logo
الفيزياء تشرح قدرات التخفي الاستثنائية للمقاتلة سوخوي سو-57

الفيزياء تشرح قدرات التخفي الاستثنائية للمقاتلة سوخوي سو-57

وطنا نيوز٢٠-٠٢-٢٠٢٥

وطنا اليوم:تعد سوخوي سو-57 مقاتلة من الجيل الخامس المتعددة المهام، صُنعت بواسطة شركة سوخوي الروسية لتكون منافسًا مباشرًا للطائرات الأميركية مثل إف-22 وإف-35.
عادة ما تمتلك هذه الطائرات ميزات السرعة الفائقة، حيث تستطيع الطيران بسرعة تصل إلى 2 ماخ (نحو 2,450 كيلومترا في الساعة)، مع قدرة عالية على المناورة بفضل محركات الدفع الموجه، ولذلك يمكنها القيام بحركات مذهلة في الجو، وبالطبع تمتلك ميزة التسليح الثقيل.
قدرات التخفي
لكن تظل الميزة الرئيسية لهذه الطائرات هي القدرات الشبحية المتقدمة مما يجعلها صعبة الاكتشاف، ويسهل ذلك عليها الدخول إلى أراضي الخصوم وأداء مهام عسكرية دون أن يتم اكتشافها.
ولكن لفهم الكيفية التي تعمل بها تلك الخاصية الاستثنائية يجب أولا أن نتعرف إلى طبيعة الرادار، هو نظام يستخدم الموجات الراديوية للكشف عن الأشياء، مثل الطائرات والسفن.
الموجات الراديوية هي نفسها التي نستقبلها على المذياع (الراديو) الخاص بنا، والتي ترسلها محطات الإذاعة، وفي حالة الرادار العسكري تقوم وحدة متخصصة بإرسال نبضات راديوية تتحرك بسرعة الضوء في كل مكان ضمن نطاق محدد، وإذا اصطدمت هذه الموجات بجسم (مثل طائرة)، فإنها ترتد إلى الرادار.
في هذه الحالة، يستقبل الهوائي الخاص بالرادار الموجة المرتدة ثم يتم حساب الوقت الذي استغرقته الموجة في الذهاب والعودة لتحديد المسافة، ثم مع حسابات إضافية يتم تحديد السرعة والاتجاه.
والفكرة الأساسية وراء الرادار في هذا السياق بسيطة، هي نفسها الطريقة التي يستخدمها الخفاش لتجنب العوائق، حيث يطلق الأخير موجات صوتية للأمام فترتد إليه فيعرف أن هناك حائط أمامه.
فيزياء التشتيت
تعتمد طائرات الجيل السادس مثل السوخوي سو-57 على عدة مبادئ أساسية في الفيزياء لتقليل المقطع العرضي للرادار، ويظهر ذلك بشكل أساسي في تقليل مقدار انعكاس موجات الرادار إلى رادارات العدو.
حيث تم تصميم شكل جسم هذه الطائرات باستخدام 'مبدأ الانعكاس المرآوي'، وهو الانعكاس الذي يرتد فيه الضوء أو أي موجة كهرومغناطيسية عند اصطدامه بحائل من جهة واحدة بحيث تكون زاوية الانعكاس مساوية لزاوية السقوط.
لفهم الفكرة يمكنك استخدام قلم ليزر، وفي غرفة مظلمة قم بتوجيهه ناحية مرآة، هنا سينعكس بزاوية مساوية تماما للزاوية التي سقط بها، وكلما وسّعت من الزاوية بإمالة القلم اتسعت زاوية انعكاس شعاع الليزر.
في هذا السياق تصمم مقاتلات الجيل الخامس مثل السوخوي سو-57 بمزيج من الأسطح المائلة، والنتوءات على الحواف، وحجرات الأسلحة الداخلية، لتقليل الانعكاسات، مما يعني أن موجات الرادار ستنحرف بعيدًا بدلا من ارتدادها إلى الرادار، لأنها مضطرة للاستجابة إلى مبدأ الانعكاس المرآوي.
لكن إذا تمكنت الطائرة من تشتيت تلك الأشعة، لا ردها إلى الرادار، بشكل يشبه ألعاب تشتيت الضوء في متاحف المرايا، فإنها قد امتلكت ميزة التخفي، ولذلك ستلاحظ أن الطائرات المتخفية من الجيل الخامس تمتلك جميعا الشكل نفسه تقريبا مع اختلافات ليست كبيرة، مثل إف-22 الأميركية أو جيه-20 الصينية أو سو-57 الروسية، وذلك لأن الفيزياء واحدة، والهندسة المعتمدة عليها تكون واحدة كذلك مع اختلافات طفيفة.
مركبات خارقة
إلى جانب ذلك، فإن الطائرات من هذا النوع تكون عادة مطلية بمركبات تمتص الموجات الراديوية وتحول الموجات الكهرومغناطيسية إلى حرارة بدلا من عكسها.
