
الأردن يوقف استقدام العمالة الوافدة فهل يملأ المواطنون الفراغ؟
عمان – أعلنت وزارة العمل الأردنية وقف استقدام العمالة غير الأردنية اعتبارًا من أمس الأول الخميس، وذلك بعد انتهاء فترة السماح التي استمرت 3 أشهر، والتي فُتحت لتلبية احتياجات بعض القطاعات.
وفي حديث خاص للجزيرة نت، صرّح الناطق باسم الوزارة، محمد الزيود، بأن استقدام العمالة الوافدة لن يُعاد فتحه مجددًا إلا بعد إجراء دراسات متأنية وشاملة لسوق العمل، لتقييم الاحتياجات الفعلية.
وأوضح الزيود أن القرار يهدف إلى تنظيم سوق العمل، والحد من تجاوزات العمالة الوافدة المخالفة، بالإضافة إلى إتاحة فرص تشغيل أكبر للمواطنين، في ظل ارتفاع معدلات البطالة.
وبالتوازي مع قرار وقف الاستقدام، شددت وزارة العمل على استمرار حملات التفتيش بالتعاون مع الداخلية ومديرية الأمن العام لضبط أي عمالة وافدة مخالفة، واتخاذ إجراءات قانونية بحق أصحاب العمل الذين يقومون بتشغيلهم بشكل غير قانوني.
وأكد الزيود أن هذه الخطوة تسعى أيضًا إلى توفير حماية شاملة لجميع العاملين، سواء من حيث الحقوق أو الرعاية الصحية، حيث يُشترط وجود فحص طبي ضمن إجراءات الاستقدام، إضافة إلى وجوب حمل تصريح عمل ساري المفعول. كما شدد على أن قانون العمل لا يميز بين العامل الأردني وغير الأردني من حيث الحماية القانونية.
أرقام رسمية تكشف حجم الفجوة
وتُظهر الإحصاءات الرسمية أن معدل البطالة العام في الأردن بلغ نحو 21.4% لعام 2024، موزعًا بنسبة 18.2% بين الذكور و32.9% بين الإناث.
ويُقدّر عدد العمالة الوافدة في المملكة بنحو 1.57 مليون عامل، غير أن العاملين منهم في الاقتصاد المنظم لا يتجاوز ربع هذا الرقم.
وتشير البيانات إلى أن نحو 306 آلاف عامل وافد فقط يحملون تصاريح عمل سارية المفعول، في حين أن حوالي 41 ألف عامل لم يجددوا تصاريحهم منذ عام 2021.
أما العمالة في القطاع غير المنظم -أي تلك المخالفة التي تعمل دون تسجيل رسمي- فتُقدّر بحوالي 1.2 مليون عامل.
وذكر الزيود للجزيرة نت أن السلطات كثّفت منذ بداية هذا العام حملاتها التفتيشية، مما أسفر عن ترحيل أكثر من 3 آلاف عامل وافد مخالف خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام.
هل يسد الأردنيون الفجوة؟
ويرى الناطق باسم وزارة العمل أن الفكرة الدارجة بأن الأردني لا يعمل لم تعد دقيقة، موضحًا أن ثقافة "العيب" بدأت تتراجع، إذ أصبح حملة الشهادات يعملون في تطبيقات النقل ومهن السياقة، وهناك أردنيون يقبلون على مهنة "عامل الوطن" وغيرها من الوظائف التي كانت تُعتبر في السابق غير مرغوبة.
وفي المقابل، يعبّر حمادة أبو نجمة، المدير العام للمركز الأردني لحقوق العمال "بيت العمال" عن وجهة نظر مغايرة، إذ يؤكد أن العديد من الأردنيين لا يُقبلون على العمل في بعض القطاعات بسبب غياب الحمايات القانونية والاجتماعية فيها أو ضعفها. ويضيف أن بعض المهن لا تتوفر فيها برامج تدريب وتأهيل مناسبة أو جاذبة للأردنيين، وهو ما يدفع أصحاب العمل إلى عدم الاعتماد على العمالة الوطنية لغياب التدريب الكافي.
ويؤكد أبو نجمة أن "الحل يكمن في تحسين بيئة العمل، وتعزيز الحقوق والحمايات في القطاعات التي لا تجذب الأردنيين، وتوفير برامج تدريب وتأهيل مناسبة. وبدون ذلك، سيكون من الصعب إحلال الأردنيين محل العمالة الوافدة في العديد من القطاعات".
وحول القرار الأخير، يقول أبو نجمة في تصريحه للجزيرة نت إن قرار وقف استقدام العمالة غير الأردنية بصيغته الشاملة "يثير القلق" رغم تفهمه للدوافع الحكومية. ويشير إلى أن القرار تجاهل الفروقات بين القطاعات، خاصة تلك التي تعتمد على العمالة الموسمية مثل قطاعي البناء والزراعة، مما قد يؤدي إلى نقص حاد باليد العاملة، وتراجع في الإنتاجية، وارتفاع بالتكاليف، مما ينعكس سلبًا على السوق والمستهلك.
كما يحذر من أن الحظر الشامل قد يضر أكثر بالملتزمين من أصحاب العمل والعاملين، بدلًا من أن يُسهم في الحد من المخالفات وسوق السمسرة.
ويضيف أن "هذه القرارات، وإن بدت سهلة من الناحية الإدارية، لم تُثبت فعاليتها سابقًا، بل ساهمت في تفاقم مشكلات العمل غير المنظم". ويشير إلى أن الإصلاح الحقيقي يتطلب سياسات مرنة قائمة على دراسات قطاعية وبيانات حديثة، تتضمن نسب استقدام مدروسة، وتحقق توازنًا بين مكافحة الاستغلال وتلبية احتياجات السوق، إلى جانب تحسين بيئة العمل وتدريب العمالة الوطنية.
