
الضوضاء وخطورتها القاتلة في دول الاتحاد الأوروبي
موسم العطلات الصيفية في أوجه، ومن منا لا يتوق إلى الفرار لقرية جبلية هادئة أو لشاطئ منعزل؟ ولكن الوصول إلى هذه الأماكن، بالسيارة أو القطار أو الطائرة، يزيد من المستويات المرتفعة من التلوث الضوضائي الذي يؤثر على ملايين الأوروبيين في أنحاء القارة.
ووفقا لأحدث تقديرات وكالة البيئة الأوروبية، يتعرض أكثر من واحد من بين كل خمسة مواطنين في الاتحاد الأوروبي لمستويات ضوضاء بيئية ضارة، على نحو مزمن، ويزداد الرقم في المناطق الحضرية. والمصدر الرئيسي لذلك هو النقل البري- سواء في المدن أو الريف- ثم السكك الحديدية والمطارات.
وتقول منظمة الصحة العالمية إن الضوضاء هي ثاني أكبر سبب بيئي للمشاكل الصحية، مباشرة بعد الهواء الملوث. والضوضاء جزء من أهداف المفوضية الأوروبية في القضاء على التلوث. وتهدف المفوضية إلى خفض نسبة الأشخاص الذين يعانون من الإزعاج المزمن بسبب ضوضاء النقل بنسبة 30% بحلول عام 2030، مقارنة بمستويات عام 2017.
وحدد الاتحاد الأوروبي عتبة التلوث الضوضائي في ' توجيه الضوضاء البيئية'. ورغم ذلك، لا يضع التكتل حدودا للضوضاء ولا ينص على التدابير التي يتعين على الدول أن تتضمنها في خطط العمل لديها لإدارة الضوضاء. ويقع هذا الأمر ضمن اختصاصات الدول.
كما أن التوجيه ينظم انبعاث الضوضاء من مصدرها، على سبيل المثال عبر سن تشريعات تحدد مقدار الضوضاء التي قد تصدرها المركبات. وتشير هذه الحدود إلى مستوى 55 ديسيبل، أو أكثر على مدار الليل والنهار (24 ساعة) و50 ديسيبل أثناء الليل. ويشير مستوى 55 ديسيبل إلى الأصوات المعتدلة، مثل ما يعادل الشارع السكني أو محادثة عادية. كيف تؤذينا الضوضاء! لا يبدو مستوى 55 ديسيبل مرتفعا، ولكن منظمة الصحة العالمية حذرت من آثار التعرض المزمن للضوضاء البيئية على الصحة البدنية والعقلية للإنسان، على حد سواء.
وقالت المنظمة في عام 2018: 'يرتبط العيش في منطقة تتأثر بضوضاء النقل بزيادة خطر الإصابة بمجموعة واسعة من المشاكل الصحية، بينها أمراض القلب والأوعية الدموية والأيض والصحة العقلية'.
وحال تطبيق معايير منظمة الصحة العالمية الأكثر صرامة (متوسط 45 و53، و54 ديسيبل على مدار اليوم، للضوضاء التي تسببها الطائرات والطرق والسكك الحديدية على الترتيب) على الاتحاد الأوروبي، ترتفع نسبة التعرض من 20%- أو حوالي 106 مليون شخص- إلى أكثر من 30%.
ويسهم التعرض لآثار الضوضاء على المدى الطويل في حدوث 000,48 حالة جديدة من أمراض القلب و000,12 وفاة مبكرة في أوروبا، سنويا. وعلاوة على ذلك، تشير التقديرات إلى معاناة أكثر من 22 مليون شخص من الانزعاج المزمن الشديد، و5ر6 مليون شخص من مشاكل في النوم. وكذلك ترتبط الضوضاء البيئية بالاضطرابات المعرفية والعقلية.
وأوضحت الدكتورة ماريا أنخيليس بونماتي، من الجمعية الإسبانية للنوم، أن الضوضاء الليلية تحول دون الاسترخاء والانفصال الضروريين للخلود إلى النوم.
