logo
«الغريبة» ناهد راشلين... رائدة الرواية الإيرانيّة في المهجر

«الغريبة» ناهد راشلين... رائدة الرواية الإيرانيّة في المهجر

الشرق الأوسطمنذ يوم واحد

بغياب ناهد راشلين، الروائية الإيرانية الأميركية وإحدى أبرز الكاتبات الإيرانيات اللواتي كتبن بالإنجليزية عن تمزقات الهوية، وأوجاع المنفى، وتصادم الثقافات، في الثلاثين من أبريل (نيسان) 2025، عن عمرٍ ناهز الخامسة والثمانين، تُطوى سيرة مُبدعةٍ كانت، وفقاً للنّقاد، «الروائيّة الأكثر انتشاراً بين الكتّاب الإيرانيين في الولايات المتحدة»، وأول من قدّم صورة دقيقة عن الدّاخل الإيراني قبيل إسقاط حكم الشاه.
ولدت ناهد روشلين - وهذا اسم الزواج لها، وعائلتها الإيرانية تدعى بوزرجمهر - بمدينة الأهواز في السادس من يونيو (حزيران) 1939، في بيت اختلطت فيه التقاليد الإيرانية بالتأثيرات الغربيّة، وسط عائلة من عشرة أطفال، وكان والدها قاضياً ثم عمل محامياً بعد استقالته من سلك القضاء. ويبدو أن حياتها الأسرية لم تكن مستقرة، إذ أُعطيت في الأشهر الأولى من حياتها إلى عمتها مريم لتربيتها، وعندما بلغت التاسعة، استعادها والدها مخافة أن تزوّجها العمة في هذا العمر الصغير، كما جرى مع والدتها التي زُوّجت، وهي في التاسعة أيضاً.
تركت هذه الحادثة أثراً بالغاً في شخصية راشلين، التي شعرت كأنها اختُطفت من أمّها الحقيقية، كما كتبت لاحقاً، ولم تنادِ والدتها البيولوجية أبداً بكلمة «أمي»، وظلّت دائماً تحلم بالعودة إلى العمّة مريم التي كانت تعتبرها الحضن الآمن.
في ظلّ هذه البيئة المتوترة، ورغم رفض والدها، أصرت راشلين على السفر إلى الولايات المتحدة لمتابعة دراستها الجامعية هرباً من قمع العائلة والمجتمع، ومستعينة بأخيها برويز لإقناعه. والتحقت في نهاية المطاف بكلية «ليندوود» النسائية في ميسوري التي حصلت منها على منحة دراسيّة كاملة، ولكنّها سافرت إلى هناك فقط بعدما وعدت أباها بالعودة فور انتهاء دراستها كي تتزوج في إيران.
في عالمها الأميركيّ الجديد، واجهت ناهد عزلة من نوع آخر، وكتبت لاحقاً في مذكراتها «فتيات فارسيات - 2006»: «كنت أظن أنني فررت من سجن، لكنني وجدت نفسي في سجن آخر من الوحدة».
في سجن عزلتها الجديد هذا وجدت في الكتابة ملاذاً، وفي اللغة الإنجليزية فضاء حريّة لم تجدها في الفارسية عندما خطت كتاباتها الأولى أثناء دراستها الثانوية، وعن ذلك قالت في إحدى المقابلات معها: «الكتابة بالإنجليزية أعطتني حريةً لم أكن أشعر بها حين أكتب بالفارسية».
حصلت راشلين على درجة البكالوريوس في علم النفس عام 1961، ولدى تخرجها كتبت لأبيها رسالة موجزة تعلمه فيها بقرارها بعدم العودة إلى إيران، فقاطعها طوال 12 عاماً حصلت خلالها على الجنسيّة الأميركية (1969)، وتزوجت من عالم النفس الأميركي هاوارد راشلين، وأنجبا ابنتهما ليلى. حصلت على زمالة والاس ستغنر في الكتابة الإبداعية. وهناك بدأت كتابة روايتها الأولى «الغريبة» (Foreigner)، التي ستُطلقها في 1978 قبل عامٍ واحد فقط من اندلاع الثورة الإيرانية.
