
حرب إسرائيل وإيران.. هل سيتغيّر الشرق الأوسط؟
في ساعات الفجر الأولى من يوم الجمعة، شنت إسرائيل هجومًا جويًا واسع النطاق؛ استهدف مواقع عدة داخل إيران، في خطوة وصفتها تل أبيب بأنها "ضربة استباقية لمنع التهديد النووي الإيراني".
ردّت طهران بإطلاق عشرات الصواريخ الباليستية على أهداف إسرائيلية، في تصعيد جديد يهدد استقرار الشرق الأوسط.
يأتي هذا التفاقم في ظل توترات متصاعدة بين البلدين منذ سنوات، وسط محاولات إسرائيلية متكرّرة مُمنهجة لعرقلة البرنامج النووي الإيراني، ورفض إيراني مستمر لأي تدخّل خارجي في شؤونها السيادية.
الضربة الأولى
وفق بيان رسمي صادر عن المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي صباح الجمعة (13 يونيو/ حزيران 2025)، شاركت 200 طائرة حربية من طرازات: (إف-35 وإف- 15 وإف-16) في الهجوم على إيران، واستهدفت أكثر من 100 موقع في عمق البلاد، أبرزها منشأة "نطنز النووية"، ومواقع عسكرية في إصفهان وطهران، وأكثر من 300 قنبلة موجهة من نوع (JDAM) أُسقطت، كما استخدمت ذخائر خارقة للتحصينات لضرب البنية التحتية للبرنامج النووي الإيراني.
صور أقمار صناعية نشرتها "أسوشيتد برس" بعد ساعات من الغارات، أظهرت دمارًا كبيرًا في بعض مراكز التخصيب، فيما أعلن معهد الدراسات الإستراتيجية في واشنطن (CSIS) أن الهجوم "ألحق ضررًا كبيرًا بنسبة تقترب من 40% في مرافق نطنز وآراك النووية".
إستراتيجية الصدمة الصاروخية
في صباح اليوم التالي، أطلق الحرس الثوري الإيراني أكثر من 150 صاروخًا باليستيا من طراز "خيبر شكن" و"ذو الفقار" و"قيام"، استهدفت قواعد جوية إسرائيلية في النقب والجليل، إضافة إلى منشآت حيوية في ميناء حيفا ومنطقة تل أبيب.
الجيش الإسرائيلي أعلن أن منظومة "القبة الحديدية" اعترضت حوالي 70% من الصواريخ، لكن الصدمة الإستراتيجية كانت في قدرة إيران على الوصول العلني والعنيف إلى العمق الإسرائيلي. القصف خلّف وفق مصادر "نجمة داوود الحمراء" إصابات عديدة وبعضها حرجة، إلى جانب خسائر مادية في البنية التحتية.
الهروب إلى الأمام في ظل المحاكمة
في قلب هذا التصعيد، بدا واضحًا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يخوض الحرب فقط ضد البرنامج النووي الإيراني، بل أيضًا ضد أزماته السياسية والقضائية الداخلية. نتنياهو، الذي يواجه 5 قضايا فساد أمام محكمة القدس المركزية، يعيش عزلة سياسية متزايدة حتى من داخل معسكره اليميني.
وثيقة مسرّبة نشرتها صحيفة "هآرتس" أكّدت أن أحد أهداف التصعيد الحالي هو "خلق واقع أمني استثنائي يؤجّل الإجراءات القضائية"، إضافة إلى استطلاع حديث نشره معهد الديمقراطية الإسرائيلي أظهر أن شعبية نتنياهو هبطت إلى 31%، في ظل اتهامات له باستخدام ذريعة "التهديد النووي الإيراني" كوسيلة للبقاء في السلطة.
صناعة التصعيد
في مشهد يعكس تحولات عميقة في وظيفة الحرب الإقليمية، بات واضحًا أن نتنياهو يستخدم التصعيد مع إيران كأداة إستراتيجية للهروب من أزماته الداخلية، فهو يرى إقحام إسرائيل بحرب مع جبهة فعّالة لتأجيل محاكمته وكسب غطاء سياسي وشعبي متجدد، حتى لو كان الثمن زعزعة استقرار المنطقة بأكملها.
