logo
شكوك حول اعتراف أوروبا بفلسطين - إيطاليا تلغراف

شكوك حول اعتراف أوروبا بفلسطين - إيطاليا تلغراف

إيطاليا تلغراف
عريب الرنتاوي
كاتب ومحلل سياسي أردني
تسونامي مزدوج ضرب ساحة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بأعلى تدرجات 'ريختر' خلال الأسابيع القليلة الفائتة. اعترافات (أو وعود بالاعتراف) بالجملة والمفرق بالدولة الفلسطينية صدرت عن عواصم غربية وعالمية، معظمها من الرعاة الدائمين لإسرائيل ومشروعها الصهيوني في المنطقة، تزامنا مع موجة إدانات وتنديدات بجرائم الإبادة والتجويع والتطهير التي يمارسها الكيان الإسرائيلي ضد شعب فلسطين، بالأخص في قطاع غزة.
هذا تطور غير مسبوق منذ بدء الصراع قبل ثمانية عقود. هذا انقلاب إستراتيجي في المشهد سيكون له ما بعده في قادمات الأيام والمواجهات.
الاعترافات الغربية بالدولة الفلسطينية جاءت متأخرة جدا، وفي بعض الأحيان مثقلة بالشروط التي يصعب ابتلاعها وهضمها، ما حدا بكثير من المراقبين، فلسطينيين، ومن أنصارهم، للنظر إلى هذا التطور النوعي الهام، نظرة شك وريبة، بل واتهامات بنصب الكمائن والفخاخ، مستحضرين كل ما في 'نظرية المؤامرة' من مقولات وأدوات لتفسير الظاهرة، محذرين من مخاطرها الجمة على الشعب والقضية والحقوق والكفاح العادل والمشروع.
من جهتنا، نتفهم هذا الحذر وتلك المخاوف، وإن كنا لا نوافق على هذه القراءة.
خصوم المقاومة، على اختلاف مرجعياتهم ومشاربهم، نظروا باهتمام لهذا التطور، بيد أنهم لم يتوانوا لحظة واحدة عن نزع هذا الإنجاز عن المقاومة وطوفانها، وفضلوا رده إلى الكارثة الإنسانية التي حلت بالقطاع وأهله، وأحيانا إلى 'حنكتهم الدبلوماسية' التي لم تجلب نفعا ولم تدرأ ضرا، غير مترددين في ذروة التسونامي عن تدبيج بيانات الإدانة والتنديد بالسابع من أكتوبر/ تشرين الأول، مرددين صدى 'الاشتراطات' الغربية للاعتراف بفلسطين دولة مستقلة، باعتبار التقيد بها شرطا مسبقا لترجمة المنجز المتأتي عن الكارثة.
ينسى هؤلاء، عن سبق إصرار وترصد، أن غزة ومقاومتها هي حكاية التلازم الشرطي بين الكارثة والبطولة. فلولا ثبات المقاومة وصمودها، وقدرتها على إدارة حرب السنتين كما لم تفعل الجيوش العربية مجتمعة، ولولا الهستيريا التي تسببت بها للجيش والأمن والمستوى السياسي، لما أمكن لمفاعيل الطوفان أن تأخذ مجراها، ولما أمكن استحداث كل هذه التحولات في الرأي العام العالمي الذي أخذ ينعكس على مواقف الأنظمة والحكومات والبرلمانات.
نسي هؤلاء أو تناسوا أن ما أنجزه الفعل المقاوم خلال أقل من عامين، عجزت عن إنجازه مئات المؤتمرات والمبادرات والقرارات الدولية والمرجعيات التي شكلت ملامح ما أُسمي ذات يوم بـ'عملية السلام'، طوال سنوات وعقود.
أما حكاية الكارثة، وبلوغها ذرى غير مسبوقة على امتداد التاريخ والجغرافيا، فينسى 'العقلانيون الجدد' في عالمنا العربي، أن وزرها إنما يقع على كاهل عجزهم وتواطئهم وفشلهم حتى في إدخال لقمة طعام أو شربة ماء لغزة من دون 'إذن إسرائيلي مسبق'، وغالبا بعد معاناة وطول انتظار مذل.
ما كان لهذه الكارثة أن تطول وتستطيل، لو أن قرابة 'الدزينتين' من الدول العربية قررت الالتزام بالحد الأدنى من مواثيق العمل العربي المشترك، ولوحت بما في حوزتها من أدوات قوة وضغط سياسية ودبلوماسية واقتصادية على أقل تقدير.
أيا يكن الأمر، فإن تسونامي الاعترافات بالدولة الفلسطينية لا يجوز أن يُقرأ بعين التهوين أو التهويل. فهذا التسونامي، من جهة، هو الوجه الآخر لتسونامي الإدانة والتنديد بالفاشيين الجدد، وهو يؤسس سياسيا ومعنويا وقانونيا لمشروع قيام الدولة بما هي تجسيد للكيانية الوطنية الفلسطينية.
أما الحذر من مغبة انصياع فلسطينيين للائحة الشروط المسبقة الثقيلة للاعتراف، فلا يجوز أن يحجب عن ناظرينا أن ثمة منجزا يتحقق أمامنا، وبأسرع مما كنا نظن.
أما لعبة 'التهويل' و'التطبيل' و'التزمير' لهذا المنجز، التي ينخرط فيها خصوصا أنصار نظرية 'الدولة على مرمى حجر'، فهؤلاء لا يتعين الالتفات كثيرا لمواقفهم وصياحهم، فهم سبق أن أسبغوا على 'سلطة لا سلطة لها' صفة الدولة، وظنوا أن فرش البساط الأحمر واستعراض حرس الشرف على مداخل مقراتهم قد مكنهم من قطع أكثر من نصف الطريق نحو الدولة، مع أن مساحة سلطتهم في تناقص مستمر، وتتناقص معها مظاهر هيبتهم وسيادتهم على رقعتهم الصغيرة في عاصمتهم المؤقتة.
الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية لا تعني بالضرورة قيام هذه الدولة، أو أنها باتت قاب قوسين أو أدنى. تلكم مهمة كفاحية قد تحتاج سنوات وعقودا. تلكم قضية كفاح ستحتاج إلى نقل الراية من جيل إلى جيل.
فنحن هنا نتعامل مع كيان: دولةٍ ومجتمع، ينجرف بتسارع مدهش نحو التوحش والفاشية، وإلى أن يتآكل بفعل عناصر التسوس من الداخل أو بفعل الضربات من الخارج، أو كليهما معا، فإن زمنا صعبا ومكلفا سيمر على الفلسطينيين وحلفائهم وأنصارهم.
من حقنا أن ننظر بكثير من الشك والريبة لمواقف فرنسا، وبريطانيا (وألمانيا التي ما زالت خلفهما) المحملة بالشروط المسبقة: الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، انتخابات بلا حماس، نزع سلاح المقاومة، إصلاحات في السلطة تنزع عنها أي ملمح وطني، وتنزع عن شعبها ذاكرته التاريخية الجمعية.
من حقنا أن نقلق من النوايا الخبيئة والخبيثة الكامنة وراء أكمة الاشتراطات المذلة هذه، ولكن من واجبنا أن نرفضها، وأن نتمسك بما هو حق لنا، وأن نذكر هؤلاء أنهم يقيمون أفضل العلاقات مع حكومة مجرمي الحرب، المتهمين بالتطهير والإبادة وفرض المجاعة على أطفال غزة ونسائها.
من حقنا أن نسائلهم عما تبقى لهم من قيم وضمائر، وهم يرون أمثال بن غفير وسموتريتش يجلسون على مقاعد حكومة يقيمون معها أوثق العلاقات، وما زالوا يزودونها بما تحتاج إليه من أسلحة وذخائر.
لكن قبل أن نسائل هؤلاء، علينا أن نسائل الفريق المتنفذ في رام الله، وهو الذي يبدو بغير حاجة لمن يقنعه أو يضغط عليه للقبول بهذه الاشتراطات المذلة.
فهذا الفريق يروج منذ سنين لتجريد المقاومة من سلاحها، وهو أتبع القول بالفعل في جنين وطولكرم وفي عموم الضفة الغربية، وهو يصدر مرسوما رئاسيا مفخخا، استبق به مطالب المستشار الألماني، بإجراء انتخابات بلا حماس ولا فصائل مقاومة، انتخابات من لون واحد، ينافس فيها فريق أوسلو نفسه على مقاعد المجلس الوطني، وربما نرى أمرا مماثلا حال جرت انتخابات رئاسية وتشريعية، كأن تنحصر المنافسة على مقعد الرئاسة بين محمود عباس و'أبو مازن'.
هنا مكمن الخطر وعلة العلل، هنا الثغرة و'حصان طروادة' التي يسعى كارهو الشعب ومقاومته للنفاذ من خلالها، لتمرير بعض من أجنداتهم السوداء.
وهنا بالذات، يتعين أن تنصب الجهود وتتوحد، لسد الثغرات قبل رص الصفوف، فمثلما كان أداء السلطة 'كعب أخيل' حرب السنتين الفائتتين، فإن استمرار هيمنة هذا الفريق وتفرده بمقاليد السلطة والقرار و'الشرعية'، هو 'كعب أخيل' الجولة السياسية والدبلوماسية القادمة، والرامية إلى تخليص 'الاعترافات بفلسطين' مما علق بها من شروط ومطالب إسرائيلية بامتياز، حتى وإن جاءت بلسان ألماني أو فرنسي أو إنجليزي مبين.
الاحتفاء بتسونامي الاعتراف والإدانة المزدوج يجب ألا يبدد الحذر والانتباه، فنحن قد نكون بإزاء 'جُحر' جديد لطالما لُدغنا منه مرات ومرات، كأن يُطلب منا دفع الثمن كاملا، مسبقا ومقدما، فيما تسليم 'البضاعة' ما زال مرجأ، وبالتقسيط الممل. أو أن يُطلب قطع رأس المقاومة، والهرولة للاعتراف بيهودية الدولة العبرية والتطبيع معها، على أمل أن تكون هناك دولة فلسطينية ذات يوم، ومن دون أن يكلف 'القوم' أنفسهم عناء 'التفصيل' في موضوع الدولة، لا من حيث حدودها وسيادتها وعاصمتها، ولا من حيث الإجابة عن سؤال: من هم مواطنو هذه الدولة العتيدة؟
لكأننا أمام محاولة لـ'تدويل' شعار محلي لحكومة عبدالكريم الكباريتي زمن أزمة أسعار الخبز في الأردن: 'الدفع قبل الرفع'، فيراد من الفلسطينيين دفع الأثمان الباهظة لكيان الاحتلال والعنصرية والإبادة، قبل أن تُرفع القيود و'الفيتوهات' عن الاعتراف بدولتهم. دع عنك حكاية تجسيد هذه الدولة واقعا ناجزا على الأرض، فتلكم حكاية أخرى، لها ما 'يليق' بها من سياقات واشتراطات.
في حرب عنوانها: 'الفوز بالنقاط'، وليس بالضربة القاضية الفنية، يُحرز الفلسطينيون تقدما ملموسا، تعترف به إسرائيل وأقرب أصدقائها المخلصين، وينكره فريق منهم وبعض أشقائهم، برغم الكلفة الإنسانية المروعة التي يتكبدونها.
والأرجح أنهم سيكونون في مكانة أفضل، وهم يتحضرون لخوض جولات ومعارك جديدة من هذه الحرب، نعرف أنها آتية حتما، وإن كنا نجهل متى وكيف وبأي أدوات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