وقالت بونماتي: 'يمكن أن توقظنا فجأة، أو تبقينا في مراحل سطحية من النوم، مما يؤدي إلى تدهور جودة النوم نتيجة للتغيرات في بنيته: نستغرق وقتا أطول في النوم، أو نستيقظ في وقت مبكر عما نحتاج إليه، أو نقضي وقتا في النوم العميق، إلى جانب اضطراب نوم حركة العين السريعة'.
وأضافت أن تحمل الضوضاء أثناء النهار يرتبط بارتفاع ضغط الدم والتوتر، إضافة إلى تدهور الحالة المزاجية. وأوضحت: 'من المهم أن يستوعب المواطنون أهمية النوم والراحة بالنسبة لجيرانهم. وعلاوة على ذلك، من المهم أن تحمي المؤسسات سلعة نادرة مثل الصمت'.
وإلى جانب صحة الإنسان، للضوضاء البيئية آثار سلبية على الحياة البرية والمائية، حيث تسبب اضطرابات سلوكية وصعوبات في التواصل وضعفا في القدرة على التكاثر. من الذي يصدر كل هذه الضوضاء؟ تم تحديد ضوضاء النقل كسبب رئيسي للضوضاء، وحركة المرور على الطرق كمصدر أساسي.
وفي تقييم صدر في شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي- استنادا على بيانات تعود لعام 2022- رصدت الوكالة الأوروبية للبيئة تراجعا هامشيا في مجال التعرض لهذا للضوضاء، ولكنها حذرت في الوقت نفسه من أن هذا يمكن أن يقابله انتقال المزيد من الناس إلى المناطق الحضرية وبالتالي زيادة مستويات الحركة المرورية.
ومع ذلك، كان التراجع في ضوضاء الطائرات الذي أظهرته البيانات- والذي ربما كان بسبب جائحة كوفيد-19 – قصير الأجل: فكما ذكرت وكالة مراقبة النشاط الجوي الأوروبي (يوروكونترول) في وقت سابق هذا الصيف، عاد حجم حركة الطائرات، إلى مستويات ما قبل الجائحة، مع وجود 37000 رحلة جوية في أيام الذروة، وبالتالي الضوضاء.
وفي فرنسا، أعلنت الحكومة الأسبوع الماضي تشديد شروط الرحلات الليلية بمطار باريس أورلي من أجل الحد من التلوث الضوضائي، دون الذهاب إلى خفض عدد الرحلات، كما طالب بذلك نشطاء حماية البيئة والسكان المحليون.
وقالت وزارة النقل في بيان إن التدابير الجديدة تشمل 'فرض حظر تجول جزئي اعتبارا من الساعة العاشرة مساء على الطائرات الأكثر ضوضاء- حيث لن يسمح إلا للطائرات الأكثر هدوءا بالهبوط والإقلاع بعد العاشرة '.
ولحماية نوم السكان المحليين، يخضع ثاني أكثر المطارات ازدحاما في فرنسا لحظر صارم على الطيران في الفترة بين الساعة 30ر11 مساء والسادسة صباحا. كما أعلنت الحكومة الفرنسية خطة وطنية لتعزيز استخدام الوسائل العازلة للصوت حول المطارات الرئيسية، وذلك في أعقاب الاحتجاجات المطولة التي قام بها أنصار البيئة والسكان ضد الضوضاء. انتبه! تتفاوت الجهود المبذولة في أنحاء أوروبا للحد من التلوث الضوضائي، وغاليا ما يعود الأمر إلى المقاطعات أو حتى البلديات.
وأظهرت بيانات المعهد الإيطالي لحماية البيئة والأبحاث (إيسبرا)، أن جزءا كبيرا من السكان يتعرض لمستويات ضوضاء تتجاوز الحدود التي توصي بها منظمة الصحة العالمية، بشكل عام أو خلال الليل.
ورغم ذلك، تفتقر مناطق كثيرة إلى تشريعات خاصة بالتلوث الضوضائي، ووافق أقل من ثلثي البلديات على أداة لإدارة التلوث الضوضائي. وفي إسبانيا، يتعرض حوالي 60% من السكان، خلال النهار، لمستويات ضوضاء تتجاوز الحدود التي حددتها منظمة الصحة العالمية، بحسب بيانات منصة 'إس إي إس' الرقمية لعام 2024.