وبحسب تسريبات كشفتها صحيفة هآرتس، قال نتنياهو في جلسة مغلقة: "المعركة مع إيران هي معركتي الشخصية للبقاء خارج الزنزانة رقم 5 في سجن مجيدو".
وبينما تحاول تل أبيب تسويق ضربتها لإيران بذريعة واهية، ممّا يضعها في خانة الذرائع السياسية لا التهديدات الإستراتيجية الواقعية. وقد سبق لإسرائيل أن استخدمت منطق "الضربة الاستباقية" مرات عدّة، ليس فقط ضد طهران بل أيضًا ضد بيروت وبغداد ودمشق، في سياسة توسعية هدفها إعادة تشكيل قواعد الاشتباك الإقليمي.
في المقابل، لا تبدو إيران راغبة في توسيع رقعة المواجهة، وقد جاء الرد الإيراني بعد ساعات قليلة من الهجوم الجوي الإسرائيلي المكثّف، لكنه اتسم بضبط النفس الإستراتيجي.
وهو ما يشير إلى رغبة طهران في الحفاظ على نوع من الردع المحدود ودون إحداث دمار واسع، كما فعلت الغارات الإسرائيلية التي راح ضحيتها 78 شخصًا، منهم قادة عسكريون بارزون وإصابة ما يربو على 320 معظمهم مدنيون.
إيران، رغم صلابة خطابها الرسمي، لا ترى في الحرب حلًا، لكنها تدرك تمامًا أن الصمت في وجه اختراق سيادتها هو تفريط بأمنها القومي.
هنا يتضح أن خلط السرديتين – كما تحاول بعض الأطراف تصويره – لا يخدم الحقيقة، فإسرائيل اليوم بقيادة نتنياهو، هي الطرف المبادر بالعدوان، وهي من يحمل أجندة توسعية واضحة تسعى لإعادة صياغة المعادلة الإقليمية تحت غطاء "الدفاع عن النفس".
أما إيران، فهي تتحرّك في إطار دفاعي، وإن بوسائل هجومية، لردع تهديدات وجودية طالت عمقها الإستراتيجي.
ما الذي تريده إيران بعد الضربة؟
الخيارات المتاحة أمام طهران تتوزّع بين التصعيد المنضبط وبين استثمار الضربة لتعزيز شرعيتها النووية؛ تصعيد محسوب: استمرار الردود الصاروخية دون الوصول إلى حرب شاملة، فضلًا عن دبلوماسية هجومية تُوظِّف العدوان الإسرائيلي في المحافل الدولية للانسحاب من التزاماتها النووية تدريجيًا.
في سياق توحيد الداخل الإيراني، نشر معهد دراسات الأمن القومي الإيراني (INSS) ورقة تحليلية قالت فيها إن "إيران الآن أكثر حرية في تجاوز خطوط التخصيب، تحت غطاء الردع والدفاع عن السيادة".
الموقف العربي
المواقف العربية اتسمت بالحذر، لكنها دعت إلى "ضبط النفس"، بينما زاد إنتاج النفط السعودي إلى 10.6 ملايين برميل لتعويض تقلبات السوق، بينما الإمارات أدانت الضربات على المدنيين الإيرانيين، وأبدت استعدادًا للوساطة.
أمّا البيان المصري فقد غلب عليه التموضع المحسوب بدعوته إلى "العودة للمسار الدبلوماسي"، فيما جاء البيان العراقي بنبرة باهتة وتحفّظ ملحوظ دون تحميل أي طرف المسؤولية.
في العمق، تدرك الأنظمة العربية أن الانحياز الصريح في هذه المواجهة قد يكلّفها كثيرًا؛ إقليميًا واقتصاديًا، خاصة مع هشاشة الوضع في أسواق النفط والطاقة، وقد أغلق الاحتلال الإسرائيلي حقل "ليفياثان" البحري، ما أدى إلى وقف ضخ الغاز إلى كل من مصر والأردن.
حرب لا مفرّ منها
قد تجرّ هذه الجولة العسكرية الشرق الأوسط إلى مواجهة إقليمية واسعة، خصوصًا في ظل تصاعد خطاب التطرّف داخل الحكومة الإسرائيلية، فوجود شخصيات مثل نتنياهو وسموتريتش وبن غفير على رأس سلطة القرار، يجعل الحرب القادمة شبه حتمية. وكما يقول المثل الأردني: "إذا ما تعكّرت ما بتصفى"، أي أن التوتر إذا لم يتصاعد لن يهدأ.
