطر في طرح السيناتور، أنه يلغي حق الفلسطينيين في تقرير المصير بأي صورة من الصور، إذ يتحدث عن دور عربي "مأمول" لإدارة شؤون الضفة والقطاع، وفي ذلك دعوة ضمنية لمحو الهوية الفلسطينية. قد يكون كلامه غير المسبوق، للإرباك أو لذرّ الرماد في العيون، لحجب ما يتم تحضيره لغزة. لكن صدور طروحات من هذا العيار في هذه اللحظة المصيرية المفتوحة على سيناريوهات نوعية تشمل تحولات محتملة في الخرائط، يفرض أخذه على محمل الجدّ، خصوصاً أن الرئيس ترامب طالب إسرائيل "بأخذ القرار" المطلوب. وكأنه في ذلك يعطي الضوء الأخضر من جديد لوضع "البدائل الأخرى" التي أشار إليها بيان المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف عند إعلان الانسحاب من المفاوضات، موضع التنفيذ. وهذه "البدائل" ما زالت موضع تكهنات تتراوح بين خيار عسكري نوعي، وبين إجراءات تكون جزءاً من سياسة "تغيير وجه الشرق الأوسط" التي سبق وهدد بها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو. الواضح حتى اللحظة أن التوافق قائم بين نتنياهو والإدارة بشأن غزة. حتى الآن، الإدانة مفقودة، رغم الاعتقاد السائد بأن إسرائيل تمارس سياسة التجويع الفاقع. فقط في الكونغرس، جرى إعداد رسالة بتوقيع 20 سيناتوراً لرفعها اليوم الاثنين إلى وزير الخارجية ماركو روبيو حول الوضع في غزة. الإدارة غطّت على الإحراج، إما بالصمت والتجاهل، وإما بالنكران، رغم تزايد الرفض والنقمة ضد إسرائيل، سواء في الإعلام ووسائل التواصل، أو في المداولات والردود التي شارك فيها الأحد وزير خارجية فرنسا جان نويل بارو، خلال استضافة متلفزة أكّد فيها أهمية الاعتراف بالدولة الفلسطينية "لإعادة الاعتبار إلى حل الدولتين". صورة الأوضاع المفجعة التي تنقلها الشاشات، خلقت حالة من النفور الواسع، خصوصاً في صفوف الرأي العام، حسب ما كشفته أرقام التبرعات المالية لأعضاء الكونغرس، حيث هبط التمويل العام لحملات المؤيدين لإسرائيل، لكن الإدارة في وادٍ آخر، تُعدّ العدة لترجمة "البدائل" التي لوّحت بها. وبانتظار ذلك، يجري ملء الوقت بهدنات يومية قصير، يتخللها فتح إضافي خفيف لحنفية الإمدادات الإنسانية، بغرض تنفيس الضغوط، وتخفيف درجة الإحراج.


القدس العربي
منذ 15 ساعات
- القدس العربي
في باريس لم تقم دولة فلسطينية… لكن خطوة ماكرون لا تزال تاريخية
النتيجة النهائية واضحة حتى للرئيس الفرنسي: ماكرون، لم يؤسس الدولة الفلسطينية، لكن إعلانه الخميس الماضي عن اعتراف بالدولة الفلسطينية، لا شك أنه إنجاز حقيقي للحركة الوطنية الفلسطينية في إحدى أدنى لحظاتها التاريخية. لماذا اختار ماكرون خطوة تبدو احتمالية تحققها صفراً؟ يمكن تقديم أربعة أسباب متكاملة لخطوة فرنسا: السبب الأول، أن إعلان ماكرون يأتي رغبة من فرنسا للوقوف إلى الجانب الصحيح من التاريخ. الدولة الكولونيالية السابقة والمسؤولة، هي وبريطانيا، عن ترسيم حدود الشرق الأوسط في القرن العشرين (اتفاق سايكس بيكو 1916)، تشعر بمسؤولية أخلاقية عن مصير الفلسطينيين ومصير الإسرائيليين أيضاً. كان هذا صحيحاً عندما ساعدت فرنسا في بناء المفاعل النووي في ديمونا، ووفرت طائرات ميراج قبل حرب الأيام الستة. كان ميتران دعا من فوق منصة الكنيست إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية في آذار 1982، وأما جاك شيراك فاعتبر ياسر عرفات صديقاً شخصياً، والآن يأتي ماكرون في السنتين الأخيرتين في ولايته ويحاول ترك بصماته على مكانة فرنسا الفريدة في تاريخ المنطقة المعقد. هذا قرار يعتبره أخلاقياً وتاريخياً ويتنبأ بالمستقبل. السبب الثاني، أن ماكرون في نهاية ولايته التي ستنتهي في 2027، يبقى سياسياً في نهاية المطاف، وإعلانه غير موجه فقط للجالية المسلمة الكبيرة في الاتحاد الأوروبي التي تعيش في فرنسا، بل إلى كل الرأي العام الفرنسي الذي أصبح يميل لصالح الفلسطينيين بشكل متزايد. بسبب استمرار الحرب في غزة، بصورة أبعد من كل التنبؤات، ها هو المنحى قد تغير؛ فصور الأطفال الفلسطينيين الجائعين تملأ الشبكات الاجتماعية والصفحات الأولى في الصحف والقنوات الإخبارية في فرنسا، ويريد ماكرون أن يظهر في المقام الأول في الداخل، كمن يقوم بعمل حتى ولو كان رمزياً. بعد وقوفه إلى جانب إسرائيل في 7 أكتوبر، كان ماكرون هو الزعيم الأجنبي الوحيد الذي طالب بتشكيل تحالف دولي ضد حماس، لذا غير الرئيس الفرنسي توجهه بشكل واضح؛ هو الآن مصمم على الظهور بأن لفرنسا أداة ضغط على إسرائيل، وأن قلبها ليس فظاً تجاه معاناة الفلسطينيين. وباستثناء الجالية اليهودية التي ردت بخيبة أمل وباستثناء اليمين المتطرف (جزء منه وليس جميعه)، الذين انتقدوا ماكرون، فإن خطوته هذه تشكل إجماعاً في فرنسا وتمنحه دعماً من المعسكرات المختلفة. وثمة مبرر آخر للقرار، وهو مبرر دبلوماسي. ففرنسا الآن بعد وقت طويل من كونها دولة عظمى، لاعبة مؤثرة في الساحة الدولية. أمام التحدي الذي تضعه أيضاً أمامها ولاية ترامب الثانية، فإن الإعلان عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية يمكنها من إسماع صوت مختلف. يريد ماكرون بذلك ترسيخ مكانة فرنسا كمحور لسياسة دولية مختلفة عن سياسة الرئيس الأمريكي الانعزالية والاستفزازية. إضافة إلى ذلك، تسلح ماكرون قبل هذه الخطوة بدرع واق يتمثل بولي العهد السعودي محمد بن سلمان. مبادرة باريس تعرض كتعاون بين السعودية وفرنسا. ربما يتعرض الرئيس الفرنسي لوابل من الازدراء من قبل ترامب، لكن احتراماً لداعميه السعوديين الذين تعهدوا بضخ مئات المليارات في الاقتصاد الأمريكي، سيكون الرئيس الأمريكي أكثر حذراً. بهذا المعنى، لماكرون فرصة لا بأس بها في هذه الخطوة المنسقة، وليست إخطاراً فقط. إذا أدت إلى موجة اعتراف بالدولة الفلسطينية، ستسجل فرنسا لنفسها نجاحاً غير مسبوق في الساحة الدولية والادعاء 'كنا هناك أولاً'. في نهاية المطاف، تصعب رؤية رد على سياسة نتنياهو في قرار فرنسا، الذي أثبت بشكل واضح أنه لا ينوي وقف الحرب في غزة، وليكن ما يكون إلا إذا أمره ترامب بفعل ذلك. إسرائيل في عهد نتنياهو، عزلت نفسها بشكل متعمد عن الحلفاء والشركاء التجاريين والعلميين الرئيسيين لصالح حرب أبدية على أنقاض غزة. الأوروبيون والمصريون والسعوديون والحلفاء في الخليج، جميعهم توسلوا لإسرائيل لخلق 'اليوم التالي' في القطاع، الذي لا يرتكز إلى القوة فقط، بل إلى حل يوفر أفقاً للفلسطينيين. ولكن كل من له عقل يدرك أن بيبي وسموتريتش وبن غفير لا ينوون إجراء