من أمثال هذه المواد ما يسمى 'بالمواد الخارقة'، ولفهم الفكرة تخيل أنك تلعب بقطع الليجو. عادة، تقوم ببناء أشكال بسيطة مثل المنازل أو السيارات. ولكن ماذا لو رتبت قطع الليجو بطريقة تجعل البنية بأكملها تتصرف بشكل غريب، مثل ثني الضوء أو جعل الأشياء غير مرئية؟ هذا هو بالضبط ما تفعله المواد الخارقة، ولكن باستخدام الموجات بدلا من الليجو.
المواد الخارقة هي مواد خاصة من صنع الإنسان يمكنها التحكم في الضوء والصوت والموجات الأخرى بطرق لا تحدث في الطبيعة. وهي مصممة بهياكل صغيرة تغير كيفية تحرك الموجات من خلالها.
فمثلا نعرف أن الضوء ينحني عندما يمر عبر الزجاج أو الماء، وهذا ما يسمى بالانكسار، ونعرف أن الموجات الصوتية ترتد عن الجدران، مما يخلق أصداء، وترتد الموجات الراديوية عن المعدن، وهذا هو السبب في أن الرادار يمكنه اكتشاف الطائرات.
تغير المواد الخارقة قواعد كيفية عمل الموجات، وهي تفعل ذلك باستخدام هياكل صغيرة مرتبة بعناية، بحيث تكون أصغر بكثير من الموجات نفسها.
فكر في الموجات مثل نهر يتدفق عبر الصخور. إذا تم ترتيب الصخور بالطريقة الصحيحة، فيمكنك التحكم في كيفية تدفق المياه بحيث لا ترتد، بل تمتص بين الصخور، أو يتم تشتيتها. وبالمثل، تتحكم المواد الخارقة في الموجات من خلال تشكيل هياكلها الداخلية الصغيرة.
ويقوم العلماء يوما بعد يوم بتطوير هذه المواد، ففي دراسة نشرت في 2023 بدورية 'يوروبيان فيزكال جورنال' قام الباحثون بتصميم مادة خارقة جديدة يمكنها العمل على نطاق ترددي واسع، مما يعني أنها فعالة ضد أنواع مختلفة من الموجات الكهرومغناطيسية، ويمكّنها ذلك من امتصاص أو حرف أقوى من المواد الخارقة السابقة، مما يعزز التكنولوجيا التي تساعد في إنتاج طائرات الأجيال المستقبلية.
تخفيف البصمات
تعتمد فئة أخرى من الرادارات على بصمة الأشعة تحت الحمراء الخاصة بالطائرة، حيث إن محركات الطائرة تنتج حرارة، تطلق بدورها إشعاعا في نطاق الأشعة تحت الحمراء.
الأشعة تحت الحمراء هي نوع من الضوء غير المرئي الذي لا تستطيع عين الإنسان رؤيته، لكنه موجود حولنا طوال الوقت، وتنطلق عادة بسبب الحرارة، فأي شيء دافئ، مثل الشمس أو النار وحتى جسمك، يُصدر أشعة تحت الحمراء، ولذلك فإن كاميرات المراقبة الليلية تعمل بالأشعة تحت الحمراء.
وفي المقاتلات مثل السوخوي سو-57 تعمل فوهات المحرك المسطحة والمسننة على تشتيت غازات العادم، وبالتالي تقليل الانبعاثات الحرارية. وإلى جانب ذلك، توضع المحركات عميقًا داخل جسم الطائرة لحماية الأجزاء الساخنة.
ومن جانب آخر، تساعد الدورة المبردة الخاصة في المناطق الحرجة (مثل المحرك ومناطق خروج العادم) على امتصاص وتشتيت الحرارة قبل أن تشع للخارج، تمزج مثبطات الأشعة تحت الحمراء داخل نظام العادم الغازات الساخنة بالهواء البارد.
الحرب الإلكترونية
التخفي لا يتعلق فقط بالشكل والمواد، تلعب الفيزياء أيضًا دورًا في التدابير المضادة الإلكترونية، حيث قد تستخدم مثل هذه الطائرات إلغاءً نشطًا للموجات الصادرة من رادارات الخصوم، حيث تصدر أنظمتها الموجودة على متنها إشارات تتداخل مع موجات الرادار الواردة، مما يقلل من إمكانية اكتشافها.
لفهم الفكرة تخيل أنك في حفلة موسيقية صاخبة وتريد إلغاء الضوضاء. إحدى الطرق للقيام بذلك هي استخدام سماعات الرأس التي تعمل على إلغاء الضوضاء.
تتلقى سماعات الرأس هذه الضوضاء الخارجية وتنشئ موجة صوتية معاكسة تعمل على إلغائها، مما يجعل صوت الحفلة الموسيقية أكثر هدوءًا.
تعمل خاصية إلغاء الرادار النشط بنفس الطريقة، ولكن بدلا من إلغاء الضوضاء، فإنها تلغي موجات الرادار، وتستخدم هذه الخاصية في المقاتلات الشبحية، وكذلك مجموعة من السفن والغواصات والصواريخ.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