رواية «الغريبة» تسرد بإحساس مرهف التحوّل التدريجي لعالمة أحياء إيرانية في أوائل الثلاثينات تُدعى فري من مزاج حياة أميركية هادئة رتيبة في ضواحي بوسطن الباردة طوال 14 عاماً إلى هوية إيرانية محافظة بعد عودتها لبلدها الأم. وتسجّل الرواية كيف بدأت وجهات النظر الغربيّة الطابع لبطلة الرواية بالتلاشي في أجواء المجتمع الإيراني تدريجياً حتى تفقد تمايزها تماماً، فتترك زوجها الأميركي، ووظيفتها، وتستسلم لضغوط ارتداء الحجاب، لتتساءل الناقدة آن تايلر في مراجعتها للرواية في «نيويورك تايمز»: «هل أميركا مستقرة ومنظمة وسلمية، بينما إيران مضطربة وفوضوية وغير عقلانية؟ أم أن أميركا مجرد مجتمع بارد عقيم بينما إيران بلاد شغوفة ومنفتحة القلب؟»، فيما قال عنها الكاتب الترينيدادي ف. س. نايبول إن «(الغريبة) بطريقتها الخفيّة وغير المسيسة أنذرت بهستيريا الانتفاضات الشعبية التي أسقطت نظام الشاه، وتنبأت بالجمهورية الثيوقراطية تحت قيادة الخميني». لم تُنشر روايات ناهد في إيران في مرحلة ما قبل الثورة، فقد منعتها الرّقابة بزعم أنها تُسيء لصورة مجتمعها، خصوصاً ما وصفته من أحياء فقيرة وفنادق متداعية تُناقض خطاب الحداثة الذي روّج له نظام الشاه، واستمر المنع بعد الثورة في عهد حكومة الخميني، التي لم تتسامح مع تصويرها البلاد على أنها فاسدة أو منهارة اجتماعياً. وهكذا لم يُترجم أي من أعمالها إلى الفارسية، وظلّت كتبها محرّمة في بلدها الأصلي.
كتبت ناهد أيضاً «متزوجة من غريب - 1983» وهي رواية تُصوّر بحدّة كيف تمكنت ثيوقراطية الخميني من فرض سطوتها على المجتمع الإيراني، وتوالت بعدها أعمالها الأدبية: «رغبة القلب - 1995»، «القفز فوق النار - 2006»، «السراب - 2024»، بالإضافة إلى مجموعتين قصصيتين: «حجاب - 1992» و«طريق العودة - 2018»، كما نشرت مذكراتها بعنوان «فتيات فارسيات - 2006»، وستصدر آخر رواياتها «أُعطيت بعيداً» في عام 2026، وتحكي قصة فتاة إيرانية قاصرة زُوّجت مبكراً، مُستلهمة من حياة أمها.
في كل أعمالها، كانت راشلين تنبش جروح إيران في النصف الثاني من القرن العشرين: القمع السياسي، هيمنة التقاليد، اختفاء المعلّمين والكتّاب المعارضين، وسطوة جهاز «السافاك»، وأيضاً ذلك الحنين الحارق لطفولتها المبتورة، وآلام انشطار الهويّة. وكذلك لم تغب ثيمة الأمومة عن كتاباتها؛ من علاقتها المعقدة بأمها البيولوجية، إلى حبّها العميق لعمتها، وصولاً إلى علاقتها بابنتها ليلى، التي وصفتها بأنها «أفضل صديقاتي على الإطلاق». عبّرت راشلين من خلال اللغة عن أدق مشاعرها المتشظيّة بين عالمين، لكن لحظة الفقد الأعمق في حياتها جاءت في 1981 حين تلقت خبر وفاة شقيقتها المقرّبة باري، بعد سقوطها عن السلم. هدّها الحزن ولم تتمكن من الكتابة عن الراحلة طوال 25 عاماً، لكنّها خصّصت لها فصلاً حميماً في ختام مذكراتها، وكتبت: «نعم، يا باري العزيزة، أكتب هذا الكتاب لأعيدكِ إلى الحياة». تُوفيت ناهد راشلين في نيويورك بعد إصابتها بجلطة دماغية - وفق ابنتها -، وبرحيلها فقدت الرواية الإيرانية المهجرية أعمق كاتباتها، وصوتاً نادراً امتلك شجاعة المواجهة، وشفافية الحنين معاً، والتقط بدقة صورة الازدواج النفسي والثقافي الذي عايشه جيل من الإيرانيين كان قدره أن تمزّق بين الشرق والغرب.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