وفي ظل غياب أفق لأي حل سياسي؛ دوليًا أو عربيًا، قد تكون الحرب المقبلة بداية النهاية للاحتلال الإسرائيلي نفسه، لا عبر مفاوضات أو ضغوط، بل عبر انهيار إسرائيل من داخلها.
فكل تأجيل للحرب، ليس سوى انتظار لها.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
إسرائيل تعلن تدمير مقر الأمن الإيراني ودوي انفجارات شرق وغرب طهران
أعلنت إسرائيل الأربعاء أنها دمرت مقر الأمن الداخلي الإيراني، فيما سمع دوي انفجارات شرق وغرب العاصمة طهران، وسط استمرار تبادل القصف بين الطرفين لليوم السادس على التوالي. وتقلت هيئة البث الإسرائيلية عن وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس قوله "دمرنا مقر الأمن الداخلي للنظام الإيراني وسنواصل تدمير رموز النظام" وأضاف كاتس أن الطيران الإسرائيلي هاجم مقر قيادة الأمن الداخلي للنظام الإيراني. وأفادت وكالة "أنباء فارس" بسماع دوي انفجار بمدينة كرج في محافظة البرز غرب طهران. وقالت إن سيارات الإسعاف والإطفاء تهرع للمكان. ونقلت القناة 12 الإسرائيلية أن "سلاح الجو يشن الآن غارات على أهداف عسكرية تابعة للنظام الإيراني بمحيط طهران". وقد أفادت وسائل إعلام إيرانية باستهداف مطار بيام في مدينة كرج في محافظة البرز. وتحدثت عن انفجارات في شرق طهران وتفعيل الدفاعات الجوية في المنطقة. كذلك نقلت وسائل إعلام إسرائيلية أن "الجيش يهاجم شرقي طهران الآن". وأفادت وسائل إعلام إيرانية بسماع دوي انفجار شرق العاصمة طهران. في ذات السياق، أعلنت الشرطة الإيرانية عن توقيف شاحنة وضبط عدد من المسيرات الانقضاضية الصغيرة في محافظة البرز واعتقال مشتبه به. ومن جانبها، نقلت وكالة الأنباء الإيرانية أن الكيان الصهيوني استهدف موقع مبنى الهلال الأحمر الإيراني في طهران. وفي وقت سابق، قال الجيش الإسرائيلي إن 50 مقاتلة حربية شنت خلال الساعات الأخيرة غارات في طهران معلنا مهاجمة 5 مروحيات عسكرية إيرانية في قاعدة بمنطقة كرمانشاه. وأضاف أن غاراته استهدفت موقعا لصناعة أجزاء صواريخ أرض-أرض ووسائل قتالية، كما طالت موقعا لصناعة أجهزة الطرد المركزي في طهران ضمن مساعي تدمير البرنامج النووي، بحسب وصفه. كما شنت إسرائيل غارة على جامعة الإمام الحسين العسكرية والمرتبطة بالحرس الثوري الإيراني شرقي العاصمة الإيرانية طهران، دون أنباء عن وقوع إصابات. بدوره، أفاد قائمقام مدينة ورامين جنوب شرقي طهران بإسقاط وتدمير مسيّرة إسرائيلية في محيط المدينة. كما أعلن التلفزيون الرسمي الإيراني إسقاط مسيرة إسرائيلية في إقليم أصفهان. وأعلنت وكالة أنباء فارس العثور على حطام مسيرة إسرائيلية أسقطت أمس الثلاثاء غرب همدان، كما أفاد مساعد الشؤون الأمنية في محافظة سمنان بإسقاط عدد من الأهداف الإسرائيلية في أجواء مدينة شاهرود. وقالت وكالة مهر الإيرانية إن الدفاعات الجوية تتصدى لأجسام معادية في أجواء العاصمة طهران. صواريخ فتاح تضرب تل أبيب وكانت إيران أطلقت فجر اليوم الأربعاء وابلا من الصواريخ على إسرائيل حيث دوت أصوات انفجارات في تل أبيب. وأعلن الحرس الثوري الإيراني أنه استخدم للمرة الأولى الجيل الأول من صواريخ "فتّاح" الباليستية الفرط صوتية