
بين الحذر والتحالفات.. ما سِر البطء المصري في التقارب مع دمشق؟
فعلى الرغم من اللقاء الذي جمع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بنظيره السوري أحمد الشرع في مارس/آذار الماضي ب القاهرة ، على هامش القمة العربية الاستثنائية، والذي أوحى حينها بوجود نية تقارب سريع بين البلدين، فإن وتيرة الخطوات المصرية تجاه دمشق تسير ببطء، ما يثير تساؤلات عن خلفيات هذا التريث.
ويرى مراقبون أن مصر، رغم خصوصية علاقتها التاريخية ب سوريا ، لا تزال تعتبر المشهد السوري الحالي غامضا، سواء من حيث استقراره السياسي أو الأمني، إلى جانب القلق من الخلفية الإسلامية للنظام الجديد، وعلاقته المتينة بأنقرة، وهو تقارب لا يخلو من الحرج بالنسبة للدبلوماسية المصرية، في ظل التنافس الإقليمي مع تركيا.
مشهد سياسي مضطرب
ويؤكد الخبير في العلاقات الدولية أيمن سمير، في حديثه للجزيرة نت، أن سوريا تمر بمرحلة إعادة تشكل على المستويين السياسي والأمني، وسط تحديات جسيمة تواجهها القيادة الجديدة، لا سيما بشأن الجماعات المسلحة التي لا تزال تسيطر على مناطق واسعة من البلاد.
ويشير سمير إلى وجود عشرات آلاف العائلات المرتبطة بمقاتلي تنظيم الدولة وتنظيمات مسلحة أخرى، ممن يقطنون في مخيمات مثل " الهول"، مما يبقي الوضع الأمني في البلاد في حالة توتر دائم.
ورغم بعض الانفتاح الدولي على دمشق، يلفت سمير إلى أن سوريا لا تزال مصنفة ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب في السياسة الأميركية، وهو ما يعكس استمرار الحذر في تعامل المجتمع الدولي معها، وليس فقط القاهرة. ويضيف: "حتى الدول الأوروبية حين تدرس تخفيف العقوبات، فإنها تفعل ذلك تدريجيا وبأقصى درجات الحذر، وهو نفس ما تنتهجه مصر".
ويشدد الخبير المصري على أن القاهرة حرصت منذ البداية على تبني موقف متوازن، إذ استقبلت الرئيس السوري الجديد خلال القمة العربية، وقدمت مساعدات إنسانية، فضلا عن استضافتها آلاف اللاجئين السوريين، لكنها في الوقت نفسه حرصت على إبقاء العلاقة عند مستوى دعم الشعب فقط.
ويضيف أن مصر لم تتوان في دعم الموقف السوري في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية، لا سيما ما يتعلق بإلغاء اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974 وسيطرة الاحتلال على مناطق في درعا والقنيطرة والسويداء. ويقول: "في مثل هذه الملفات، تقف القاهرة بوضوح إلى جانب دمشق، مع التمسك بمبدأ رفض التدخلات الخارجية".
ويختتم سمير حديثه بتأكيد الموقف المصري على دعم حل سياسي سوري شامل، يقوم على الحوار بين جميع مكونات المجتمع السوري، ويضمن استعادة الدولة مكانتها ودورها العربي والإقليمي.
أما أستاذة العلوم السياسية في الجامعة الأميركية بالقاهرة، نهى بكر، فترى أن العلاقات المصرية السورية، بعد رحيل نظام بشار الأسد ، تخضع لحسابات إستراتيجية دقيقة، ترتبط في المقام الأول بمنع تحول سوريا إلى بؤرة للفوضى أو منطلق للجماعات المتشددة التي قد تهدد الأمن المصري.
وتقول بكر للجزيرة نت، إن القاهرة تتبنى ما وصفته بـ"الحياد الحذر"، ريثما تتضح معالم السلطة الجديدة في دمشق، مؤكدة أن الاستقرار في سوريا شرط أساسي لأي انخراط مصري جاد في عملية إعادة الإعمار أو الاستثمار في مجالات الطاقة، لا سيما ما يرتبط بتصدير الغاز المصري عبر الأراضي السورية.
وتضيف أن هذه الخطط قد تصطدم بعقبات داخلية، أبرزها هشاشة الوضع السياسي والانقسامات العرقية والطائفية، إلى جانب ما يثار بشأن علاقة بعض أركان النظام السوري الجديد ب جماعة الإخوان المسلمين ، وهو ما تعتبره مصر تهديدا مباشرا لأمنها القومي وهويتها السياسية.