تقرير المخابرات النمساوية: إيران تهدف إلى امتلاك الأسلحة النووية لجعل نظامها محصنًا ضد أي تهديد وتعزيز هيمنتها في منطقة الشرق الأدنى والأوسط وما بعدها
تقرير المخابرات النمساوية: إيران تهدف إلى امتلاك الأسلحة النووية لجعل نظامها محصنًا ضد أي تهديد وتعزيز هيمنتها في منطقة الشرق الأدنى والأوسط وما بعدها

العربية

timeمنذ 2 ساعات

  • العربية

تقرير المخابرات النمساوية: إيران تهدف إلى امتلاك الأسلحة النووية لجعل نظامها محصنًا ضد أي تهديد وتعزيز هيمنتها في منطقة الشرق الأدنى والأوسط وما بعدها

كشف جهاز حماية الدستور ومكافحة الإرهاب النمساوي في تقريره السنوي أن إيران تمضي قدمًا نحو الأسلحة النووية، في إطار مساعيها لتحصين نفسها وفرض هيمنتها الإقليمية. وخصصت المخابرات النمساوية، والتي تُعرف باسم *Direktion Staatsschutz und Nachrichtendienst* أي "المديرية الفيدرالية لحماية الدستور والاستخبارات"، قسمًا من تقريرها المكوّن من 211 صفحة لموضوع إيران، وكشفت فيه أن "إيران تسعى إلى تعزيز تسليحها بشكل شامل من أجل فرض وتأكيد مطالبها في الهيمنة الإقليمية". وأضاف التقرير أن إيران تهدف إلى امتلاك الأسلحة النووية لجعل نظامها محصنًا ضد أي تهديد، وتعزيز وتثبيت هيمنتها في منطقة الشرق الأدنى والأوسط وما بعدها. وقد بلغ البرنامج الإيراني لتطوير الأسلحة النووية، حسب المخابرات النمساوية، مرحلة متقدمة، كما أن ترسانة من الصواريخ الباليستية جاهزة لحمل رؤوس نووية لمسافات طويلة. والنمسا، التي استضافت المفاوضات النووية في عام 2015 وشهدت عاصمتها فيينا توقيع الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى، أعلنت في التقرير السنوي لجهاز استخباراتها أن كل الجهود الرامية إلى منع تسلح إيران من خلال العقوبات والاتفاقيات قد باءت بالفشل حتى الآن. بل على العكس من ذلك، تقوم الجمهورية الإسلامية الإيرانية بإنتاج الأسلحة وأنظمة إيصالها على نطاق واسع – ليس فقط لاستخدامها الخاص. وفي إشارة إلى تدخلات إيران في النزاعات الإقليمية، ورد في التقرير المذكور أنه منذ العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ازداد النفوذ الإيراني بشكل ملحوظ من خلال إمدادات الأسلحة في عدد من النزاعات الإقليمية، كما هو الحال في مناطق الحرب والأزمات في سوريا وفلسطين. ومن خلال هذه الإمدادات الواسعة للأسلحة، تشكّل إيران ما يُسمّى بـ"محور المقاومة"، والذي يُقصد به تطويق "العدو المركزي"، أي إسرائيل، بتحالفات استراتيجية من الشمال والغرب والجنوب، فالاختلافات الطائفية أو الأيديولوجية لها أهمية ثانوية في هذا السياق؛ فالمعيار الحاسم هو العدو المشترك، بدايةً بإسرائيل، ثم الولايات المتحدة الأميركية، وأخيرًا العالم الغربي بأكمله، يضيف التقرير. وتزوّد إيران تقليديًا حلفاءها المناهضين لإسرائيل مثل حركة حماس وحزب الله والميليشيات السورية بالسلاح. ومع اندلاع الحرب الروسية ضد أوكرانيا، أصبحت روسيا أيضًا من مشتري الأسلحة الإيرانية، وخاصة الطائرات المسيّرة. ومنذ بداية العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا، تعمّق التعاون بين إيران وروسيا. فحتى ذلك الحين، كانت إيران مستوردًا للأسلحة الروسية، أما الآن فإن قيادة طهران تدعم الحرب على المستويين الاقتصادي والعسكري. وحسب جهاز حماية الدستور النمساوي، فقد طوّرت الجمهورية الإسلامية الإيرانية خلال العقود