هذا هو سبب البلاء
هذا هو سبب البلاء

إيطاليا تلغراف

timeمنذ 11 ساعات

  • إيطاليا تلغراف

هذا هو سبب البلاء

الدكتور فيصل القاسم نشر في 8 أغسطس 2025 الساعة 23 و 18 دقيقة إيطاليا تلغراف د. فيصل القاسم كاتب واعلامي سوري الجهل ليس نقصاً في المعرفة، بل هو سلاح فتاك، والتعصب ليس مجرد انحياز، بل هو أداة قتل جماعي. حين يجتمع الاثنان في مجتمع، يصبح الطريق إلى الخراب أقصر من رمشة عين، ويصبح الشعب هو من يهدم بيته بيديه، بينما الطغاة يصفقون من أبراجهم العالية. لا ينهض شعب يرزح تحت الجهل، ولا يعيش شعب متعصب إلا في حرب دائمة. الجهل يحرمك من رؤية عدوك الحقيقي، والتعصب يجعلك تعتقد أن أخاك في الوطن هو العدو الذي يجب سحقه. كيف يحكمك الطغاة؟ حين تهتز العروش، لا يهرع المستبد إلى معالجة الفقر أو كبح الفساد أو إصلاح التعليم، بل يفتح خزائنه السوداء ويخرج منها أقدم أسلحته وأكثرها خبثاً: الفتنة الداخلية. تتحرك ماكينة الإعلام المأجورة، ويعلو صوت المنابر والمنصات والمواقع المشبوهة، وتبدأ رسائل الكراهية تغزو العقول. فجأة، العدو لم يعد الفقر ولا البطالة ولا النهب… بل «الطائفة الأخرى» أو «الأقلية الخائنة» أو «المؤامرة الخارجية». وهكذا ينشغل الشعب بقتال نفسه، بينما النظام يزداد قوة وبطشاً وثروة وفساداً وتمدداً وتجذراً وطغياناً. هناك أمثلة عربية وأجنبية كثيرة على خراب الجهل والتعصب: العراق بعد 2003، تحوّل من بلد الحضارات إلى مسرح لاقتتال طائفي دموي. السياسيون غذّوا الانقسام بين السنة والشيعة والأكراد، حتى صار الانتماء الطائفي أهم من الانتماء للوطن، بينما مليارات الدولارات نُهبت بلا حسيب. سوريا: انتفاضة شعبية تحولت إلى حرب شاملة، لأن النظام لعب على وتر الطائفية، وأطلق العنان للجماعات المتطرفة، فتحول الصراع من حرية وكرامة إلى حرب أهلية، والنتيجة: نصف البلد دُمّر، وملايين شُرّدوا، والطغاة جلسوا على طاولة المفاوضات يتاجرون بالدماء والدمار. وبدل أن ينتقل السوريون بعد سقوط النظام إلى عهد جديد قائم على المواطنة، فقد عادوا إلى المربع الأول ليذبحوا بعضهم بعضاً على الهوية الطائفية. لقد عمل النظام الأسدي الساقط لعقود على استثمار التعصب والجهل لدى السوريين كي يعيش على تناقضاتهم وتناحرهم. وقد نجح نجاحاً باهراً، لكن السوريين لم يتعلموا الدرس بعد سقوط النظام، بل استمروا يطبقون وصفته القاتلة القائمة على التعصب والتمترس الطائفي. وقد شاهدنا المذابح والمجازر الرهيبة في الساحل والسوري والسويداء التي اقترفها المتعصبون الهمج الجهلة على أسس طائفية. لبنان: بلد قائم على المحاصصة الطائفية، وكلما اهتزت الكراسي تحت أحد الزعماء، لجأ إلى خطاب «الخطر الوجودي» على طائفته، ليحشد الأتباع ويستمر في نهب الدولة. رواندا 1994: السلطة غذّت الكراهية بين قبيلتي الهوتو والتوتسي لسنوات عبر الإعلام، حتى وقعت الإبادة الجماعية، حيث قُتل قرابة مليون إنسان خلال 100 يوم، فقط لأنهم من «القبيلة