افتتاح اليوم العلمي الأول لطلبة قسم الفيزياء بالهاشمية
افتتاح اليوم العلمي الأول لطلبة قسم الفيزياء بالهاشمية

أخبارنا

timeمنذ 9 ساعات

  • أخبارنا

افتتاح اليوم العلمي الأول لطلبة قسم الفيزياء بالهاشمية

أخبارنا : أفتتح نائب رئيس الجامعة لشؤون الكليات العلمية الدكتور خالد أبو التين، فعاليات اليوم العلمي الأول لطلبة قسم الفيزياء، بحضور عدد من الهيئتين الأكاديمية والإدارية في الكلية والطلبة، وبمشاركة الجمعية الفلكية الأردنية، والمركز الجغرافي الملكي، ومجموعة من طلبة المدارس الخاصة والحكومية، للتعرف على مجموعة من التجارب الفيزيائية التي توضح أهمية علم الفيزياء في الحياة اليومية ومجالاتها الصناعية والهندسية والطبية. وأكد الدكتور أبو التين أهمية إقامة الأنشطة والفعاليات العلمية بالشراكة مع القطاعات الرسمية والخاصة، بما يجسد توجيهات جلالة الملك عبد الله الثاني بضرورة الربط بين مختلف القطاعات الوطنية ومساهمتها في تمكين الشباب ودعمهم. وبين عميد كلية العلوم الدكتور كايد أبو صفية تميز الخطط الدراسية لتخصصات الجامعة الهاشمية، ومنها كلية العلوم، وأهمية التعاون والشراكات التي تنمي مهارات الطلبة، وتشركهم في عملية التطوير وهم على مقاعد الدراسة، وصولاً إلى التطوير والتحديث المستمر من خلال برنامج واضح المعالم والأهداف، نتشارك فيه مع أصحاب العمل لنحقق من خلاله جاهزية الخريج وقدرته على المنافسة في سوق العمل. وقال رئيس قسم الفيزياء الدكتور عادل شاهين إن عقد اليوم العلمي جاء لتقوية جسور التواصل بين الطلبة وأعضاء الهيئة التدريسية، وللتفاعل مع طلبة الكليات الأخرى وطلبة المدارس، معربًا عن اعتزازه بالمستوى الأكاديمي لطلبة قسم الفيزياء. وتضمنت فعاليات اليوم العلمي عددًا من النشاطات والتجارب العلمية والتعليمية قدمها طلبة قسم الفيزياء. -- (بترا)