الأربعة الماضية شبكة متطورة للالتفاف على العقوبات، وهي شبكة باتت روسيا تستفيد منها حاليًا. وتتولى أجهزة الاستخبارات الإيرانية مهمة تطوير وتنفيذ آليات للالتفاف على العقوبات بغرض الحصول على الأسلحة والتقنيات والمواد المتعلقة بالانتشار النووي وأسلحة الدمار الشامل. وتستخدم لذلك شركات وهمية وشبكات داخل وخارج الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وتُستخدم على نحو خاص إمبراطورية الشركات الواسعة والمعقدة التابعة للحرس الثوري الإيراني لأغراض الانتشار النووي. كما تستغل أجهزة الاستخبارات الإيرانية أيضا، وفق التقرير، علاقاتها في مناطق الأزمات للحصول على التكنولوجيا العسكرية الغربية، مثل الطائرات المسيّرة الإسرائيلية والأميركية التي يتم اعتراضها أو انحرافها في سوريا. ويتم تفكيك هذه الأسلحة عالية التقنية وتحليلها ثم إعادة تصنيعها. وغالبًا ما تتطلب هذه العمليات مكونات يتم شراؤها من خلال شركات وهمية في دول غير خاضعة للعقوبات في الغرب. كما أن المعلومات والتقنيات التي تمتلكها المعاهد والشركات الأوروبية لها أهمية كبيرة في تطوير الصناعة العسكرية الإيرانية. وبناءً على أوامر من النظام الإيراني، تسعى أجهزته الاستخباراتية إلى الحصول على التقنيات والمواد – بما في ذلك السلع ذات الاستخدام المزدوج – بالإضافة إلى الخبرات اللازمة لبناء أسلحة الدمار الشامل وأنظمة إيصالها، وذلك لدعم طموحات الجمهورية الإسلامية. في أكتوبر 2022، أعلنت القوات المسلحة الأوكرانية أنها بعد إسقاط طائرة بدون طيار من طراز "مهاجر-6" إيرانية الصنع، واستعادة حطامها من البحر الأسود، اكتشفت أن محرك هذه الطائرة من إنتاج شركة نمساوية معروفة تُدعى "روتاکس" (Rotax)، مما يشير إلى انتهاك عقوبات الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالتسليح المفروضة على إيران. وفي وقت سابق، في أكتوبر 2020، وبعد أن أعلنت الولايات المتحدة فرض عقوبات جديدة على عدد من الشخصيات والهيئات التابعة للجمهورية الإسلامية، بما في ذلك قطاع النفط، الحرس الثوري وشركة ناقلات النفط الإيرانية، صرّحت شركة "روتاکس" النمساوية، المزوّدة لمحركات الطائرات بدون طيار، بأنها أوقفت بيع المحركات للحرس الثوري. وقد جاء هذا الإجراء في إطار التزام الشركة بالعقوبات الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة. وجاء أيضًا في تقرير هيئة مكافحة الإرهاب في النمسا أنه وفي مجال الانتشار النووي، لوحظ تزايد في عدد طلبات التوظيف المقدمة من إيرانيين إلى شركات نمساوية تعمل في صناعات المعادن والهندسة الكهربائية، ويبدو أن الهدف من ذلك هو اكتساب المعرفة الحساسة لدعم برامج التسلح الإيرانية. وفي وقت سابق، فرضت بعض الدول الأوروبية قيودًا صارمة على دراسة الطلاب الإيرانيين في تخصصات مثل الفضاء، والفيزياء النووية، وغيرها من المجالات المرتبطة بالصناعات العسكرية. وبحسب تقرير نشرته هيئة الإذاعة والتلفزيون النمساوية (*Österreichischer Rundfunk*)، فقد تم تسجيل زيادة في الأنشطة التجسسية كذلك. وورد في التقرير: "كانت المؤسسات الاقتصادية والبحثية في النمسا على وجه الخصوص هدفًا رئيسيًا من قبل الفاعلين الأجانب الذين يسعون إلى الحصول على معلومات اقتصادية وعلمية". وأضاف التقرير أن أجهزة الاستخبارات الروسية، الصينية، الإيرانية، الكورية الشمالية والتركية، كانت من بين الأكثر نشاطًا في النمسا.