الخطأ» ألمانيا النازية: هتلر وصل إلى الحكم عبر استثمار جهل الجماهير وتعصبها القومي، فأشعل حرباً عالمية قتلت عشرات الملايين، بينما كان يصوّر نفسه مخلّص الأمة. العصور الوسطى في أوروبا: الكنيسة والملوك حاربوا التعليم والفكر النقدي، لأن الشعب المتعلم خطر على سلطتهم، أما الشعب الجاهل فكان يطيع دون سؤال، حتى لو أُرسل للحروب الصليبية ليموت في أرض لا يعرفها. لماذا يكرّس الطغاة الجهل؟ لأن المجتمع الجاهل هو المجتمع الأسهل في السيطرة والانقياد الأعمى. الجاهل لا يعرف حقوقه، فلا يطالب بها. المتعصب مستعد للموت من أجل «قضيته» حتى لو كانت في حقيقتها خدمة لزعيم فاسد قاتل منحط وسافل. لهذا يقتل الطغاة التعليم ويحوّلونه إلى تلقين أجوف، ويخنقون الإعلام الحر ليستبدلوه بآلة بروباغندا، ويستثمرون في تديين السياسة أو تسييس الدين حتى تصبح كل معارضة «كفراً» أو «خيانة». وهناك رسالة منسوبة للرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة موجهة للزعيم الليبي الراحل معمر القذافي حول التعليم والجهل تقول ما يلي: بورقيبة سأله ذات يوم: «لماذا تستثمر أموالك في السلاح ولا تستثمرها في التعليم؟» أجاب القذافي: «أخشى أن يثور الشعب عليّ في يوم من الأيام.» فرد بورقيبة: «يثور عليك شعب مثقّف أفضل من أن يثور عليك شعب جاهل». هذه المقولة تلخص رؤية بورقيبة بضرورة الاستثمار في التعليم والتهذيب والتثقيف الكانطية لا في الجهل والتعصب كحماية للحكم، وفي المقابل، تصور القذافي أن الشعب المتعلم قد يشكّل تهديداً له. وقد رأينا الطريقة التي قضى فيها القذافي على أيدي الليبيين. ولا داعي للشرح. لا يمكن لشعب أن ينهض أو يبني مستقبلاً وهو مكبل بقيود الجهل وأغلال التعصب؛ سيظل غارقاً في التخلف، يتناحر ويتصارع حتى يفنى. وحدها الدول القوية الواعية قادرة على تحرير شعوبها من هذين الوباءين الذين استثمر بهما القذافي وغيره من طغاة العرب. وقد شاهدنا على مدار التاريخ الحديث الحقيقة المرة وهي أن الطاغية لا يحكم بمفرده… بل يحكم بجيوش من الجهلاء والمتعصبين الذين يدافعون عنه أكثر مما يدافع هو عن نفسه. هؤلاء هم الوقود الحقيقي لدوام حكمه، وهم السبب في أن بلادنا تتحول لعقود إلى خرائب، بينما يخرج علينا الحاكم ليحدثنا عن «الانتصارات» و»المؤامرات». إلى الشعوب قبل الطغاة. لن يأتيك الخلاص من فوق. الطاغية لا يحررك، لأنه هو من كبّلك. التحرر يبدأ من عقلك: أن تكسر قيود الجهل، أن ترفض الانجرار خلف أي دعوة للتعصب ومعاداة الآخر المختلف عنك ثقافياً واجتماعياً وطائفياً ومذهبياً ودينياً، وأن تضع مصلحة الوطن فوق مصلحة الطائفة أو القبيلة أو العشيرة أو الحزب أو الزعيم. إذا لم تفعل، فلا تلوم إلا نفسك حين تموت وأنت تقاتل شقيقك ونظيرك في الخلق، بينما أعداؤكم الحقيقيون يشربون نخب انتصار جديد من على عروشهم الدموية في قصورهم الفخمة. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف التالي هل أفسدت حماس خطط نتنياهو؟

