logo
جريمة قرن... وميلاد جديد

جريمة قرن... وميلاد جديد

الشرق الأوسطمنذ 19 ساعات
ضرب لي موعداً أكثر من مرة، ومع تلاحق الأحداث لم نتمكن من اللقاء، لكن مهنة الدبلوماسي تتغلب دائماً على المصاعب والعقبات، أخيراً التقينا، كان يريد أن نتحاور حول أوضاع الشرق الأوسط الذي لا يهدأ عن الفوران.
الحديث عن المنطقة ذو شجون. التقينا في مقهى وكانت شاشة التلفزيون تذيع عواجلها عن غارة إسرائيلية هنا، وقصف إسرائيلي هناك، وخبر من واشنطن، ولقاء بين هذا الزعيم أو ذاك، والشرق الأوسط هو القاسم المشترك في الأخبار والأنباء.
أشار إلى الشاشة المعلقة، وقال: متى يتوقف هذا؟
الدبلوماسي يجيد فن الإصغاء، والكاتب يريد أن يجمع الخيوط لينسج ثوباً لائقاً للحقيقة، قلت بيني وبين نفسي إن صديقي يريد أن يسمع نبض الشارع والنخبة معاً، فقد تعب الدبلوماسي الذي فيه، ويريد أن يصل إلى نهاية لكل هذا العبث في الشرق الأوسط.
قلت له: كم مرة تحاورنا وتسامرنا واستخدمنا المفردات نفسها وخرجنا بالانطباع ذاته؟
ابتسم ابتسامة خفيفة، وقال: هل تعرف أن حواراتنا هذه كأنها حوار واحد، نأتي بالمفردات نفسها عن الأماكن نفسها، وكثيراً ما تمنيا أن نتحاور حول كتاب أو نظرية أو فيلم شاهدناه، لكن حيرة الشرق الأوسط تأخذنا إلى بحر لا قرار له.
قلت له: ومع هذا ألمح وسط الضباب ضوءاً يمكن أن نهتدي به. ثم نظرت إليه مباشرة، وكان راغباً في معرفة ماهية هذا الضوء في قلب تدمير المدن والأماكن العربية المكتوب على جبينها الحروب التي تلد الحروب.
قلت: ربما تكون غزة هي «جريمة القرن» بامتياز، ليس فقط لأنها تمثل ذروة السادية وانهيار القانون الدولي، بل لأنها جردت العالم من أقنعته، وأعادت تعريف الإنسان العربي في مرآة النار والعزلة.
وإذا أحسن العرب قراءة هذه الجريمة لا بوصفها نهاية، بل بداية مكثفة لمأساتهم الكونية، فإن غزة قد تتحول من مذبحة إلى لحظة ميلاد، ميلاد نظرية جديدة، تولد من الرماد، وتعيد طرح السؤال الأقدم والأكثر وجعاً: متى نصير رقماً في المعادلة الدولية؟
على غرار الاتحاد الأوروبي، أو «البريكس»، ومنظمة شنغهاي، أو الاتحاد الأوراسي، أو حتى الاتحاد الأفريقي، والرقم الذي أعنيه أن يقوم على التعاون الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بمعنى أن يكون العرب كتلة حضارية لا كتلة سياسية على نمط أحلام الستينات.
كان الدبلوماسي يصغي بإمعان. قلت يا عزيزي: لم تتوقف الحروب في هذه البقعة من الأرض منذ عام 1948، بل تحول الشرق الأوسط إلى «مختبر دائم لتجريب أجيال الحروب، من النكبة إلى الغزو الأميركي للعراق، من الانقلابات إلى الثورات الفوضوية، من الحرب النظامية إلى الحرب الأهلية، من الطائرات المقاتلة إلى الهجمات السيبرانية السرية، ومن الفوضى الخلاقة إلى تخليق المعارك الجانبية.
لا تزال إسرائيل حاضرة في كل هذا، تارة بصفتها فاعلاً مباشراً، وتارة بصفتها أداة لوجيستية في منظومة السيطرة. إنها الكيان الذي يمتحن حدود الفوضى الممكنة في المنطقة، ويسهم في إعادة تشكيلها بما يتماشى مع خرائط القوى الدولية.
كان الصديق الدبلوماسي في حالة إصغاء تام، حين تساءلت وأجبت، قلت له: علينا أن نطرح الأسئلة بجرأة: لماذا الشرق الأوسط وحده هو ساحة التدمير الدائم؟ لماذا لا يهدأ لبنان الجميل إلا لينفجر من جديد؟ لماذا تُحرق سوريا والعراق - وهما منبتا الحضارات - كل عقد، ويُشطر اليمن، وتُحول ليبيا إلى ساحة للتدريب على الرصاص؟ لماذا لا يتنفس المغرب العربي بعيداً عن هواجس الخوف، ولا يتخلص العرب جميعاً من قلق الوجود؟
كاد يجيب، لكني سبقته وقلت له: لأن هذه البقعة لم تُمنح حق الدخول في الحداثة العالمية، بل جرى تقطيعها كما تقطع المزارع الاستعمارية، وضبطت شعوبها متلبسة بالطائفية والولاء للأقوى، لا للعقد الاجتماعي ولا للمستقبل.
إن العرب يا صديقي لم يعرفوا الدولة بوصفها مشروعاً تاريخياً، ولم يتأسس مشروع عربي على نموذج الدولة بصفته عقداً اجتماعياً بين المواطنين، لهذا لم يكن الانتقال إلى الحداثة ممكناً، لأن التحديث كان سطحياً، وفوقياً، ونخبوياً، ومشروطاً بتبعية ثقافية واقتصادية.
منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، لم تعد غزة مجرد رقعة جغرافية محتلة، بل أصبحت ساحة اختبار للنظام الدولي كله، وملعباً مكشوفاً لأقسى تحالف في التاريخ الحديث، ولكن الأهم: أنها كشفت سقوط فكرة وجود المنظمات الدولية الحارس للنظام الدولي.
وكما نعلم أن التاريخ ماكر، فيمكن لمنطقة، لم تنعم بالتحرر، أن تصبح منبعاً لتجديد الفكرة العربية المهددة بالانقراض. ولا سبيل للخروج من هذه المتاهة إلا ببلورة «نظرية عربية شاملة»، لا تكون انعكاساً لهزائم الماضي ولا تقليداً لنظريات الآخر، بل تولد من سؤال المصير، وتؤسس على أربعة أعمدة:
أولاً، إعادة تعريف الهوية القائمة على المستقبل الحضاري المشترك.
ثانياً، تحرير الذات من المذاهب والطوائف والميليشيات.
ثالثاً، الاقتصاد القائم على التكامل العربي، وليس التفاضل.
رابعاً وأخيراً، ضرورة التحرر المعرفي والثقافي بخلق بنية فكرية عربية حديثة تنتج المعرفة، وتستلهم الثورة الصناعية الحالية من دون تردد.
قلت له: أطلت عليك أيها الدبلوماسي المتعب بقضايا الإقليم، ولكن لم يعد الانتظار ممكناً، يجب أن نبدأ بـ«المائدة العربية المستديرة»، مائدة تجمع المفكرين، والعلماء، والاقتصاديين، والمثقفين، لوضع ميثاق إنقاذ عربي.
غزة جرح مفتوح، لكنها أيضاً فرصة أخيرة. جريمة، نعم، لكنها أيضاً «علامة قيامة»، علينا أن نخرج من ركامها بفكرة، لا فقط بدموع، بفهم عميق، لا فقط بغضب عابر.
إن ما يحدث اليوم، إذا لم يتحول إلى نقطة انطلاق، فسوف يبتلعنا غداً في نسخته المقبلة: في بيروت أو الخرطوم أو طرابلس أو بغداد، أو صنعاء، أو أي عاصمة عربية أخرى.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ترامب يعلن عن اتفاق تجاري مع إندونيسيا
ترامب يعلن عن اتفاق تجاري مع إندونيسيا

