
آلاف الأفغان يصارعون للبقاء في أميركا بعد إلغاء "الحماية"
واشنطن ـ تسود حالة من الخوف والترقب في أوساط آلاف اللاجئين الأفغان في الولايات المتحدة ، مع بدء العد التنازلي لتفعيل قرار حكومي يقضي بإلغاء "برنامج الحماية المؤقتة"، الذي كان يتيح لهم الإقامة والعمل في أميركا نظرا لاستحالة العودة إلى بلادهم.
وبحسب قرار صادر عن وزارة الأمن الداخلي، فإن العمل ببرنامج الحماية المؤقتة سيتوقف ابتداءً من 14 يوليو/تموز المقبل، مما يعني أن أكثر من 14 ألف أفغاني فقدوا هذه الحماية ابتداء من 20 مايو/أيار الماضي، وهو ما كانت إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن قد أقرّته استجابة لتدهور الأوضاع الأمنية التي أعقبت الانسحاب الأميركي من أفغانستان بعد مفاوضات مع حركة طالبان عام 2021.
وبررت الوزارة قرارها بتقييم جديد للوضع العام في أفغانستان، خلص إلى "تراجع حدة الصراع المسلح بين حركة طالبان و تنظيم الدولة الإسلامية ، وانخفاض طفيف في الاحتياجات الإنسانية، وتحقيق زيادة بنسبة 2.7% في الناتج المحلي الإجمالي، إلى جانب نمو ملحوظ في قطاع السياحة". واعتبرت أن هذه المؤشرات لا تبرر استمرار منح الحماية المؤقتة للأفغان المقيمين في أميركا.
وللتخفيف من وقع القرار، أوضحت الوزارة أنه بإمكان أي أفغاني يخشى الاضطهاد في بلاده، أن يتقدّم بطلب لجوء رسمي، كما يمكن لمن سيفقدون الحماية المؤقتة التقدم بطلب للحصول على مساعدات مالية لإعادة التوطين في بلد ثالث.
تشديد سياسات الهجرة
ويأتي هذا القرار ضمن توجه أوسع لإدارة الرئيس دونالد ترامب لتشديد السياسات المتعلقة بالهجرة، حيث شمل ذلك إلغاء برامج إنسانية أخرى كان يتمتع بها مئات آلاف الأشخاص من فنزويلا وأوكرانيا و كوبا و هايتي و نيكاراغوا ، بسبب تدهور الأوضاع في بلدانهم.
ورداً على القرار، رفعت منظمة "كازا" (CASA, Inc)، وهي هيئة غير ربحية تمثل الجاليات المهاجرة، دعوى قضائية على وزيرة الأمن الداخلي الأميركية كريستي نويم، تطعن فيها في قانونية القرار، محذّرة من التداعيات المحتملة على الأفغان، خاصة أولئك الذين كانوا على صلة مباشرة بالعمليات الأميركية في أفغانستان، أو نشطوا في المجتمع المدني.
ورغم ترحيب وزارة الخارجية الأفغانية بتقييم الحكومة الأميركية ووصفه بأنه "خطوة إيجابية تعكس إدراكاً للحقائق الميدانية"، فإن منظمات دولية تُعنى بشؤون اللاجئين وحقوق الإنسان تؤكد أن أفغانستان لا تزال تعاني من عدم الاستقرار وأزمة إنسانية حادة.
وقد تم إقرار برنامج الحماية المؤقتة في الولايات المتحدة عام 1990، ليتيح لمواطني دول تشهد نزاعات مسلحة أو كوارث بيئية أو ظروفاً استثنائية، الإقامة والعمل داخل الأراضي الأميركية، إضافة إلى السماح في بعض الحالات بالسفر خارج البلاد.
ويُعد الأفغان المستفيدون من هذا البرنامج من الفئات الأكثر هشاشة ضمن نحو 100 ألف أفغاني وصلوا إلى الولايات المتحدة، معظمهم عبر عملية "الترحيب بالحلفاء" التي نُفذت بعد تسلم حركة طالبان الحكم في كابل.
أوضاع قانونية معقدة
من هؤلاء، مَن حصل على تأشيرة هجرة خاصة مكّنته من الحصول على الإقامة الدائمة (غرين كارد)، بينما يتمتع آخرون بوضع لاجئ رسمي، كما يستفيد بعضهم من حماية إنسانية مشروطة تُمنح فرديا.
وكان آلاف الأفغان في طور استكمال إجراءات اللجوء أو الحماية الإنسانية الخاصة بهم تمهيداً للانتقال إلى الولايات المتحدة، غير أن الرئيس ترامب قرر تعليق جميع تلك الإجراءات بموجب أحد أوامره التنفيذية الأولى التي أصدرها بعد أيام من توليه السلطة في 21 يناير/كانون الثاني الماضي.
وعلمت الجزيرة نت، من مصادر في منظمات المجتمع المدني التي تقدم الدعم القانوني والاجتماعي للجالية الأفغانية، أن بعض المستفيدين من الحماية المؤقتة بدأوا يتلقّون إشعارات رسمية تطالبهم بمغادرة الأراضي الأميركية قبل منتصف يوليو/تموز المقبل.
وضع معقد
وبعد سريان قرار الإلغاء، سيجد من شملهم البرنامج أنفسهم في وضع قانوني معقد، إذ يفقدون تصاريح العمل ومزايا الإقامة، ويُعتبرون فعلياً مهاجرين غير نظاميين، ما لم يتمكنوا من تعديل وضعهم القانوني عبر آليات أخرى.
وقال شفيق (اسم مستعار)، وهو ناشط أفغاني في المجال الإنساني مقيم في واشنطن، إن حالة من الهلع تُخيم على مَن سيفقدون الحماية، مشيراً إلى أن مِن الخيارات المتاحة حالياً الإسراع في تقديم طلب لجوء أو أي إجراء قانوني بديل يتيح البقاء في أميركا إلى إشعار آخر.
وأوضح في حديثه للجزيرة نت، أن تقديم طلب لجوء يمنح صاحبه الحق في البقاء إلى حين صدور قرار قضائي في طلبه، وهو إجراء قد يستغرق وقتاً طويلاً نظراً لتزايد أعداد القضايا المتعلقة بالهجرة في الآونة الأخيرة.
وأكد شفيق، أن الهيئة التي يعمل فيها تبذل جهوداً حثيثة لتوفير الدعم القانوني للمهددين بالترحيل، وذلك عبر التنسيق مع مكاتب محاماة واستشارات قانونية متخصصة في قضايا الهجرة.
وفي موازاة التحركات الفردية، تدعو منظمات مدنية إلى تحرك سياسي منسّق للضغط على الحكومة الأميركية كي تفي بوعودها تجاه من تعاونوا معها في أفغانستان، وتعمل على تسوية أوضاعهم القانونية.
كما تنشط دعوات لإقرار مشروع قانون "تعديل أوضاع الأفغان"، الذي طرحه عام 2023 مشرّعون من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ويهدف إلى تقنين وضع عشرات الآلاف من الأفغان الذين تم إجلاؤهم بعد سقوط كابل في 15 أغسطس/آب 2021.
مخاوف العودة
وعن تداعيات القرار، قال شفيق إن عودة اللاجئين إلى أفغانستان تثير مخاوف حقيقية، مشيراً إلى أن الوضع الأمني لا يزال هشاً، والاقتصاد يعاني، ونسب الفقر مرتفعة، مما يجعل العودة "خياراً محفوفاً بالمخاطر"، وفق تعبيره.
وأضاف أن مصير العائدين سيكون متفاوتاً بحسب خلفياتهم العرقية والسياسية، مرجّحا أن تكون الأقليات من الطاجيك والهزارة والأوزبك أكثر عرضة للمخاطر مقارنة بالبشتون، الذين يمثلون القاعدة الاجتماعية الأساسية لحركة طالبان.
إعلان
ومن جهته، قال الناشط المدني عبدول (اسم مستعار)، الذي يعمل في منظمة تُعنى بإدماج الأفغان في المجتمع الأميركي، إن التحديات التي سيواجهها العائدون إلى أفغانستان كبيرة، خاصة بعد تعوّدهم على نمط الحياة في أميركا، وما يتمتعون به من حقوق وخدمات.
وأوضح عبدول، الذي غادر كابل مع عائلته في آخر رحلة جوية رسمية قبيل سقوط العاصمة، أن المخاوف الأمنية تتصدر قائمة التحديات، لا سيما بالنسبة لمن غادروا البلاد لأسباب سياسية.