وتختتم بكر بالتأكيد على أن أولوية القاهرة هي حماية أمنها واستقرارها الداخلي، موضحة أن سياسة التمهل في فتح قنوات التعاون مع دمشق تعكس هذه الرؤية الواقعية.
ماضي الشرع يقلق الحاضر
في السياق ذاته، يربط الباحث في الشؤون العربية والدولية د.محمد اليمني، التريث المصري بخلفية الرئيس أحمد الشرع، مشيرا إلى أنه كان على صلة بجماعات ذات توجهات متشددة، مما يثير قلقا داخل مؤسسات صنع القرار المصرية.
ويقول اليمني للجزيرة نت، إن سوريا لا تزال تشهد صراعات داخلية على أسس طائفية وعرقية، كما حدث أخيرا مع بعض مكونات المجتمع السوري مثل الدروز والشيعة، وهو ما يعزز موقف القاهرة في تجنب التورط في تحالفات قد تنعكس سلبا على استقرارها.
ويؤكد أن السياسة الخارجية المصرية تتسم بالمرونة والبراغماتية، لكنها لا تتهاون في الملفات التي تمس أمنها المباشر، مستشهدا بمواقف مصر الحاسمة في التعامل مع التحديات على الحدود مع ليبيا والسودان.
كما يلفت إلى وجود ضغوط أميركية متزايدة على حلفاء واشنطن للاعتراف بالحكومة السورية الجديدة، في إطار سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لرفع العقوبات، بما فيها "قانون قيصر"، بهدف إعادة إدماج سوريا في المنظومة الدولية، لكن اليمني يؤكد أن هذه الخطوات لم تغير من الواقع الميداني كثيرا، إذ لا يزال الانقسام الداخلي سيد الموقف.
ويختتم الباحث بالإشارة إلى البعد التاريخي للعلاقة بين البلدين: "الجيشان المصري والسوري وقفا معا في حرب أكتوبر 1973، وحققا نصرا كبيرا على إسرائيل، لكن الظروف اليوم مختلفة، والتعقيدات الراهنة تحتم التروي، لا الاندفاع".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 22 دقائق
- الجزيرة
كيف خططت حماس لاختراق الوحدة 8200 الإسرائيلية بطاقم تنظيف؟
كشفت صحيفة "يسرائيل هيوم" أن قوات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة كشفت مؤخرا عن خطة مدروسة أعدها عناصر حركة حماس لاختراق إحدى القواعد التابعة للوحدة 8200 عبر عقد لخدمات التنظيف الروتينية. وأوضحت الصحيفة أن فريقا من القوات الإسرائيلية في غزة عثر على أدلة تشير إلى محاولة محسوبة من جانب حماس للتسلل إلى وحدة الاستخبارات الإشارية الأكثر نخبوية في إسرائيل، وذلك عبر عقد روتيني لتقديم خدمات التنظيف، وهو ما دفع الجيش الإسرائيلي إلى إجراء تغييرات فورية في بروتوكولات الأمن. وجاءت محاولة حماس لاختراق الوحدة بعد نشر مناقصة عبر الإنترنت لخدمات التنظيف في أحد مرافق الوحدة 8200. وقد كشفت مواد استخباراتية فنية تم ضبطها في غزة خلال عمليات لاحقة للجيش الإسرائيلي أن حماس كانت على علم بهذه المناقصة، ورأت فيها فرصة محتملة للوصول إلى منشأة تابعة للوحدة، وفق الصحيفة. وأفادت "يسرائيل هيوم" بأنه وعلى إثر ذلك تم تجميد المناقصة فورا، وأصدرت قيادة الجيش الإسرائيلي تعليمات بتشديد البروتوكولات المتعلقة بنشر الإعلانات والمعلومات العسكرية على منصات الإنترنت العامة. وتعتبر الوحدة 8200 -التي تشبه وكالة الأمن القومي الأميركية في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)- الذراع الاستخباراتية الإسرائيلية النخبوية، وقد أشادت إسرائيل بنجاحاتها الكبرى في الحرب -بما في ذلك ضد حزب الله