وختم أبو نجمة بدعوته الحكومة إلى مراجعة القرار والانخراط في حوار تشاركي لتطوير سياسة تشغيل متوازنة تضمن استقرار سوق العمل، وتحفظ الحقوق لكافة الأطراف.
قرارات إدارية بلا إنتاج حقيقي
من جانبه، يرى الخبير الاقتصادي حسام عايش أن قرار وقف استقدام العمالة غير الأردنية ليس توجهًا جديدًا، بل يمثل امتدادًا لمحاولات سابقة تهدف إلى حل مشكلة البطالة من خلال "إحلال العمالة" بدلًا من تحفيز النمو الاقتصادي الفعلي.
ويشير عايش إلى أن الوظائف التي تستهدفها هذه السياسات الحكومية غالبًا ما تكون هامشية، لا تتطلب مهارات عالية، ولا توفر مسارات مهنية مناسبة لحملة الشهادات أو حتى خريجي الثانوية العامة.
ويعتبر أن القرار "يحمل بعدًا شعبويًا" حيث تحاول الحكومة من خلاله إظهار قدرتها على إيجاد فرص عمل، لكنه لا يستند إلى نمو حقيقي في الإنتاجية أو توسيع النشاط الاقتصادي.
ويضيف أن العديد من المهن التي تشغلها العمالة الوافدة اليوم نشأت أصلًا بفعل وجود هذه العمالة، ولم تكن جزءًا من بنية الاقتصاد المحلي، مما يجعل إحلال الأردنيين محلهم أمرًا صعبًا، نظرًا لاختلاف الأجور، وثقافة العمل، ومستويات الإنتاجية.
إعلان
ويختم عايش بالتأكيد على أن "تحقيق فرص العمل المستدامة لا يتم عبر قرارات إدارية معزولة، بل من خلال ربط هذه القرارات بخطط اقتصادية متكاملة، وتوسيع برامج التدريب والتأهيل، وتحسين بيئة العمل والأجور، حتى تصبح الوظائف خيارًا حقيقيًا ومغريًا للأردنيين".
سياسات سابقة ومهن محظورة
تجدر الإشارة إلى أن مجلس الوزراء الأردني كان قد تبنّى سياسة مشابهة عام 2023، قضت بوقف استقدام العمالة الوافدة، مع استثناءات محددة للقطاعات التي تحتاج إليها، حيث تم آنذاك استثناء قطاع العاملين في المنازل، والعاملين ذوي المهارات المتخصصة، وقطاع الألبسة والمنسوجات (ضمن المناطق الصناعية المؤهلة).
وفي السياق ذاته، أصدرت وزارة العمل قوائم بالمهن التي يُحظر على غير الأردنيين العمل بها، تضمنت حرفًا وأعمالًا يدوية مثل صالونات الحلاقة، وتنجيد الأثاث، وصياغة الذهب والحلي، إلى جانب المخابز، ومحال الحلويات، والنجارة، والحدادة، وخياطة الأزياء التراثية، ومثيلاتها من المهن.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
محللون: مقترح ويتكوف يواجه الانهيار وينحاز لإسرائيل
أثار إعلان المبعوث الأميركي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف أن رد حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على مقترحه لوقف إطلاق النار في غزة "غير مقبول بتاتا"، موجة ردود فعل متباينة بين الأطراف السياسية، في حين رأت الحكومة الإسرائيلية أن الرد يُعيد الوضع إلى الوراء، وأكدت حماس أنها لم ترفض المقترح بل توافقت معه على صيغة قابلة للتفاوض. وفي الوقت الذي حمّل فيه عضو المكتب السياسي لحركة حماس باسم نعيم الوسيط الأميركي مسؤولية الانحياز للطرف الإسرائيلي، شدد على أن الحركة تعاملت مع المقترحات "بإيجابية ومسؤولية عالية"، وتساءل عن سبب اعتبار الرد الإسرائيلي وحده أساسا لمواصلة التفاوض، واصفا ذلك بأنه "مخالف للنزاهة والعدالة في الوساطة، ويُشكّل انحيازا كاملا للطرف الآخر". وخلال الأيام الماضية، قدم الوسيط الأميركي مقترحا لوقف إطلاق النار في قطاع غزة ، مقابل الإفراج عن عدد من الأسرى، تمهيدا لمفاوضات تفضي إلى آلية لإدخال المساعدات الإغاثية ووقف دائم لإطلاق النار. ورغم أن حركة حماس وافقت عليه بداية، وأبلغت ردها للوسيط الأميركي، فإن إسرائيل رفضته وقدمت تصورا جديدا وتبناه ويتكوف وطالب حماس بالموافقة عليه، وهو ما باعد بين الطرفين وجعل مقترح إنهاء العدوان على غزة صعب التحقق. مقترح يوافق الرؤية الإسرائيلية وفي تحليل خلفيات هذا التعثر، استطلع "الجزيرة نت" آراء عدد من المحللين السياسيين عن مآلات دور الوسيط الأميركي، وما مصير مقترحه، وهل يمثل ذلك انهيارا للمفاوضات أو أنها جولة ضمن جولات متعددة؟ وقد قال الباحث الأكاديمي والخبير في الشأن الإسرائيلي مهند مصطفى إن مقترح ويتكوف كان منذ البداية أقرب للموقف الإسرائيلي، موضحا أن إسرائيل وافقت عليه لأنه يضمن إطلاق سراح نصف الأسرى الإسرائيليين الأحياء، من دون تعهدات واضحة بوقف الحرب أو الانسحاب من المناطق التي احتلتها في غزة بعد انتهاك اتفاق وقف إطلاق النار في مارس/آذار الماضي. ورأى مصطفى -في تصريحاته للجزيرة نت- أن هناك تناقضا جوهريا بين موقفي إسرائيل وحماس يغفله مقترح ويتكوف، فإسرائيل تصر على الإبقاء على منظومتها لتوزيع المساعدات في جنوب غزة، وهي منظومة تعد جزءا من العملية العسكرية، بينما لا يلتزم المقترح الأميركي بحصر إدخال المساعدات ضمن المسارات الدولية القانونية، وهو ما ترفضه حماس وتراه نقطة محورية في أي مفاوضات. وأضاف الباحث في الشأن الإسرائيلي أن المقترح يعيد المشهد إلى اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت، إذ قد تستأنف إسرائيل الحرب بعد هدنة مدتها 60 يوما إذا لم تفضِ المفاوضات إلى اتفاق يرضيها، "وهذه المرة بعد إعادة نصف الأسرى الإسرائيليين". ورغم ذلك، أشار مصطفى إلى أن رفض حماس وضع إسرائيل في مأزق، فمواصلة العمليات العسكرية يكتنفها تحديات، منها عدم وجود إجماع داخلي ومخاوف الجيش من مقتل أسرى إسرائيليين، كما أن اتفاقا جزئيا كان هدف العملية منذ بدايتها للضغط على حماس للقبول بصفقة واحدة ثم استئناف الحرب. انحياز الوسيط الأميركي الموقف الأميركي من المفاوضات الأخيرة، تأرجح بين أكثر من صيغة، ورغم أن الصيغة الأولى تعد مقترحا أميركيا، فإنه عاد وتبنى الرؤية الإسرائيلية مرة ثانية، وهذا ما ذهب إليه المفكر العربي الفلسطيني منير شفيق. إذ يقول -في تصريحات للجزيرة نت- إن انهيار مشروع ويتكوف سببه تراجع الوسيط الأميركي عن صيغته الأولى التي وافقت عليها حماس، ثم طرحه مشروعا يمليه عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. مشيرا إلى أنه "كان من الطبيعي أن تنهار المفاوضات"، مؤكدا أن ذلك يعزز فشل وساطة إدارة ترامب، ويمثل ضربة لويتكوف وللرئيس الأميركي دونالد ترامب معا. وحذر المفكر العربي من أن الانهيار سيُعيد الزخم للحملة العالمية المناهضة للسياسات الإسرائيلية، خاصة في أوروبا وأميركا، لافتا إلى أن الانقسام خرج إلى العلن داخل منظمات وشخصيات ذات ولاء صهيوني، "وهذا يحدث لأول مرة على هذا النطاق". وانتقد شفيق استمرار الانحياز الأميركي، معتبرا أن "الوساطة الأميركية ستفشل لأنها غير حاسمة مع نتنياهو"، وأن ويتكوف "تواطأ بمشروعه الأخير"، مشددا على ضرورة العودة إلى وساطة قطرية ومصرية لتحقيق بعض التوازن. جولة جديدة أم انهيار؟ وفيما يتعلّق بطبيعة العملية التفاوضية وديناميات الوساطة، فإن الباحث والمحلل السياسي المقيم في أميركا أسامة أبو أرشيد يرى أن ما يحدث لا يُعدّ انهيارا للمفاوضات بقدر ما يعكس تحديات جديدة أمام جولة تفاوضية متجددة. وقال أبو أرشيد -في تصريحات للجزيرة نت- إن هناك نمطا متكرّرا يتمثل في طرح مقترحات أميركية توافق عليها المقاومة الفلسطينية، لكن إسرائيل ترفضها، فتعدل واشنطن موقفها لإرضاء تل أبيب، وهو ما نشهده في جولة المفاوضات الحالية. وأوضح المتحدث نفسه أن تسلسل الاتفاق بدأ بمقترح قدمه ويتكوف في 25 مايو/أيار الماضي، ووافقت عليه حماس، ثم رفضته إسرائيل، ليتم لاحقا تعديله في 31 من الشهر ذاته بما يلبي المطالب الإسرائيلية، فطلبت حماس تعديلات عليه، لتأتي الاتهامات لحماس بأنها المسؤولة عن العرقلة، وهو ما يتيح لإسرائيل "ضوءا أخضر لمواصلة الهجمات وتشديد الحصار". أما الباحث في الشؤون السياسية محمد غازي الجمل فقال إن المفاوضات تعرضت لنكسة واضحة، لكنها لم تنهر كليا، وأرجع ذلك إلى استمرار الرغبة الأميركية في الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. ورأى الجمل أن الخطوة التالية يجب أن تركّز على إعادة التأكيد على مطالب حماس بإنهاء الحرب ورفع الحصار والسماح بسفر المرضى والفلسطينيين، وتبادل الأسرى، مبينا أن "استمرار الضغوط الدولية والرفض العالمي لتجويع غزة والمجازر يشكلان عامل ضغط على إسرائيل". وأضاف أن عودة الإدارة الأميركية إلى موقفها الأصلي في التفاوض مع حماس قد تخلق فرصة جدية لإتمام اتفاق، لكن هذا المسار قد يحتاج إلى وقت، في حين تزداد معاناة الشعب الفلسطيني مع استمرار العدوان الإسرائيلي وجرائمه. وتشن إسرائيل عدوانا على قطاع غزة من 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، راح ضحيته أكثر من 54 ألف شهيد ونحو 124 ألف إصابة، فضلا عن أعداد غير معلومة من المفقودين تحت ركام منازلهم أو في الشوارع ولا تستطيع فرق الدفاع المدني والإسعاف الوصول إليهم، حسب إحصاءات وزارة الصحة في غزة.