وأشار إلى أن بعض من تم إجلاؤهم اندمجوا في المجتمع الأميركي، وتعلم أبناؤهم في المدارس هناك، مما يجعل العودة محفوفة بصعوبات ثقافية وتعليمية، خاصة في ظل القيود المفروضة على تعليم الفتيات في أفغانستان.
ويتركز وجود الجالية الأفغانية في ولايات مثل كاليفورنيا (جنوب غربي البلاد)، وفيرجينيا وميريلاند ونيويورك (الساحل الشرقي)، إلى جانب ولاية تكساس في الجنوب. ويعمل كثير منهم في مجالات تجارية وخدماتية، منها المطاعم وتطبيقات النقل وخدمات أخرى.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 25 دقائق
- الجزيرة
حادث كولورادو يدفع تل أبيب للتفكير بإصدار تحذير سفر لكل اليهود
أفادت القناة 14 الإسرائيلية بأن الأجهزة الأمنية في إسرائيل تدرس إمكانية إصدار تحذير سفر عام لليهود والإسرائيليين إلى أي مكان يُقام فيه حدث ذو صلة بالوضع في إسرائيل، في أعقاب هجوم مدينة بولدر بولاية كولورادو. وفي غضون ذلك، قال ممثلو الادعاء في ولاية كولورادو الأميركية إن مصريا متهما بإلقاء قنابل حارقة على مسيرة مؤيدة لإسرائيل في مدينة بولدر أمضى عاما كاملا في التخطيط لهجومه، واستخدم القنابل الحارقة بدلا من السلاح الناري، لأن وضعه كمهاجر يمنعه من شراء الأسلحة. وتفيد وثائق محكمة الولاية والمحكمة الاتحادية بأن محمد صبري سليمان (45 عاما) قال للمحققين إنه كان يريد "قتل جميع الصهاينة"، لكنه أرجأ تنفيذ الهجوم إلى ما بعد تخرج ابنته من المدرسة الثانوية. وبحسب الوثائق، فقد تم اتهامه بالشروع في القتل والاعتداء وارتكاب جريمة كراهية اتحادية. كما نقلت إفادات الشرطة ومكتب التحقيقات الفدرالي (إف بي آي) عن المشتبه به قوله إنه تعلم إطلاق النار من مسدس في فصل تعليمي حضره بغرض الحصول على تصريح حمل سلاح مخفي، لكن انتهى به الأمر باستخدام القنابل الحارقة بسبب وضعه كمهاجر، كاشفا للمحققين أنه تعلم كيفية صنع القنابل الحارقة من موقع يوتيوب. وقالت السلطات إن سليمان موجود في البلاد بشكل غير قانوني لأنه تجاوز مدة تأشيرته السياحية ولديه تصريح عمل منتهي المدة. استغلال الحادث واستغل مسؤولو إدارة ترامب على الفور هجوم يوم الأحد ليكون مثالا على سبب اتخاذهم إجراءات صارمة ضد الهجرة غير الشرعية. وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية ماركو روبيو على موقع إكس"في ضوء هجوم أمس المروع، يجب أن يعلم جميع الإرهابيين وأفراد أسرهم والمتعاطفين مع الإرهابيين الموجودين هنا بتأشيرات دخول، أننا في عهد إدارة ترامب سنجدكم وسنلغي تأشيراتكم ونرحلكم". وجاء في إفادة خطية من الشرطة تدعم مذكرة اعتقال سليمان أنه ولد في مصر وعاش في الكويت لمدة 17 عاما، وانتقل قبل 3 سنوات إلى مدينة كولورادو سبرينغز، الواقعة على بعد 161 كيلومترا جنوبي بولدر، حيث عاش مع زوجته وأبنائه الخمسة. وجاء في الإفادة المكتوبة أن المشتبه به "ألقى زجاجتين حارقتين على أشخاص مشاركين في التجمع المؤيد لإسرائيل"، وهو يصيح "فلسطين حرة". وكان المصابون، ومعظمهم من كبار السن، يشاركون في فعالية نظمتها منظمة "اركضوا من أجل حياتهم"، والتي تكرس جهودها لتسليط الضوء على الإسرائيليين المحتجزين في قطاع غزة. وذكرت شرطة بولدر أنه تم نقل 4 نساء و4 رجال، تتراوح أعمارهم من 52 إلى 88 عاما، إلى المستشفيات بعد الهجوم، ولا يزال اثنان منهم في المستشفى. وقالت السلطات المحلية أمس الاثنين إنه تم تسجيل 4 مصابين آخرين حالتهم أقل خطورة. ويواجه المشتبه به عقوبة قصوى بالسجن مدى الحياة إذا ثبتت إدانته بتهمة جريمة الكراهية الاتحادية لأنه متهم أيضا بالشروع في القتل بمحكمة الولاية. وقال مايكل دورتي المدعي العام لمقاطعة بولدر إن عقوبة تهم الشروع في القتل المتعددة تصل إلى السجن لمدة تصل إلى 384 سنة.


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
"الإسفين الإستراتيجي".. هل يستطيع ترامب شق الصف بين روسيا والصين؟
في صيف عام 1971، حلّقت طائرة تحمل مستشار الأمن القومي الأميركي، هنري كيسنجر ، فوق جبال الهيمالايا متجهةً نحو بكين، في رحلةٍ سرية غيّرت مسار التاريخ. حينها، كانت الصين الشيوعية في عزلة دولية، تخوض نزاعات حدودية دامية مع حليفها السابق، الاتحاد السوفياتي. أدرك كيسنجر أن ثمة فرصة ذهبية لأميركا يمكن من خلالها اختراق المعسكر الشيوعي وتغيير توازنات الحرب الباردة بشكل جذري. مهّدت تلك الزيارة السرية لزيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون التاريخية عام 1972، التي فتحت باب الاعتراف الأميركي بالصين ومحاولات احتوائها ضمن نظام عالمي تسيطر عليه الولايات المتحدة. لم يكن هذا التقارب مبنيًا على حُسن النوايا، بل على حسابات جيوسياسية دقيقة لكلا الطرفين: كانت واشنطن بحاجة إلى تحييد بكين لمنع موسكو من توسيع نفوذها في آسيا ومنع أي فرصة مستقبلية للالتحام بين أكبر تكتلين في العالم الشيوعي، بينما وجدت الصين في واشنطن حليفًا تكتيكيًا ضروريًا لمواجهة السوفيات الذين باتوا يمثلون تهديدًا وجوديًا لاستقرارها. والآن؛ بعد أكثر من نصف قرن، يبدو أن إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب ، تفكر في معادلة مشابهة، ولكنها معكوسة، من خلال ما يسمى سياسة "عكس كيسنجر" (Reverse kissinger)، إذ يحاول ترامب خلال ولايته الثانية إبعاد روسيا عن التحالف مع الصين، وإعادة احتوائها في منظومة علاقات جديدة مع الولايات المتحدة، من خلال تسوية للحرب في أوكرانيا يبدو أنها تنحاز -نوعا ما- إلى روسيا في رأي بعض المراقبين. ومؤخرا قال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو ، بعبارات صريحة، إن على الولايات المتحدة"إقامة علاقة مع روسيا بدلًا من تركها تعتمد كليًا على الصين". لكن الوقائع الجيوسياسية تقول إن هذه الفكرة ليست إلا محاولة "إسقاط ميكانيكي" لمناورة تاريخية ناجحة على سياقات مختلفة تماما تشكّل واقع اليوم، فما الذي تغير خلال 5 عقود ليجعل من فكرة ترامب مغامرة مستحيلة وقراءة خاطئة لمقتضيات الجغرافيا السياسية لكل من روسيا والصين؟ لماذا كانت خطة كيسنجر ممكنة؟ عندما دخل الرئيس نيكسون البيت الأبيض عام 1969 كانت العلاقات الصينية-السوفياتية تمر بحالة من الانقسام والتوتر الشديد. فما بدأ بخلافات أيديولوجية بين الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف والزعيم الصيني ماو تسي تونغ حول قيادة الحركة الشيوعية العالمية وتفسير المقولات الماركسية، سرعان ما تطور إلى مواجهة حقيقية. وبحلول أواخر الستينيات، وصلت العلاقات بين الدولتين الشيوعيتين إلى حد المواجهة العسكرية المباشرة عام 1969 على نهر أوسوري الفاصل بينهما، حيث وقعت اشتباكات مسلحة دموية أسفرت عن مئات القتلى. هذه المواجهات، جعلت بكين تدرك أن التهديد العسكري المباشر قد يأتي من جارها الشمالي، الاتحاد السوفياتي، قبل أن يأتي من الغرب، وهو ما خلق أرضية خصبة للتقارب مع الولايات المتحدة. على الجانب المقابل، كانت الصين وقتها في حالة عزلة دولية شبه كاملة، بعدما أضعفت الثورة الثقافية التي أطلقها ماو تسي تونغ عام 1966 الاقتصاد الصيني بشكل كبير، وأحدثت فوضى داخلية ضخمة أثرت على استقرار الحكم والمجتمع. وفي ظل انعدام أي شراكات دولية جدية، وعدم توفر التكنولوجيا أو الاستثمارات الخارجية الضرورية، كانت بكين بحاجة ماسة إلى منفذ يخفف من حدة هذه الضغوط. هنا جاء كيسنجر، يحمل معه عرضًا أميركيًا مغريًا: اعتراف دبلوماسي صريح، وفتح باب العلاقات الاقتصادية مع العالم، والتعاون التكنولوجي الذي كان الصينيون بأمس الحاجة إليه. من وجهة النظر الأميركية، كان التقارب مع الصين استجابة مرنة لضرورات الواقعية السياسية، وخطوة ناجحة نحو إضعاف الاتحاد السوفياتي. وأكثر من ذلك كانت الولايات المتحدة حينها متورطة بشكل مأساوي في حرب فيتنام ، وتبحث عن مخرج مشرّف يخفف الضغوط عليها، فارتأت إدارة نيكسون أن فك الارتباط بين الصين والاتحاد السوفياتي سيجعل من مهمة موسكو في دعم فيتنام الشمالية أكثر تعقيدًا، وسيعطي واشنطن حرية أكبر في المناورة العسكرية والسياسية في جنوب شرق آسيا. وداخليا في الولايات المتحدة، كان الرأي العام جاهزًا لتقبل مثل هذا التقارب التاريخي بسبب الإرهاق من حرب فيتنام والرغبة العامة في الحد من التوتر الدولي. في الوقت ذاته، كان الاتحاد السوفياتي يعاني من صعوبات اقتصادية وعسكرية كبيرة جعلته أقل قدرة على مواجهة هذا التحرك الأميركي المفاجئ. هذه البيئة هي التي جعلت واشنطن مستعدة لتقديم تنازلات جوهرية لبكين، منها الاعتراف بمبدأ " الصين الواحدة"، والتخلي عن تايوان كممثل رسمي للدولة الصينية في مجلس الأمن الدولي لصالح بكين، وهو الأمر الذي عزز موقف ماو تسي تونغ وأعطاه المبرر لهذه الانعطافة الحادة في سياسته الخارجية. الفكرة هنا أن كيسنجر ونيكسون لم يكونا قادرين على إحداث هذا التحول التاريخي داخل المعسكر الشرقي ما لم تكن ظروف المعسكر نفسه مهيأة لذلك، وما لم يكن ماو مستعدا لهذه المقايضة ومستفيدا منها. لكن العلاقات الروسية-الصينية اليوم لا تمر بنفس المرحلة، كما أن علاقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالرئيس الصيني شي جين بينغ ، ليست مثل علاقة ماو تسي تونغ ونيكيتا خروتشوف. روسيا والصين.. تحالف الضرورة المشتركة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، عادت العلاقات الصينية الروسية لتنمو بصورة مطردة. وفي نفس العام، وقع البلدان اتفاقية مشتركة لضبط الكثير من النزاعات الحدودية بينهما، ولاحقا جرت معالجة آخر هذه النزاعات في اتفاقية عام 2004 التي تناولت الجزء الشرقي من الحدود. وفي عام 2001 وقّع البلدان معاهدة صداقة، وهي اتفاقية مدتها 20 عامًا تُوفّر أساسًا لعلاقات متينة ومستدامة. في عام 2008، ضربت الأزمة المالية روسيا لتكشف العديد من نقاط الهشاشة الهيكلية في اقتصادها المرتبط بالغرب، وفي نفس العام عقد حلف شمال الأطلسي (الناتو) القمة المشهورة في بوخارست، التي فتحت الباب لمناقشة انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى الحلف، وأثبتت نية الولايات المتحدة توسيع نطاق عضوية الناتو في شرق أوروبا. وبعد سنوات قليلة كانت أوكرانيا تخرج من العباءة الروسية تماما بعد ثورة 2014 التي دعمتها واشنطن، مما دفع روسيا لغزو والسيطرة على شبه جزيرة القرم في العام نفسه. هذه التطورات مجتمعةً دفعت موسكو إلى تعزير اتجاهها شرقا وتعميق تحالفها مع الصين، وتعزز هذا التوجه مع وصول الرئيس شي جين بينغ إلى الحكم في بكين عام 2013، والذي يتبنى خطابا طموحا واستثنائيا لمواجهة الهيمنة الأميركية المنفردة على العالم. وفي 4 فبراير/شباط 2022، على هامش دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، جلس الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قاعة فخمة ليعلنا للعالم بداية حقبة جديدة من العلاقات الثنائية. لم يكن الإعلان تقليديًا، إذ جاء في خضم التوترات بين موسكو والغرب بشأن أوكرانيا واستعدادات بوتين لشن غزوه الشامل الذي هز أوروبا. في غضون ذلك، نمت العلاقات الاقتصادية بين البلدين بشكل ملحوظ، مع تزايد حاجة الصين إلى مصادر الطاقة، واعتماد روسيا على صادرات النفط والغاز لدعم اقتصادها. وبحلول عام 2023، بلغت قيمة التبادل التجاري بين البلدين نحو 190 مليار دولار، مع وجود اتفاق على زيادته إلى 250 مليارا بحلول عام 2030. تزامن ذلك مع إنشاء خط أنابيب "سيلا سيبيري" (قوة سيبيريا) الذي يضخ نحو 38 مليار متر مكعب من الغاز الروسي إلى الصين سنويًا، مع التخطيط لمضاعفة الكمية عبر خط "قوة سيبيريا 2" إلى 100 مليار متر مكعب بحلول عام 2030. لكن التعاون الاقتصادي، رغم ضخامته، لم يكن سوى مقدمة لتعاون ثنائي أعمق في المجالين العسكري والأمني. منذ عام 2018، ازدادت وتيرة التدريبات العسكرية المشتركة بشكل ملحوظ، إذ شاركت القوات الصينية لأول مرة في مناورات "فوستوك 2018″، التي كانت أكبر مناورات عسكرية روسية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي 2021، أجرت الدولتان مناورات بحرية مشتركة في بحر اليابان، أعقبتها مناورات جوية مشتركة شملت قاذفات استراتيجية حلقت قرب المجال الجوي لكوريا الجنوبية واليابان (حلفاء الولايات المتحدة). هذه المناورات العسكرية كانت رسائل واضحة تشير إلى مدى التنسيق بين جيشي البلدين في مواجهة التحديات المشتركة في آسيا. كذلك، لم تقتصر العلاقة على الاقتصاد والجيش فقط، بل امتدت أيضًا إلى الجوانب الدبلوماسية والاستراتيجية. في مجلس الأمن الدولي، استخدمت الصين وروسيا حق النقض (الفيتو) بشكل متزامن ضد القرارات الغربية المتعلقة بسوريا وفنزويلا وميانمار. كما أعلنت الدولتان عام 2022 عن اتفاق لتعزيز التعاون في مجالات التكنولوجيا المتقدمة والأمن السيبراني والفضاء، وهي قطاعات حساسة كانت دائمًا محل خلاف في العلاقات الدولية. وعلى مستوى النظرة الأوسع للنظام الدولي، تتقارب رؤى موسكو وبكين بشكل ملحوظ، وتتشارك الدولتان في محاولات إقليمية ودولية لهندسة تحالفات وبنى مؤسسية موازية للبنى الغربية التي تُمارَس من خلالها الهيمنة الأميركية، مثل مؤسسة شنغهاي للتعاون، التي توصف بأنها مشروع لبناء "ناتو شرقي"، فضلا عن منظمة البريكس ، وغيرهما من أطر التعاون. تاريخيًا، يختلف وضع هذه العلاقة كثيرًا عما كانت عليه العلاقة بين الصين والاتحاد السوفياتي. في الخمسينيات والستينيات، كانت العلاقة الصينية السوفياتية تقوم على أيديولوجيا شيوعية مشتركة، لكن سرعان ما تفككت بسبب الخلاف على الزعامة العالمية للحركة الشيوعية. في المقابل، تقوم العلاقة الصينية الروسية اليوم على أسس براغماتية واضحة، وحسابات جيوسياسية وموازنة عقلانية للمصالح المشتركة في مواجهة الهيمنة