
صنع الله إبراهيم.. شرف المثقف
اكتسب رمزيته من قوة نموذجه الإنساني، فهو مبدع كبير من جيل الستينات لا يتلون بتغير العصور، يقول ما يعتقده تحت كل الظروف، كأنه صوت ضمير يأبى على اعتبارات البيع والشراء.
هو تلخيص رمزي ل«شرف المثقف». لعله أكثر من يستحق في حياتنا المعاصرة أن يكون تجسيداً حياً لتعريف المثقف عند الفيلسوف الفرنسي جوليان بندا- «المثقف الضمير».
لم تؤثر معاناته لخمس سنوات في المعتقل إثر الصدام بين ثورة يوليو وحركة «حدِتو» الماركسية عام (1959) على عمق رؤيته.
عندما أدخل المعتقل في الثانية والعشرين من عمره، كان يدرس القانون في كلية الحقوق، ويعمل موظفاً بمكتب ترجمة حتى يواصل تعليمه. رأى بعينيه الوقائع الشائنة لمقتل المفكر اليساري «شهدي عطية الشافعي» تحت الضرب المبرح في معتقل «أبو زعبل» يوم 17 يونيو 1960.
لأسباب تتعلق بضعف بنيته الجسدية جرى تنحيته على جنب حتى لا تزهق روحه من أول ضربة.
رفض الإدلاء بأقواله أمام سلطات الأمن خشية على حياته، وتحدث بما رأى أمام النيابة العامة بشجاعة.
استقرت التجربة في وجدانه بكل آلامها، غير أنها لم تمنعه من أن يرى عمق التحولات في مجتمعه ولا تناقضات المشروع الناصري مع نظامه.
عندما انكسرت مصر في 5 يونيو 1967 لم يشمت في آلامها، ولا أخفى ما عاينه بنفسه يوم 9 يونيو إثر إعلان عبدالناصر التنحي من إرادة مقاومة عمّت الشوارع.
«كان الظلام ينتشر بسرعة والناس تجري في كل اتجاه وهم يصيحون ويهتفون. ثم أخذوا يشكلون اتجاهاً واحداً إلى مصر الجديدة. وهم يرددون في جنون اسم ناصر. وظهرت بعض الأنوار في المحلات والمنازل ثم دوّت أصوات مدافع فوق رؤوسنا فساد الظلام من جديد».
روى ما شهده بعينه، في روايته «1967»، من أحداث ومشاعر انفجار بالبكاء وتشنج وانهيار وخروج بعفوية للشوارع. كان الروائي الشاب في ذلك الوقت مطارداً سياسياً. لم يكن هناك ما يدعوه إلى أن يُضفي على «تمثيلية» مصطنعة طابع الحقيقة المصدقة.
إنه شرف المثقف. «لماذا تدافع عمن سجنك لخمس سنوات؟». طارده هذا السؤال عبر السنين والعقود مستغرباً دفاعه بحماس بالغ بأي محفل وفي كل وقت عن عبدالناصر.
لم يتراجع يوماً، ولا غيّر أفكاره بيوم آخر، لكنه لم يُتَح له أن يعبّر عن كامل وجهات نظره في الرجل وعصره، حتى كتب روايته «1970».
النص الروائي أقرب إلى مناجاة طويلة مع رجل رحل قبل أكثر من نصف قرن، يخاطبه كأنه يسمع، يراجع معه مواطن الخلل في تجربته التي أفضت إلى الانقضاض عليها، ينقده بقسوة أحياناً ويعاتبه أحياناً، ولا يخفي محبته وتماهيه مع عذابه الإنساني في مرضه الأخير.
شأن أغلب رواياته فهو يعتنى بالتسجيل والتوثيق، كأنه يرسم بالأخبار والوقائع يوماً بيوم صورة تلك السنة، أزماتها وتحدياتها والأحوال الثقافية والفنية فيها، تكاليف المعيشة والإعلانات المنشورة، وكذلك حرب الاستنزاف وشهداؤها، المقاومة الفلسطينية والانقضاض عليها في «أيلول الأسود».