انعكاسالشعر بوصفه حضارة
انعكاسالشعر بوصفه حضارة

الرياض

timeمنذ 3 ساعات

  • الرياض

انعكاسالشعر بوصفه حضارة

بين حين وآخر يداهمني البعض بسؤال عصري طارئ .. ماجدوى الشعر وما الذي قدمه لنا العرب تحديدا كي نعتد به كل هذا الاعتداد؟، والواقع أنه ومنذ فجر التاريخ العربي، كان الشعر أكثر من مجرد كلمات موزونة ومقفّاة؛ كان ديوان العرب، ومراياهم التي انعكست فيها تجاربهم، ومشاعرهم، وتقاليدهم، وانتصاراتهم وهزائمهم، فهو سجلّ الحضارة العربية الذي وثق أحوال الناس، وأسهم في بناء الهوية الثقافية والفكرية للأمة العربية، حتى غدا الشعر ركناً أصيلاً من حضارتها العريقة، لا يمكن فصله عن مسيرة تطورها، فالشعر العربي الجاهلي، على وجه الخصوص، كان تعبيرًا صادقًا عن حياة العرب في الصحراء، بجمالها وخشونتها، بترحالها واستقرارها، بكرمها وحروبها، وقد جاء في شكل القصيدة التقليدية ذات البناء الثلاثي: الوقوف على الأطلال، ثم الغزل، فالوصف والمدح أو الفخر، وهذا البناء لم يكن مجرد نمط فني، بل كان طقسًا ثقافيًا يربط بين الفرد والمجتمع، بين الإنسان والطبيعة، وبين الشاعر وتاريخه، وقد مثّل الشعر الجاهلي أداة إعلامية لا تضاهيها وسيلة في زمانه، فكان الشاعر بمثابة الناطق الرسمي باسم القبيلة، ينشد في المديح والفخر، ويتصدى للهجاء والذود عن شرف قومه، ولم يكن غريبًا أن تُعلّق القصائد الخالدة -المعلقات- على جدران الكعبة في رواية لم تثبت، لكن الثابت في كل زمان ومان هو أنه علق في صدور العرب طوال تاريخهم وما رواية تعليقه في جدران الكعبة أيا كانت موثوقيتها إلا إشارة واضحة إلى المكانة السامية التي احتلها الشعر في نفوس العرب، ومع بزوغ الإسلام، لم يخفت نور الشعر، بل تجدد في ضوء المفاهيم الجديدة التي جاء بها الدين الحنيف، وإن كانت الدعوة الإسلامية في بداياتها قد واجهت بعض الشعراء المعادين، إلا أن الشعر نفسه لم يُرفض، بل تخلّق بأخلاق الإسلام، وانفتح على معانٍ جديدة من التوحيد والعدل والجمال الروحي. فبرز شعراء كحسان بن ثابت، الذي دافع عن الإسلام بالكلمة، كما كان يُدافع عنه بالسيف. ثم جاء العصر الأموي فالعباسي، فازدهر الشعر العربي واتسع أفقه، وتداخل مع حضارات أخرى، بفعل الترجمة والتفاعل الثقافي، فظهرت مدارس شعرية جديدة، وتطورت الأغراض الشعرية، وتعمّق الحس الجمالي، وبرز شعراء عباقرة كالمتنبي وأبو تمام والبحتري، الذين جعلوا من الشعر العربي فناً راقياً قادراً على التعبير عن أعقد الأفكار الفلسفية والسياسية والاجتماعية، والشعر العربي، بما يحمله من تراكم تاريخي وجمالي، ليس فقط وسيلة تعبير، بل هو مرآة حضارة كاملة، تعكس طبقات من الفكر والعقيدة والهوية، ولعل استمراريته حتى اليوم -سواء في القصيدة العمودية أو في التجارب الشعرية الحديثة- دليل حي على مرونته وقدرته على مواكبة التغيير دون أن يفقد جوهره، والثابت أن الشعر العربي بقي على مرّ العصور حافظًا لذاكرة الأمة، وناقلاً لوجدانها، ومرآةً لحضارتها، هو في الحقيقة ليس فقط نصاً أدبياً، بل كيانٌ حيّ ينبض بتاريخ طويل من الإبداع، وينتمي إلى حضارة لا تزال تؤمن بالكلمة بوصفها فعلًا يغيّر، وجمالًا يُلهم، وروحًا تحفظ الهوية من التلاشي.