في الموجة الـ11 من عملية " الوعد الصادق 3″ وقال إن صواريخ "فتّاح" اخترقت الدرع الدفاعي الصاروخي وزلزلت ملاجئ إسرائيل، مضيفا أن "الصواريخ بعثت رسالة بشأن قوة إيران إلى حليفة تل أبيب المتوهمة والمحرضة على الحرب"، في إشارة إلى الولايات المتحدة التي لوحت بإمكانية انضمامها إلى الهجمات. واعتبر أن الهجوم الصاروخي الليلة الماضية أظهر أن إيران تسيطر تماما على أجواء الأراضي المحتلة. وبحسب موقع "آرمي تكنولوجي" -وهو من أبرز المواقع العالمية المتخصصة في تحليل وتوثيق المعلومات المتعلقة بالصناعات الدفاعية والتقنيات العسكرية- يعد صاروخ "فتّاح" من أهم الأسلحة المتطورة في ترسانة الحرس الثوري الإيراني بفضل سرعته الفرط صوتية التي تتراوح بين 13 و15 ماخا. ويبلغ مدى الصاروخ نحو 1400 كيلومتر، ويتميز بفوهة متحركة ومنظومة توجيه متقدمة تتيح له تعديل مساره أثناء الطيران وتنفيذ مناورات دقيقة داخل الغلاف الجوي وخارجه، بما في ذلك الحركة الجانبية والدورانية. الجيش الإسرائيلي أن إيران أطلقت نحو 400 صاروخ باليستي على إسرائيل منذ بداية المعركة.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
محكمة إسرائيلية تجيز هدما جماعيا للمنازل بمخيم جنين
قال مركز حقوقي إن المحكمة العليا الإسرائيلية أجازت تنفيذ "هدم جماعي" لمنازل فلسطينيين بمخيم جنين للاجئين شمال الضفة الغربية المحتلة. وأفاد مركز "عدالة" الحقوقي العربي -في بيان اليوم الأربعاء- بأن المحكمة الإسرائيلية رفضت أمس التماسا عاجلا قدمه في 12 يونيو/حزيران الجاري، لوقف عمليات الهدم الواسعة في مخيم جنين. وأضاف أن رفض المحكمة يعني منح الضوء الأخضر للجيش الإسرائيلي لمواصلة تدمير نحو 90 مبنى مدنيا في الضفة الغربية. ورأى "عدالة" أن موقف المحكمة يعد "إقرارا منها بمزاعم الجيش الإسرائيلي العامة، والتي تفيد بأن عمليات الهدم ضرورية لضمان حرية الحركة للقوات الإسرائيلية داخل المخيم". وجادل المركز في التماسه المقدم للمحكمة في أن عمليات الهدم "تمثل خرقا جسيما للقانون الإنساني الدولي". ولفت إلى أن قرار المحكمة جاء عقب إخطار عسكري مماثل صدر في 19 مارس/آذار، سمح أيضا بهدم نحو 95 مبنى في جنين، وفق المصدر. وتشكّل هذه القرارات "امتدادا لعمليات هدم واسعة" سبق أن أقرتها المحكمة العليا الإسرائيلية. وفي السابع من مايو/أيار، رفضت المحكمة العليا التماسا قدمه "عدالة" ضد هدم أكثر من 100 منزل، ومبنى مدني في مخيمي نور شمس وطولكرم. في المقابل، لفت المركز الحقوقي -في بيانه اليوم- إلى أن موقف المحكمة "لم يتطرق إلى حقيقة أن هذه المناطق خالية من السكان في الوقت الحالي، ولا تجري فيها أي اشتباكات". ووصف المركز قرار المحكمة بأنه "انتهاك صارخ للقانون الدولي، ويمنح غطاء قضائيا لسياسة التدمير الممنهج التي ينفذها الجيش الإسرائيلي بحق مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية". وأشار إلى أن "رفض المحكمة التدخل (قبول الالتماسات) هو ترسيخ لسياسة العقاب الجماعي والتهجير القسري على نطاق واسع، وتكريس لثقافة الإفلات من العقاب". إعلان وذكر المركز -في بيانه- أن مخططات الهدم "تصدر مع تصعيد عسكري إسرائيلي مستمر في أنحاء الضفة الغربية، ركّز بشكل خاص على مخيمات اللاجئين، وأدى إلى تهجير أكثر من 40 ألف فلسطيني من منازلهم". ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ترتكب إسرائيل بدعم أميركي إبادة جماعية بغزة خلفت نحو 185 ألف شهيد وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة. وبالتوازي مع الإبادة الجماعية بغزة صعّد الجيش الإسرائيلي والمستوطنون اعتداءاتهم بالضفة، بما فيها القدس الشرقية، مما أدى إلى استشهاد 979 فلسطينيا على الأقل، وإصابة نحو 7 آلاف آخرين، واعتقال ما يزيد على 17 ألفا و500.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
في انتظار نهاية العالم.. السيرة الدينية لسفير أميركا في إسرائيل
على وقع الصواريخ الباليستية الإيرانية التي تنطلق بتوقيت ليلي لقصف تل أبيب، جلس السفير الأميركي في إسرائيل والقس والواعظ السابق مايك هاكابي من أجل كتابة رسالة ملحمية إلى الرئيس دونالد ترمب، محرضًا إياه على التدخل في الحرب الإسرائيلية على إيران. "السيد الرئيس، لقد نجاك الله [من محاولة الاغتيال] في بتلر، بنسلفانيا، لتكون أكثر رئيس تأثيرا خلال قرن، وربما في التاريخ كله. القرارات التي تقع على عاتقك لا أود أن يتخذها أي شخص آخر". وبنبرة وعظيّة مكثفة أضاف "هناك أصوات عديدة تتحدث إليك يا سيدي، لكن هناك صوت واحد فقط يهم: صوته هو (الرب)". بحسب هاكابي الذي لا يرى العالم إلى من فوق منبر كنيسته المعمدانية، لم تكن هذه المرة الأولى التي تنقذ فيها العناية الإلهية رجال السياسة الأميركيين. وفي كتابه "الثلاث "سي أس C's" التي جعلت أميركا عظيمة: المسيحية، الرأسمالية والدستور" (THE THREE C's THAT MADE AMERICA GREAT: CHRISTIANITY, CAPITALISM AND THE CONSTITUTION)، قدم رواية دينية لقيام الولايات المتحدة الأميركية. يروي هاكابي أحداث الثورة الأميركية كانعكاس لتدخل إلهي مباشر تغير فيه مجرى التاريخ بسبب تسخير الطقس لرجال مؤمنين يريدون إعلاء سلطان الله في الأرض. ففي مارس/آذار 1776، حين نصب الثوار مدافعهم على تلال دورشيستر خلال حصار بوسطن، قرر البريطانيون شن هجوم ليلي لإزالتها، لكن عاصفة ثلجية مفاجئة أفشلت الهجوم، وقرر الجنرال ويليام هاو الانسحاب الكامل، في أول نصر إستراتيجي للثوار دون قتال. وفي أغسطس/آب من العام نفسه، وبعد الهزيمة في معركة بروكلين هايتس، وجد جورج واشنطن نفسه محاصرًا على ضفاف نهر إيست، لكن ضبابًا كثيفا نزل ليلًا أتاح لجيشه الانسحاب الآمن عبر القوارب دون أن يكتشفه البريطانيون. ثم في ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته، حين عبر واشنطن نهر ديلاوير لمهاجمة خصومه في ترينتون، شهد جنوده عاصفة ثلجية ورياحًا عاتية كانت تضرب وجه العدو، وأسهمت في إرباكهم وتحقيق نصر خاطف وأسر مئات الجنود. يروي هاكابي هذه الوقائع كعلامات تأييد إلهي لا لبس فيه، مؤمنًا بأن السماء نفسها انحازت لمولد أميركا. الإنجيليون لإسرائيل: "حلبٌ قصدنا وأنت السبيل" بالنسبة لأول سفير إنجيلي أميركي لإسرائيل، لا يُعدّ دعم إسرائيل خيارًا سياسيا فحسب، بل التزامًا دينيا ينبع من النص المقدس. ففي تفسيره لوعد الله