وإيران- على الرغم من الإخفاقات الكبرى خلال الفترة التي سبقت هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وسبق أن نقلت صحيفة "يسرائيل هيوم" في منتصف مارس/آذار 2024 أن قوات الجيش في غزة عثرت على خوادم أنشاتها حماس تحت الأرض وأجهزة الحاسوب المتصلة بها، ليتكشف للجيش المدى الحقيقي لقدرات الحركة في مجال الاستخبارات. وأضافت الصحيفة حينها أن الجيش الإسرائيلي كان على علم بنجاح حماس في اختراق بعض الكاميرات الأمنية المدنية الإسرائيلية لجمع المعلومات، واعترف بأنه تم الإبلاغ عن ذلك دون أن تجري معالجته بالسرعة اللازمة. وأواخر العام الماضي، نقل موقع "أكسيوس" الأميركي عن ضباط استخبارات إسرائيليين سابقين أن الوحدة 8200 في الجيش الإسرائيلي تشهد "أسوأ أزمة" في تاريخها بعد الفشل الإسرائيلي حيال هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 (طوفان الأقصى). وبحسب 3 ضباط كبار سابقين في الوحدة، فإن الوحدة تحتاج إلى العمل الاستخباراتي الأساسي الذي لا يعرف الكثير من العاملين فيها اليوم كيفية القيام به، وبدون ذلك فإن الفشل سوف يكرر نفسه. جاء ذلك عقب إبلاغ قائد وحدة الاستخبارات الإسرائيلية 8200 اللواء يوسي شارييل رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال هرتسي هاليفي يومها استقالته من منصبه في سبتمبر/أيلول الماضي على خلفية إخفاق الوحدة في تقديم إنذار مبكر عن هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وتأخذ الوحدة 8200 على عاتقها مهمة جمع المعلومات الرئيسية، إضافة إلى تطوير أدوات جمع المعلومات وتحديثها باستمرار، مع تحليل البيانات ومعالجتها، وإيصال المعلومات إلى الجهات المختصة، وكثيرا ما تشارك هذه الوحدة وتمارس عملها من داخل مناطق القتال.


الجزيرة
منذ 22 دقائق
- الجزيرة
دفاتر مطاردة وكتب مدفونة.. تحرر المعرفة في سوريا بعد سقوط نظام الأسد
لم يكن مخرج فيلم "فهرنهايت 451″، الذي صوّر فيه السلطة تحرق الكتب وتطارد الفكر، ليتخيل أن خياله سيتجسد واقعا في بلد كتب تاريخه الأخير بالدم والنار، سوريا. هناك، لم تكن النار استعارة مجازية عن القمع، بل أداة حقيقية استُخدمت لإبادة المعرفة، حين أحرق النظام كتبا، ومزّق أفكارا، وحاصر الكلمات كما يُحاصر الثوار في الأزقة. لكن السوريين، الذين خبروا الطغيان، رفضوا أن يكون الحبر ضحيته الدائمة، فقرروا مقاومة من نوع مختلف: مقاومة بالحفظ، والإخفاء، والانتظار. كتب تحت الأرض وأخرى في الرأس في قرية "التبني" غرب دير الزور، اختار أحد السكان أن يُنقذ ما راكمه من كتب الفلسفة والفكر السياسي والدين، فدفن مكتبته الكاملة تحت الأرض في حفرة حفرها بيديه، وغطاها بالأغطية البلاستيكية. لم يكن يخفي كتبا فحسب، بل كان يُخفي روحه من الخطر، ويودعها حتى يحين أوان العودة. بعد 6 سنوات من الغياب القسري، عاد الرجل واستخرج كتبه، في مشهد وثّقه مقطع فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، ولاقى تفاعلا واسعا، لما فيه من رمزية عن صمود الفكر وعودة المعرفة إلى النور. المكتبة التي دفنت كانت تختزن نحو ألفي كتاب، تم إنقاذها من المصادرة والنسيان بفضل جرأة فرد، قرر أن يقاتل وحده، ضد الاستبداد، بصمت. وفي العاصمة دمشق، كان الروائي