
العنصر الفلسفي في فكر فيبر
من يمعن النظر في كتاباته لا بد أن يكتشف خلف هذا الوجه العلمي نظاماً فلسفياً متيناً يتعامل مع أسئلة المعنى والحرية والمصير بوصفها جوهر الوجود الإنساني. ففكر فيبر لا يقتصر على تشريح البنى الاقتصادية والسياسية، وما جرى اعتباره في حقل علم الاجتماع، بل يتوغّل في الطبقات العميقة للحداثة كتحوّل أنطولوجي عاشه الإنسان الغربي، كاشفاً عن الثمن الباهض للعقلنة، وحدود التقدم، ومأساة الفاعل في عالم خالٍ من القداسة. ولعلّ أبرز ما يميز رؤية فيبر وعيُه الحاد بأن العقلانية الحديثة، التي نظّر لها كعملية تنظيم متزايد لحياة البشر وفق معايير الكفاءة والحساب، لا تؤدي بالضرورة إلى حريّة الإنسان، بل قد تكون طريقه إلى نوع جديد من العبودية؛ عبودية لآليات بيروقراطية صمّاء تفرغ الوجود من كل مضمون روحي أو ذاتي.
فالمجتمع الحديث، في سعيه لإخضاع العالم إلى أدوات الضبط والسيطرة، أنشأ ما سمّاه فيبر: القفص الحديدي، حيث يفقد الإنسان علاقته المباشرة بالعالم، ويغدو ترساً داخل آلة لا تكلّف نفسها عناء سؤاله عمّا يشعر به أو يؤمن به. إن هذا التحوّل لا يُختزل في بعده التقني أو الإداري، بل هو تحوّل في ماهية الوجود نفسه؛ إذ لم يعد العالم مكاناً مأهولاً بالأرواح والمعاني، كعالم لايبنتز الكامل بزعمه، بل أصبح شيئاً خارجياً، محايداً، تقنياً، لا يتفاعل مع الإنسان بل يُخضِعه.
من هنا جاء مفهوم «نزع السحر عن العالم»، الذي لا يعني مجرد تراجع الخرافة أو سيادة العلم، بل انهيار النظرة القديمة التي كانت ترى في الكون كياناً مشبعاً بالرموز والمقاصد والمعاني، واستبدال نظرة حسابية بها ترى في الأشياء أدوات، وفي الإنسان وحدة إنتاج أو إدارة. وبهذا، يجد الإنسان الحديث نفسه في عزلة وجودية، محروماً من المعنى، مطالباً باختراع ما يبرر حياته في ظل انهيار المرجعيات العليا، سواء كانت دينية أو ميتافيزيقية. فيبر لا يعرض هذه النتيجة بفرح تقدّمي، بل بشعور تراجيدي، إذ يعتبر أن الإنسان لم يعد قادراً على الإيمان بوحدة قيمية متعالية، وأن الأخلاق نفسها قد انقسمت إلى اتجاهات متضادة، أبرزها أخلاق القناعة وأخلاق المسؤولية. الأولى تلتزم بالمبدأ المجرد دون نظر في نتائجه، أما الثانية فتعترف بتعقيد الواقع، وتتحمل مسؤولية النتائج حتى لو خالفت المبدأ الأصلي.
هذا الانقسام لا يعكس مجرد جدل أخلاقي، بل يكشف عن مأزق وجودي عميق. لم يعد بإمكان الإنسان أن يكون أخلاقياً دون أن يكون مأزوماً بالضرورة، لأن كل خيار أخلاقي أصبح محمّلاً بإمكانات الفشل والتضحية والتناقض. ومن هنا، لا يكون الفعل الأخلاقي عند فيبر سعياً إلى الطمأنينة، بل قبولاً باللايقين، وتحملاً للمخاطرة، واعترافاً بغياب الكمال.
هذه الرؤية تمتد إلى السياسة حيث يُقدّم فيبر شخصية الفاعل السياسي نموذجاً للوعي التراجيدي، الذي يعرف أنه لا يستطيع أن يحقّق الخير المطلق، لكنه يواصل فعله بوصفه مسؤولية لا يمكن التخلّي عنها. كما يكشف فيبر في كتاباته عن توتر بنيوي داخل الحداثة، يتجلّى في الثنائية بين الشخصية الكاريزمية الملهِمة التي تُحدث قطعاً مع المألوف وتؤسس قيماً جديدة، وبين الشخصية التنظيمية المحايدة التي تحافظ على النظام. فالشخصية الكاريزمية الملهِمة عند فيبر هي الفاعل الخارج عن القاعدة، التي تتلقى رؤيتها من قوة عليا، وتتكلم من موقع الإلهام لا من موقع التخصّص، وهي في ذلك تشكّل بداية جديدة، لكن هذا لا يستمر بعد موتها. ما إن تغيب، حتى تبدأ حركتها بالتقنين، وتتحوّل الكاريزما إلى نظام، أي إلى بيروقراطية.