الجزيرة
منذ 5 ساعات
- الجزيرة
صحف عالمية: آلية إسرائيل لتوزيع المساعدات بغزة تكشف فخا مميتا
استحوذت حالة الفوضى الكبيرة التي أنتجتها آلية توزيع المساعدات التي استحدثتها إسرائيل داخل قطاع غزة والانتقادات الدولية الموجهة إلى حكومة بنيامين نتنياهو على عناوين كبرى الصحف العالمية. وتناول تقرير في صحيفة ليبراسيون الفرنسية ما سمّاه "فخ الموت في غزة"، الذي تكشف بعد إطلاق آلية توزيع المساعدات الجديدة. واستدل التقرير باستشهاد عشرات الفلسطينيين الساعين للحصول على قليل من الطعام، مشيرا إلى أن "الكارثة التي تسببت فيها خطة المساعدات تعكس حجم الفوضى في مراكز التوزيع". ووفق التقرير، فإن نفي كل من شركات الأمن التي تحرس المكان و الجيش الإسرائيلي إطلاقَ النار باتجاه الحشود يتناقض مع الشهادات التي جمعتها العديد من وكالات الأنباء الدولية. في سياق متصل، خلص مقال في صحيفة يديعوت أحرونوت إلى أن إسرائيل ضيعت الشرعية الدولية لمواصلة الحرب، محذرا من أن "العمل وسط الضغوط ودون دعم دولي قوي سيجعلها تعاني عزلة متزايدة". وحسب المقال، فإن إسرائيل ستكون حينها عرضة للانتقادات والإدانات والقرارات ضدها في الأمم المتحدة مع تداعيات اقتصادية وأخرى متعلقة بصورتها. وأشار إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أضاع فرصة ترجمة الدعم الدولي إلى إنجازات سياسية، مضيفا "لَو أنه عرض خطة لليوم التالي في غزة وجند من أجلها العالم لكان الوضع اليوم مختلفا تماما". بدورها، تناولت مجلة نيوزويك تصريحات لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت حملت انتقادات لاذعة لحكومة نتنياهو منها اتهامها بارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين. ولفتت المجلة الأميركية إلى أن تصريحات أولمرت -التي أدلى بها خلال مقابلة تلفزيونية- تكتسب أهمية بالغة باعتبارها أقوى توبيخ من مسؤول إسرائيلي سابق، وكونها تتماشى مع آراء الكثير من المنتقدين المحليين والدوليين للسياسة المنتهجة ضد الفلسطينيين. من جانبه، حذر مقال في صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية من مغبة التقليل من أهمية الأزمة المتصاعدة بين نتنياهو والمحكمة العليا على خلفية قراره تعيين رئيس جديد ل لشاباك. وذكر المقال أن إصرار كل طرف على موقفه يجر إسرائيل نحو كارثة، خصوصا في ظل "حرب مستمرة، وأزمة رهائن (أسرى) لم تحل بعد، وسيل من الانتقادات الدولية، والتداعيات الدبلوماسية لسياسة حكومة نتنياهو". وفي ملف آخر، قالت صحيفة واشنطن بوست إن الهجوم الأوكراني غير مسبوق داخل الأراضي الروسية أثار دعوات محلية إلى "رد قوي بالنظر إلى حجم الهجوم وطبيعة المواقع المستهدفة، بل هناك من اعتبر الفرصة سانحة لشن هجوم نووي على أوكرانيا". وأشارت الصحيفة الأميركية إلى خصوصية العامل الزمني، إذ جاء الهجوم في أعقاب انهيار جسرين إستراتيجيين جنوب غربي روسيا، وقبيل محادثات مرتقبة في إسطنبول بشأن وقف الحرب.


الجزيرة
منذ 6 ساعات
- الجزيرة
السينما الإيرانية.. تاريخ طويل بين التضييق والاحتفاء العالمي
في السنوات الخمس الماضية قوبلت السينما الإيرانية بحفاوة كبيرة في المسابقات الدولية، وأصبحت محط الأنظار كلما أعلن اختيار فيلم إيراني جديد في المسابقة الرسمية بأي من المهرجانات الكبرى. فعلى سبيل المثال لا الحصر شارك فيلم 'عنكبوت مقدس' (Holly Spider) و'أخوات ليلى' (Leila's Brothers) بالمسابقة الرسمية لمهرجان 'كان' عام 2022، وفي العام الماضي شارك فيلم 'كعكتي المفضلة' (My Favorite Cake) في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين. وهذا العام تعود السينما الإيرانية بقوة ممثلة في واحد من أعلامها الذين برزوا في التسعينيات، ألا وهو جعفر بناهي بفيلمه 'حدث بسيط' (It Was Just an Accident)، وقد فاز عنه بالسعفة الذهبية، وكان قد فاز بالأسد الذهبي في مهرجان البندقية عام 2000 عن فيلمه 'الدائرة' (The circle)، وجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين عام 2015 عن فيلمه 'سيارة أجرة'، فكان بذلك قد حصد الجوائز الثلاث الكبرى. إذا أردنا الحديث عن الاحتفاء بالسينما الإيرانية المعاصرة، وبجعفر بناهي، ومن قبله أصغر فرهادي، وعباس كيارستامي، ومجيد مجيدي، وجميعهم قد نالوا جوائز عالمية، بدءا من 'كان' مرورا بالأوسكار وغيرها من الجوائز، فلا سبيل إلى ذلك إلا بالرجوع لسياق المجتمع الإيراني؛ ظروفه وتقلباته السياسية والاجتماعية، لا سيما من بعد الثورة التي قامت على الشاه عام 1979، ثم ما سبق ذلك منذ منتصف القرن. 