أنـثـــروبــولـوجيـــــا الحـــــج
أنـثـــروبــولـوجيـــــا الحـــــج

الرياض

timeمنذ 3 ساعات

  • الرياض

أنـثـــروبــولـوجيـــــا الحـــــج

الحج ممارسة دينية وإنسانية مركبة، تستقطب ملايين الأفراد سنويًا في شعائر جماعية تحمل أبعادًا روحية واجتماعية. ومن خلال مشاهد التجمّع والتنسك والعبور من الفضاءات الدنيوية إلى المقدّسة. فقد ارتبط الحج في الماضي بمظاهر الزهد والتقشف والتجريد الجسدي، ولكنه أضحى اليوم مشهدًا تتداخل فيه التقنيات الحديثة والرفاهية المادية ضمن تجربة تُبث رقميًا لحظة بلحظة. وبين هذين القطبين، تظهر أهمية قراءة الحج كمجال أنثروبولوجي يعكس التحولات الثقافية والدينية في ظل العولمة الرقمية. يجتمع في الحج ملايين المسلمين مؤقتًا في مكان وزمان محددين، مما يخلق وضعًا اجتماعيًا استثنائيًا تتعطل فيه الفروقات الطبقية والعرقية. ويجعل هذا الانصهار الجماعي من الحج نموذجًا حيًا لما يسميه فيكتور تيرنر «مجتمع العتبة»، حيث يدخل الفرد في حالة متوسطة بين وضعين هما، ما قبل الحج وما بعده، وهو ما يساعد على إعادة تشكيل هوية المسلم من خلال الشعائر. تعمل هذه الحالة أيضًا على إنتاج شعور جماعي بالهوية والانتماء، فالحج مناسبة لإعادة بناء العلاقة بين الفرد والمجتمع من جهة، وبين الإنسان وخالقه من جهة أخرى. طقوس العبور في مناسك الحج تعتبر الشعائر «طقوس عبور» للحاج لإعادة إنتاج المعنى لحياته. فالإحرام، بصفته أول خطوة، يضع الحاج في لحظة انتقالية «بين الهويات»، كما وصفها أرنولد فان جينيب، حيث يتخلى الفرد عن طبقته ووضعه الاجتماعي مؤقتًا ليدخل في مجتمع رمزي موحد، تُلغى فيه الفوارق الظاهرة، ويُصبح الزي الأبيض رمزًا للتجرد والمساواة. ويُظهر الطواف حول الكعبة نموذجًا للحركة الرمزية، حيث يتمركز الإنسان حول مركزية المقدّس، ويُعيد صياغة العلاقة بين الفرد والخالق. أما السعي بين الصفا والمروة، فيحمل رمزية خاصة مستمدة من قصة هاجر، ويُعبّر عن فكرة الجهد الإنساني والاستجابة الإلهية، وهي ثنائية محورية في كل الديانات، مما يمنح الشعيرة بُعدًا إنسانيًا فريدًا. ويمثل الوقوف بعرفة اللحظة الأقوى في تجربة الحج الرمزية، إذ يتحقق فيه «تجلٍّ جماعي»، تنحلّ فيه الفوارق بين الأفراد، وتذوب الهويات في مشهد يذكّر بالوقوف في يوم القيامة. أما المبيت في مزدلفة، فهو شعيرة ليلية تعزز الشعور بالوحدة والتأمل، وتؤسس لنمط من التواصل الروحي الجماعي بعيدًا عن ضوضاء الحياة اليومية، مما يجعله لحظة إعادة توازن بين الفرد والمجتمع في فضاء رمزي خاص. وفي يوم العيد، وهو الحج الأكبر الذي تتجسد فيه أكثر الشعائر وأعمق الرموز الطقسية؛ حيث يرمز رمي الجمرات عن تطهير النفس من نوازع الشر، ضمن «طقوس الإزاحة»، وتسقط ما بداخل النفس من صراعات. أما ذبح الهدي، فيعيد تمثيل سردية الفداء، ويُجسد مفهوم الطاعة الكاملة لله تعالى، وهي طقوس تشير إلى التضحية والعطاء والانقياد كبُنى رمزية تعيد تنظيم القيم داخل الذات المؤمنة. والتحلل من الإحرام يمثل نهاية الدورة الشعائرية وبداية طور جديد من الهوية، ويتجسد هذا التحول عبر الحلق أو التقصير، ويُعد لحظة «انعتاق» رمزية من الحالة الطقسية والعودة إلى الحياة اليومية بهوية روحية متجددة. وتُظهر الدراسات المقارنة - كما في «الموسوعة البريطانية» - أن كثيرًا من هذه الطقوس تتكرر بصيغ مختلفة في ثقافات وديانات متعددة، مما يُشير إلى وجود حاجات بشرية مشتركة تعبّر عنها الطقوس الكبرى، وهو ما أكده محمد لبيب البتنوني في تأريخه للحج بوصفه ظاهرة إنسانية عابرة للثقافات، تحتفظ بخصوصيتها وتُجسد مشتركًا رمزيًا عالميًا. البعد التاريخي في الحج بدأ الحج كأثر توحيدي عميق في التاريخ الديني، مرتبطًا بإبراهيم عليه السلام، الذي دعا الناس إلى زيارة البيت العتيق بعد أن رفع قواعده، وفي هذه المرحلة، كانت الشعائر يسيرة وموجهة نحو التوحيد الخالص. لكن