ووفقا لوكالة البيئة الأوروبية، يتسبب التلوث الضوضائي في أكثر من ألف وفاة مبكرة، و4000 حالة دخول مستشفيات سنويا.
ويمكن إرجاع بعض التلوث الضوضائي إلى البشر: ففي الأحياء التاريخية بمدريد وبرشلونة وبلنسية، حيث تفتقر العديد من المنازل إلى وجود أجهزة تكييف الهواء، ويصبح فتح النوافذ أمر ضروري للتبريد، يعد النوم الهادئ أثناء الليل أمرا مستحيلا في الصيف. وامتدت الإجراءات القانونية المتعلقة بالضوضاء إلى ما هو أبعد من الحانات، وظهرت جمعيات لمكافحة الضوضاء في أنحاء البلاد.
وقال الكاتب الإسباني إجناسيو بيرو مؤخرا في صحيفة 'إل بايس' اليومية: 'الأمر الوحيد الذي يميزنا عن البلدان الأخرى هو أننا أكثر ضوضاء.' وفي ألمانيا، دعت عدة ولايات الحكومة الاتحادية في عام 2023 إلى فرض قوانين أكثر صرامة للحد من الضوضاء التي يسببها المرور.
ووفقا لإحصاءات مكتب البيئة الاتحادي في نفس العام، تعرض حوالي 5ر8 مليون ألماني لمستويات ضوضاء تهدد الصحة، على الطرق الرئيسية وحدها، بينما عانى 6,4 مليون شخص من ضوضاء حركة السكك الحديدية الصاخبة. وتدعو مجموعة العمل البيئي في ألمانيا إلى وضع حد أقصى للسرعة، عند 30 كيلومترا في الساعة، داخل المناطق المأهولة كأداة فعالة للحد من ضوضاء الطرق.
وفي مقدونيا الشمالية- المرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي- تدور مستويات التلوث الضوضائي حول المتوسط الأوروبي، ولكنها أكثر هدوءا من حيث السياحة والازدحام مقارنة بالعديد من الوجهات السياحية الشهيرة.
ووفقا لإحصاءات وزارة الداخلية المقدونية، تسجل مدينة أوهريد، الوجهة السياحية الأكثر شعبية، أكبر عدد من البلاغات عن حدوث إزعاج بسبب الضوضاء. هل حان الوقت الاستثمار في سدادات الأذن؟ وبحسب تقرير صدر في يناير/ كانون الثاني الماضي، قامت المحكمة الأوروبية للمدققين بدراسة سياسات مكافحة التلوث التي تطبقها المفوضية الأوروبية، وانتقدتها بسبب وجود ثغرات، وبسبب التأخير في تقييم التلوث الضوضائي والإبلاغ عنه من قبل الدول الأعضاء.
كما أعربت المحكمة عن أسفها لعدم وجود قيم حدية أو أهداف للحد من الضوضاء في الاتحاد الأوروبي، وكتبت: 'نعتبر أن الافتقار لأهداف من قبل الاتحاد الأوروبي للحد من الضوضاء لا يشجع الدول الأعضاء على إعطاء أولوية لإجراءات الحد من التلوث الضوضائي بشكل فعال'.
وأضافت المحكمة الأوروبية للمدققين أن المدن واجهت صعوبة في اتخاذ تدابير فعالة بسبب عدم التنسيق بين السلطات، وبسبب شكوك بشأن فعالية التدابير، ومقاومة السكان.
وأوصت المحكمة بوضع أهداف على مستوى الاتحاد الأوروبي في إطار الاستراتيجية الأوروبية للحد من الضوضاء، ومواءمة هذه الأهداف مع ما توصي به منظمة الصحة العالمية، بحلول عام 2029. ومن الصعب تقييم التقدم الذي تحقق بسبب عدم وجود تقارير.