'استحمار الشاه'.. صب الزيت على شعلة الثورة في كتابه 'مدافع آية الله'، يحيل الصحفي والمؤرخ المصري محمد حسنين هيكل شرارة الثورة الإيرانية وبداية زعزعة حكم الشاه إلى العام 1951، حينما قرر رئيس الوزراء محمد مصدق تأميم النفط، فأغضب ذلك بريطانيا، وكانت يومئذ مهيمنة على النفط بشركة 'الأنجلو إيرانية'، فتعاونت بريطانيا وأمريكا في الانقلاب على مصدق عام 1953، فعاد بعدها الشاه محمد رضا بهلوي، وحكم بقبضة من حديد. وفي عام 1963، أصدر بهلوي بضعة قرارات 'إصلاحية'، تحت راية ما سمي 'الثورة البيضاء'، وقد رأى أن من شأنها وضع المجتمع الإيراني على الساحة الدولية سياسيا واجتماعيا، لكنه أغضب بتلك القرارات المجتمع الإيراني المحافظ، المعتد بهويته وثقافته. وكان من أبرز الثوار على تلك القرارات آية الله الخميني، وقد وصفها بأنها ليست إلا مصالحة وانبطاحا مع الغرب، واتهم الشاه بالعمالة للغرب، ونتيجة لذلك اعتُقل الخميني، ثم نُفي إلى الخارج عام 1964. وفي محاضرة بعنوان 'النباهة والاستحمار'، يقول الكاتب والمفكر الإيراني علي شريعتي إن نظام الشاه عمل من ناحيتين: أولاهما تغييب المواطن الإيراني، وإبعاده عن 'الدراية الإنسانية' و'الدراية الاجتماعية'، وبذلك أمكن أن يساق بسهولة إلى 'الاستحمار'. والاستحمار عنده هو آلية شائعة في دول العالم الثالث، التي تحكمها دول شمولية أو سلطة مستبدة، وبذلك فهي آلية نابعة من الحكم الأوتوقراطي، وقد حدد لها شريعتي نوعين، قديم وحديث، وعدّ ما يحدث في زمن الشاه نوعا من الاستحمار الحديث، وهو أن ينشغل العامة بما تفرضه السلطات وتعده صالحا ولكن بمعاييرها، لذلك رأى أن نظام الشاه ماهو إلا امتداد للاستعمار، في ظاهره ينادي بالحداثة والعلم والتحضر، وفي باطنه لا يأمل إلا بمحو الهوية والتراث. السينما الإيرانية الجديدة.. حركة سينمائية ضد الحداثة والتغريب كانت صناعة السينما يومئذ متوائمة مع فكر الشاه، فكانت سينما تجارية بلا روح ولا هوية، متماشية مع الذوق العام العالمي، لكن مع بداية الستينيات ومنتصفها بدأت حركة سينمائية موازية، بدا صانعوها واعين للخطر المحدق بالمجتمع الإيراني، المسمى بالإصلاح. عد فيلم 'مرآة وطوب' (The Brick and The Mirror) الذي أخرجه إبراهيم كلستاني (1966)، من الأفلام المؤسسة للسينما الإيرانية الجديدة، وهي سينما نشأت جذورها في الستينيات -لا كما يشاع أنها بدأت بعد ثورة الخميني على الشاه في نهاية السبعينيات، وكان من أبرز أعمالها فيلم 'المنزل أسود' (The House is Black) للشاعرة فروغ فرخزاد (1962)، وفيلم 'كلستاني'، وفيلم 'البقرة' (The Cow) للمخرج داريوش مهرجوي (1969). الملفت هو تزامن تلك الحركة مع بدء الحركات 'الإصلاحية' التي بدأها محمد رضا بهلوي (الشاه) باسم الثورة البيضاء، فإن كان بهلوي -بتعبير شريعتي- قد فرض استحمارا حداثيا على المجتمع الإيراني يومئذ، أدى إلى تغريب تام وبعد عن الهوية، فإن تلك الحركة السينمائية كانت تؤكد وجود مقاومة ما، تنبه لها صناع السينما مبكرا وعبروا عنها. وفي فيلم 'مرآة وطوب' نرى سائق الأجرة هشام يفاجأ ليلا بطفل رضيع يبكي في كرسي سيارته الخلفي، تركته أمه وحيدا وهربت، ويقاسي هشام الأمر وحده لشعوره بالمسؤولية تجاه الطفل المتروك، حتى يلاقي صديقته تاجي، ويفكران في إيواء الطفل. ومع محاولتي مقاربة الفيلم بالسينما العالمية، وجدت تشابهات عدة بينه وبين فيلم 'سائق الأجرة' (Taxi Driver) للمخرج 'مارتن سكورسيزي'، الصادر بعد فيلم 'كلستاني' بعشر سنوات، فهما يشتركان في عمل البطل، وشعوره بالسأم تجاه مدينته، وشعوره بالمسؤولية عن الطفل، وهو نفسه شعور 'ترافيس' تجاه الفتاة التي يقابلها في فيلم 'سكورسيزي'، ثم الرغبة الكامنة في الخلاص، حتى أنهما يشتركان في تقنيات بصرية عدة. ويظهر سخط كبير متخفٍّ في فيلم 'كلستاني' فيكون الرضيع المتروك -ممثلا للمستقبل- بلا هوية ولا ملجأ، في حين يرفض الجميع مسؤولية