فلسطين حاضرة في أعماله، بصورة مباشرة، أو في خلفية الأحداث. العمل الروائي يكتسب قيمته من فنيته وما ينطوي عليه من فلسفة حياة، لا هو موضوع في التحليل السياسي ولا تأريخ لمرحلة، غير أن التاريخ بصراعاته وتناقضاته مادة ثرية للدراما.
في واقعتين مدويتين وجد نفسه طرفاً مباشراً في الصراع حول أي مصر نريد؟ الأولى، عام 2003 عندما رفض جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي، التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة.
كان المشهد مثيراً، فقد جرى الرفض أثناء الإعلان عن الجائزة. فيما كان يعتقد أن الفائز سوف يلقي كلمة شكر لمانحي الجائزة، أعلن رفضه الحصول عليها مُديناً السلطة التي منحتها.
كانت تلك رسالة غضب أقرب إلى «وثيقة أخيرة» قبل إسدال الستار. أسبابه المعلنة كلها سياسية تنطق بما يجيش في عقول وقلوب المصريين.
بعض الذين منحوه الجائزة، هنّأوه بالاعتذار عنها. كانت تلك رسالة أخرى عن تصدّع نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك.
لم يرفض الجائزة لأنها مصرية، بل لأن وجودنا الإنساني في محنة، ووجودنا السياسي كارثة، ووجودنا كوطن وأمة في خطر.
في ذلك الوقت ترددت تكهنات أنه قد يعتقل، أو يحدث له مكروه. نقل تلك المخاوف وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني إلى الرئيس، الذي أبلغه أن شيئاً من ذلك لن يحدث. كانت تلك إشارة عن قدر من التعقل السياسي لنظام بدأت قوائمه تهتز من تحته.
والثانية، عام 2013 قبل احتجاجات 30 يونيو عندما تصدر مع الروائي الكبير بهاء طاهر اعتصام المثقفين في مبنى وزارة الثقافة. بقوة إلهام الأديبين الكبيرين تدفق على مكان الاعتصام فنانون ومبدعون من جميع الأجيال والاتجاهات الوطنية، طلباً للدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.
بعده حدث انكفاء المثقفين دون التفات يذكر إلى خطورته على مناعة البلد وقدرته على الإبداع وتجديد قوته الناعمة وبناء تصورات تساعد على تأسيس مشروع ثقافي له طاقة الالتحاق بعصره.
عودة الروح إلى الحياة الثقافية، وأدوار المثقفين، ضرورة وجود للبلد في مواجهة تحدياته وأزماته. هنا- بالضبط- معنى وقيمة أن يكون بيننا صنع الله إبراهيم، الذي يستحق عن جدارة تاريخ وإبداع دعوات المصريين والعرب كلهم بالشفاء العاجل من محنته الصحية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الإمارات اليوم
منذ 5 ساعات
- الإمارات اليوم
محمد رمضان: "الأولاد عايروا ابني وقالوله أنت أسود زي أبوك"
نشر الفنان محمد رمضان عبر حسابه الخاص في "فيسبوك" بياناً صحافياً كشف فيه تفاصيل واقعة اعتداء نجله بالضرب على طفل آخر في أحد النوادي، حيث نشر عبر حسابه الرسمي في موقع "إنستغرام" صورة لمادة من القانون المصري تنص على ضرورة حجب هوية الأطفال في هكذا حوادث، معلقاً: "القانون ده من 2018 يا سادة بضرورة حماية الطفل والعيلة بحجب هوية الطفل واسمه وصورته عن الإعلام والصحافة حتى لو كان مُجرد شاهد في قضية، ولكن لأن الطفل ده أبوه محمد رمضان - يبقى حلال - وبالأمر يصدروا بيان صحفي لكل الصحف والمواقع العامة والخاصة والحكومية انشر صورة ابن محمد رمضان واكتب إنه هيتاخد من أمه وأبوه وهيروح دار الرعاية، مع إن القانون بيمنع النشر ولكنهم نشروا... من حقي كأب اعرف مين خالف القانون وأصدر البيان الصحفي اللي مفيش مؤسّسة واحدة قدرت ترفض نشره... ورغم كل شيء لا أشك أبداً بنزاهة القضاء المصري". وأضاف البيان: "ابني اللي كان واضح في الڤيديو اللي النيابة شافته إنه كان قاعد في حاله مع أخته الصغيرة في النادي وراحوله مجموعة أطفال يقولوله أنت أسود زي أبوك وأبوك عنده ڤيلا كبيرة وعربيات علشان فلوسه حرام إنما إحنا عايشين في شقق نيو جيزة علشان أهالينا مش حرامية... ولما ابني كلّمني في التليفون سمعت الكلام ده بنفسي .. وواضح إن ده كلام أهل طفل منهم لأن مستحيل طفل يفكّر كده، وده في حد ذاته بيزرع الحقد والغل الطبقي بين الأطفال".