وبالنظر إلى عام 2030، قالت وكالة البيئة الأوروبية في تقييمها لعام 2025 إن هدف خفض عدد المتضررين من ضوضاء النقل بنسبة 30% 'بعيد المنال'، حيث لم يتجاوز التقدم المحقق نسبة 2%، مقارنة بخط الأساس لعام 2017.
(د ب أ)

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


القدس العربي
منذ 15 ساعات
- القدس العربي
في لعبة الرعب الغربي المبالغ فيه مما يحدث لأطفال غزة محاولة لتبييض السمعة والتبرير لإسرائيل
لندن – 'القدس العربي': نشرت صحيفة 'الغارديان' مقالا للمعلقة نسرين مالك، قالت فيه إن العبارات السياسية المبتذلة وبضع شاحنات مساعدات لن تنقذ الأطفال الذين يموتون الآن، لكنها تظهر أن القادة لا يستطيعون تجاهل الرأي العام إلى الأبد. وقالت إن الأطفال الذين يموتون أولا في ظروف المجاعة، تكون احتياجات أجسامهم النامية الغذائية أعلى من احتياجات البالغين، وبالتالي تستنفد احتياطياتهم الغذائية بشكل أسرع. وتصبح أجهزتهم المناعية، التي لم تكتمل بعد، أضعف وأكثر عرضة للأمراض والعدوى، ومع نوبة إسهال قاتلة، جراحهم لا تلتئم. لا يمكن إرضاع الأطفال رضاعة طبيعية لأن أمهاتهم لم يأكلن. يموتون بمعدل ضعف معدل البالغين. في الأسبوع الماضي، وعلى مدار 72 ساعة فقط، توفي 21 طفلا في غزة بسبب سوء التغذية والجوع. في الأسبوع الماضي، وعلى مدار 72 ساعة فقط، توفي 21 طفلا في غزة بسبب سوء التغذية والجوع وتقول مالك إن طريق الموت جوعا بطيء ومؤلم، لا سيما في منطقة تعاني من نقص ليس فقط في الغذاء، بل أيضا في الأدوية والمأوى والمياه النظيفة. تجاوز إجمالي عدد وفيات الجوع 100 شخص في نهاية الأسبوع، 80 منهم أطفال. أفاد عامل إغاثة أن الأطفال يخبرون آباءهم أنهم يريدون الموت والذهاب إلى الجنة، لأن 'الجنة على الأقل فيها طعام'. وكل حالة وفاة من هذه الوفيات، وتلك التي ستأتي، يمكن تجنّبها. وصفت منظمة الصحة العالمية المجاعة بأنها 'من صنع الإنسان'، 'لكنها أكثر من ذلك، إنها متوقعة، وبالتالي متعمدة. لقد منع حصار إسرائيل لغزة أطنانا من المساعدات من الدخول، أو توزيعها على المحتاجين، وفقا للمنظمات الإنسانية هناك'. وتعلق أن 'التوقف التكتيكي' للعمليات العسكرية لبضع ساعات يوميا في ثلاثة أجزاء من قطاع غزة للسماح بدخول بعض المساعدات هو إجراء لا يخفف من أزمة تراكمت على مر الزمن. إن المجاعة، التي لطالما تم التحذير منها، هي المرحلة الأخيرة من حملة استمرت قرابة عامين، والتي تعجز الكلمات الآن عن وصفها. وتقول: إبادة جماعية، تطهير عرقي، عقاب جماعي، كل هذه الأوصاف لا تزال، بطريقة ما، لا تجسد الطرق المروعة والمتنوعة التي يقتل بها الفلسطينيون في غزة: يقصفون في منازلهم، وفي خيامهم، ويحرقون أحياء على أسرة المستشفيات، ويطلق عليهم الرصاص وهم ينتظرون الطعام، والآن يتضورون جوعا. و'لم يعد يهم ما يسمى، فكل ما تحتاج إليه لتعرف أن ما يحدث جريمة تتطلب تحركا فوريا هو عظام طفل تبرز من جلده الرقيق، بينما يمنع الطعام الذي يحتاجه من قبل جنود إسرائيليين'. وتضيف: 'لقد ولى زمن التبريرات، والجدل حول الدلالات، والقلق من 'تعقيد' الصراع. السؤال الوحيد الآن هو: كيف يعقل أن يعجز العالم عن إجبار إسرائيل على إدخال لقمة طعام إلى فم مدني جائع؟ كيف لا تزال هذه الحكومة غير مقاطعة بشكل حاسم، ومعاقبة، ومحاصرة؟ كيف لا تزال هذه الحكومة التي يعتقد ديفيد لامي أنه يستطيع 'حثها' على فعل الصواب؟'. نشرت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، على موقع إكس، واصفة الصور القادمة من غزة بأنها 'لا تطاق'، ودعت إلى السماح بدخول المزيد من المساعدات، ودعت إسرائيل إلى 'الوفاء بتعهداتها'. ووصف مسؤول في منظمة 'أوكسفام' هذا التصريح، وغيره من تصريحات الاتحاد الأوروبي على وسائل التواصل الاجتماعي، بأنها 'جوفاء' و'محيرة'. أثبت بنيامين نتنياهو، مرارا وتكرارا، أنه لا ينوي الالتزام بأي شيء. في الأسبوع الماضي فقط، قال وزير إنه 'لا توجد دولة تغذي أعداءها'، وإن الحكومة 'تندفع نحو إبادة غزة' لقد أثبت بنيامين نتنياهو، مرارا وتكرارا، أنه لا ينوي الالتزام بأي شيء. في الأسبوع الماضي فقط، قال وزير إنه 'لا توجد دولة تغذي أعداءها'، وإن الحكومة 'تندفع نحو إبادة غزة' بينما 'تطرد السكان الذين علموا شعبها أفكار [كتاب] كفاحي'. الحقيقة هي أنه لا يوجد هدف استراتيجي لهزيمة حماس، بل مجرد تغيير مستمر في الأهداف، في ظل رئيس وزراء ربط بقاءه السياسي بالتمديد غير المحدود للهجوم على غزة. في هذه الأثناء، تزعزع الأهوال المتصاعدة واستمرارها المُستمر استقرار العالم وتعيد تشكيله. ولكن كلما انكشف جوهر الدعم الصلب والبارد لأفعال إسرائيل، كلما انحدرت مصداقيته وشرعيته. والنتيجة هي مواجهة مباشرة بين المؤسسات السياسية والجمهور في وضع لم يعد يطاق. إن الخطاب المتصاعد مؤخرا، وهو مجرد كلام من كير ستارمر، يشير إلى أن غزة أصبحت الآن قضية يجب منحها بعض الكلام المجرد إذا أردنا ألا تتفاقم لتصبح مشكلة داخلية لحكومة محاصرة أصلا. ولكن مع ذلك، يبدو أن هذا الخطاب جزء من لعبة معقدة، حيث يرقص الجميع بشكل مبالغ فيه حول ما يجب أن يحدث. هذه اللعبة هي الحفاظ على صمود إسرائيل كلاعب أخلاقي، بغض النظر عن الانتهاك، مع التظاهر بأنه عندما تخالف، سيتم توبيخها للعودة إلى الامتثال. 'متى' هنا هو المهم، يبتكر لاعبو هذه اللعبة باستمرار بدايات جديدة، وخطوطا حمراء جديدة، ونقاط تحول جديدة، مما يعني أن نقطة القطيعة الضرورية مع إسرائيل تنقل باستمرار إلى نقطة جديدة في الأفق. سواء كان الأمر يتعلق بقتل عمال الإغاثة، أو قتل طالبي المساعدة، أو حتى المجاعة الآن، فإن كل تصعيد في الحملة الإسرائيلية يبدو أنه يُطلق موجة جديدة من التلويح بالأصابع. والنتيجة هي لحظة دائمة من العمل الوشيك، كما هدد لامي. عمل لا يأتي أبدا. وبينما ننتظر، يُحافظ على الوضع الراهن في نمط انتظار حتى يتلاشى الرعب الأخير من شاشاتنا وصفحاتنا الأولى. أو تطبق إسرائيل بعض الإجراءات المؤقتة، مثل 'التوقف التكتيكي' في القتال، والتي لا تعالج الظروف