الأميركية الغربية. ورغم أن بكين اتخذت موقفا حذرا من الحرب في أوكرانيا، فإنها ساعدت روسيا على تجاوز العقوبات ولم تتجاوب مع المساعي الأميركية لتركيع موسكو اقتصاديا. وحينما أغلق الاتحاد الأوروبي تدريجيًا أسواقه أمام النفط الروسي، برزت الصين كأكبر مشترٍ للنفط الروسي، مستفيدةً من تخفيضات كبيرة قدمتها موسكو. وفي الأشهر الستة الأولى فقط من الحرب، زادت الصين وارداتها من النفط الروسي بنسبة 55% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. في الوقت نفسه، دعمت الصين روسيا بصورة فعالة في المجال المالي والنقدي. وعندما بدأت العقوبات الغربية تؤثر على قدرة موسكو على استخدام الدولار واليورو في التجارة الدولية، توسعت بكين في استخدام اليوان الصيني في معاملاتها التجارية مع موسكو. وفقًا لتقرير نشرته وكالة "رويترز" في أبريل/نيسان 2024، ارتفعت نسبة المعاملات التجارية الروسية-الصينية التي تُسوّى باليوان والروبل من حوالي 20% قبل الحرب إلى أكثر من 85% خلال عامين فقط، ما قلّص بشكل حاد تأثير العقوبات المالية الغربية. وليس لدى ترامب اليوم ما يعوض به روسيا نظير قطع أو تقليص علاقتها مع الصين، فموسكو ليست بحاجة إلى اعتراف دولي كما كانت بكين في أوائل السبعينيات، وليست بحاجة إلى إنقاذها من جار قوي يهدد حدودها، في حين أن معركتها اليوم مع الغرب ذاته، لا مع الصين. قيود التحالف لا تعني الانفصال الجدير بالذكر أن كل ما سبق لا يعني بالضرورة أن التحالف بين روسيا والصين بصدد أن يسفر عن قوة مشتركة أو حلف دائم بصورة مطلقة، فهناك تناقضات لا يمكن جسرها بين الضرورات الجيوسياسية للبلدين، لكنها كلها تقع دون أولوية المواجهة المشتركة للهيمنة الغربية. فعلى الرغم من أن البلدين يتجاوران جغرافيًّا عبر أطول حدود دولية في العالم، بطول يزيد عن 4200 كلم، فإن المراكز السكانية الرئيسية في روسيا تتواجد غربًا في جوارها الأوروبي بعيدا عن الصين، بينما يعيش معظم سكان الصين على الساحل، وينخفضون بشكل حادٍ غرب خط هطول الأمطار السنوي، حيث الهضاب والسلاسل الجبلية القاحلة والتضاريس الوعرة في شمال الصين وغربها. ومن ثم، لا توجد صلات عميقة بين الشعبين الروسي والصيني، كما أن الأصول البعيدة للحضارتين الصينية والسلافية تختلفان جذريا. على جانب آخر، تفرض الجغرافيا على روسيا والصين أولويات استراتيجية متباينة، حيث يمثل تأمين العمق الغربي للحدود الروسية أولوية قصوى لموسكو، تحديدا في بيلاروسيا وأوكرانيا بصورة أكثر إلحاحا، وفي البلطيق بصورة تالية، في حين تحدد الجغرافيا أولويات بكين في الانعتاق البحري شرقا وكسر الطوق المفروض عليها عبر سلاسل محكمة من القواعد العسكرية الأميركية وشبكات الدول الحليفة لواشنطن. هذا فضلا عن تباين العقليات الاستراتيجية الصينية والروسية من حيث تحديد أولويات الانتشار الخارجي وطرق بسط النفوذ والهيمنة، حيث تميل الصين إلى التمدد الاقتصادي الهادئ والتعاون في مجالات التنمية مع دول العالم، والذي يُرجح أن يتحول في المستقبل إلى نفوذ سياسي وأمني، بينما تميل موسكو إلى المجالات الأمنية المباشرة وتقديم نفسها للدول المستهدفة بصفتها مزودا للأمن المحلي وداعما لاستقرار الأنظمة عبر شبكات واسعة من الشركات الأمنية وموردي الأسلحة. هذا التباين هو ما يقلل من فعالية الأوعية الجماعية المشتركة التي تجمعهما معا، مثل منظمة شنغهاي للتعاون، حيث يختلف الطرفان في كيفية توظيفها وتطويرها. لكن هذه التباينات الثنائية تتلاشى بشكل كبير حين يتعلق الأمر بالمواجهة مع النفوذ الغربي، وهو ما يؤكد أن فرص ترامب محدودة للغاية في عكس مسار كيسنجر مجددا. كيف يتعامل بوتين مع نوايا ترامب؟ في الحقيقة، لم يكن ترامب أول رئيس أميركي يسعى لاحتواء روسيا وتقليل حدة عدائها للغرب عبر تقديم إغراءات اقتصادية ودبلوماسية مقابل تحجيم حضورها كقوة عالمية منفردة، لكن هذه الخطط كانت مصيرها دائما هو الفشل. ففي الأشهر التي سبقت غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، سعى بايدن إلى "ترميم" العلاقات الثنائية مع موسكو من خلال إقامة حوار حول الاستقرار الاستراتيجي خلال اجتماعه مع بوتين في يونيو/حزيران 2021. في الاجتماع، وصف بايدن روسيا بأنها "قوة عظمى" لتهدئة مخاوف موسكو من معاملتها كشريك أصغر للصين. لكن روسيا، بحسب تحليل معهد "ستراتفور"، اعتبرت ذلك دليلا على ضعف واشنطن وتراجع قوتها، وقدّر الكرملين لاحقاً أن الولايات المتحدة، بغض النظر عن الحزب الذي يتولى الرئاسة، ستعود على الأرجح في النهاية إلى فكرة "إعادة ضبط" العلاقات مع روسيا للأسباب الاستراتيجية نفسها. ومن المرجح أن ثقة الكرملين بهذا التقييم طمأنت بوتين عندما أصدر الأمر بغزو أوكرانيا، إذ كان يعلم أنه من شبه المحتوم أن تسعى الإدارة الأميركية القادمة إلى تحقيق انفراج في العلاقات مع موسكو، مما يعني أن أي رد أميركي أولي سيكون قصير الأمد، وبالتالي غير قادر على كسر عزيمة الروس. وحاليا، يحاول ترامب مرة أخرى تقديم الحوافز التجارية والاقتصادية لموسكو من قبيل الوعد برفع العقوبات الاقتصادية، والتعاون في مجال المعادن النادرة، والتنقيب في القطب الشمالي وغيرها، لكن هذه الحوافز كلها تكشف لبوتين نقطة ضعف إدارة ترامب الرئيسية، وهي عدم رغبته في الانخراط في هذه الحرب وغياب الإيمان بمبرراتها أو بأولوية خوضها. صحيح أن نتائج الحرب -حتى الآن- لم تأت موافقة لطموحات بوتين، وما زالت موسكو عالقة في أوكرانيا، فلم تستطع السيطرة على العاصمة كييف ولا تغيير نظامها السياسي، ولا انتزاع موقف أميركي أو غربي يتعهد بحياد أوكرانيا، ولكن في المقابل أيضا؛ لم يتمكن الغرب من دحر الغزو الروسي ولا إقناع القيادة الروسية بالفشل. وبدلا من ذلك، بدأت الخلافات تضرب عمق التحالف الغربي حول حدود الدعم الذي يجب تقديمه لأوكرانيا وجدوى استمرار الحرب، مما يعطي بوتين دفعة معنوية هائلة للاستمرار في حربه، بصرف النظر عن تجاوبه الحذر والتكتيكي مع دعوات التفاوض، حتى لو أسفرت عن اتفاقات هدنة محدودة. ويبدو أن هذه الرسالة قد وصلت إلى ترامب، بصورة أو بأخرى، ومؤخرا نقلت "وول ستريت جورنال" عن "مصادر مطلعة" أن الرئيس الأميركي أخبر قادة أوروبيين، في اتصال هاتفي، أن الرئيس الروسي ليس مستعدا لإنهاء الحرب، لاعتقاده بأنه في موقع المنتصر. في هذا السياق، تبدو محاولة احتواء موسكو أميركيا وعزلها عن بكين -في جوهرها- محاولة لعكس حركة التاريخ. لم يحقق بوتين بعدُ أهدافه العميقة من الحرب في أوكرانيا، وليس مستعدا للتخلي عنها بعد هذه التضحيات الهائلة، وكييف أيضا ليست مستعدة للاستسلام لمطالب موسكو بعد كل هذه الدماء، وترامب ليس مستعدا للفشل في تحقيق وعوده والظهور بمظهر الضعيف أمام بوتين، وتلك هي معضلة الحرب التي لن يسعفها الاستدعاء المبسط لأحداث تاريخية تبدلت سياقاتها منذ عقود.