أي تحسين في ظروف حياة الفلسطينيين، مع بنية تعايش تحتية، وهو الحل المحتمل الوحيد، بل تدمير ما بقي من سلطة أبو مازن وحلم الترانسفير وريفييرا غزة. بناء على ذلك، قرر ماكرون الرد على هذا التحدي الذي يضعه تحالف نتنياهو والمتطرفين أمام المجتمع الدولي، وإثبات أن الدبلوماسية الدولية ليست فرعاً لمركز الليكود. جوقة الإدانات المعادية في إسرائيل وفرت الدليل على من يتعامل معه ماكرون. لقد كان فيها انشغال قليل بالجوهر وانشغال كثير بالصرخات الارتدادية على 'أسلمة' فرنسا، التي تقف كما يبدو من وراء هذا القرار. الإجابات المختلطة والمضحكة، من ماي غولان وحتى عميحاي شكلي، أثبتت بأن وزن إعلان ماكرون التاريخي ربما أكبر مما تحاول إسرائيل تسويقه. ميري ريغف حصلت على التاج، وكيف لا وهي التي تقول 'انظر إلى دولتك، باريس تظهر مثل كابول'. وزيرة المواصلات الأكثر فشلاً في تاريخ إسرائيل، معروفة كهاوية رحلات 'مهنية' في أرجاء العالم. وصلت إلى فرنسا في السابق. ويجدر أن تقضي نهاية الأسبوع في فرنسا، وتتعلم فيها شيئاً عن شبكة المواصلات العامة في العاصمة الفرنسية، التي هي من الشبكات المتطورة والودية في العالم. يجب قول الحقيقة: في ظل ريغف ونتنياهو وكل حكومة 7 أكتوبر، اقتربت إسرائيل من حالة كابول أكثر ما اقتربت إليها فرنسا، سواء من حيث الأمن أو التعليم والمواصلات أيضاً. هذا الأمر حتى ألف صرخة من صرخات 'اللاسامية' لن تغيره. سيفي هندلر 'يديعوت أحرونوت' 27/7/2025


العربي الجديد
منذ 2 أيام
- العربي الجديد
رؤية دنماركية: لحظة هيروشيما في غزة
في مقال تحليلي نُشر أمس الجمعة على موقع ( قدّم الكاتب والمؤلف الدنماركي جون غراوسغورد مقارنة لافتة بين قصف غزة اليوم وتفجير القنبلة الذرية في هيروشيما عام 1945، محذراً من أن الحروب الحديثة ، التي تدار عبر الذكاء الاصطناعي وأنظمة الأقمار الصناعية، ألغت كلياً التمييز بين الجندي والمدني. يرى غراوسغورد أن القنابل التقليدية التي تزود بها الولايات المتحدة حلفاءها، ومنها قنابل ضخمة تزن حوالي ألفي رطل زُوّدت بها إسرائيل ، تقترب في قدرتها التدميرية من "القنابل الذرية الصغيرة". ويؤكد أن غزة تحولت إلى ما يشبه "لحظة هيروشيما"، إذ أصبح اللامعقول أمراً اعتيادياً، و"قتل المدنيين باسم الضرورة العسكرية" امتدادٌ لإرث قديم يعيد إلى الأذهان مشاهد الإبادة من ناغازاكي وهيروشيما، مشدداً على أن من لا تروقه المقارنة يمكنه النظر إلى تدمير دريسدن وهامبورغ. الصورة دخان يتصاعد بعد قصف إسرائيلي على غزة، 24 يوليو 2025 (رويترز) وذكر الكاتب أن القنبلة التي ألقيت على هيروشيما قتلت 70 ألف شخص على الفور، و70 ألفاً آخرين لاحقاً. حينها، احتُفي بها بوصفها وسيلة "ضرورية" لإنهاء الحرب، رغم أنها أصبحت رمزاً للشر البشري. واليوم، بحسب غراوسغورد، تُستخدم الحجة ذاتها في تبرير المجازر في غزة: "لأننا نستطيع، سنفعل"، منبهاً إلى أن التكنولوجيا لم تجعل الحروب أقل دموية، بل زادت من فعاليتها التدميرية. أسلحة ذكية، طائرات مسيّرة، وبرمجيات تعتمد على الذكاء الاصطناعي، جميعها تُستخدم اليوم في غزة من دون اعتبار لتكلفة بشرية باهظة. ويتابع الكاتب: "اليوم، تواصل إسرائيل هذا النوع من الحرب