الإمارات اليوم
منذ 11 ساعات
- الإمارات اليوم
ضبط صيدلي هارب من 587 سنة سجن بمصر
ألقت الأجهزة الأمنية المصرية القبض على صيدلي هارب من تنفيذ 388 حكمًا قضائيًا، وبلغ مجموع العقوبات الصادرة بحقه 587 سنة سجن، في واحدة من أكبر قضايا التهرب من العدالة في . وذكرت مصادر أمنية أن عملية الضبط تمت بعد تحريات دقيقة أجرتها وحدة مباحث تنفيذ الأحكام، التي توصلت إلى معلومات مؤكدة بشأن مكان اختباء المتهم، الذي يقيم في العاصمة، ويُعد من أكثر المطلوبين أمنيًا في قضايا مالية، على رأسها إصدار شيكات دون رصيد وقضايا تبديد.


البيان
منذ 16 ساعات
- البيان
لا للحماقات السياسية!
أصحاب المعارك الشعبوية على وسائل التواصل الاجتماعي يجب أن يتعقلوا قليلاً وهم يصدرون أحكامهم القاسية على الأحداث والمواقف، والقرارات والمؤتمرات والدول. آخر هذه الأحكام القاسية هي ذلك الحديث عن عدم جدوى القمم العربية التي تنعقد تحت مظلة جامعة الدول العربية. الجامعة العربية، مثلها مثل كل المنظمات الإقليمية الدولية مثل الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الأفريقي، ومجموعة الآسيان، ومنظمة شنغهاي، وحلف الأطلنطي وغيرها كلها تعمل تحت 3 عناصر رئيسية حاكمة: أولاً: أنها تعبر عن مجموع مصالح وإرادات الدول الأعضاء. ثانياً: أنها تعبر عن موازين القوى والأحداث الكلية الضاغطة. ثالثاً: أنها تختار وتعتمد أسلوب الحوار والدبلوماسية والتفاوض بالدرجة الأولى في تعاملاتها وفي ممارسة أدوارها في القضايا التي تتصدى لها. ولقد عاصرت الجامعة العربية منذ المؤتمر التأسيسي الأول الذي انعقد في «أنشاص» بالعاصمة المصرية بدعوة من الملك فاروق ملك مصر والسودان – حينئذ – حتى القمة العادية رقم 34 التي انعقدت مؤخراً في بغداد، وهي تحاول اتباع كل الوسائل المتبعة في أدوار أي منظمة إقليمية. والذين يطالبون العالم العربي بالمغامرة بثرواته الطبيعية، أو أرصدته واستثماراته في الغرب الأوروبي والأمريكي بهدف تغيير سياسات العالم لا يعرفون عما يتحدثون، ولا يعرفون أنه كما كانت 7 أكتوبر في غزة أكبر حماقة سياسية في حق الشعب الفلسطيني والمنطقة، فإن مقاطعة العالم هي لعب بالنار، وتعتبر حماقة الحماقات وأبعد شيء عن الحكمة السياسية.