لإبراهيم في سفر التكوين "أبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه" (تكوين 12:3)، قال هاكابي لمقدم البودكاست والناشط تشارلي كيرك "دون تقديم أي اعتذار، أؤمن أن من يبارك إسرائيل سيُبارك، ومن يلعنها سيُلعن. وأريد أن أكون من المُباركين". وفي خطاب ألقاه من القدس عام 2017، قدم هاكابي المطّلع على الخلاف اللاهوتي بين عقيدته المسيحية الصهيونية جملةً توضح عمق ما يؤمن به "يمكنك أن تكون يهوديا ولا علاقة لك بالمسيحية، ولكن لا يمكنك أن تكون مسيحيًّا دون أن يكون لك علاقة وثيقة باليهودية". هذه العقيدة تُشكّل قطب الرحى في لاهوت هاكابي الإنجيلي، وتُبرز أهمية وجود دولة إسرائيل الحديثة، وضرورة استعادتها ليهودا والسامرة (الضفة الغربية) لتحقيق نبوءات غيبية، لا مجرد حدث جيوسياسي عابر. بالنسبة للكنيسة المعمدانية الإنجيلية التي ينتمي إليها هاكابي، لا تمثل إسرائيل مجرد دولة على الخريطة، بل محطة نبوءة رئيسية يقف فيها المؤمنون بعصمة الكتاب المقدس انتظارًا للقطار الذي يحمل عودة يسوع المسيح، والمحطة القادمة ستكون نهاية العالم! يرى الإنجيليون قيام الدولة العبرية عام 1948 تجسيدًا لنصوص نبوئية من العهد القديم، أبرزها ما ورد في سفر حزقيال (الإصحاح 37) وكتاب دانيال، إذ تشير هذه الكتب إلى عودة اليهود إلى "أرض الموعد" كعلامة كبرى على اقتراب قيام الساعة. ينازع المعمدانيون اليهودَ وصف "شعب الله" ولا يسلمون لهم به. ولكنهم يرون في إسرائيل كدولة قومية لليهود، دورًا جوهريا في الخطة الإلهية التي تمهّد لعودة المسيح الثانية. يؤمن المعمدانيون بأن المسيح سيعود إلى الأرض عودة ماديّة ليؤسس مملكته التي تمتد لألف عام في القدس فيما يُعرف بـ"الملك الألفي". ولكن عودته لن تتم حتى يُعاد بناء الهيكل في موقع المسجد الأقصى، كما تحكي النبوءة. في زيارة لهاكابي للأراضي المحتلة عام 2017 قدم خطابًا يؤطر فيه الخلاف السياسي بلغة دينية صريحة قائلا "لا وجود لما تسمّى الضفة الغربية، إنها يهودا والسامرة. لا وجود لما تسمّى مستوطنات، إنها مجتمعات، وأحياء، ومدن. ولا وجود لما يُسمّى احتلالًا". وتبلغ تصورات الإنجيليين لنهاية العالم ذروتها في معركة هارمجدون، المعركة الخاتمة للصراع بين قوى الخير بقيادة المسيح، وقوى الشر بقيادة "المسيح الدجال"، والتي ستقع في شمال فلسطين، حيث ينتهي الصراع بانتصار الرب وإقامة ملكوته الأرضي. مع صعود الإنجيليين في الحكومة الأميركية، تقفز النبوءات من الكتاب المقدس وقاعات الدرس اللاهوتي إلى المؤسسات السياسية وتوضع على أجندة العمل لدى مبعوثي الحكومة الأميركية إلى الشرق الأوسط. شاب نشأ في مذبح الرب بدأت رحلة هاكابي المولود في أركنساس عام 1955 مع الكلمة المكتوبة في الصحافة المدرسية، حيث ترأس صحيفة المدرسة في المرحلة الإعدادية، وفي أول عمل استقصائي له كتب بحماسة شبابية عن قذارة مقصف المدرسة، دافعًا الإدارة إلى التحرك. حين قرأ المشرف المقالة، نظر إليه وقال "ينبض في عروقك دم محرّر صحافة صفراء". كان والده الذي يعمل رجل إطفاء يرى في اشتغال ابنه بالصحافة ترفًا لا يعين على إعالة الأسرة، لكن معلّمته للإنجليزية رأت موهبته وأهدته