العربية

timeمنذ 25 دقائق

  • العربية

ترامب يعلن عن اتفاق تجاري مع إندونيسيا

أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبر منصته "تروث سوشيال" أنه توصل إلى اتفاق تجاري مع إندونيسيا، مما قد يسمح للدولة الواقعة في جنوب شرق آسيا بتجنب رسوم جمركية تتجاوز الحد الأدنى البالغ 10% الذي تفرضه واشنطن. وكتب ترامب، اليوم الثلاثاء: "توصلنا للتو إلى اتفاق رائع للجميع مع إندونيسيا.. لقد تفاوضت مباشرة مع رئيسهم الموقر"، بدون أن يقدم مزيدًا من التفاصيل حول طبيعة الاتفاق. وتعهدت إندونيسيا في الثامن من يوليو باستيراد مزيد من المنتجات الزراعية والنفط الأميركي لإرضاء واشنطن تفاديًا لزيادة كبيرة في الرسوم الجمركية على منتجاتها، وفق وكالة "فرانس برس". وكان دونالد ترامب هدد جاكرتا بفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 32% في حال عدم توقيع اتفاقية تجارية قبل الأول من أغسطس. وكان وزير الاقتصاد الإندونيسي أرلانغا هارتارتو زار واشنطن للتفاوض على الاتفاقية مطلع يوليو معلنًا شراء منتجات زراعية ونفط أميركي بدون تحديد قيمة هذه المشتريات. وأشار إلى أن الشركات الإندونيسية ستلتزم بإنفاق ما مجموعه 34 مليار دولار. وبحسب الأرقام الأميركية الرسمية سجلت الولايات المتحدة عجزًا تجاريًا قدره 17.9 مليار دولار مع إندونيسيا عام 2024، بزيادة 5.4% عن عام 2023. ووقّعت إندونيسيا أيضًا "اتفاقية سياسية" مع الاتحاد الأوروبي يوم الأحد لتخفيف الحواجز التجارية، وذلك نتيجة مفاوضات بدأت عام 2016 لزيادة المبادلات التجارية والاستثمارات بين الجانبين.