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
الرئيس ضد الجامعة.. القصة الكاملة للصراع بين ترامب وهارفارد
تشانغ كاي تشي، طالب ماجستير صيني في السنة الدراسية الأولى بكلية الصحة العامة في جامعة هارفارد، كان قد حجز رحلة للعودة إلى الصين لقضاء عطلة الصيف القادمة، لكن قرار إدارة ترامب بمنع جامعته من تسجيل الطلاب الدوليين باغته. وعلى إثر ذلك ألغى تشانغ خططه بالعودة إلى بلاده، قلقا من أنه لن يتمكن من العودة إلى الولايات المتحدة إذا غادر. قضى تشانغ ليالي عدة بلا نوم، ورغم أن أمر التقييد القضائي المؤقت للقرار بعث في قلبه بعض الراحة، فإن خططه الصيفية لا تزال معطلة في ظل ضبابية المشهد، وفقا لما نقلته عنه صحيفة "وول ستريت جورنال". يُعد كاي تشي واحدا من بين قرابة 7 آلاف من الطلاب الدوليين في جامعة هارفارد الذين وجدوا أنفسهم عالقين في اشتباك بين جامعتهم وبين الرئيس ترامب وإدارته، ومن المؤكد أن موقفه ازداد تعقيدا بحكم انتمائه إلى 277 ألف طالب صيني في الولايات المتحدة من المرجح أن تُراجَع تأشيراتهم لفحص علاقاتهم بالحزب الشيوعي الصيني، وتحديد إذا ما كانوا يدرسون تخصصات حساسة تخطط الإدارة الأميركية الحالية لحرمان الصينيين من دراستها، وفق تأكيدات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو. تقدم هذه القصة القصيرة لمحة عن بعض تداعيات المعركة المحتدمة بين ترامب والجامعات الأميركية التي تتصدرها جامعة هارفارد في الوقت الراهن، وهي معركة اشتعلت منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني الماضي واتخذت عناوين عدة، بدأت بمزاعم "مكافحة معاداة السامية" وحصار الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل في الجامعات الأميركية، لكنها سرعان ما كشفت عن وجوه أخرى تتعلق بالصراع على هوية المجتمع الأميركي وطبيعة العلاقة بين الحكومة والمؤسسات التعليمية. كيف اشتعل الصراع بين ترامب وهارفارد؟ بدأ الأمر بعد تولي دونالد ترامب مهام منصبه بفترة وجيزة، حيث وقَّع أمرا تنفيذيا بتشكيل "فرقة عمل" معنية بمعاداة السامية بهدف "استئصال الممارسات المعادية للسامية في المدارس والجامعات". وبحلول مارس/آذار، أعلن الفريق المُشكَّل أنه سيراجع عقودا تزيد قيمتها على 255 مليون دولار ومنحا متعددة السنوات بقيمة 8.7 مليارات دولار بين الحكومة الفدرالية وجامعة هارفارد والهيئات التابعة لها، بما في ذلك المستشفيات التي يُدرَّس أطباؤها في كلية الطب بجامعة هارفارد، في محاولة لفرض تغيير في مؤسسة عصفت بها الاحتجاجات المناصرة لفلسطين عقب حرب الإبادة التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة المحاصر. وقتها، اتهمت وزيرة التعليم ليندا ماكماهون جامعة هارفارد بالفشل في "حماية طلابها من التمييز المعادي للسامية، والترويج لأيديولوجيات مثيرة للانقسام على حساب حرية البحث، ما عرّض سُمعتها لخطر جسيم" بحسب وصفها. وفي وقت لاحق من شهر أبريل/نيسان، أرسلت الإدارة خطابا تطالب فيه الجامعة باستيفاء 10 متطلبات شملت تغييرات في المناهج الدراسية وحظر قبول الطلاب "المعادين للقيم الأميركية"، وإجراء تدقيق للتحقق من "تنوع وجهات النظر" في الجامعة (حيث تتهم الإدارة الجامعة بالتمييز ضد الأميركيين البيض المحافظين)، ومن جانبها رفضت هارفارد الامتثال لطلبات الإدارة ووصفتها بأنها غير قانونية. كان رد الإدارة الأميركية قاسيا، ففي البداية، قامت بخفض 2.2 مليار دولار من منح الأبحاث متعددة السنوات، و60 مليون دولار من العقود الممنوحة لهارفارد، معظمها من المعاهد الوطنية للصحة (NIH)، وهي جهات حكومية. كما جمّدت ما يقارب 500 منحة من المعاهد الوطنية للصحة لمؤسسات تابعة لجامعة هارفارد، مثل مستشفى بريغهام والنساء (Brigham and Women's Hospital) في بوسطن، وهي ثاني أكبر مستشفى تعليمي تابع لكلية الطب في هارفارد. أكثر من ذلك، قررت الإدارة منع الجامعة من الحصول على منح فدرالية مستقبلية، كما أوقفت منحا بقيمة 450 مليون دولار من ثماني وكالات فدرالية أخرى. وأوقفت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) منحا بقيمة 60 مليون دولار للجامعة، فيما حثّ البيت الأبيض جميع الوكالات الفدرالية على إلغاء أي عقود متبقية مع هارفارد، التي تُقدَّر قيمتها بنحو 100 مليون دولار، وبذلك وصل إجمالي الأموال الفدرالية المجمّدة للجامعة إلى أكثر من 3.2 مليارات دولار. لم تقف الأمور عند هذا الحد، حيث تهدد الإدارة بإلغاء إعفاء جامعة هارفارد من الضرائب ومعاملتها بوصفها كيانا سياسيا، وهي خطوة من شأنها أن تُخضِع أغنى جامعة في البلاد لضريبة دخل فدرالية باهظة جدا. وفي منشور له على موقع "تروث سوشيال" بتاريخ 15 أبريل/نيسان كتب ترامب: "ربما يجب على هارفارد أن تفقد إعفاءها الضريبي وتُفرَض عليها الضرائب بوصفها كيانا سياسيا إذا استمرت في الترويج لـ(المرض) السياسي والأيديولوجي والإرهابي". كما تدرس الإدارة فرض قيود على المنح والتبرعات (الأجنبية) للجامعة بدعوى تقديمها إفصاحات "غير كاملة وغير دقيقة حول مصادر دخلها". وأخيرا جاء الفصل الختامي بقرار إدارة ترامب في 22 مايو/أيار الماضي بإلغاء امتياز جامعة هارفارد بتسجيل الطلاب الدوليين الذين يُشكِّلون 27% من عدد طلاب الجامعة (نحو 6800 طالب)، ما يهدد فقدان مئات الملايين من الدولارات سنويا من العائدات التي يوفرها هؤلاء الطلاب، ويضع الاستقرار المالي والأكاديمي للجامعة على المحك. لماذا هارفارد تحديدا؟ حسنا، هارفارد هي البداية، أو على وجه الدقة هي النموذج الأكبر والأبرز، وهي مثال عملي تضربه إدارة ترامب للجامعات الأميركية على عواقب "عصيان" التعليمات، هذا المثال يأتي مع الجامعة الأقوى والأكثر نفوذا واستقلالا ماليا والأرفع سُمعة على المستوى العالمي، أي إن المقصود ليس جامعة هارفارد بالتحديد، ولكن نظام التعليم الجامعي في الولايات المتحدة الذي يرغب ترامب في إعادة تشكيله بصورة جذرية، وهذا ما أشار إليه أكثر من جهة إعلامية أميركية، ومنها مجلة "فوكس" (Vox). في الحقيقة، لم تكن هارفارد الجامعة الأولى التي سقطت فوقها مطارق ترامب. لقد نالت جامعة كولومبيا في نيويورك الضربة الأولى في مارس/آذار الماضي، حين أوقفت إدارة ترامب 400 مليون دولار من الأموال الفدرالية المخصصة للجامعة التي انطلقت منها شرارة الاحتجاجات الطلابية المطالبة بوقف الحرب على غزة، بزعم "تقاعسها عن مكافحة معاداة السامية"، و"عدم حمايتها الطلاب اليهود طوال المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين". وبعد تهديد الإدارة 60 جامعة بالمصير ذاته، أرسلت إدارة ترامب في 13 مارس/آذار مذكرة إلى كولومبيا وحدها فيها عدد من الشروط الواجب استيفاؤها في غضون 7 أيام للنظر في مسألة الإفراج عن الأموال مستقبلا. وقد رفعت كولومبيا الراية البيضاء مبكرا ووافقت على معظم مطالب الإدارة، ومنها محاصرة الاحتجاجات الجامعية وحظر ارتداء الأقنعة فيها، وتوظيف 36 ضابط شرطة جديد في الحرم الجامعي ومنحهم صلاحية طرد واعتقال المحتجين، وتسليم بيانات الطلاب للحكومة الفدرالية. كذلك قامت كولومبيا بتعيين نائب عميد يتمتع بسلطة واسعة للإشراف على قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأفريقيا، ومركز الدراسات الفلسطينية، كما أكدت بأنها ستقوم بإعادة مراجعة تعريف معاداة السامية داخليا، بالإضافة إلى توسيع هيئة التدريس في معهد الدراسات الإسرائيلية واليهودية. على المستوى الشكلي، ما يريده ترامب هو "الامتثال" الذي رفضت الجامعة العريقة تقديمه للإدارة حتى الآن (يرى مسؤولو الإدارة أن الجامعة تراوغ في تقديم متطلبات الإفصاح التي تفرضها). أما على المستوى الموضوعي، وكما يظهر من تصريحات ترامب وأفراد إدارته، فإن مشكلة ترامب مع جامعات النخبة تتجاوز الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل (تجاوبت هارفارد بالفعل مع الكثير من مطالب الإدارة في هذا الملف، مثل تعليق عمل لجنة التضامن مع فلسطين، والصمت على إلغاء تأشيرات عدد من الطلاب، ناهيك برفض المطالب بقطع العلاقات التجارية والأكاديمية مع الكيانات المتورطة في العدوان والمستفيدة منه). حيث يرى الرئيس أن هذه الجامعات، التي تخرّج قطاعا مؤثرا من الطبقة السياسية والتكنوقراط المرموقين والجنرالات والقضاة والمديرين التنفيذيين وحتى المشرّعين في البلاد، باتت مرتعا لأفكار "اليسار الليبرالي"، وأن إدارتها وسياساتها وحتى مناهجها التعليمية تميز بشكل واضح ضد اليمين المحافظ. وبشكل خاص، تنظر الإدارة بعين الارتياب إلى برامج التنوع والشمول التي تتبنّاها جامعات النخبة الأميركية. تختلف هذه البرامج بشكل واضح، لكن الكثير منها ينتمي إلى مجموعة من المعايير التي تطبّقها المؤسسات العلمية الأميركية منذ إصدار قوانين الحقوق المدنية في منتصف الستينيات من القرن الماضي، لضمان إعطاء الأقليات فرصة للارتقاء العلمي والمهني وإصلاح ما أفسدته السياسات العنصرية السابقة. لكن العديد من هذه البرامج تعطي فرصا تمييزية على أساس "الهويات الجنسية المستحدثة"، وهي مسألة تثير الكثير من الجدل في الولايات المتحدة حاليا بين الليبراليين والمحافظين. على سبيل المثال، تشير الادعاءات الصادرة عن الحكومة الأميركية إلى وجود خلل في المعايير "العِرقية" و"الجنسية" لسياسات التوظيف في الجامعة، يظهر في ارتفاع أعداد أعضاء هيئة التدريس من ذوي البشرة الملونة، والنساء، وأصحاب الهويات الجنسية غير التقليدية (المثليين والمتحولين جنسيا ومزدوجي التوجه الجنسي)، مقابل انخفاض عدد الرجال البيض في الوظائف الدائمة. يتوافق ذلك مع نتائج استطلاع أجرته صحيفة "هارفارد كريمسون" الطلابية عام 2023 خلص إلى أن 2.5 % فقط من أعضاء هيئة التدريس يُعرّفون أنفسهم بأنهم محافظون؛ بينما يُعرّف أكثر من ثلاثة أرباعهم أنفسهم بأنهم ليبراليون. في السياق ذاته، تُجري وزارة التعليم تحقيقات أيضا بشأن ما إذا كانت جامعة هارفارد تمارس ما تُسميه "التمييز العنصري ضد الطلاب المتقدمين للدراسة الجامعية". هذه السياسات يراها ترامب وأنصاره انحرافا عن المهمة الأصلية للجامعات الأميركية التي يمتلك معظمها للمفارقة جذورا مسيحية محافظة، وتلقّت لعقود طويلة الدعم من الكنائس، ودرّس فيها رجال الدين. الأكثر من ذلك أن هذه السياسات لا تؤثر على الجامعات فقط، ولكنها تُلقي بأصدائها على البيروقراطية الأميركية التي يرى ترامب أنها باتت "أكثر ليبرالية" و"أقل محافظة"، ومن ثم فإن محاولات ترامب لإعادة تشكيل المشهد التعليمي جزء لا يتجزأ من حملته لـ"تغيير" البيروقراطية الأميركية وتدمير مراكز القوة المؤسسية اليسارية في البلاد، ومنها وسائل الإعلام الرئيسية ومؤسسات التعليم العالي الكبرى، وهو ما عبَّر عنه نائب الرئيس جيه دي فانس في مقابلة في فبراير/شباط 2024 ملخّصا الدافع السياسي وراء استهداف الجامعات بشكل واضح للغاية: "يجب علينا أن نعمل على إصلاحها بشكل عدواني بطريقة تجعلها أكثر انفتاحا على الأفكار المحافظة". بخلاف ذلك، يرى ترامب الجامعات الأميركية، وبشكل أكثر تحديدا برامج دراسة الطلاب الأجانب، نافذة للاختراق الأجنبي، ولا أدل على ذلك من اتهام وزيرة الأمن الداخلي كريستي نويم لجامعة هارفارد بالتعاون مع الحزب الشيوعي الصيني من خلال استضافة وتعليم أعضائه، ليعلن وزير الخارجية بعدها البدء في إجراءات إلغاء تأشيرات الطلاب الصينيين المرتبطين بالحزب الشيوعي أو أولئك الذين يدرسون في مجالات "حساسة". ويُعد "التمويل الفدرالي" هو السلاح الأهم للرئيس وإدارته في معركتهم المحتدمة ضد جامعات النخبة القوية. لماذا تمنح الحكومة الأميركية الأموال للجامعات أصلا؟ للجواب عن هذا السؤال علينا أن نتعرف سريعا على هيكل نظام التعليم الأميركي الفريد إلى حدٍّ ما. بادئ ذي بدء، لا تمتلك الولايات المتحدة أي "جامعات وطنية" (الجامعة الوطنية هي تلك التي تأسست بواسطة الحكومة الفدرالية وتتلقى التمويل منها)، وذلك رغم محاولة العديد من الرؤساء في الفترة المبكرة من عمر الاستقلال الأميركي فعل ذلك، وعلى رأسهم أندرو جاكسون (الرئيس السابع للولايات المتحدة) على سبيل المثال، والسبب الرئيسي في ذلك هي المخاوف من فرض الحكومة المركزية سيطرة واسعة على التعليم. بدلا من ذلك ظهرت "الجامعات العامة" التي تتلقى تمويلا من حكومات الولايات، مثل جامعات ميتشغان وتكساس وفرجينيا وكاليفورنيا وغيرها، لكن الجامعات الأكبر والأوسع شهرة والأكثر تميزا أكاديميا كانت من "الجامعات الخاصة"، وفي مقدمتها الجامعات الثمانية الأشهر في الساحل الشرقي للولايات المتحدة، وهي جامعات براون و كولومبيا وكورنيل وكلية دارتموث و هارفارد وبرينستون وبنسلفانيا و جامعة ييل ، وجميعها جامعات عريقة يعود تاريخ تأسيسها إلى ما قبل الاستقلال الأميركي عام 1776، باستثناء جامعة كورنيل فقط التي تأسست عام 1865. على مدار عمرها الطويل، جمعت هذه الجامعات الأموال من مصادر خاصة، في مقدمتها التبرعات، إضافة إلى المصروفات الدراسية التي يدفعها الطلاب (المحليون