مع مرور الوقت، ووسط التحولات الدينية والاجتماعية في جزيرة العرب، تغيّر مسار الحج من شعيرة توحيدية إلى ممارسة وثنية، امتزجت فيها العقائد بالأساطير، وتحول البيت إلى ساحة للأصنام، ففقدت المناسك دلالتها الأصلية، وتحولت الرموز إلى طقوس شكلية فاقدة للبُعد العقدي الأصيل. وأعاد النبي صلى الله عليه وسلم توجيه الحج نحو معناه التوحيدي، خاصة في حجة الوداع، التي جاءت بمثابة لحظة تأسيسية لترسيخ الحج في صورته الإسلامية؛ حيث تحددت المناسك بشكل واضح، وربطت بالشريعة والمقاصد الكبرى للدين، فصار الحج ممارسة جماعية تكرّس مفهوم المجتمع الواحد. وتغيّر الحج من ممارسة تقليدية محلية إلى حدث ديني عالمي يعكس وحدة المسلمين. ومع اتساع الدولة الإسلامية، خاصة في العصور الأموية والعباسية، بدأ الحج يدخل مرحلة جديدة من التنظيم المؤسسي، وأصبحت الدولة مسؤولة عن تأمين الطرق، وإنشاء محطات المياه، وتوفير الأمن على طول المسارات. وتحوّل الحج إلى مشروع تنظيمي مركزي، يعكس قدرة الدولة على التحكم في الفضاء الديني والإشراف عليه، فأنشأت «درب زبيدة» لتسهيل الرحلة، وأصبح الحج مسرحًا للقاء المسلمين من أقاليم متعددة، مما عزز من دور الحج كوسيلة للتبادل الثقافي والسياسي بين أطراف العالم الإسلامي. ودخل الحج في العصر الحديث منعطفًا تقنيًا غير مسبوق، بعد أن أصبحت المملكة العربية السعودية مسؤولة عن تنظيمه، حيث بدأت في توظيف وسائل النقل الجوي والبري والبحري والتقنيات الذكية وأنظمة إدارة الحشود والعلوم الحديثة، لتأمين التجربة وتطويرها. وقد انعكس ذلك على شكل الحج من حيث الراحة والتنظيم وتنوع الخدمات، ما أدى إلى ظهور أنماط مختلفة من تجربة الحجاج. خمس قضايا أنثروبولوجية تفتح دراسة الحج من منظور أنثروبولوجي بابًا لفهم كيف تتفاعل الشعائر الدينية مع الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المعاصر. ومن خلال تحليل بعض القضايا المرتبطة بالحج، يمكن رصد التحولات التي تطرأ على الممارسة الدينية عند اصطدامها بمفاهيم مثل التنظيم والسوق والحداثة. الزحام والتنظيم يمثل الزحام في الحج حالة معقدة، حيث يتشكل ما يسميه فيكتور تيرنر «الفضاء الانتقالي»، الذي يذوب فيه الفرد في الجماعة، ويُعلَّق فيه الدور الاجتماعي المعتاد. لكن هذا الفضاء الذي يفترض أن يعزز الشعور بالمساواة والانصهار الجماعي، يتحول عمليًا إلى تحدٍ إداري كبير، خاصة مع كثافة الأعداد وتكرار مشاهد التدافع أو الوفيات، ما يفتح المجال لتحليل العلاقة بين القداسة والانضباط المكاني. يصبح الحج اختبارًا لقدرة الدولة على إدارة «الفضاء المقدس» دون المساس بجوهره الروحي، ويظهر هنا التوتر بين نموذج الطقس كما ينبغي أن يكون، ونموذج التنظيم كما تفرضه اعتبارات الأمن والسلامة. الاستهلاك الديني تُثمَّن الجهود الكبيرة التي تبذلها الدولة في تسهيل أداء المناسك عبر بنى تحتية متقدمة وخدمات لوجستية متكاملة، تسهم في تحسين جودة التجربة الدينية لملايين الحجاج سنويًا. وقد شهد القطاع الفندقي والحج الاستثماري تحوّلاً نوعيًا، يعكس الرؤية المستقبلية للمملكة في مواءمة التنظيم الديني مع متطلبات العصر الحديث. وتوجد طبقات مختلفة في تجربة الحج، تمتد من إقامة في خيام مناسبة لظروف المشاعر المقدسة، إلى خدمات فندقية فاخرة توفّرها شركات متخصصة. ولا يعبر هذا التنوع بالضرورة عن خلل، وإنما يؤكد على قدرة الدولة على استيعاب شرائح متعددة من الحجاج، وتقديم خيارات مرنة تراعي احتياجاتهم المتباينة. ويمكن فهم هذه الظاهرة ضمن إطار «الاستثمار الطقسي»، حيث تتقاطع القيم الدينية مع أنماط استهلاكية حديثة. فكلما ارتفعت القدرة الاقتصادية، ازدادت إمكانية الوصول إلى خدمات مخصصة. ويظل التحدي القائم هو في تحقيق التوازن بين الحفاظ على روح الشعيرة، وتقديم خدمات تتماشى مع احتياجات الحجاج المعاصرين ضمن إطار من العدالة والاحترام للتنوع