كتابا لتطوير مستواه، وقالت للفتى الذي هزّته نظرة أبيه للصحافة "الكلمات رصاص الرجل الأعزل". سيكبر الفتى الأعزل ويسخّر كلماته للدفاع عن حق حمل السلاح، واتخاذ خيار العنف المفرط ضد ما يسميه بالإسلام المتطرف. كتب هاكابي في شبابه مقالات وعظية للشباب، دعا في بعضها الشباب المسيحي للابتعاد عن الرقص في الحفلات الموسيقية، ليس لأنه حرام، وإنما لأنه يخل بوقار الشاب المسيحي الصالح! كتب "لا أظن أن كل من يذهب إلى حفلات الرقص يفعل ذلك ليتعاطى الكحول أو ليثير شهوات رفيقته، لكني لا أجد في الرقص خيرًا يُذكر". نصيحته كانت واضحة "ابتعدوا عن الرقص، لأنه قد يدفع الناس لإساءة الظن بكم". كما كان يردد رجال الدين لاحقًا، انخرط هاكابي في الصراع العقائدي الذي هزّ الكنيسة المعمدانية الجنوبية فيما يتعلق بعصمة الكتاب المقدس، وعقيدة المسيحية وتولي المرأة منصبًا قياديا في الكنيسة. كان هاكابي في صف المحافظين الذين رأوا أن المرأة لا تكون رأسًا دينيا، والعقيدة هي لبّ الدين، والإنجيل نص معصوم! قال عن خصومه الليبراليين الذين رأى في تأويلاتهم تمييعًا للعقيدة المسيحية، "لقد أعادوا تعريف الإنجيل ليجعلوه رسالة اجتماعية ناعمة لا تُغيّر القلوب". عرف هاكابي أن أقصر الطرق إلى السياسة هي منبر الوعظ، فامتطاه. صنعت معركته اللاهوتية منه قائدًا سياسيا؛ فقد كونت له قاعدة جماهيرية، وصقلت مهاراته الخطابية. يقول سكوت لامب مؤلف سيرته إنه اختار هاكابي لأنه شخصية محورية في اليمين الإنجيلي، يجمع بين الدين والسياسة والإعلام، وجعل "أميركا العميقة" مرئية من جديد. تولى هاكابي منصب حاكم أركنساس لعشرة أعوام من 1996 إلى 2007، ونافس في 2008 على منصب المرشح الجمهوري للرئاسة، ولكن الكنائس التي دعمته لم تستطع أن تؤمن له ميزانية ينافس بها المرشحين الأثرياء مثل ميت رومني، فلم يصمد للمنافسة. قال لاحقًا "لم تكن معركتي ضد أفكار خصومي، بل ضد ميزانياتهم". التاريخ البديل لأميركا يقدم هاكابي محكيّة دينية لنشأة الولايات المتحدة تخرج من صفحات الكتاب المقدس وتتغلغل في كل سطر من الوثائق التأسيسية للجمهورية الناشئة. فبحسب روايته، لم تُؤسس أميركا لتكون دولة علمانية، بل لتكون منارةً للعقيدة المسيحية ومنصة لتحقيق المقاصد الإلهية على الأرض. في كتابه عن القواعد الثلاث لعظمة الولايات المتحدة ، يسوق هاكابي نصوصًا تاريخية من مواثيق المستعمرات الأولى، يُبرز فيها كيف أن المستوطنين الأوائل اعتبروا مهمتهم في الأرض الجديدة جزءًا من "خطة الخلاص". يستشهد على ذلك بوثيقة ميثاق فرجينيا (1609) التي نصّت على أن الهدف الأول من إنشاء المستعمرة هو "تحويل الشعوب إلى العبادة الحقة لله". كما يورد من ميثاق ماساشوستس (1629) عبارة تؤكد أن "حياة مستعمرينا قد تكون محفزًا للسكان الأصليين للإيمان بالمسيح". في ميثاق نورث كارولينا (1662)، يظهر هذا البعد الروحي أكثر وضوحًا "مدفوعون بحماسة تقوية لنشر الإيمان المسيحي". ويذهب هاكابي إلى أبعد من ذلك بإشارته إلى ما يعتبره أول دستور أميركي فعلي المعروف بـ"الأوامر الأساسية لكونيتيكت" (Fundamental Orders of Connecticut)، الذي ينص صراحة على أن "الحكومة يجب أن