شكوك حول اعتراف أوروبا بفلسطين
شكوك حول اعتراف أوروبا بفلسطين

إيطاليا تلغراف

timeمنذ 3 أيام

  • إيطاليا تلغراف

شكوك حول اعتراف أوروبا بفلسطين

إيطاليا تلغراف عريب الرنتاوي كاتب ومحلل سياسي أردني تسونامي مزدوج ضرب ساحة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بأعلى تدرجات 'ريختر' خلال الأسابيع القليلة الفائتة. اعترافات (أو وعود بالاعتراف) بالجملة والمفرق بالدولة الفلسطينية صدرت عن عواصم غربية وعالمية، معظمها من الرعاة الدائمين لإسرائيل ومشروعها الصهيوني في المنطقة، تزامنا مع موجة إدانات وتنديدات بجرائم الإبادة والتجويع والتطهير التي يمارسها الكيان الإسرائيلي ضد شعب فلسطين، بالأخص في قطاع غزة. هذا تطور غير مسبوق منذ بدء الصراع قبل ثمانية عقود. هذا انقلاب إستراتيجي في المشهد سيكون له ما بعده في قادمات الأيام والمواجهات. الاعترافات الغربية بالدولة الفلسطينية جاءت متأخرة جدا، وفي بعض الأحيان مثقلة بالشروط التي يصعب ابتلاعها وهضمها، ما حدا بكثير من المراقبين، فلسطينيين، ومن أنصارهم، للنظر إلى هذا التطور النوعي الهام، نظرة شك وريبة، بل واتهامات بنصب الكمائن والفخاخ، مستحضرين كل ما في 'نظرية المؤامرة' من مقولات وأدوات لتفسير الظاهرة، محذرين من مخاطرها الجمة على الشعب والقضية والحقوق والكفاح العادل والمشروع. من جهتنا، نتفهم هذا الحذر وتلك المخاوف، وإن كنا لا نوافق على هذه القراءة. خصوم المقاومة، على اختلاف مرجعياتهم ومشاربهم، نظروا باهتمام لهذا التطور، بيد أنهم لم يتوانوا لحظة واحدة عن نزع هذا الإنجاز عن المقاومة وطوفانها، وفضلوا رده إلى الكارثة الإنسانية التي حلت بالقطاع وأهله، وأحيانا إلى 'حنكتهم الدبلوماسية' التي لم تجلب نفعا ولم تدرأ ضرا، غير مترددين في ذروة التسونامي عن تدبيج بيانات الإدانة والتنديد بالسابع من أكتوبر/ تشرين الأول، مرددين صدى 'الاشتراطات' الغربية للاعتراف بفلسطين دولة مستقلة، باعتبار التقيد بها شرطا مسبقا لترجمة المنجز المتأتي عن الكارثة. ينسى هؤلاء، عن سبق إصرار وترصد، أن غزة ومقاومتها هي حكاية التلازم الشرطي بين الكارثة والبطولة. فلولا ثبات المقاومة وصمودها، وقدرتها على إدارة حرب السنتين كما لم تفعل الجيوش العربية مجتمعة، ولولا الهستيريا التي تسببت بها للجيش والأمن والمستوى السياسي، لما أمكن لمفاعيل الطوفان أن تأخذ مجراها، ولما أمكن استحداث كل هذه التحولات في الرأي العام العالمي الذي أخذ ينعكس على مواقف الأنظمة والحكومات والبرلمانات. نسي هؤلاء أو تناسوا أن ما أنجزه الفعل المقاوم خلال أقل من عامين، عجزت عن إنجازه مئات المؤتمرات والمبادرات والقرارات الدولية والمرجعيات التي شكلت ملامح ما أُسمي ذات يوم بـ'عملية السلام'، طوال سنوات وعقود. أما حكاية الكارثة، وبلوغها ذرى غير مسبوقة على امتداد التاريخ والجغرافيا، فينسى 'العقلانيون الجدد' في عالمنا العربي، أن وزرها إنما يقع على كاهل عجزهم وتواطئهم وفشلهم حتى في إدخال لقمة طعام أو شربة ماء لغزة من دون 'إذن إسرائيلي مسبق'، وغالبا بعد معاناة وطول انتظار مذل. ما كان لهذه الكارثة أن تطول وتستطيل، لو أن قرابة 'الدزينتين' من الدول العربية قررت الالتزام بالحد الأدنى من مواثيق العمل العربي المشترك، ولوحت بما في حوزتها من أدوات قوة وضغط سياسية ودبلوماسية واقتصادية على أقل تقدير. أيا يكن الأمر، فإن تسونامي الاعترافات بالدولة الفلسطينية لا يجوز أن يُقرأ بعين التهوين أو التهويل. فهذا التسونامي، من جهة، هو الوجه الآخر لتسونامي الإدانة والتنديد بالفاشيين الجدد، وهو يؤسس سياسيا ومعنويا وقانونيا لمشروع قيام الدولة بما هي تجسيد للكيانية الوطنية الفلسطينية. أما الحذر من مغبة انصياع فلسطينيين للائحة الشروط المسبقة الثقيلة للاعتراف، فلا يجوز أن يحجب عن ناظرينا أن ثمة منجزا يتحقق أمامنا، وبأسرع مما كنا نظن. أما لعبة 'التهويل' و'التطبيل' و'التزمير' لهذا المنجز، التي ينخرط فيها خصوصا أنصار نظرية 'الدولة على مرمى حجر'، فهؤلاء لا يتعين الالتفات كثيرا لمواقفهم وصياحهم، فهم سبق أن أسبغوا على 'سلطة لا سلطة لها' صفة الدولة، وظنوا أن فرش البساط الأحمر واستعراض حرس الشرف على مداخل مقراتهم قد مكنهم من قطع أكثر من نصف الطريق نحو الدولة، مع أن مساحة سلطتهم في تناقص مستمر، وتتناقص معها مظاهر هيبتهم