السوري نزار أباظة (80 عاما) يحتفظ برواية كاملة في رأسه منذ أكثر من نصف قرن. يقول: "أمضيت أكثر من 53 عاما وأنا أحتفظ بهذه الرواية، لأنني كنت أعلم أن مجرد نشرها قد يضعني في سجون النظام، أو يعرضني للتعذيب". ويضيف: "اليوم فقط، أستطيع أن أطلق هذه الأفكار للعلن". حكايات الناشرين الممارسات التي عاشها السوريون في العقود الماضية تحت حكم بشار الأسد لم تكن مجرد منع هنا أو حذف هناك، بل كانت رقابة بوليسية شاملة. مئات بل آلاف الكتب أُزيلت من المكتبات، وتعرضت للإتلاف أو الحظر، في محاولات حثيثة لإبقاء الولاء الفكري محصورا في أطر السلطة. وحيد تاجا، المسؤول الإعلامي في دار الفكر للنشر بدمشق، يروي كيف كان النظام يرسل دوريات لتفتيش مخازن الكتب، ويُحرق أي كتاب يُخالف الخط المرسوم. "كنت أخفي الكتب المحظورة كما يُخفى الكنز"، يقول تاجا، مضيفا أن وزارة الإعلام كانت ترسل قوائم ممنوعات دورية، يلتزم بها الجميع أو يُعاقب. كان من المعتاد أن تُخفى الكتب داخل المواسير، أو في بيوت الأصدقاء، أو حتى في مخازن تحت الأرض، وهي الحيل التي أنقذت الكثير من الأعمال الثقافية من المصير الأسود. ومع الإطاحة بالنظام، عاد تاجا لإخراج تلك الكتب إلى الضوء قائلا: "نفضنا الأتربة عن الصفحات، وأعدناها إلى مواضعها الطبيعية. لم يكن ذلك يوم تحرير للمواطنين فقط، بل للأدب السوري أيضا". باعة الكتب إلى العلن أدهم عجمي، بائع كتب كان يدير كشكا صغيرا تحت "جسر الحرية" في دمشق، يتذكر كيف هدمت الجرافات أكشاك بيع الكتب، وكيف كان مجرد وجود كلمة مثل "ثورة" في عنوان كتاب كافيا لمصادرته. ويقول: "كنت أبيع الكتب المحظورة سرا، وكنت دائما أعتقد أن يوما سيأتي وتعود الكتب للنور. وهذا ما حدث الآن". أما عبد الله حمدان، الذي يبيع الكتب الدينية، فقد اضطر لإحراق بعض الكتب التي تحوي رموزا مسيحية بعد أن طلب منه أنصار النظام الجديد ذلك. لكنه قال بوضوح: "لا ترتكبوا نفس أخطاء النظام السابق. الأدب يعني الحرية، وحرية الفكر لا تتجزأ". لكن الانفتاح الجديد في سوق الكتب لا يُرضي الجميع، إذ تخشى قطاعات ثقافية على الحريات في سوريا الجديدة أيضا وتقول رولا سليمان، الشريكة المؤسسة لقاعة "زوايا" لعرض الأعمال الفنية في حي مسيحي بدمشق "لا نريد أن نعيد إنتاج الاستبداد باسم جديد". نهاية نظام عمره 61 عاما مع دخول فصائل المعارضة المسلحة إلى دمشق، وانهيار سيطرة النظام، يكون حكم حزب البعث الذي بدأ عام 1963 قد طُوي فعليا بعد أكثر من 6 عقود. وفي أواخر نوفمبر/تشرين الثاني، اندلعت اشتباكات عنيفة في ريف حلب الغربي بين النظام والفصائل، مما مهد للانهيار التام في العاصمة. وبينما استقبل مراقبون هذا التحول بتفاؤل، فإن كثيرا من المثقفين والناشرين والفنانين في الداخل لا يزالون يتعاملون بحذر مع الواقع الجديد، يخشون أن تكون الثورة قد أطاحت بالوجوه، لا بالعقلية. ويقول مراقبون أن معاناة الثقافة في سوريا لم تكن مجرد تبعات جانبية لصراع مسلح، بل جزءا أصيلا من بنية القمع السياسي، الذي رأى في الفكر تهديدا لا يُحتمل. وها هي الكتب تخرج من السراديب، ومن تحت التراب، ومن ذاكرة الشيوخ، لتروي حكاية المقاومة بالنص، وتنتظر الآن أن تُكتب فصول حريتها الجديدة بالحبر، لا بالدم.