هذا التحوّل الحتمي من الرؤية إلى الإدارة هو ما يجعل التاريخ الحديث دائرة مأساوية من الإلهام إلى الخمود، ومن الثورة إلى التقنين، وتكوّن نظام إداري وتشريعي يضمن الاستمرارية، لكنه لا يستبقي الروح الأولى. وفيبر، إذ يصف هذا التحوّل، لا يراه فساداً طارئاً، بل ضرورة تاريخية تُظهر أن العالم لا يُدار بالكاريزما، بل بالبيروقراطية، وأن الحداثة لا تحتمل الأنبياء، بل تحتاج إلى موظفين. لكن هذا الانضباط، رغم ما يمنحه من استقرار، لا يمنح الإنسان المعنى، ولا يروي ظمأه الوجودي. ولهذا فإن الحداثة، من وجهة نظر فيبر، تفتقر إلى البطل، وتنتج إنساناً فاقداً للروح، يعمل بلا شغف، ويعيش بلا رؤية. غير أن فيبر لا يسقط في اليأس، بل يرى أن ما تبقّى للإنسان هو أن يتحمّل مسؤوليته في خلق المعنى، لا عبر العودة إلى الوهم، ولا عبر التسليم للتشاؤم، بل عبر تأكيد فعله الحر، رغم إدراكه لانعدام الضمان. هو موقف أقرب إلى التراجيديا منه إلى العبث، أقرب إلى كانط منه إلى نيتشه، رغم تأثره العميق بكليهما. فلا المعنى يُعطى، ولا القيم تُفرض، بل كل شيء يُبنى من الداخل، عبر فعل حرّ، قلق، لا يضمن شيئاً إلا صدقه مع ذاته.
* كاتب سعودي
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 2 ساعات
- الشرق الأوسط
أداة «ذكاء تاريخي» للتنبؤ بدقة النقوش القديمة الغامضة
يمكن للنقوش اللاتينية من العالم القديم أن تكشف لنا عن مراسيم الأباطرة الرومان، كما تتيح لنا الاطلاع على أفكار المستعبدين، إذا استطعنا قراءتها. واليوم، لم تعد أداة الذكاء الاصطناعي تكتفي بمساعدة المؤرخين على إعادة بناء النصوص المُجزأة فحسب، بل باتت قادرة أيضاً على التنبؤ بدقة بموعد ومكان نشوء نقش معيّن داخل الإمبراطورية الرومانية. ونقلت مجلة «نيو ساينتست» عن ثيا سومرشيلد، من جامعة نوتنغهام بالمملكة المتحدة، قولها خلال مؤتمر صحافي: «دراسة التاريخ من خلال النقوش تُشبه حلّ أحجية صور مقطوعة هائلة، لكنها تحتوي على عشرات الآلاف من القطع أكثر من المعتاد، فيما نحو 90 في المائة منها مفقود، لأن هذا كل ما بقي لنا عبر القرون» تستطيع أداة الذكاء الاصطناعي التي طورتها سومرشيلد وزملاؤها التنبؤ بالحروف المفقودة في نقش لاتيني، مع تسليط الضوء على وجود نقوش مكتوبة بأسلوب لغوي مماثل، أو تشير إلى الأشخاص والأماكن أنفسهم. وأطلق الباحثون على الأداة الجديدة اسم «إينياس» (Aeneas) تكريماً للبطل الأسطوري، الذي، وفقاً للأسطورة، نجا من سقوط طروادة، وأصبح من أسلاف الرومان. وصرح يانيس أسيل من «غوغل ديب مايند»، أحد القادة المشاركين في تطوير أداة الذكاء الاصطناعي الجديدة، خلال المؤتمر الصحافي: «نمكّن (إينياس) من استعادة الفجوات في النص؛ حيث يكون طول النص المفقود غير معروف». ودرّب الفريق «إينياس» على أكبر قاعدة بيانات مُدمجة على الإطلاق للنصوص اللاتينية القديمة التي يمكن للآلات التفاعل معها، بما في ذلك أكثر من 176000 نقش، وما يقرب من 9000 صورة مُصاحبة. وعلاوة على ذلك، من خلال اختبارها على مجموعة فرعية من النصوص ذات المنشأ المعروف، وجد الباحثون أن «إينياس» استطاعت تقدير تاريخ كتابة هذه النصوص ضمن فترة تمتد لـ13 عاماً، بل حققت دقة بنسبة 72 في المائة في تحديد المقاطعة الرومانية التي جاء منها النقش، وفقاً لما ذكره الباحثون في مجلة «نتشر» (Nature, وأثناء الاختبار باستخدام نقوش مُحرفة عمداً لمحاكاة التلف، حققت «إينياس» دقة بنسبة 