وسيادتهم على رقعتهم الصغيرة في عاصمتهم المؤقتة. الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية لا تعني بالضرورة قيام هذه الدولة، أو أنها باتت قاب قوسين أو أدنى. تلكم مهمة كفاحية قد تحتاج سنوات وعقودا. تلكم قضية كفاح ستحتاج إلى نقل الراية من جيل إلى جيل. فنحن هنا نتعامل مع كيان: دولةٍ ومجتمع، ينجرف بتسارع مدهش نحو التوحش والفاشية، وإلى أن يتآكل بفعل عناصر التسوس من الداخل أو بفعل الضربات من الخارج، أو كليهما معا، فإن زمنا صعبا ومكلفا سيمر على الفلسطينيين وحلفائهم وأنصارهم. من حقنا أن ننظر بكثير من الشك والريبة لمواقف فرنسا، وبريطانيا (وألمانيا التي ما زالت خلفهما) المحملة بالشروط المسبقة: الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، انتخابات بلا حماس، نزع سلاح المقاومة، إصلاحات في السلطة تنزع عنها أي ملمح وطني، وتنزع عن شعبها ذاكرته التاريخية الجمعية. من حقنا أن نقلق من النوايا الخبيئة والخبيثة الكامنة وراء أكمة الاشتراطات المذلة هذه، ولكن من واجبنا أن نرفضها، وأن نتمسك بما هو حق لنا، وأن نذكر هؤلاء أنهم يقيمون أفضل العلاقات مع حكومة مجرمي الحرب، المتهمين بالتطهير والإبادة وفرض المجاعة على أطفال غزة ونسائها. من حقنا أن نسائلهم عما تبقى لهم من قيم وضمائر، وهم يرون أمثال بن غفير وسموتريتش يجلسون على مقاعد حكومة يقيمون معها أوثق العلاقات، وما زالوا يزودونها بما تحتاج إليه من أسلحة وذخائر. لكن قبل أن نسائل هؤلاء، علينا أن نسائل الفريق المتنفذ في رام الله، وهو الذي يبدو بغير حاجة لمن يقنعه أو يضغط عليه للقبول بهذه الاشتراطات المذلة. فهذا الفريق يروج منذ سنين لتجريد المقاومة من سلاحها، وهو أتبع القول بالفعل في جنين وطولكرم وفي عموم الضفة الغربية، وهو يصدر مرسوما رئاسيا مفخخا، استبق به مطالب المستشار الألماني، بإجراء انتخابات بلا حماس ولا فصائل مقاومة، انتخابات من لون واحد، ينافس فيها فريق أوسلو نفسه على مقاعد المجلس الوطني، وربما نرى أمرا مماثلا حال جرت انتخابات رئاسية وتشريعية، كأن تنحصر المنافسة على مقعد الرئاسة بين محمود عباس و'أبو مازن'. هنا مكمن الخطر وعلة العلل، هنا الثغرة و'حصان طروادة' التي يسعى كارهو الشعب ومقاومته للنفاذ من خلالها، لتمرير بعض من أجنداتهم السوداء. وهنا بالذات، يتعين أن تنصب الجهود وتتوحد، لسد الثغرات قبل رص الصفوف، فمثلما كان أداء السلطة 'كعب أخيل' حرب السنتين الفائتتين، فإن استمرار هيمنة هذا الفريق وتفرده بمقاليد السلطة والقرار و'الشرعية'، هو 'كعب أخيل' الجولة السياسية والدبلوماسية القادمة، والرامية إلى تخليص 'الاعترافات بفلسطين' مما علق بها من شروط ومطالب إسرائيلية بامتياز، حتى وإن جاءت بلسان ألماني أو فرنسي أو إنجليزي مبين. الاحتفاء بتسونامي الاعتراف والإدانة المزدوج يجب ألا يبدد الحذر والانتباه، فنحن قد نكون بإزاء 'جُحر' جديد لطالما لُدغنا منه مرات ومرات، كأن يُطلب منا دفع الثمن كاملا، مسبقا ومقدما، فيما تسليم 'البضاعة' ما زال مرجأ، وبالتقسيط الممل. أو أن يُطلب قطع رأس المقاومة، والهرولة للاعتراف بيهودية الدولة العبرية والتطبيع معها، على أمل أن تكون هناك دولة فلسطينية ذات يوم، ومن دون أن يكلف 'القوم' أنفسهم عناء 'التفصيل' في موضوع الدولة، لا من حيث حدودها وسيادتها وعاصمتها، ولا من حيث الإجابة عن سؤال: من هم مواطنو هذه الدولة العتيدة؟ لكأننا أمام محاولة لـ'تدويل' شعار محلي لحكومة عبدالكريم الكباريتي زمن أزمة أسعار الخبز في الأردن: 'الدفع قبل الرفع'، فيراد من الفلسطينيين دفع الأثمان الباهظة لكيان الاحتلال والعنصرية والإبادة، قبل أن تُرفع القيود و'الفيتوهات' عن الاعتراف بدولتهم. دع عنك حكاية تجسيد هذه الدولة واقعا ناجزا على الأرض، فتلكم حكاية أخرى، لها ما 'يليق' بها من سياقات واشتراطات. في حرب عنوانها: 'الفوز بالنقاط'، وليس بالضربة القاضية الفنية، يُحرز الفلسطينيون تقدما ملموسا، تعترف به إسرائيل وأقرب أصدقائها المخلصين، وينكره فريق منهم وبعض أشقائهم، برغم الكلفة الإنسانية المروعة التي يتكبدونها. والأرجح أنهم سيكونون في مكانة أفضل، وهم يتحضرون لخوض جولات ومعارك جديدة من هذه الحرب، نعرف أنها آتية حتما، وإن كنا نجهل متى وكيف وبأي أدوات. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف

شكوك حول اعتراف أوروبا بفلسطين - إيطاليا تلغراف
شكوك حول اعتراف أوروبا بفلسطين - إيطاليا تلغراف

إيطاليا تلغراف

timeمنذ 3 أيام

  • إيطاليا تلغراف

شكوك حول اعتراف أوروبا بفلسطين - إيطاليا تلغراف

إيطاليا تلغراف عريب الرنتاوي كاتب ومحلل سياسي أردني تسونامي مزدوج ضرب ساحة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بأعلى تدرجات 'ريختر' خلال الأسابيع القليلة الفائتة. اعترافات (أو وعود بالاعتراف) بالجملة والمفرق بالدولة الفلسطينية صدرت عن عواصم غربية وعالمية، معظمها من الرعاة الدائمين لإسرائيل ومشروعها الصهيوني في المنطقة، تزامنا مع موجة إدانات وتنديدات بجرائم الإبادة والتجويع والتطهير التي يمارسها الكيان الإسرائيلي ضد شعب فلسطين، بالأخص في قطاع غزة. هذا تطور غير مسبوق منذ بدء الصراع قبل ثمانية عقود. هذا انقلاب إستراتيجي في المشهد سيكون له ما بعده في قادمات الأيام والمواجهات. الاعترافات الغربية بالدولة الفلسطينية جاءت متأخرة جدا، وفي بعض الأحيان مثقلة بالشروط التي يصعب ابتلاعها وهضمها، ما حدا بكثير من المراقبين، فلسطينيين، ومن أنصارهم، للنظر إلى هذا التطور النوعي الهام، نظرة شك وريبة، بل واتهامات بنصب الكمائن والفخاخ، مستحضرين كل ما في 'نظرية المؤامرة' من مقولات وأدوات لتفسير الظاهرة، محذرين من مخاطرها الجمة على الشعب والقضية والحقوق والكفاح العادل والمشروع. من جهتنا، نتفهم هذا الحذر وتلك المخاوف، وإن كنا لا نوافق على هذه القراءة. خصوم المقاومة، على اختلاف مرجعياتهم ومشاربهم، نظروا باهتمام لهذا التطور، بيد أنهم لم يتوانوا لحظة واحدة عن نزع هذا الإنجاز عن المقاومة وطوفانها، وفضلوا رده إلى الكارثة الإنسانية التي حلت بالقطاع وأهله، وأحيانا إلى 'حنكتهم الدبلوماسية' التي لم تجلب نفعا ولم تدرأ ضرا، غير مترددين في ذروة التسونامي عن تدبيج بيانات الإدانة والتنديد بالسابع من أكتوبر/ تشرين الأول، مرددين صدى 'الاشتراطات' الغربية للاعتراف بفلسطين دولة مستقلة، باعتبار التقيد بها شرطا مسبقا لترجمة المنجز المتأتي عن الكارثة. ينسى هؤلاء، عن سبق إصرار وترصد، أن غزة ومقاومتها هي حكاية التلازم الشرطي بين الكارثة والبطولة. فلولا ثبات المقاومة وصمودها، وقدرتها على إدارة حرب السنتين كما لم تفعل الجيوش العربية مجتمعة، ولولا الهستيريا التي تسببت بها للجيش والأمن والمستوى السياسي، لما أمكن لمفاعيل الطوفان أن تأخذ مجراها، ولما أمكن استحداث كل هذه التحولات في الرأي العام العالمي الذي أخذ ينعكس على مواقف الأنظمة والحكومات والبرلمانات. نسي هؤلاء أو تناسوا أن ما أنجزه الفعل المقاوم خلال أقل من عامين، عجزت عن إنجازه مئات المؤتمرات والمبادرات والقرارات الدولية والمرجعيات التي شكلت ملامح ما أُسمي ذات يوم بـ'عملية السلام'، طوال سنوات وعقود. أما حكاية الكارثة، وبلوغها ذرى غير مسبوقة على امتداد التاريخ والجغرافيا، فينسى 'العقلانيون الجدد' في عالمنا العربي، أن وزرها إنما يقع على كاهل عجزهم وتواطئهم وفشلهم حتى في إدخال لقمة طعام أو شربة ماء لغزة من دون 'إذن إسرائيلي مسبق'، وغالبا بعد معاناة وطول انتظار مذل. ما كان لهذه الكارثة أن تطول وتستطيل، لو أن قرابة 'الدزينتين' من الدول العربية قررت الالتزام بالحد الأدنى من مواثيق العمل العربي المشترك، ولوحت بما في حوزتها من أدوات قوة وضغط سياسية ودبلوماسية واقتصادية على أقل تقدير. أيا يكن الأمر، فإن تسونامي الاعترافات بالدولة الفلسطينية لا يجوز أن يُقرأ بعين التهوين أو التهويل. فهذا التسونامي، من جهة، هو الوجه الآخر لتسونامي الإدانة والتنديد بالفاشيين الجدد، وهو يؤسس سياسيا ومعنويا وقانونيا لمشروع قيام الدولة بما هي تجسيد للكيانية الوطنية الفلسطينية. أما الحذر من مغبة انصياع فلسطينيين للائحة الشروط المسبقة الثقيلة للاعتراف، فلا يجوز أن يحجب عن ناظرينا أن ثمة منجزا يتحقق أمامنا، وبأسرع مما كنا نظن. أما لعبة 'التهويل' و'التطبيل' و'التزمير' لهذا المنجز، التي ينخرط فيها خصوصا أنصار نظرية 'الدولة على مرمى حجر'، فهؤلاء لا يتعين الالتفات كثيرا لمواقفهم وصياحهم، فهم سبق أن أسبغوا على 'سلطة لا سلطة لها' صفة الدولة، وظنوا أن فرش البساط الأحمر واستعراض حرس الشرف على مداخل مقراتهم قد مكنهم من قطع أكثر من نصف الطريق نحو الدولة، مع أن مساحة سلطتهم في تناقص