الأساسية للحصار وقتل المدنيين. لكن الاحتجاج، مهما بدا غير فعال، يبقى السبيل الوحيد للضغط على من يملكون سلطة انتقاد إسرائيل بطرق مجدية، من خلال وقف العلاقات العسكرية والتجارية. قد يبدو الاحتجاج أشبه بالصراخ في الفراغ، لكن حتى التغيير الطفيف الذي شهدناه – شاحنات المساعدات القليلة المؤسفة التي تتدفق الآن إلى غزة – يعود إلى ضغط المواجهة مع المؤسسة السياسية. ما يمكن للغضب الشعبي تحقيقه لا يمكن تحقيقه إلا إذا لم يهدأ. من المستحيل التنبؤ بكيفية ترجمة هذا الضغط إلى شيء ذي معنى، لأن الخضوع لحيل الترضية هذه لما يقرب من عامين كان كافيا لإحداث نوع من الضرر العقلي. يخبرنا سياسيون نافذون أن الأمور لا يمكن أن تستمر على ما هي عليه، ثم، فجأة، تمر بضعة أشهر أخرى والأمور لم تستمر فحسب، بل ساءت. هناك شيء محير حقا في هذا الأمر، شيء مرهق ومشتت للعزيمة عندما يبدو أن شيئا ما يتغير أخيرا وأن العقل يسود، ثم لا يحدث ذلك. الغرض هو إسكات الجمهور من خلال التهويل اللفظي، أو تشتيت انتباهه بأبخس الدعوات للاعتراف بدولة فلسطينية. هذه انتصارات وهمية، وممارسة غريبة للسيطرة على الحشود، وتبييض السمعة، وإدارة الرأي العام. الأبرياء الآن يموتون جوعا. كل ما ليس عملا هو مجرد ضجيج.


العربي الجديد
منذ يوم واحد
- العربي الجديد
التلوث الضوضائي ينهك أجساد العراقيين وعقولهم
في زحام مدن العراق، لا سيما العاصمة بغداد ، لم يعد التوتر وليد لحظة عابرة، بل بات رفيقا يوميا لسكانٍ تتعالى فوق رؤوسهم ضوضاء لا تنام ، وتخترق تفاصيل حياتهم اليومية من أول نداء لبائع متجول صباحاً، حتى آخر أصوات أطفال يختمون يومهم بصراخ ومزاح مع حلول الليل قبل أن يتفرقوا إلى المنازل. وحذر رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان، فاضل الغراوي، أخيراً من تفاقم التلوث الضوضائي في البلاد، وأكد أن نسب الضجيج المسجلة في بغداد تجاوزت المعدلات الآمنة التي تحددها منظمة الصحة العالمية، والتي تتراوح بين 45 إلى 55 ديسيبل في المناطق السكنية. وأوضح أن أجهزة القياس سجلت مستويات بين 37.5 ديسيبل و76 ديسيبل في مواقع عدة بالعاصمة، وهي أرقام تضع آلاف المواطنين تحت وطأة خطر يومي صامت لا يُرى لكن يُنهك الجسد والعقل. وتحدث الغراوي عن أن مصادر الضجيج في العراق لا تقتصر على المركبات والمولدات، بل تشمل أيضاً المعامل والورش الصناعية المنتشرة داخل المدن من دون رقابة بيئية، إلى جانب أصوات الطائرات، و"هذه البيئة المشبعة بالضوضاء تنعكس على الصحة العامة وتفاقم من المشكلات اليومية للعراقيين، لا سيما مع محدودية الخدمات الصحية النفسية". وتفيد تقارير رسمية بأن عدد السيارات الخاصة في عموم العراق يبلغ نحو 8 ملايين، منها نحو 4 ملايين في بغداد التي تستطيع طرقاتها استيعاب 700 ألف سيارة. من بغداد، يقول الخمسيني سعد العجيلي، لـ"العربي الجديد": "اتخذت قبل ثلاثة أعوام قراراً اعتبره كثيرون غير عقلاني حين استقلت من عملي في شركة تجارية كبيرة، وانتقلت مع أسرتي إلى