73في المائة في استعادة فجوات تصل إلى 10 أحرف لاتينية. وانخفضت هذه الدقة إلى 58 في المائة عندما كان الطول الإجمالي المفقود غير معروف، لكن الأداة تُظهر المنطق الكامن وراء الاقتراحات حتى يتمكن الباحثون من تقييم صحة النتائج. عندما اختبر ما يقرب من 20 مؤرخاً قدرة الأداة على استعادة النقوش المُحرفة عمداً وإسنادها، تفوق المؤرخون الذين يعملون مع الذكاء الاصطناعي على كل من الذكاء الاصطناعي وحده أو المؤرخين وحدهم. وتقول إليزابيث ماير من جامعة فرجينيا: «أعتقد أن هذا سيُسرّع من عمل أي شخص يعمل على النقوش، خصوصاً إذا كان يسعى إلى بناء استنتاجات أوسع حول الأنماط والعادات النقوشية المحلية، أو حتى على مستوى الإمبراطورية». وتضيف: «في الوقت نفسه، يجب على العقل البشري دراسة النتائج للتأكد من أنها مناسبة لذلك الوقت والمكان». كما تقول كيارا سيناتي من جامعة فيينا في النمسا: «إن طلب المساعدة من نموذج ذكاء اصطناعي عام في مهام التاريخ القديم غالباً ما يؤدي إلى نتائج غير مرضية؛ لذلك، فإن تطوير أداة مصممة بشكل خاص لدعم البحث في النقوش اللاتينية أمرٌ مرحب به للغاية».


الرجل
منذ 4 ساعات
- الرجل
هل ينسى الرجال ما تقول زوجاتهم؟ دراسة تكشف الفجوة الحقيقية بين الأزواج
كشفت دراسة حديثة، أجراها باحثون من جامعات هايدلبرغ الألمانية وUCLA الأمريكية وجامعة جورج ميسون، عن ظاهرة لافتة في العلاقات الزوجية؛ إذ أظهرت أن الرجال لا يحتفظون بالمعلومات التي تنقلها إليهم زوجاتهم، بعكس النساء اللواتي يُظهرن قدرة أكبر على تذكّر ما يقوله أزواجهن، والعمل به لاحقًا. واعتمدت الدراسة على تجربة ميدانية شملت نحو ألف أسرة ألمانية خلال عامي 2017 و2018، حيث طُلب من كل فرد تقدير ترتيب دخل أسرته على المستويين الوطني والعالمي، ومن دون إبلاغهم بوجود مقابلة لاحقة، قدّمت الباحثات المعلومة الحقيقية حول الترتيب لبعض المشاركين فقط، بالاعتماد على اختيار عشوائي، ولم تطلب منهم مشاركتها مع الطرف الآخر. الأزواج يتجاهلون معلومة الزوجة عند العودة إلى الأسر بعد مرور عام، أعاد الباحثون طرح السؤال ذاته حول التقديرات، ليرصدوا ما إذا كان الطرف الذي لم يتلقَّ المعلومة مباشرة قد احتفظ بها عن طريق شريكه. المفاجأة كانت أن الزوجات حسّنّ تقديراتهن بنسبة تصل إلى 20%، سواء تلقين المعلومة من الباحث أو من أزواجهن، أما الأزواج، فلم تُظهر بياناتهم تحسنًا يُذكر عندما كانت المعلومة منقولة إليهم عبر الزوجة فقط. لكن اللافت أن الرجال الذين سمعوا المعلومة مباشرة من الباحثة كانوا قادرين على تذكّرها بدقة واستخدامها لاحقًا، ما ينفي أن السبب تحيّز ضد المرأة أو رفض لمصدرها. وأكد الباحثون أن الظاهرة لا ترتبط بمستوى الدخل، فحتى الأزواج الذين يتقاضون أقل من زوجاتهم لم يكونوا أكثر تقبّلًا للمعلومة عند نقلها عبر الشريكة. وخلصت الدراسة إلى أن الرجال لا يتأثرون بالمعلومات المنقولة إليهم من زوجاتهم بنفس الطريقة التي تتأثر بها النساء من أزواجهن، وكتب الباحثون: "عندما يحصل الزوج فقط على المعلومة، تؤثر في معتقدات الزوجة. أما عندما تحصل الزوجة فقط على المعلومة، فلا تُحدث فرقًا في معتقدات الزوج". ورغم أن الدراسة لم تحدد بدقة أسباب هذا الخلل في التلقّي، فإنها تفتح نقاشًا مهمًا حول طبيعة التواصل في العلاقات الأسرية، ودور النمط الذهني أو الثقافي في طريقة استقبال المعلومة والتعامل معها، بعيدًا عن النية أو العاطفة.