مستمر، وتتناقص معها مظاهر هيبتهم وسيادتهم على رقعتهم الصغيرة في عاصمتهم المؤقتة. الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية لا تعني بالضرورة قيام هذه الدولة، أو أنها باتت قاب قوسين أو أدنى. تلكم مهمة كفاحية قد تحتاج سنوات وعقودا. تلكم قضية كفاح ستحتاج إلى نقل الراية من جيل إلى جيل. فنحن هنا نتعامل مع كيان: دولةٍ ومجتمع، ينجرف بتسارع مدهش نحو التوحش والفاشية، وإلى أن يتآكل بفعل عناصر التسوس من الداخل أو بفعل الضربات من الخارج، أو كليهما معا، فإن زمنا صعبا ومكلفا سيمر على الفلسطينيين وحلفائهم وأنصارهم. من حقنا أن ننظر بكثير من الشك والريبة لمواقف فرنسا، وبريطانيا (وألمانيا التي ما زالت خلفهما) المحملة بالشروط المسبقة: الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، انتخابات بلا حماس، نزع سلاح المقاومة، إصلاحات في السلطة تنزع عنها أي ملمح وطني، وتنزع عن شعبها ذاكرته التاريخية الجمعية. من حقنا أن نقلق من النوايا الخبيئة والخبيثة الكامنة وراء أكمة الاشتراطات المذلة هذه، ولكن من واجبنا أن نرفضها، وأن نتمسك بما هو حق لنا، وأن نذكر هؤلاء أنهم يقيمون أفضل العلاقات مع حكومة مجرمي الحرب، المتهمين بالتطهير والإبادة وفرض المجاعة على أطفال غزة ونسائها. من حقنا أن نسائلهم عما تبقى لهم من قيم وضمائر، وهم يرون أمثال بن غفير وسموتريتش يجلسون على مقاعد حكومة يقيمون معها أوثق العلاقات، وما زالوا يزودونها بما تحتاج إليه من أسلحة وذخائر. لكن قبل أن نسائل هؤلاء، علينا أن نسائل الفريق المتنفذ في رام الله، وهو الذي يبدو بغير حاجة لمن يقنعه أو يضغط عليه للقبول بهذه الاشتراطات المذلة. فهذا الفريق يروج منذ سنين لتجريد المقاومة من سلاحها، وهو أتبع القول بالفعل في جنين وطولكرم وفي عموم الضفة الغربية، وهو يصدر مرسوما رئاسيا مفخخا، استبق به مطالب المستشار الألماني، بإجراء انتخابات بلا حماس ولا فصائل مقاومة، انتخابات من لون واحد، ينافس فيها فريق أوسلو نفسه على مقاعد المجلس الوطني، وربما نرى أمرا مماثلا حال جرت انتخابات رئاسية وتشريعية، كأن تنحصر المنافسة على مقعد الرئاسة بين محمود عباس و'أبو مازن'. هنا مكمن الخطر وعلة العلل، هنا الثغرة و'حصان طروادة' التي يسعى كارهو الشعب ومقاومته للنفاذ من خلالها، لتمرير بعض من أجنداتهم السوداء. وهنا بالذات، يتعين أن تنصب الجهود وتتوحد، لسد الثغرات قبل رص الصفوف، فمثلما كان أداء السلطة 'كعب أخيل' حرب السنتين الفائتتين، فإن استمرار هيمنة هذا الفريق وتفرده بمقاليد السلطة والقرار و'الشرعية'، هو 'كعب أخيل' الجولة السياسية والدبلوماسية القادمة، والرامية إلى تخليص 'الاعترافات بفلسطين' مما علق بها من شروط ومطالب إسرائيلية بامتياز، حتى وإن جاءت بلسان ألماني أو فرنسي أو إنجليزي مبين. الاحتفاء بتسونامي الاعتراف والإدانة المزدوج يجب ألا يبدد الحذر والانتباه، فنحن قد نكون بإزاء 'جُحر' جديد لطالما لُدغنا منه مرات ومرات، كأن يُطلب منا دفع الثمن كاملا، مسبقا ومقدما، فيما تسليم 'البضاعة' ما زال مرجأ، وبالتقسيط الممل. أو أن يُطلب قطع رأس المقاومة، والهرولة للاعتراف بيهودية الدولة العبرية والتطبيع معها، على أمل أن تكون هناك دولة فلسطينية ذات يوم، ومن دون أن يكلف 'القوم' أنفسهم عناء 'التفصيل' في موضوع الدولة، لا من حيث حدودها وسيادتها وعاصمتها، ولا من حيث الإجابة عن سؤال: من هم مواطنو هذه الدولة العتيدة؟ لكأننا أمام محاولة لـ'تدويل' شعار محلي لحكومة عبدالكريم الكباريتي زمن أزمة أسعار الخبز في الأردن: 'الدفع قبل الرفع'، فيراد من الفلسطينيين دفع الأثمان الباهظة لكيان الاحتلال والعنصرية والإبادة، قبل أن تُرفع القيود و'الفيتوهات' عن الاعتراف بدولتهم. دع عنك حكاية تجسيد هذه الدولة واقعا ناجزا على الأرض، فتلكم حكاية أخرى، لها ما 'يليق' بها من سياقات واشتراطات. في حرب عنوانها: 'الفوز بالنقاط'، وليس بالضربة القاضية الفنية، يُحرز الفلسطينيون تقدما ملموسا، تعترف به إسرائيل وأقرب أصدقائها المخلصين، وينكره فريق منهم وبعض أشقائهم، برغم الكلفة الإنسانية المروعة التي يتكبدونها. والأرجح أنهم سيكونون في مكانة أفضل، وهم يتحضرون لخوض جولات ومعارك جديدة من هذه الحرب، نعرف أنها آتية حتما، وإن كنا نجهل متى وكيف وبأي أدوات. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store