تسير بحسب كلمة الله حفاظًا على الوحدة والسلام". يرى المؤلف حضور الدين في نشأة أميركا ليس مجرد عنصر تاريخي، بل زاوية رئيسية لفهم أميركا، فهي ليست جمهورية ديمقراطية فحسب، بل "أمة دينية"، تستمد شرعيتها الأخلاقية من نصوص مقدسة. حتى مؤسسات التعليم العالي، مثل هارفارد وييل وبرينستون، لا تُستثنى من رواية هاكابي؛ إذ يشير إلى أن هذه الجامعات العريقة لم تُبْنَ أساسًا لأغراض أكاديمية، بل لتدريب رجال الدين وتخريج الكوادر الكنسية قبل أن تنحرف لاحقًا عن رسالتها الأصلية. لا تبدأ هذه الرواية البديلة لتأسيس أميركا من فلسفة التنوير أو الثورة الفرنسية، بل من أسفار الكتاب المقدس. وفي هذا الإطار، يرى هاكابي أن الصراع القائم اليوم بين الديمقراطيين والجمهوريين في الملفات الداخلية والخارجية هو امتداد لصراع عقائدي على هوية الأمة: هل ستظل أميركا أمة مؤمنة تقوم على العقيدة المسيحية أم تُختطف إلى دروب العلمنة والانفلات الأخلاقي؟ إعلان بمثل هذا التصور، لا يعود دعم إسرائيل مجرد سياسة خارجية، بل يصبح دفاعًا عن الأصل الذي قامت عليه الجمهورية، عن البذرة الأولى التي زُرعت بنص كتابيّ وحُرِست بعناية العناية الإلهية. الموقّعون عن يسوع لم تكن رسالة الاصطفاء الإلهي لترامب التي كتبها هاكابي سابقة في تاريخ دولة تلتحم فيها القرارات السياسية بنصوص الكتاب المقدس وشخصياته. فقد سبق أن اعترف الرئيس هاري ترومان بقيام دولة إسرائيل عام 1948 برسائل القساوسة البروتستانت، التي مثلت ضغطًا لاهوتيا بمنح القرار السياسي بعدا مقدّسا، حتى اعترف ترومان بإسرائيل بعد 11 دقيقة فقط من إعلانها، من أبرزها رسالة القس بيتر مارشال، التي غمسها في لغة الكتاب المقدّس قائلًا "سيدي الرئيس، إن الرب وعد إبراهيم ونسله بالأرض.. وإن فشلت أميركا في تأييد وعد الرب، فستُسلب بركتها". بعد ربع قرن، حين كان الشارع الأميركي يموج سخطًا تجاه حرب فيتنام ، لم يتردد القس بيلي غراهام، المقرّب من الرئيس نيكسون، في تكرار النغمة ذاتها، لكن بلحن مختلف: الحرب هذه المرة ليست لإنشاء دولة، بل لمواجهة "دين مضاد" كما وصف الشيوعية. كتب غراهام إلى الرئيس "الشيوعية دينٌ في حد ذاتها.. إنها معركة حتى الموت: إمّا أن تموت الشيوعية، وإما تموت المسيحية". كان غراهام يقدّم لنيكسون شرعية توراتية للصمود، حيث أصبح البنتاغون أداة بيد الرب لكسر الشر. ثم جاءت الألفية الجديدة، ومعها تبدّلت الجغرافيا، لكن لم تتغير العقيدة. ففي أعقاب هجمات سبتمبر/أيلول 2001، وبينما كانت الإدارة الأميركية تحشد لحرب العراق، كتب القس الإنجيلي جون هاغي إلى الرئيس جورج بوش الابن قائلا "الرب استخدم ملوكًا في الكتاب المقدس لينفذوا مشيئته.. والآن يستخدمك الرب لتطهّر العالم من بابل الجديدة"، مشبهًا صدام حسين بـ"نبوخذ نصّر"، جنّد هاجي الحرب كروح أخروية تجعل من القصف تنفيذا لإرادة السماء، لا إستراتيجية لواشنطن. لم يكن هاكابي أول رجل دين أميركي يجلل المعارك الدنيوية التي تخوضها الإدارة الأميركية بوشاح من النبوءات الدينية، لكنه برسالته تلك سلّط الضوء على مشهد اشتباك اللاهوت بالسياسة في حكومة تعد النموذج الديمقراطي الأكبر في العالم.