الرجل
منذ 5 ساعات
- الرجل
Mask Architects تعيد تعريف اليخوت الشراعية عبر مشروع Tavalora-100
كشفت "ماسك آركيتكتس" Mask Architects عن رؤيتها الجديدة ليخت "تافالورا-100" Tavalora-100، وهو يخت شراعي بطول 30.5 متر، صُمم خصيصًا لعلامة متخصصة في اليخوت الرياضية والفاخرة، تتخذ من مدينة أوديني الإيطالية مقرًا لها، وقد سلّط موقع SuperYacht Times الضوء على المشروع، واصفًا إياه بأنه يمثل قفزة تقنية غير مسبوقة في مسيرة الشركة المصنّعة. وفي بيان رسمي، أوضح فريق "ماسك آركيتكتس" أن "مشروع "تافالورا-100" يُعد استجابة دقيقة لمتطلبات عميل ذي رؤية متميزة، مضيفين أن كل تفصيلة في اليخت قد وُضعت بعناية لتمزج بين الأداء التقني والانسيابية الجمالية والراحة الفائقة على المتن. ويرتكز تصميم الهيكل في "تافالورا-100" على تركيبة متطورة تجمع بين ألياف الكربون ونواة داخلية من الفوم أو خشب البالسا، ما يوفر صلابة بنيوية فائقة ووزنًا فائق الخفة يُعزز من قدراته في الإبحار السريع، وقد جرى اعتماد أحدث تقنيات التصنيع مثل نظام حقن الراتنج بالفراغ (VARTM) أو المعالجة في الأوتوكلاف، بما يضمن تشريب الألياف بدقة وتحقيق صلابة أحادية متماسكة دون المساس بخفة البناء. اقرأ أيضًا: يخت نورد يعبر القطب الشمالي في رحلة نادرة للملياردير ألكسي مورداتشوف ويعتمد نظام الريغ في اليخت على صاري فائق الصلابة مصنوع بالكامل من ألياف الكربون، ما يقلّل من الكتلة المرتفعة ويُعزز من ثبات اليخت وتوازنه في أثناء الإبحار. وتكتمل هذه البنية التقنية المتقدمة بأشرعة من طراز 3Di من "نورث سيلز" North Sails، مصنوعة من ألياف "داينيما" Dyneema والكربون، ومدعّمة بألياف "تيكنورا" Technora التي اختيرت بعناية لرفع الكفاءة الديناميكية الهوائية من دون تحميل إضافي على البنية، ما يمنح اليخت قدرة على الانطلاق بسرعة وانسيابية تُجسد فلسفة الأداء العالي التي بُني عليها المشروع. كيف يجسّد تافالورا مفهوم الاستدامة؟ تنطلق الفلسفة التصميمية ليخت "تافالورا-100" من معادلة دقيقة تجمع بين أقصى درجات الرفاهية وأخف المواد وزنًا. فقد جرى اعتماد الألواح المركّبة والهياكل الخلوية وأخشاب مخففة بعناية، مع توظيف مدروس لألياف الكربون في التفاصيل، ما يمنح المساحات الداخلية طابعًا عصريًا أنيقًا من دون المساس بخفة البنية، وأما سطح اليخت، فيزدان بطبقة من خشب الساج الطبيعي المثبّت على قاعدة مركّبة، ليُجسّد انسجامًا بصريًا يجمع بين الكلاسيكية والحداثة. ومن الناحية التقنية، زُوّد اليخت بنظام دفع هجين متطور، مدعوم بإمكانية استعادة الطاقة أثناء الإبحار، ما يعزز من استقلاليته واستدامته، كما تضمن منظومة التشغيل استخدام روافع كهربائية وهيدروليكية لتسهيل إدارة الأشرعة بأسلوب شبه آلي، إلى جانب نظام أتمتة ذكي يتيح التحكم المتكامل بالإضاءة والمناخ والأنظمة الإلكترونية، سواء من داخل اليخت أو عن بُعد. وفي تعليقهم على المشروع، قال مؤسسا "ماسك آركيتكتس"، أوزنور بينار سيز ودانيلو بيتا: "تافالورا-100 ليس مجرد يخت، بل رؤية طافية لتلاقي الابتكار الجمالي مع عبقرية الهندسة. نطمح من خلال هذا المشروع إلى تقديم تجربة بحرية تعيد تعريف جوهر الإبحار العصري".