البحث عن أهله أو إيوائه، وهنا يؤكد 'كلستاني' خطورة تلك النزعة الفردانية التي ولدتها الحداثة الغربية ويدينها، لأنها في نظره قد وضعت المجتمع الإيراني على الحافة بفقدانه المسؤولية الفردية والجماعية. يتجلى ذلك في مشهد الفيلم الأخير، حين تقف تاجي منهارة في ممر ملجأ الأيتام، ويتركها هشام ويمشي وحيدا، فيقف أمام نافذة عرض بها كثير من التلفزيونات تعرض برنامجا أجنبيا، ينادي المتحدث فيه بأهمية الاعتداد بالذات، وضرورة وجود نزعة فردانية. نرى ذلك بشكل أكثر قسوة في فيلم 'البقرة'، المقتبس عن قصة للكاتب الإيراني غلام حسين ساعدي، وقد عُرض في مهرجان البندقية عام 1971، وحصد جائزة النقاد، وعده البعض الفيلم المؤسس للواقعية الإيرانية. فقد كانت بيئة الفيلم وموضوعه شديدي الخصوصية، وحرك الفيلم المياه الراكدة بعرضه في البندقية، ولفت أنظار العالم أجمع للسينما الإيرانية وخصوصيتها، وفي الفيلم نرى الفلاح 'ماشتي' يصاب بالجنون بسبب موت بقرته، التي لا يرى هويته ولا فاعليته في شيء سوى خدمتها، حتى أنه يقبل التسليم بكونه بقرة، أو أي شيء غير أن يكون إنسانا، في مجتمع مقبل على فقدان إنسانيته. وذلك تنبؤ نابع من تشاؤم تجاه ما سيقبل عليه المجتمع الإيراني، ولذلك عد الفيلم طليعيا في وقته، لدرجة أنه أعجب الشاه في البدء، ثم منعه بحجة أنه يعطي صورة سيئة عن المجتمع الإيراني، أما الخميني فعبّر عن إعجابه بالفيلم فيما بعد. وبالمثل كان فيلم 'فروغ فرخزاد'، وهو فيلم على نقيض الميلودراما تماما، كما أنه لا يحتفي بالقبح، بل من خلال أرض المجذومين يعيد طرح سؤال جوهري؛ هل نحن مجبورون على عيش حياة لا نملك فيها خيارا؟ المزج بين الوثائقي والروائي.. على خطى السينما الثالثة اجتاحت المجتمع الإيراني في السبعينيات تقلبات سياسية واجتماعية، وناله كثير من القمع وتضييق الخناق، لكن ذلك لم يمنع صناع السينما من المضي في طريقهم، فظهرت وجوه جديدة من المخرجين، تدعّم ما بناه مخرجو الستينيات، فمنهم عباس كيارستامي، وبهرام بيضائي، وسوهراب شاهيد ساليس وغيرهم. تبنى أولئك في سينماهم قصصا بسيطة، مؤثرة وإنسانية في المقام الأول، وغلب عليها الأسلوب التوثيقي، وهو ما تبناه مخرجو السينما الثالثة في أمريكا اللاتينية ودول غرب أفريقيا والهند في الخمسينيات والستينيات، مما يتلاءم مع إمكانياتهم ورغبتهم في توثيق حقيقة ما يقاسونه لا غير. فمثلا نرى في فيلم 'حياة رتيبة' (Still life) للمخرج سوهراب شاهيد ساليس (1974) تغير حياة عامل محطة السكة الحديد من حياة بائسة ورتيبة إلى حياة أكثر بؤسا ورتابة، نتيجة قرار تعسفي بفصله، بعد قضائه أكثر من 30 عاما في عمله، ثم استُبدل بعامل جديد أكثر شبابا. بتلك القصة البسيطة جدا في ظاهرها، تظهر سمات عدة لحركة السينما الإيرانية الجديدة، منها الانتقاد السياسي والمجتمعي اللاذع، ولكن بخفة لا تحس، ففي الفيلم نستشف صراعا بين القديم والجديد، ونلتمس آثار البيروقراطية التي يروح البطل ضحية لها، ولا يستطيع استرداد حقه، ولا إيجاد مأوى لأسرته. ويغلب الطابع التوثيقي على الفيلم. يتمثل ذلك في أفلام عباس كيارستامي الأولى أيضا، التي أنتجها معهد 'كانون' (مركز تنمية الأطفال والمراهقين)، فنلحظ الأسلوب التسجيلي الطاغي على سينما عباس في تلك الأفلام: 'الخبز والزقاق' (The Bread and The Alley). 'التجربة' (The Experience). 'المسافر' (The Traveler). ويتجلى ذلك بشكل أكثر إحكاما والتباسا أيضا في أفلام تالية لعباس في التسعينيات، كما نرى في ثلاثيته: 'أين منزل صديقي؟' (Where is My Friend's House). 'الحياة ولا شيء آخر' (Life, and Nothing More). 'عبر أشجار الزيتون' (Through The Olive Trees). 