الجامعة العربية: خطة إسرائيل لمخيم غزة تطهير عرقي وانتهاك للإنسانية
الجامعة العربية: خطة إسرائيل لمخيم غزة تطهير عرقي وانتهاك للإنسانية

عكاظ

timeمنذ 37 دقائق

  • عكاظ

الجامعة العربية: خطة إسرائيل لمخيم غزة تطهير عرقي وانتهاك للإنسانية

دانت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بأشد العبارات خططاً إسرائيلية تم تداولها أخيراً تهدف لحشر الفلسطينيين في مخيم صغير في جنوب قطاع غزة، مشددة على أن خطة الاحتلال التي تزعم إنشاء «مدينة إنسانية» لا تمت للمدينة أو الإنسانية بأدنى صلة. وأكدت الجامعة العربية -في بيان لها اليوم (الثلاثاء) على أن الخطة الإسرائيلية الجديدة «مرفوضة شكلاً وموضوعاً» وتعكس مستوى جديداً من «الانحدار الأخلاقي والقيمي للاحتلال»، وتكشف عن نية لمواصلة مخطط التطهير العرقي، وإعادة احتلال قطاع غزة وربما تهيئته لنشر المستوطنات. وناشدت الأمانة العامة للجامعة العربية المجتمع الدولي التصدي بقوة لمثل هذه المُخططات اللا إنسانية، والتي تعيد للأذهان ذكرى أحداث سوداء شهدها القرن العشرون وكان المتصور أن العالم قد تجاوزها، مؤكدة أن المطلوب الآن هو التوصل في أسرع وقت لاتفاق لوقف إطلاق النار، وتوقف إسرائيل عن وضع العصى في العجلات والمماطلة واختراع العقبة تلو العقبة للتهرب من استحقاق وقف إطلاق النار. وتأتي الخطة الإسرائيلية لإقامة مخيم في جنوب قطاع غزة في سياق تصاعد التوترات الإقليمية والصراع المستمر في القطاع، وتهدف الخطة، التي كشفت عنها تقارير إعلامية إسرائيلية إلى نقل حوالى 600 ألف فلسطيني من منطقة المواصي إلى مخيم محصور بين محوري «فيلادلفيا» و«موراج» جنوبي القطاع، تحت ذريعة إنشاء «مدينة إنسانية». وتتضمن الخطة، التي أعلن عنها وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، إخضاع الفلسطينيين لفحوصات أمنية صارمة قبل نقلهم إلى المخيم، مع منع خروجهم منه لاحقاً، ووصفت الجامعة العربية هذه الخطة بأنها «تطهير عرقي» و«إعادة احتلال» للقطاع. أخبار ذات صلة

مصرف لبنان يحظر التعامل مع «مؤسسة القرض الحسن» والمبعوث الأمريكي يشيد
مصرف لبنان يحظر التعامل مع «مؤسسة القرض الحسن» والمبعوث الأمريكي يشيد

عكاظ

timeمنذ ساعة واحدة

  • عكاظ

مصرف لبنان يحظر التعامل مع «مؤسسة القرض الحسن» والمبعوث الأمريكي يشيد

أشاد المبعوث الأمريكي توم باراك اليوم (الثلاثاء) بخطوة مصرف لبنان وحظره التعامل مع مؤسسة «القرض الحسن» التابعة لحزب الله، ووصفها بـ«الإنجاز القيم» وخطوة في الاتجاه الصحيح من قبل الحكومة اللبنانية لضبط تدفق الأموال إلى حزب الله التي كانت تمر عبر تلك المؤسسة. وقال باراك في تغريدة على حسابه في «إكس»: «تعزيز الشفافية وإخضاع جميع الوسطاء الماليين في لبنان لإشراف مصرف لبنان يُعدّ إنجازاً مهماً وضرورياً»، مشيراً إلى أن الخوف من نزع سلاح حزب الله ومنع الحكومة لهذا الأمر قد يؤدي إلى حرب أهلية. وكان مصرف لبنان المركزي قد منع في تعميم اليوم المؤسسات المالية المرخصة من أي تعامل مباشر أو غير مباشر مع مؤسسة القرض الحسن التابعة لجماعة حزب الله، محذراً في البيان على البنوك وشركات الصرافة في لبنان من التعامل مع كيانات غير مرخصة ومؤسسة القرض الحسن مثال على ذلك. وجاء قرار مصرف لبنان في الوقت الذي شددت وزارة الخزانة الأمريكية من عقوباتها على مؤسسة القرض الحسن التي كانت قد فرضت عليها عقوبات في 2007. وأصدرت الخزانة الأمريكية في 3 يوليو الجاري عقوبات ضد سبعة مسؤولين كبار وكيان واحد مرتبطين بالمؤسسة نفسها، مؤكدة أن حزب الله يستخدمها كغطاء لإدارة أنشطته المالية ومنفذٍ للوصول إلى النظام المالي الدولي. وتملك المؤسسة عشرات الفروع في لبنان، لكن القرار الأمريكي طال عديداً من تلك الفروع أبرزها «شركة تسهيلات ش.م.م.»، و«شركة اليسر للتمويل والاستثمار»، و«بيت المال للمسلمين». أخبار ذات صلة

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store