بلدة ريفية في محافظة ديالى (شرق)، رغم ما عناه ذلك من تراجع كبير في دخلي". صحة التحديثات الحية الضوضاء بعد سوء الخدمات تضرب مستشفيات العراق يتابع: "كنت أعيش وسط بغداد وكان دخلي جيداً لكنني كنت أسمع يومياً الصراخ والشتائم ومنبهات السيارات وأصوات المولدات، وأعود منهكاً من العمل ولا أستطيع النوم حتى منتصف الليل، ثم وجدت نفسي أصرخ في وجه أطفالي بلا سبب. انتابتني حالات من العصبية والقلق، وكنت افتعل مشاكل في العمل أو في الطريق أثناء الزحام المروري، وحتى أنني ابتعدت عن أصدقائي، وبت لا أرغب في الخروج مع عائلتي أو أصدقائي للتنزه. قبل ثلاثة أعوام اختفت هذه الأعراض والتصرفات بعدما طبقت نصيحة قريبي المتخصص في علم النفس بأن أغير أسلوب حياتي ومنطقة سكني، وأنتقل للعيش مع أقاربي في القرية. كل شيء بخير الآن فالضوضاء شبه معدومة". ولا يعاني العجيلي وحده من أمراض نفسية بسبب الضوضاء، فوفق تقارير متخصصة ارتفعت حالات "الإجهاد الصوتي" في العراق، وهو اضطراب نفسي ينجم عن التعرض المزمن للضوضاء، ويُعد من عوامل الضغط النفسي التي قد تتطور إلى سلوكيات عدوانية أو انهيارات نفسية. وفي حين استطاع العجيلي الانتقال إلى منطقة أخرى للتخلص من الضوضاء، فإن هذا صعب على كثيرين، ومنهم سلوى عايد التي تعيش مع أسرتها في منزل لا تتجاوز جدرانه المساحة الفاصلة بين الضجيج الداخلي والخارجي داخل حي شعبي في بغداد. وتقول: "لا يستطيع زوجي أن يتحمّل نفقات السكن في مكان أهدأ، لذا تعيش أسرتي في الحي الشعبي المزدحم بالسكان والضجيج الخانق. تدخل أصوات الباعة وصغار الحي ومولدات الكهرباء كلها إلى بيتنا، ولا أذكر متى نمت في شكل متواصلاً آخر مرة. أعاني من دوار دائم بسبب التعب والحرمان من الراحة". صحة التحديثات الحية مليار شاب معرضون لخطر فقدان السمع بسبب الضوضاء ويؤكد أخصائي الطب النفسي، فارس موفق، لـ"العربي الجديد": "فعلياً لم يعد التلوث في العراق مجرد إزعاج كما يعتقد البعض، بل بات عاملاً نفسياً مؤذياً يتسلل بصمت إلى حياة الناس. التعرض المستمر أو لوقت طويل لأصوات مرتفعة ومتكررة في بعض المناطق لا يعطي أي فرصة للراحة أو الهدوء، وتؤكد مشاهداتنا اليومية ارتفاع عدد المواطنين الذين يتعرضون لإرهاق نفسي واضطرابات نوم وقلق وانفعالات زائدة". يتابع موفق: "مع تراكم الظروف الاقتصادية الصعبة والمشاكل الاجتماعية، يصبح الفرد أكثر عرضة للتصرفات غير المنضبطة، وقد يقوده ذلك إلى العنف أو حتى الانتحار. "لا تهاجم الضوضاء الجهاز العصبي فقط، بل تؤثر أيضاً على القلب، وتزيد احتمالات الإصابة بأمراض كالسكري من النوع الثاني، وتؤثر على التركيز والذاكرة خصوصاً لدى الأطفال، وهذه الأمراض شائعة في بلدنا اليوم". ورغم خطورة الظاهرة لا تزال المعالجات الرسمية محدودة، ولا قوانين فعّالة للحدّ من التلوث الضوضائي، ولا أجهزة رقابة بيئية حقيقية داخل الأحياء، بينما يستمر الاعتماد على المولدات بسبب أزمة الكهرباء المستمرة، لكن الأمل لا يزال قائماً كما يقول موفق.