'عن قرب' (Close–up). وهي جميعا أفلام يصعب التفرقة فيها بين الواقعي والمصور أغلب الوقت. ولم يقتصر ذلك على كيارستامي، بل نراه ممتدا لآخرين، منهم جعفر بناهي في فيلمه الروائي الطويل الأول 'البالون الأبيض' (The White Ballon) الصادر عام 1995، وقد كتب كيارستامي سيناريو الفيلم، ونال جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان 'كان'. يتماس الفيلم مع آخر فرنسي، هو 'البالون الأحمر' (The Red Ballon) للمخرج 'آلبير لاموريسي'، ولكن ما يميز فيلم بناهي هو الطابع الإيراني الأصيل للحكاية، الذي يؤكد عليه بناهي باختياره نهاية مفتوحة، وهي ليست سعيدة في الغالب، على عكس فيلم 'لاموريسي'، الذي ينتهي بشكل ميلودرامي واحتفائي ساحر. على نفس الخطى كان فيلم 'لحظة براءة' (A Moment of Innocence) لمحسن مخملباف (1996)، الذي يحكي فيه مخملباف حادثة قديمة له، في مزج بين الأوتوغراف والروائي، ويتميز الفيلم بخصوصية شديدة، نظرا لشجاعة مخرجه في انتقاد نفسه وحماسة شبابه في المقام الأول، ثم التطرق شيئا فشيئا للنقد المجتمعي والسياسي، بأسلوب شاعري بسيط في ظاهر القصة ومركب في بنيته. يؤكد انتهاج ذاك الأسلوب شيئين: أولهما رغبة صناع السينما في توثيق صورة حقيقية لمجتمعهم، تؤكد أصالته وهويته، وواقع ما يعيشون كما هو موجود لا كما يأملون بالضرورة، والثاني قلة إمكانياتهم والتضييق الذي كانوا يجدونه لصناعة تلك الأفلام، وهو ما يظهر في اختيارهم للأماكن والتأثيث وحتى التقنيات المستخدمة. الأطفال يكتشفون العالم.. سينما مطرزة بالبراءة لقد وصف كاتب السيناريو الفرنسي 'جان كلود كارييه' سينما كيارستامي بأنها سينما 'مطرزة بالبراءة'، وهو التوصيف الذي اختاره الناقد أمين صالح ليكون عنوانا للكتاب الذي تناول فيه مسيرة كيارستامي وأفلامه. البراءة مرتبطة بالطفولة، وكذلك الدهشة والرغبة في اكتشاف العالم، فالفضول طفولي وأصيل جدا في الإنسان، وهو ما ينبهنا له كيارستامي دوما في سينماه. ففي فيلمه 'أين منزل صديقي؟' تحديدا، يتضح أن طفل كيارستامي يتجاوز الخاص ليصل إلى العام والشامل، فالفكرة التي ينطلق منها كيارستامي في فيلمه، من خلال شعور أحمد بالمسؤولية، ثم رغبته بإيصال كراسة الواجب لصديقه أحمد، هي تنبيه في المقام الأول لضرورة وجود الضمير الإنساني. لذلك فتيه الطفل بين البيوت والحارات التي لا يعرفها، لا يعد تيه طفل صغير، بل يعبر عن مجتمع وإنسانية بأكملها في طريقها للضياع، إنه نداء لليقظة، ونزعة وجودية تتجلى في النهاية، حين يفتح الطفل كراسته ليجد زهرة صغيرة. هنا يكمن إيمان عباس بالإنسانية، متمثلة في الطفل أحمد، الذي رأى إيصال كراسة صديقه واجبا أخلاقيا وهدفا في الحياة. لم يقتصر رصد الأطفال على كيارستامي، فلقد صور 'سوهراب ساليس' فيلمه المبكر 'حدث بسيط' (A Simple Event) عام 1973، ونرى فيه معاناة أسرة مكونة من زوج وزوجة وطفل صغير، وتعكس عيون الطفل ما تقاسيه الطبقة العاملة جميعا في بيئة فقيرة. نرى ذلك أيضا في أفلام أخرى، منها: 'الصمت' (The Silence)، لمحسن مخملباف. 'أطفال الجنة' (Children of Heaven) لمجيد مجيدي. 'البالون الأبيض' (White Ballon)، لجعفر بناهي. وغيرها من الأفلام. ولم يكن تصوير الأطفال نابعا من دافع عاطفي أو إنساني بحت، بل رأى مخرجو الواقعية الإيرانية أن قصص الأطفال -على بساطتها ظاهريا- تستطيع نقد المنظومة بأكملها وتفكيكها، من غير اصطدام مباشر بالسلطة، لا سيما بعد التضييق الذي طال السينما بعد الثورة الإيرانية. 'أن لا تتنافى مع الفكر الإسلامي والثورة'.. سينما الخميني بعد نفيه خارج البلاد عام 1964، حرّض الخميني على الثورة طوال مدة نفيه للخارج، وبين عامي 1977-1979 اندلعت مواجهات كثيرة بين الشعب -ممثلا في رجال دين وطلاب وعمال ومثقفين- وبين الطبقة الحاكمة، مما أدى إلى هروب الشاه، ورجوع الخميني إلى إيران، ثم توليه الحكم. لم تكن نظرة الخميني إلى السينما منصفة، فلقد رآها فنا فاسدا، وهو نتاج المنظومة الغربية، لكن بعد استقراره في الحكم كان واضحا تجاه السينما، فصرح قائلا: السينما يجب أن تخدم الشعب الإيراني، وأن لا تتنافى مع الفكر الإسلامي والثورة. وبذلك دعا إلى 'سينما إسلامية'، ولم يكن ذلك صادما، فبعد توليه الحكم لم تستطع فئة أخرى الإدلاء بصوتها أو المشاركة في الحكم، سواء من اليسار أو غيرهم، مما أدى إلى نشوء ما سمي 'ولاية الفقيه'. بناء على ذلك غادر مخرجون كثر إيران على مدار السنين، بسبب المنع والتضييق، فمنهم بهرام بيضائي، وسوهراب شاهيد ساليس، وشيرين نشاط، ثم محسن وعباس اللذان سئما، وحاولا صنع أفلامهم في الخارج مع نهاية العقد الأول من الألفية. أفلام ترسم ملامح مجتمع متنوع لم تختلف سينما ما قبل الثورة عما بعدها، فلقد برزت تجارب كثيرة واعدة في التسعينيات، منها الأفلام آنفة