الاقتصادي والثقافي. الصحة والوباء مع ازدياد أعداد الحجاج وتنوع خلفياتهم الجغرافية والصحية، أصبح الحج نموذجًا مثاليًا لدراسة «السياسات الحيوية» في المجتمعات الدينية، كما طرحها ميشيل فوكو. فالجسد وسيلة لعبادة الله، ويصبح أيضًا وحدة بيولوجية قابلة للرصد والتقييم. وتُظهر الإجراءات الوقائية مثل التطعيمات، والفحص الطبي، وتنظيم المسارات، كيف تدخل الدولة في إدارة الجسد ضمن شعيرة جماعية. لقد تحوّل الحج إلى مجال تُطبّق فيه أنظمة الصحة العامة، ضمن منطق «الضبط الوقائي»، الذي يدمج علاقة الإنسان بالشعائر، عبر الامتثال للمعايير الطبية، فالقداسة تُعاد صياغتها ضمن شروط علمية وتقنية دون أن تختفي، مما يخلق توازنًا جديدًا بين الإيمان والعقل التنظيمي الحديث. الروحانية الرقمية بدأت تتشكّل ملامح جديدة للتجربة الدينية، مع تصاعد دور التقنية الرقمية في تنظيم مناسك الحج، يتداخل فيها المقدّس مع الوسيط الرقمي، فقد أصبحت الطقوس محاطة بوسائط رقمية تشمل التطبيقات الذكية، والخرائط التفاعلية، والتوثيق المصوّر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى إعادة تشكيل العلاقة التقليدية بين الجسد والمكان الطقسي. يعتمد كثير من الحجاج اليوم على تقنيات توجههم وتنسّق حركتهم في الأماكن المقدسة، مما أوجد نوعًا من الوساطة الرقمية التي تؤثر في حضورهم المكاني والروحي. كما برز شكل جديد من التمثيل الرمزي للحج، من خلال مشاركة الصور والفيديوهات الشخصية، حيث تتحول الرحلة الروحية إلى سردية رقمية تُقدَّم للعالم كقصة فردية تتداخل فيها الابتهالات مع الهوية الرقمية. تفتح هذه التحوّلات الباب أمام تساؤلات عميقة حول طبيعة الروحانية في العصر الرقمي؛ فبينما تتيح الرقمنة فرصًا للتوثيق والتواصل، قد تُقوّض في الوقت نفسه الطابع التأملي الذاتي للشعائر، حين تتحوّل إلى عروض رقمية تخضع لشروط الخوارزميات، مثل عدد المشاهدات وحجم التفاعل. البعد الاقتصادي بدأ يتطور «طقس العبور» في الحج تدريجيًا من إطاره التقليدي كعبادة جماعية زاهدة، ليدخل في فضاء تتقاطع فيه الدوافع الروحية مع المنطق الاقتصادي في ظل تحوّل السوق إلى فاعل محوري في تنظيم تجربة الحج. يطرح هذا التحوّل أسئلة عميقة حول أثر الرأسمالية الحديثة في إعادة تشكيل الشعائر، وتحويلها من لحظة تأمل جماعي إلى مشهد اقتصادي ضمن ديناميكيات السوق. لقد أصبحت مناسك الحج قوة اقتصادية ضخمة، تحرّك قطاعات متعددة مثل النقل والضيافة والسياحة والخدمات الذكية، مما يجعل الشعيرة تمثّل نقطة التقاء بين الديني والتنموي. ويتجلى الحج كمثال حي على كيف يمكن للطقوس أن تُعاد قراءتها بوصفها محركًا اقتصاديًا، يتوافق مع قيم الاستهلاك الفاخر والرفاهية العالية في العصر الحديث. لكن هذا التشابك بين الروحي والمادي يدفع للتساؤل: هل تُغني هذه الديناميكية الاقتصادية التجربة الروحية؟ أم أنها تسهم في إفراغها من معناها الأصلي عبر تحويلها إلى منتج يُستهلك ضمن دورة السوق؟ ختاماً تُظهر دراسة الحج أن هذه الشعيرة تتجاوز كونها ممارسة دينية، فهي تجربة جماعية تعيد تشكيل هوية المسلم، وتُقوي شعور الانتماء لدين واحد، من خلال الطقوس المختلفة، حيث يمر الحاج برحلة رمزية تعكس مفاهيم المساواة، والتجرد، والتقرب من الله تعالى، مما يجعل الحج مساحة يتلاشى فيها الاختلاف الاجتماعي مؤقتًا، ليحل محله شعور مشترك بالروحانية والانتماء. ومع التطورات الحديثة في التقنيات والتنظيم، تغيّرت بعض ملامح تجربة الحج، دون أن تفقد معناها الأساسي. ورغم دخول عناصر جديدة، مثل الخدمات الفاخرة والتطبيقات الذكية، يظل الحج مجالًا غنيًا لفهم العلاقة بين الدين والمجتمع. فهو يقدم نموذجًا حيًا لكيف يمكن للشعائر أن تواكب العصر، وينقسم فيها الحجاج ما بين المحافظة على جوهرها الروحي العميق، أو التأثر بجوهر التواصل الرقمي.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store