حسام الحوراني : الأطفال والذكاء الاصطناعي: بين الترفيه والتوجيه الخفي
حسام الحوراني : الأطفال والذكاء الاصطناعي: بين الترفيه والتوجيه الخفي

أخبارنا

timeمنذ 3 أيام

  • أخبارنا

حسام الحوراني : الأطفال والذكاء الاصطناعي: بين الترفيه والتوجيه الخفي

أخبارنا : في زاوية من زوايا أحد المنازل، يجلس طفل صغير لا يتجاوز عمره السبع سنوات، يحدّق في شاشة لوحية صغيرة، يتحاور مع مساعد ذكي يجيبه بصوت دافئ، يروي له القصص، ويقترح عليه ألعابًا وتعليمات. يبدو المشهد مألوفًا، وربما مطمئنًا في ظاهره، لكنه يخفي خلف واجهته البريئة عالماً معقدًا من التأثيرات، والتوجيهات الخفية، والمعايير الخوارزمية التي قد تُشكّل وعي الطفل وتعيد برمجة تصوراته، من دون أن يدرك هو أو والديه. فالذكاء الاصطناعي، وإن جاء بوجه مرح ومحبب، إلا أنه قد يحمل في طيّاته قوى ناعمة تزرع ما لا يُرى، وتغيّر ما لا يُقال. لم يعد الأطفال يتلقّون المعلومات فقط من الكتب أو من المدرسة أو من الوالدين. لقد أصبحوا جزءًا من منظومة ذكية تتفاعل معهم لحظة بلحظة، ترصد ما يحبونه، وتتعلم من اختياراتهم، وتوجههم نحو محتوى معين دون غيره. أدوات الذكاء الاصطناعي باتت تقرأ تعبيرات وجوههم، وتفسّر أصواتهم، وتعرف متى يملّون ومتى يتحمسون. إنها ليست مجرد تطبيقات تعليمية أو منصات ترفيه، بل بيئة شاملة تعيد تشكيل الطفولة ذاتها. الفرص المتاحة عبر هذه التقنية مبهرة. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد الأطفال في تعلّم اللغات، واستكشاف الكون، وحل المعادلات الرياضية، وحتى في تنمية مهارات التفكير النقدي والإبداع. تخيل طفلًا يتفاعل مع روبوت تعليمي يشرح له قوانين الفيزياء من خلال تجربة افتراضية مبهجة، أو يتعلم كتابة القصص عبر مساعد ذكي يفهم لغته ويصحح له بلطف. هذه التكنولوجيا يمكن أن تكون جسرًا رائعًا نحو تعليم أكثر تخصيصًا، يلائم مستوى كل طفل وسرعة تعلمه واهتماماته. لكن، في الجانب الآخر من الصورة، يكمن سؤال خطير: من يوجّه هذا الذكاء؟ ومن يقرر ما يجب أن يتعلمه الطفل وما لا يجب؟ وما هي المعايير التي تُبنى عليها الخوارزميات التي تتحاور معه؟ التوجيه الخفي قد لا يكون مقصودًا، لكنه حقيقي. فإذا كانت النماذج الذكية مبنية على بيانات غربية، فهي ستنقل للطفل أنماط حياة، وقيمًا، ومفاهيم لا تنتمي إلى مجتمعه بالضرورة. وإذا كانت الشركات الكبرى هي من تصمم هذه النماذج، فهي ستهتم أولًا بجذب انتباهه، لا بتربيته. وسيتحول الذكاء الاصطناعي من أداة للتمكين، إلى وسيلة لصناعة المستهلك الصغير، المربوط دائمًا بما هو «مقترح» و»مفضل» و»شائع». الأمر لا يتعلق بالنية، بل بالنتيجة. طفل اليوم يتعلم من الذكاء الاصطناعي أكثر مما يتعلم من معلمه. وإذا لم نكن حاضرين كمجتمعات وأسر ومؤسسات تربوية لصياغة هذه العلاقة بحذر، فإننا نخاطر بجيل يتشكّل في الظل، من خلال تغذية محتوى لا نراقبه، وقيم لا نعرف مصدرها، وخيارات تصنعها خوارزميات لا نسأل عن دوافعها. الذكاء الاصطناعي لا يوجّه فقط ما يشاهده الطفل، بل كيف يفكر، وكيف يقيّم، وكيف يشعر تجاه ذاته والآخر. نحن بحاجة إلى نهضة تربوية وثقافية شاملة تواكب هذا التغير. يجب أن نعيد تعريف دورنا كمربين في عصر تتوزع فيه السلطة المعرفية بين البشر والآلات. يجب أن نشارك في تطوير محتوى عربي ذكي يعكس لغتنا، وهويتنا، وقيمنا. يجب أن نُعلّم أطفالنا كيف يتعاملون مع الذكاء الاصطناعي بوعي، كيف يسألون الأسئلة الصحيحة، وكيف يفرّقون بين ما يُعرض عليهم وبين ما يختارونه بحرية. إن التربية الرقمية لم تعد خيارًا، بل ضرورة وجودية في زمن تتداخل فيه الحقيقة بالافتراضي. الأطفال هم أكثر الفئات تأثرًا بالذكاء الاصطناعي، وهم أيضًا أكثر من يمكن أن يتعلم بسرعة ويتفاعل بذكاء. إنهم يشكلون الجيل الذي سيعيش في عالم تصنعه الخوارزميات من حولهم. فهل نريد لهم أن يكونوا مجرّد متلقين سلبيين؟ أم نريدهم أن يكونوا قادة لهذا المستقبل؟ الجواب ليس في التقنية، بل في الوعي. في قدرتنا نحن كأهالٍ، ومعلمين، ومجتمعات على بناء جسور بين الطفولة والذكاء، بين اللعب والمعنى، بين الانبهار والتوجيه. الذكاء الاصطناعي أداة، لكنها في يد الطفل تصبح مرآة. فلتكن هذه المرآة صافية، تعكس له صورته الحقيقية، وتفتح له أبواب الإبداع والمعرفة، لا أبواب الاستلاب والانقياد. فالأطفال ليسوا فقط مستقبلنا... بل مرآتنا الصادقة، وعهدنا الذي لا يُغفر لنا إن خذلناه.