العربي الجديد
منذ 2 أيام
- العربي الجديد
التجاهل البيئي
لن يتوقف الموت والدمار بتوقف الحرب، هذه هي الحقيقة التي خبرها العالم بعد قرون من الحروب، ويجهلها، أو يتجاهلها من يرون في الحرب وسيلة لغايات، يمكن وصفها بـ"الدنيئة" نسبة لأهدافها المتمثلة في الطمع بحقوق ومكاسب وموارد الغير، دون التفكير في مخلفات الحرب التي تُشكّل تهديداً مباشراً ليس فقط لصحة الإنسان، بل أيضاً للموارد البيئية، خصوصاً في المناطق التي تفتقر إلى أنظمة صحية. وفي ظل ضعف آليات الرصد والتحليل، نجد أن ما يظهر من آثار يمثل رأس جبل الجليد في كثير من الأحيان. ومع التركيز على أزمة الإنسان المتمثلة في الموت، يتم تجاهل ما قد يحدث للبيئة من تدمير، إذ تتسبب النزاعات المسلحة في تبعات تستمر لسنوات طويلة، وربما لعقود. من ذلك أن تدمير النُّظم البيئية والغابات يتبعه تأثير كبير على التنوّع الإحيائي، إذ يتفاقم التهديد بانقراض الحيوانات والطيور والأشجار المرصودة ضمن القائمة الحمراء. وقد تدخل القائمة أنواع جديدة، بجانب مخاطر عديدة أوجدت الاعتراف الدولي بأن البيئة ضحية منسية للحروب. وحتى يلتفت العالم، أُعلن السادس من نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام يوماً دولياً لمنع استغلال البيئة في الحروب والصراعات، والتأكيد على أن حماية البيئة جزء لا يتجزأ من منع نشوب الصراعات وبناء السلام و التنمية المستدامة ، لأنه ببساطة، لا يمكن أن يكون هناك سلام دائم إذا دُمّرت الموارد الطبيعية التي تدعم سبل العيش. ويحدث تراكم بقايا الجثث البشرية تحلّل بيولوجي، وإفراز للسوائل المحتوية على أنواع من البكتيريا، التي قد تتسرب إلى مصادر المياه الجوفية والسطحية، متسببة في تلوث مياه الشرب. إلى جانب ما يؤثر على جودة الهواء جراء الروائح الكريهة والغازات السامة مثل الأمونيا وكبريتيد الهيدروجين، كما تقول منظمة الصحة العالمية. أما إن كان المتوفى مصاباً بأمراض وبائية مثل الكوليرا، فذلك يزيد من إمكانية نقل العدوى للعاملين في دفن الجثث، أو السكان، أو من يعبر بجوار المناطق المتأثرة. ملحق سورية الجديدة التحديثات الحية البيئة المنسيّة... الفاتورة المؤجّلة للإعمار ولبقايا الذخائر والمعادن الثقيلة وشظايا الأسلحة تأثيرات في انتشار التلوّث بالمعادن، مثل الرصاص، والكادميوم، والزئبق، واليورانيوم المنضب. إذ تتسرب هذه المواد إلى التربة والمياه مسببة أمراضاً خطيرة مثل السرطان، والفشل الكلوي، وتأخر النمو العقلي عند الأطفال، كما يقول برنامج الأمم المتحدة للبيئة. فهل من تقييم بيئي شامل قبل العودة الكاملة للسكان، يا من تدعون إلى العودة قبيل إعلان الانتصار العسكري؟ وهل من اتّباع للتوصيات البيئية والإنسانية التي يجهد البعض في توصيلها رغم التضييق، ومحاولات لَيّ عنق الحقائق؟ (متخصص في شؤون البيئة)