الشاملة في غزة، حيث تحاول حركة مقاومة مسلحة الدفاع عن الأرض الفلسطينية ضد الاحتلال"، مؤكداً: "يكفي الاشتباه بوجود مقاوم في مبنى لتحويله إلى أنقاض... وجميع السكان ضحايا". ويضيف أن عمليات قصف قطاع غزة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي تُنفذ ضمن منطق "هيروشيما الجديد" الذي يدمر بشكل ممنهج من دون اعتبار المجتمع المدني "مقتنعين بأن القصف ضروري لأنّ الإمكانية التقنية موجودة"، وهذا ما يسميه "تعصباً تقنياً" يتم فيه اختبار أسلحة جديدة على بشر حقيقيين من دون شعور تجاه منفذيها أو بمن يدعمهم سياسياً. رصد التحديثات الحية شهادات جنود إسرائيليين لصحيفة دنماركية: أوامر بالقتل العشوائي يشير غراوسغورد إلى تحول الحرب إلى "مختبر" فعلي لاختبار أسلحة ذكية، تدمّر مناطق كاملة بسرعة مذهلة، فيما يتم تغييب العامل البشري عن اتخاذ القرار. ويستشهد بمقال للباحث الأميركي ويليام هارتونغ على موقع (TomDispatch)، يحذّر فيه من أن الأسلحة الموجهة بالذكاء الاصطناعي تتيح تدمير أهداف مدنية بسرعة غير مسبوقة، وتُسند قرارات القتل إلى خوارزميات مبرمجة مسبقاً. ويُسلط الكاتب الضوء على دور الشركات الأميركية الخاصة في هذا المسار، خصوصاً شركة "بالانتير" (Palantir)، المملوكة للملياردير بيتر ثيل، ورئيسها التنفيذي أليكس كارب. هذه الشركة، بحسب غراوسغورد، على علاقة وثيقة بالبنتاغون والحكومة الإسرائيلية، وتقدم تقنيات تُستخدم حالياً في استهداف الأحياء المدنية في غزة. ويستشهد بتصريح نُسب إلى كارب، مفاده أن الولايات المتحدة في حاجة إلى "مشروع مانهاتن جديد" لتطوير الذكاء الاصطناعي العسكري، يضمن سيطرة الغرب على "أسلحة القرن"، مثل أسراب الطائرات المسيّرة وأنظمة الاستهداف الآلي. يعتبر غراوسغورد أن هذه المقاربة تُعيد إنتاج عقلية عنصرية، ترى في شعوب العالم "الأدنى" مادة قابلة للإبادة. فكما لم يُبدِ الغرب في الحرب العالمية الثانية تعاطفاً كبيراً مع المدنيين اليابانيين كما فعل مع ضحايا جرائم النازية في أوروبا، يتجاهل اليوم ما يجري في غزة، متذرعاً باعتبارات أمنية أو تحالفات استراتيجية. ويضيف ساخراً: "حتى رائحة اللحم البشري المحترق لم تعد تزعج منفذي الضربات أو داعميهم السياسيين". إعلام وحريات التحديثات الحية صحيفة دنماركية تنشر صور أطفال غزة: "كي لا يقال لم نكن نعلم" في هذا السياق، يشير الكاتب إلى أن إسرائيل، وفق تقارير عدة، تستخدم أنظمة مثل "Habsora" لتحليل المعلومات وتسريع اتخاذ القرار في قصف الأهداف، ما يجعل العمليات أكثر "فعالية"، ولكن أقل مراعاة لأي بُعد إنساني. وأمام هذه الأتمتة المتوحشة للحرب، يحذر غراوسغورد من تلاشي الضمير الإنساني، ومن تحوّل الضحية إلى رقم في قاعدة بيانات حربية. ويختتم الكاتب باقتباس من المفكر الأميركي هنري جيرو، نشره في مجلة (Monthly Review)، قال فيه: "امتلاك المعرفة والنقد والاستعداد للنضال من أجل عالم أفضل يتطلب شجاعة هائلة... في مثل هذه الأوقات، وكما أشارت حنة أرندت، أصبح التفكير بحد ذاته مخاطرة". ثم يعلق غراوسغورد بأن غزة اليوم ليست فقط ميدان معركة، بل مرآة لعصر يختفي فيه الإنسان خلف لوغاريتمات القتل، وتصبح التكنولوجيا سلاح إبادة ممنهجاً.