والدوليون)، وتنافست فيما بينها لجذب الطلاب ومصادر التمويل، ما جعلها خاضعة تماما لقواعد السوق الحر، وهي القواعد التي أجبرت عشرات الكليات والجامعات على الإغلاق. ولكن بحلول زمان الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين، قررت الحكومة الفدرالية التدخل لمنع إغلاق الجامعات والكليات الكبرى، ومنحتها تمويلا فدراليا للبقاء على قيد الحياة. تعززت هذه السياسة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبشكل أخص خلال سنوات الحرب الباردة. وقتها، ظهر إلى النور نموذج "الجامعات البحثية" (التي تتوسع في خدمات البحث العلمي بجانب التعليم) عندما استعان الجيش بالكليات والجامعات الكبرى من أجل إجراء الأبحاث حول التقنيات العسكرية المهمة. وبحلول عام 1958، أقرّ الكونغرس قانون التعليم الدفاعي الوطني ردا على إطلاق الاتحاد السوفياتي أول قمر صناعي في العالم باسم "سبوتنيك"، وانطلقت مع هذا الحدث استثمارات أميركية ضخمة في العلوم والتكنولوجيا. مهّد هذا التمويل الطريق لشراكة طويلة الأمد، ساهمت من خلالها الحكومة الفدرالية في تحويل الجامعات الأميركية إلى مراكز عالمية للبحث والابتكار واستقطاب المواهب من مختلف أرجاء العالم. وللوقوف على حجم هذا التمويل، تشير بيانات عام 2023 إلى أن الكليات والجامعات الأميركية أنفقت زهاء 109 مليارات دولار على البحث والتطوير، 60 مليار دولار منها، أو ما يقرب من نسبة 55%، قدمتها الحكومة الفدرالية، وفقا لبيانات المؤسسة الوطنية للعلوم. وعلى نطاق أوسع، تشير بيانات وزارة التعليم إلى أن إجمالي حجم التمويل الفدرالي لقطاع التعليم العالي بلغ أكثر من 160 مليار دولار. تقدم الحكومة هذه التمويلات من خلال قنوات متعددة، أبرزها منح الأبحاث العلمية التي تقدمها مؤسسات مثل المعاهد الوطنية للصحة (NIH)، ومؤسسة العلوم الوطنية (NSF)، ووزارة الطاقة (DOE)، ووكالة أبحاث الدفاع المتقدمة (DARPA)، ووكالة الفضاء (NASA)، وغيرها. وهناك أيضا المساعدات الطلابية لذوي الدخل المحدود مثل برنامج "بيل غرانتس" (Pell Grants)، وبرامج التمويل للكليات التي تخدم فئات مجتمعية محرومة مثل الكليات والمعاهد المرتبطة تاريخيا بذوي البشرة السمراء، وهي التي أُسِّست لخدمة الأميركيين من أصل أفريقي وتُعرف بـ"HBSUs"، ومن أمثلتها جامعة هاورد في العاصمة واشنطن، وكلية سبيلمان في جورجيا، وجامعة هامبتون في فرجينيا، وجامعة كالفن في كارولينا الجنوبية، وغيرها. ما مدى اعتماد الجامعات على التمويل الحكومي؟ تختلف هياكل التمويل كثيرا بين الجامعات العامة وجامعات النخبة الخاصة. وفق بيانات عام 2023، يأتي أكثر من نصف إيرادات الكليات والجامعات العامة الأميركية من مصادر حكومية (إجمالي 53%)، منها 18% تأتي من الحكومة الفدرالية/المركزية، بواقع 68.9 مليار دولار، مقابل نسبة 35% من التمويل تأتي من حكومات الولايات والحكومات المحلية (المدن) وباقي المخصصات المالية الحكومية، بإجمالي 137 مليار دولار. أما باقي التمويلات (غير الحكومية) فيأتي أغلبها من الرسوم الدراسية (بنسبة 21%)، والخدمات والمبيعات والمصادر الأخرى (بنسبة 14%). تختلف الصورة بشكل كبير في الجامعات الخاصة، التي تمتلك هياكل تمويلية أكثر فرادة وتميزا. وتُعد الأوقاف الجامعية تحديدا ركنا مهما في هياكل التمويل تلك، وهي صناديق استثمار دائمة تُدرّ عوائد تُساعد في تمويل الجامعات. تُنشأ الأوقاف عندما يُقدِّم المانحون هبةً يرغبون في استمرارها لغرض محدد ولأجل طويل. تُستَثمر هذه الهبات المالية، ويضع المانحون (مع المنظمة التي يهبون لها الأموال) مسارات لكيفية استثمار عائدات أموالهم، سواء في برامج دعم الطلاب غير القادرين (وهو المسار الرئيسي لإنفاق عائدات الأوقاف)، أو تطوير المباني والمنشآت أو البرامج الأكاديمية، أو غير ذلك. تمتلك الجامعات الأميركية الكبرى أوقافا ضخمة تناهز ميزانيات دول بأسرها. على سبيل المثال، تُقدَّر قيمة أوقاف جامعة هارفارد بنحو 52 مليار دولار، وجامعة ييل بـ41 مليار دولار، وجامعة ستانفورد بـ38 مليار دولار، وجامعة كورنيل بـ11 مليار دولار. وللمفارقة، فإن الرابطة الوطنية للجامعات الأميركية (NACUBO) قدَّرت إجمالي وقف جامعة أكسفورد البريطانية بجميع كلياتها الـ43 والجامعة المركزية، وهو الوقف الأكبر في أوروبا، بـ8.3 مليارات جنيه إسترليني (نحو 11 مليار دولار). وبخلاف الأوقاف، يمكن للجامعات الحصول على منح كبيرة لأغراض خاصة، سواء من الأفراد أو المؤسسات، كما تحصل الجامعات المرموقة على دخول كبيرة من الرسوم الدراسية، خاصة من الطلاب الدوليين الذين لا يحصلون على المنح غالبا. كذلك تحصل الجامعات على الأموال من خلال عائدات استثمارية في بعض المشروعات ومن رسوم الخدمات التي تقدمها، سواء كانت خدمات دراسية مثل المطبوعات والدورات التدريبية أو الخدمات الأخرى مثل الرعاية الصحية في المستشفيات الجامعية وغيرها. لنأخذ جامعة كولومبيا مثالا، بلغت الإيرادات التشغيلية للجامعة في السنة المالية الماضية (2024) نحو 6.6 مليارات دولار أميركي. وكانت أكبر ثلاثة مصادر دخل لها هي إيرادات رعاية المرضى في المرافق الطبية التابعة للجامعة (بنسبة 27% – تعادل 1.8 مليار دولار)، والرسوم الدراسية بعد خصم المساعدات المالية المقدمة للطلاب (بنسبة 23% – تعادل 1.5 مليار دولار)، والمنح والعقود الحكومية (بنسبة 20% – تعادل 1.3 مليار دولار). في حين قُدِّر إجمالي مساهمات المنح والتبرعات وعوائد الاستثمارات مجتمعين بنسبة 22% (نحو 1.45 مليار دولار). ماذا عن تمويل هارفارد؟ وماذا يعني في سياق الصراع مع ترامب؟ يختلف هيكل تمويل جامعة هارفارد نسبيا حتى بالمقارنة مع جامعة كولومبيا، والسبب الرئيسي في ذلك هو الوقف الضخم للجامعة (52 مليار دولار) الذي أدرّ على الجامعة عائدات بقيمة 2.4 مليار دولار في عام 2024، بما يعادل نسبة 38% من نفقاتها التشغيلية البالغة 6.4 مليارات دولار. وعموما، فإن دخل جامعة هارفارد من الأوقاف وجميع أشكال التبرعات الأخرى يغطي 45% من نفقاتها. بعد ذلك تأتي الرسوم الدراسية التي توفر 21% من نفقات الجامعة (بما يعادل 1.3 مليار دولار تقريبا)، تأتي حصة كبيرة منها من الطلاب الدوليين الذين يدفع معظمهم كامل الرسوم الدراسية (تصل إلى 100 ألف دولار سنويا). أما نصيب الحكومة الفدرالية من التمويل فبلغ 11% (يعادل 700 مليون دولار) موجهة لتمويل الأبحاث المدعومة فدراليا. ظاهريا، يوحي ذلك الهيكل التمويلي أن الجامعة تمتلك حرية مالية للتغلب على الضربات المتعلقة بنقص التمويل الفدرالي، وهذا صحيح إلى حدٍّ ما، لكن المشكلة أن هذه البرامج الفدرالية غالبا ما تكون متعددة السنوات، ما يعني إيقاف أبحاث في مراحل متقدمة بالفعل. وقد حذّرت هارفارد على موقعها الإلكتروني من أن غياب التمويل الفدرالي سيعني توقف الأبحاث المتطورة في أمراض مثل السرطان وأمراض القلب والسكري، وسيفتقر الباحثون إلى الموارد اللازمة لإنهاء المشاريع الجارية أو تمويل مشاريع جديدة. أكثر من ذلك، تلقت بعض مختبرات هارفارد، بما في ذلك مختبر يعمل على تطوير الأعضاء البشرية القائمة على الرقائق، الذي يُحاكي وظيفة الأعضاء، أوامر بوقف العمل في أعقاب جهود إدارة ترامب لخفض التمويل. وإضافة إلى ما سبق، يهدد وقف الطلاب الدوليين بفقدان المزيد من العائدات. وحتى لو نجحت الأوامر القضائية أو أي تسوية أخرى في دفع الإدارة إلى التراجع عن موقفها، فإن الطلاب سيكونون مترددين في دفع الأموال ووضع مستقبلهم على المحك في مواجهة قرارات حكومية متقلبة. وتُعد تلك ضربة هائلة لسمعة جامعة هارفارد والجامعات الأميركية عموما في سوق التعليم الدولي من المؤكد أنها ستؤثر على قدرتها التنافسية، واستقطابها للعقول اللامعة. وعلى المدى الطويل سوف يعني ذلك تراجعا في المستوى الأكاديمي للجامعات، وفي إسهاماتها البحثية ونسب الأبحاث الجديدة والعقول اللامعة التي تُخرّجها. وحتى أموال الوقف الكبيرة لن تكون كافية لتعويض هذه الأضرار، نظرا لحقيقة أن الأوقاف غالبا ما تكون مشروطة بمسارات إنفاق محددة، معظمها يتعلق بدعم الطلاب غير القادرين وإنشاء البنية التحتية وتطويرها، ومع اشتداد المعارك والصراعات التي تحيط بالجامعة، ربما يبدأ المانحون أنفسهم في تقليص مساهماتهم. كما أن ترامب لا يزال يمتلك العديد من أوراق الضغط على الجامعة مثل مسألة الضرائب والمساعدات الفدرالية للطلاب التي يمكن حرمان هارفارد منها أيضا. في الواقع، كانت جامعة هارفارد تعاني بالفعل من مشكلات كثيرة على مستوى السمعة حتى قبل قرارات ترامب، لا سيما فيما يتعلق بحرية التعبير والحرية الأكاديمية في حرمها الجامعي. فقد سجلت الجامعة نتائج سيئة للغاية في العامين الماضيين على التوالي في تصنيفات حرية التعبير في الجامعات التي أصدرتها مؤسسة الحقوق الفردية والتعبير "FIRE". وخلصت استطلاعات المؤسسة إلى أن 67% من طلاب هارفارد قالوا إن من الصعب إجراء حوار صريح وصادق حول "الصراع الإسرائيلي الفلسطيني"، في حين أكد 84% من أعضاء هيئة التدريس أنهم يجدون صعوبة في التحدث بصراحة وصدق حول هذا الموضوع. لكن موقف إدارة جامعة هارفارد تجاه القضية الفلسطينية والقيود المفروضة عليها لم يمنع ترامب من وصمها بـ"معاداة السامية"، في ظل تصاعد الاحتجاجات في أروقتها، وفي عموم الجامعات الأميركية. كيف ستكون نتائج المواجهة؟ حتى الآن، لجأت هارفارد إلى القضاء مرتين لمواجهة قرارات ترامب. في المرة الأولى، اختصمت الجامعة قرار تعليق 2.2 مليار دولار من المخصصات الفدرالية بدعوى أنه غير دستوري. بررت الإدارة إجراءاتها بالاستناد إلى الباب السادس من قانون الحقوق المدنية، وهو القانون الفدرالي الذي يحظر على الكليات والجامعات التمييز على أساس العِرق أو اللون أو الأصل القومي. ومع ذلك، فإن التطبيق السليم للباب السادس يتطلب إجراء تحقيق، ومحاولة التفاوض على حل، وجلسة استماع رسمية، وإخطار الكونغرس قبل 30 يوما من سحب الأموال، وبالطبع فإن إدارة ترامب لم تتبع هذه الخطوات. في المرة الثانية، لجأت هارفارد إلى القضاء لتعليق قرار إيقاف قبول الطلاب الدوليين، وحصلت على تعليق مؤقت للقرار لمدة أسبوعين من محكمة في بوسطن، ثم على تمديد للتعليق. في غضون ذلك، أبدت إدارة ترامب مرونة نسبية في التفاوض حول قرارها، وأمهلت الجامعة 30 يوما للطعن على القرار، قبل أن يصرّح ترامب برغبته أن تضع هارفارد حدا أقصى 15% لنسبة الطلاب الدوليين من أجل إتاحة المزيد من المقاعد للأميركيين الراغبين في الالتحاق بالجامعة. على عكس ما يبدو إذن، لا يخوض ترامب معركة صفرية ضد هارفارد، بقدر ما يشن حرب استنزاف ضد الجامعة عبر رفع سقف المطالبات ثم خفضها جزئيا بما يسمح له بإعادة تشكيل البيئة الأكاديمية برُمّتها. لربما يوقف القضاء أيضا قرارات ترامب بتعليق بعض المنح الفدرالية، لكن بعد أن تكون القرارات آتت أُكلها جزئيا بهز مجتمعها الأكاديمي وإجباره على إجراء تخفيضات في الموازنة وتعليق بعض المشروعات البحثية. وحتى إذا عادت المنح بعد ذلك، فسوف تكون الجامعة خسرت الكثير بالفعل بسبب حالة عدم اليقين حول أعمالها وعلاقتها المضطربة بالحكومة الأميركية. على الأرجح، سوف تستمر المعركة بين الشد والجذب لحين التوصل إلى تسوية تفاوضية تحقق لترامب وإدارته جزءا معتبرا من مطالبهم لكنها لن تسحق إرادة الجامعات بشكل كامل، وبمجرد أن تخضع هارفارد لهذه التسوية فإن جامعات النخبة الأخرى سوف تتبعها أو تفعل ذلك معها على الأغلب، وبعد ذلك سوف يأتي أمر 2600 جامعة وكلية تقدم البرامج الجامعية ذات السنوات الأربع بطول الولايات المتحدة وعرضها. بيد أنه في خضم هذه المعركة، يمكن القول إن ترامب وإدارته يطلقون النار على أقدامهم، ليس فقط بتدمير سمعة ومقدرات الجامعات الأميركية التي تُعد مصدرا رئيسا للقوة الناعمة للبلاد، ولكن عبر المخاطرة بخسارة قرابة 44 مليار دولار من الأموال التي يضخها الطلاب الدوليون سنويا في الاقتصاد الأميركي، التي تدعم أكثر من 378 ألف وظيفة وفق بيانات حديثة صادرة عن رابطة المعلمين الدوليين. وعلى المدى الأطول، تخاطر الولايات المتحدة بفقدان مليارات الدولارات من القيمة المضافة إلى الأسواق الأميركية التي يوفرها الخريجون الأجانب سنويا. ووفقا لتقرير صادر عن المؤسسة الوطنية للسياسة الأميركية، فإن ما يقرب من 25% من الشركات الأميركية التي تبلغ قيمتها مليار دولار على الأقل كان لها مؤسس التحق بجامعة أميركية طالبا دوليا. وتبقى الخسارة الأكبر، التي لن يمكن قياس حجمها بدقة الآن، هي عزوف العقول النابهة من بين أكثر 1.1 مليون طالب أجنبي يدرسون في الجامعات الأميركية (وفق بيانات 2024). هؤلاء الأشخاص قدّموا إسهامات لا تُقدَّر بثمن في جميع القطاعات الأميركية، من التقنية والذكاء الاصطناعي إلى العسكرية والأمن القومي مرورا بالهندسة والزراعة والطب وغيرها. وقد بدأت العديد من الدول بالفعل في طرح امتيازات لاستقطاب هؤلاء الطلاب، مستغلةً أكبر موجة هجرة عكسية محتملة للعقول من الجامعات الأميركية إلى سائر العالم.