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
الاقتصاد السوري بعد الأسد.. بين إرث الانهيار وتحديات التحول
تشهد سوريا لحظة تحول فارقة في تاريخها السياسي والاقتصادي منذ إسقاط نظام بشار الأسد أواخر عام 2024، فقد ورثت الحكومة الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع اقتصادا منهكا وبنية تحتية شبه مدمرة ومجتمعا متعبا بفعل أكثر من 13 عاما من الحرب. وتحاول القيادة الحالية إعادة تعريف هوية الاقتصاد السوري منتقلة من نموذج مركزي بيروقراطي إلى اقتصاد السوق الحر، في محاولة لإنقاذ البلاد من الانهيار الكامل، والانخراط من جديد في النظام المالي والاقتصادي العالمي. ونشر مركز الجزيرة للدراسات ورقة تحليلية بعنوان " الاقتصاد السوري.. تحديات التحول نحو نظام السوق ومواجهة إرث النظام السابق" للباحث عبد العظيم المغربل بحثت الواقع الاقتصادي لسوريا في ظل الظروف السياسية الراهنة، وناقشت رؤية الحكم الجديد للبلاد والتحديات التي تواجهها، إضافة إلى المآلات التي تنتظر دمشق في ظل الظروف الجيوسياسية الإقليمية والدولية المتقلبة. اقتصاد هش وإرث ثقيل يعاني الاقتصاد السوري من تشوهات كبيرة في بنيته وقطاعاته، وهي تشكل تحديا للحكومة السورية، من أهمها: وضع سياسي هش: ورثت الحكومة السورية نظاما سياسيا منهارا إثر هروب بشار الأسد من البلاد إلى روسيا، إلى جانب وجود مطالبات باللامركزية الإدارية من قبل ما تسمى قوات سوريا الديمقراطية الموجودة شرق الفرات، وبعض الفصائل الدرزية جنوب البلاد. وقد أطلقت الإدارة السورية الجديدة مؤتمر الحوار الوطني، ومن أهم التحولات التي تشهدها سوريا في هذه المرحلة اعتماد نموذج السوق المفتوح، حيث يؤدي القطاع الخاص دورا محوريا، وسيؤدي إلى انفتاح سوريا تجاه الدول الإقليمية والعالمية بشكل أكبر ويعزز اندماجها بالاقتصاد العالمي. وتشير الدراسة إلى أن وضع الاقتصاد السوري حاليا يتميز بـ"الهشاشة البنيوية"، حيث لا تزال آثار الحرب تهيمن على مختلف نواحي الحياة، فقد أدى القتال والدمار إلى تراجع الناتج المحلي بنسبة هائلة. وتعاني البلاد من نسب فقر كارثية، إذ يعيش 90% من السكان تحت خط الفقر، وتضاعف الفقر المدقع إلى 66%، في حين تبلغ معدلات البطالة 25%، ويعتمد نحو 75% من المواطنين على المساعدات الإنسانية، كما تراجعت العملة الوطنية إلى مستويات غير مسبوقة، مما أفقدها دورها في التداول المحلي لصالح الدولار. وركزت القيادة السورية جهودها منذ اليوم الأول نحو الحصول على الشرعية السياسية ورفع العقوبات ودمج سوريا في النظام العالمي وإعادة تفعيل القطاع التجاري، وسينعكس هذا على تحسين المؤشرات الكلية تدريجيا. تراجع قطاعات الإنتاج الحيوية: خلال سنوات الحرب تعرضت القطاعات الإنتاجية الرئيسية لتدمير واسع، وأدت إلى تهجير اليد العاملة الخبيرة وتدمير المنشآت الصناعية وحرق الأراضي الزراعية، وتعرضت رؤوس الأموال للضغط والابتزاز وغيرها من الإكراهات. وبعد سقوط النظام بدأت هذه القطاعات تسعى إلى تأمين الحد الأدنى من احتياجاتها الرئيسية التي تساعدها على الاستمرار فقط. وعلى صعيد إجراءات الحكومة بدأت العمل على إصلاح القطاع الزراعي والصناعي، وسط رغبة محلية وعربية بضخ استثمارات في هذين القطاعين عبر تقديم تسهيلات وإعفاءات ضريبية ومحاولة تأمين الطاقة اللازمة لتشغيل القطاعين. تشير التقديرات الدولية إلى أن تكلفة إعادة الإعمار تقدر بـ400 مليار دولار، فالبنى التحتية مثل الكهرباء والماء والطرقات تحتاج لإعادة تهيئة وإصلاح، بل