الأطفال والذكاء الاصطناعي: بين الترفيه والتوجيه الخفي
الأطفال والذكاء الاصطناعي: بين الترفيه والتوجيه الخفي

الدستور

timeمنذ 4 أيام

  • الدستور

الأطفال والذكاء الاصطناعي: بين الترفيه والتوجيه الخفي

في زاوية من زوايا أحد المنازل، يجلس طفل صغير لا يتجاوز عمره السبع سنوات، يحدّق في شاشة لوحية صغيرة، يتحاور مع مساعد ذكي يجيبه بصوت دافئ، يروي له القصص، ويقترح عليه ألعابًا وتعليمات. يبدو المشهد مألوفًا، وربما مطمئنًا في ظاهره، لكنه يخفي خلف واجهته البريئة عالماً معقدًا من التأثيرات، والتوجيهات الخفية، والمعايير الخوارزمية التي قد تُشكّل وعي الطفل وتعيد برمجة تصوراته، من دون أن يدرك هو أو والديه. فالذكاء الاصطناعي، وإن جاء بوجه مرح ومحبب، إلا أنه قد يحمل في طيّاته قوى ناعمة تزرع ما لا يُرى، وتغيّر ما لا يُقال.لم يعد الأطفال يتلقّون المعلومات فقط من الكتب أو من المدرسة أو من الوالدين. لقد أصبحوا جزءًا من منظومة ذكية تتفاعل معهم لحظة بلحظة، ترصد ما يحبونه، وتتعلم من اختياراتهم، وتوجههم نحو محتوى معين دون غيره. أدوات الذكاء الاصطناعي باتت تقرأ تعبيرات وجوههم، وتفسّر أصواتهم، وتعرف متى يملّون ومتى يتحمسون. إنها ليست مجرد تطبيقات تعليمية أو منصات ترفيه، بل بيئة شاملة تعيد تشكيل الطفولة ذاتها.الفرص المتاحة عبر هذه التقنية مبهرة. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد الأطفال في تعلّم اللغات، واستكشاف الكون، وحل المعادلات الرياضية، وحتى في تنمية مهارات التفكير النقدي والإبداع. تخيل طفلًا يتفاعل مع روبوت تعليمي يشرح له قوانين الفيزياء من خلال تجربة افتراضية مبهجة، أو يتعلم كتابة القصص عبر مساعد ذكي يفهم لغته ويصحح له بلطف. هذه التكنولوجيا يمكن أن تكون جسرًا رائعًا نحو تعليم أكثر تخصيصًا، يلائم مستوى كل طفل وسرعة تعلمه واهتماماته.لكن، في الجانب الآخر من الصورة، يكمن سؤال خطير: من يوجّه هذا الذكاء؟ ومن يقرر ما يجب أن يتعلمه الطفل وما لا يجب؟ وما هي المعايير التي تُبنى عليها الخوارزميات التي تتحاور معه؟ التوجيه الخفي قد لا يكون مقصودًا، لكنه حقيقي. فإذا كانت النماذج الذكية مبنية على بيانات غربية، فهي ستنقل للطفل أنماط حياة، وقيمًا، ومفاهيم لا تنتمي إلى مجتمعه بالضرورة. وإذا كانت الشركات الكبرى هي من تصمم هذه النماذج، فهي ستهتم أولًا بجذب انتباهه، لا بتربيته. وسيتحول الذكاء الاصطناعي من أداة للتمكين، إلى وسيلة لصناعة المستهلك الصغير، المربوط دائمًا بما هو «مقترح» و»مفضل» و»شائع».الأمر لا يتعلق بالنية، بل بالنتيجة. طفل اليوم يتعلم من الذكاء الاصطناعي أكثر مما يتعلم من معلمه. وإذا لم نكن حاضرين كمجتمعات وأسر ومؤسسات تربوية لصياغة هذه العلاقة بحذر، فإننا نخاطر بجيل يتشكّل في الظل، من خلال تغذية محتوى لا نراقبه، وقيم لا نعرف مصدرها، وخيارات تصنعها خوارزميات لا نسأل عن دوافعها. الذكاء الاصطناعي لا يوجّه فقط ما يشاهده الطفل، بل كيف يفكر، وكيف يقيّم، وكيف يشعر تجاه ذاته والآخر.نحن بحاجة إلى نهضة تربوية وثقافية شاملة تواكب هذا التغير. يجب أن نعيد تعريف دورنا كمربين في عصر تتوزع فيه السلطة المعرفية بين البشر والآلات. يجب أن نشارك في تطوير محتوى عربي ذكي يعكس لغتنا، وهويتنا، وقيمنا. يجب أن نُعلّم أطفالنا كيف يتعاملون مع الذكاء الاصطناعي بوعي، كيف يسألون الأسئلة الصحيحة، وكيف يفرّقون بين ما يُعرض عليهم وبين ما يختارونه بحرية. إن التربية الرقمية لم تعد خيارًا، بل ضرورة وجودية في زمن تتداخل فيه الحقيقة بالافتراضي.الأطفال هم أكثر الفئات تأثرًا بالذكاء الاصطناعي، وهم أيضًا أكثر من يمكن أن يتعلم بسرعة ويتفاعل بذكاء. إنهم يشكلون الجيل الذي سيعيش في عالم تصنعه الخوارزميات من حولهم. فهل نريد لهم أن يكونوا مجرّد متلقين سلبيين؟ أم نريدهم أن يكونوا قادة لهذا المستقبل؟ الجواب ليس في التقنية، بل في الوعي. في قدرتنا نحن كأهالٍ، ومعلمين، ومجتمعات على بناء جسور بين الطفولة والذكاء، بين اللعب والمعنى، بين الانبهار والتوجيه.الذكاء الاصطناعي أداة، لكنها في يد الطفل تصبح مرآة. فلتكن هذه المرآة صافية، تعكس له صورته الحقيقية، وتفتح له أبواب الإبداع والمعرفة، لا أبواب الاستلاب والانقياد. فالأطفال ليسوا فقط مستقبلنا... بل مرآتنا الصادقة، وعهدنا الذي لا يُغفر لنا إن خذلناه.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store