الذكر للمخرجين عباس كيارستامي، ومحسن مخملباف، وجعفر بناهي، ومجيد مجيدي، وبرزت أسماؤهم في مهرجانات عالمية، منها تورونتو والبندقية ولوكارنو وكان، وحتى في جائزة الأوسكار. وقد توج فيلم بناهي 'البالون الأبيض' بجائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان 'كان'، وفاز فيلم عباس 'أين منزل صديقي؟' بجائزة النقاد الدولية في 'لوكارنو'، وفيلمه 'ستحملنا الرياح' بالجائزة الكبرى للجنة التحكيم بمهرجان البندقية، ورُشح فيلم 'أطفال الجنة' لمجيد مجيدي للأوسكار، وفاز عباس بالسعفة الذهبية في مهرجان 'كان' عن فيلمه 'طعم الكرز' (Taste of Cherry)، وفاز بناهي بالأسد الذهبي في مهرجان البندقية عن فيلمه 'الدائرة' (The circle). يؤكد ذلك كله مدى براعة مخرجي إيران يومئذ وذكائهم، فبرغم التضييق، وفرض القيود المجتمعية والسياسية والدينية، لم يُمنعوا ذلك من التعبير عن أنفسهم. والجدير بالذكر أن المجتمع الإيراني لم يكن قبل الثورة مجتمعا منفتحا بالصورة المتخيلة عنه، فمثلما نرى في فيلم كلستاني 'مرآة وطوب' ملاهي ليلية وخمورا ودخانا، وتظهر النساء بشعورهن وأجسادهن في مشاهد حميمية، فعلى النقيض صورة أخرى للمجتمع الإيراني في فيلم داريوش مهروجي 'البقرة'، والفرق بينهما أقل من 4 سنوات. يؤكد ذلك مدى تنوع المجتمع الإيراني يومئذ وخصوصيته، من المدينة إلى الريف ومن التحفظ إلى الانفتاح، في صراع بين القديم والجديد، وبين الحداثي والأصولي، لذلك لم يكن كل المخرجين معارضين للثورة، فقد كان محسن مخملباف مثلا داعما للثورة حتى منتصف العقد الأول من الألفية. مخرجون في السجون ومواهب تحت الرقابة لم تكن أزمة السينما دينية فقط، بل كانت متجلية أكثر في القمع السياسي، ووصل الأمر أشده حين سجنت السلطات جعفر بناهي ومحمد رسولوف في عام 2010، إثر تصويرهما فيلما عن المظاهرات التي تلت إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية. وحُكم عليهما بالسجن 6 سنوات، ثم خُفف بعدها إلى عام واحد، ومُنعا من صناعة الأفلام 20 عاما. وبعد خروجهما من السجن، ظلا يصنعان الأفلام في السر، وكانت تلك الأفلام أكثر أفلامهما شهرة، فقد فازت بجوائز في المهرجانات الكبرى. لذلك نرى حالة خاصة متمثلة في فيلم 'هذا ليس فيلما' (This Is Not a Film) لبناهي، الذي عرض في مهرجان 'كان' عام 2011، وكان قد صنعه تحت الإقامة الجبرية في منزله، ويقال إنه أرسله للمهرجان في فلاشة (ذاكرة) وضعت في كعكة كبيرة. كما فاز فيلمه 'سيارة أجرة' (2015) بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين، وفاز فيلم رسولوف 'رجل نزيه' (A man of Integrity) الصادر عام 2017، بجائزة 'نظرة ما' في مهرجان 'كان'، وفاز فيلمه 'لا يوجد شر' (There is No Evil) الصادر عام 2020 بجائزة الدب الذهبي في برلين. وبعد فوز رسولوف بالجائزة، زاد الخناق عليه واعتقل بعدها عام 2022، بتهمة التحريض على النظام، وحكم عليه عام 2024 بالسجن 8 سنوات، ولكنه هرب إلى أوروبا قبل تنفيذ الحكم. وقد عرض فيلمه 'بذور التين المقدس' (The Seed of Sacred Fig) في مهرجان 'كان' في نفس السنة، وهو فيلم قد صنعه في إيران قبل هروبه. وجدير بالذكر أن بناهي اعتُقل أيضا عام 2022 أثناء متابعته قضية رسولوف، وقد خرج من السجن عام 2023، بعد احتجاجه وامتناعه عن الطعام، ثم صنع فيلمه الجديد 'حدث بسيط'، فاصطاد به السعفة الذهبية. سينما تتحدى الحظر والتضييق ربما تدل كل تلك الصعوبات على الكيفية التي نالت بها السينما الإيرانية مكانتها العالمية، وتفسر أهمية وجود مقاعد محجوزة كل عام للأفلام الإيرانية، نظرا لصعوبة صناعتها في البدء، ثم قدرة مخرجيها على التعبير في أضيق الحدود بصدق. وبأخذ أفلام المخرج أصغر فرهادي نموذجا على ذلك، ربما تتضح حيثيات فوزه بجائزتي أوسكار عن فيلمه 'انفصال' (Separation) الصادر عام 2011، وفيلمه 'البائع' (The Sales Man) الصادر عام 2016. عُرض فيلم 'انفصال' بعد الحكم على بناهي ورسولوف، وبأخذه نموذجا يكون المستوى الأول، وهو الحيثية السياسية، وعلى مستوى آخر توجد خصوصية المجتمع الإيراني المحلية، التي تجعل موضوعاته مادة مثيرة للاطلاع، لأنها دوما جديدة على المجتمعات الغربية، فهي نتيجة لإرث كبير، وتاريخ طويل من الصراع.