وإنشاء بنى جديدة لها. ويبدو أن الحكومة السورية تراهن على مزيج من التمويل الخليجي والدولي كخطة مشابهة لمشروع مارشال لإعادة إعمار البلاد، وتركز جهودها على جذب مشاريع استثمارية كبرى. قطاع تجاري مترهل: تأثرت خطوط الإمداد والنقل وسلاسل الإمداد والتوريد إلى حد كبير خلال الحرب في سوريا بسبب النشاط العسكري الذي حصل والانقسامات في الجغرافيا العسكرية والسياسية داخل البلاد وغياب القوانين الضابطة والناظمة للعمل التجاري، إلى جانب فرض العقوبات. وتعمل الحكومة السورية على ضبط الاقتصاد غير الرسمي، سواء على مستوى مكافحة الفساد والتهريب وغيرها. لا تزال الحياة المعيشية للمواطنين السوريين تعتمد إلى حد كبير على التحويلات الخارجية والمساعدات الإنسانية وبعض الأعمال الحرة في ظل وجود مؤشرات تضخم وبطالة مرتفعة، خاصة أن الإدارة الجديدة أعلنت التحول نحو اقتصاد السوق الحر، في حين كان الاقتصاد إلى عهد قريب جدا يعتمد على الحكومة بشكل مركزي. وقد جعلت الحكومة الانتقالية من أهم أولوياتها محاربة الفساد وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أساس المساءلة والشفافية والتركيز على حماية المواطنين وتعزيز الاستقرار، لكن تحقيق نتائج على صعيد هذه الأولويات فضلا عن أن تنعكس على حياة المواطنين اليومية يحتاج إلى مسار ليس بالقصير. تراجعت قيمة الليرة السورية أمام الدولار خلال سنوات الحرب، وجرى اعتماد الدولار بدلا من الليرة، وذلك نتيجة السياسات النقدية غير العقلانية والتي أدت إلى انتهاء الاحتياطي من العملات الأجنبية وطباعة كميات ضخمة من الليرة السورية، وغياب الثقة بالنظام المصرفي، إلى جانب العقوبات المفروضة على البنوك، خصوصا البنك المركزي. وعملت الحكومة الجديدة على إعادة تفعيل القطاع المالي والنقدي وضخ الثقة به، فاستأنفت سوق دمشق للأوراق المالية التداول بعد 6 أشهر من التوقف، مما يشير إلى أن الاقتصاد السوري بدأ يتعافى، وأن سوريا تحولت من اقتصاد مركزي يديره القطاع العام واقتصاد الظل إلى اقتصاد قائم على الحرية الاقتصادية. الآفاق المستقبلية.. فرص مشروطة بنجاح الإصلاح ترى الدراسة أن الفرصة اليوم متاحة أمام سوريا لتحقيق نهضة اقتصادية شاملة خلال السنوات العشر المقبلة، شريطة استمرار الإصلاحات واستقرار البيئة السياسية والأمنية، فالنمو المتوقع في القطاعين الزراعي والصناعي قد يسهم في تقليص البطالة وتحقيق الأمن الغذائي، كما أن فتح سلاسل التوريد وخطوط النقل تدريجيا سيعزز التجارة الداخلية والخارجية. وفي حال استمرت الاستثمارات الخليجية والتركية وتوفرت الشفافية والثقة لدى المانحين فقد تتمكن سوريا من تجاوز "مرحلة الإغاثة" والانتقال إلى مرحلة "التنمية المستدامة". وتتوقع الحكومة انخفاضا تدريجيا في معدلات التضخم والبطالة خلال 5 سنوات، بالتزامن مع تحسن العملة الوطنية وانخفاض الاعتماد على الدولار. اختبار كبير وتخلص الدراسة إلى أن مستقبل الاقتصاد السوري يعتمد أساسا على قدرة الحكومة على خلق بيئة سياسية مستقرة، واستكمال مسار العدالة الانتقالية، وضبط الأمن الداخلي، وبناء مؤسسات كفؤة وشفافة. وتبقى إعادة تعريف هوية الاقتصاد السوري -كمجتمع منفتح قائم على اقتصاد السوق- مرهونة بجدية الحكم الجديد في محاربة الفساد، وبناء الثقة، والتفاعل النشط مع المجتمع الدولي. ورغم أن الطريق لا يزال طويلا فإن التحولات الجارية -سياسيا واقتصاديا- تشير إلى لحظة حاسمة في تاريخ سوريا، وفرصة لإعادة بناء البلاد على أسس جديدة، ربما تكون الأعمق منذ الاستقلال.